تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

في بعض الأحيان ، أو في إخضاع حركة الفكر الإسلامي للتيارات الفلسفية اليونانية ، وما إلى ذلك.

* * *

الانسجام بين الفكر والأسلوب

وكما هو الحال في خط الفكر ومضمونه ، لا بد من التزام خط الاستقامة في المنهج والأسلوب ، باعتماد الأحكام الشرعية في أسلوب العمل ، ومنهج التحرك ، لأنه من الممكن

أن يتأثر العاملون بأساليب العمل ، ومناهج تفكير التحرك التي يستخدمها الكافرون والضالون في مساعيهم للسيطرة على الواقع عمليا ، ومقدرتهم بفضل ذلك على إخضاع الأجواء لأساليبهم ونهجهم في العمل. وهذا ما يفرض على القيادات الفاعلة أن تخطط للتحرك بطريقة تحقق الانسجام بين الفكر والأسلوب ، ليعينوا العاملين على معرفة الخط المستقيم في الوسائل ، كما يعرفون الخط المستقيم في الغايات ، لأن الجهل يدفع الناس إلى الضلال باسم الهدى فيتجاوزون الخطوط المرسومة لهم من قبل الله الذي يراقبهم في معاناتهم في سبيل المعرفة والممارسة ، أو تقصيرهم فيه ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء من سرّهم وعلانيتهم ، ولا حجة لهم في تبرير ما يعملون أمامه كما يفعلون أمام الآخرين الذين يجهلون واقع الأمور ، وحقائق الأشياء.

* * *

التعايش مع الظالم : العبرة بالنتائج لا النوايا

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم في الانحراف بالعقيدة عن مسارها الصحيح ، والتحرك في خطوط الكفر والشرك والضلال ، أو الذين ظلموا الناس ، بسبب ما يملكونه من قوة وسيطرة وسلطان وذلك بالاستسلام لفكرهم

١٤١

وخططهم العملية ، والخضوع لعمليات الإذلال للمؤمنين والمستضعفين التي يمارسونها ، ومشاركتهم في التحرك السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يقومون به ، لأن ذلك يؤدي إلى تعزيز قواعد الظلم في الأمة على مستوى التشريع والتنفيذ ، فإن قوة الظلم تكبر وتنمو بانضمام أفراد من الأمة للظالم الذي يستفيد من ذلك لدعم حكمه وظلمه ، ولذلك فلا بد من دراسة الخطوات الإيجابية التي يتحرك بها الناس مع الحكم الظالم ، تحت ضغط الظروف الذاتية أو الخارجية الطارئة ، وذلك بالتدقيق في تأثير تلك الخطوات على واقع الظلم ، ومدى تقويتها للحكم والحاكم ، سواء كان الوصول إلى تلك النتائج مقصودا من قبلهم أم لم يكن مقصودا ، لأن العبرة في مثل هذه الأمور النتائج لا النوايا.

وعلى ضوء هذا ، فإن التعامل مع الظالم في المجالات العامة والخاصة استجابة لمطالب التعايش ، أو العيش المشترك ، يخضع في شرعيته وعدم شرعيته للطبيعة العملية للنتائج الواقعية الإيجابية لمصلحته ، فقد يختلف باختلاف الظروف ، في تأثيرها الإيجابي أو السلبي على الواقع ، وقد يختلف باختلاف الشكل ، أو النية للتعامل أو العلاقة ، مما يفرض على الناس ملاحظته بدقّة وحذر ، لئلا يتحوّل ذلك إلى حالة ركون للظالم واستسلام له ، من حيث يريد الناس أو لا يريدون ، فيتعرضون لعقاب الله من حيث لا يشعرون ، (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) جزاء لهذا العمل السيّئ الذي يفسد حياة البلاد والعباد ، في الحاضر والمستقبل ، بإفساح المجال للظلم أن يقوى وينتشر ، وللظالم أن يبسط سلطته على المستضعفين ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ، في ما يمكن الاستعانة به من القوى المحيطة بالإنسان من أهله وذوي قرباه ، أو من أصدقائه ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) لأنهم لا يملكون أيّة قوّة أمام الله ، خالق القوّة للحياة كلها ، فكيف يمكن أن تقف تلك القوى أمامه؟ ...

* * *

١٤٢

الآيتان

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

* * *

معاني المفردات

(طَرَفَيِ النَّهارِ) : الغدوة والعشية ، والمراد من الطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر.

(وَزُلَفاً) : الزلف من الليل : الساعات الأولى منه ، واحدتها زلفة ، وسميت بذلك لقربها من النهار ، والمراد بها هنا : المغرب والعشاء.

(وَاصْبِرْ) : الصبر : حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق ، وضده : الجزع.

* * *

إن الحسنات يذهبن السيئات

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) كمظهر من مظاهر العبودية لله التي تؤكد مسئولية الإنسان في أعماله ومواقفه ، وبذلك كانت الدعوة إليها تتعدى كونها فريضة

١٤٣

إسلامية في الجانب العباديّ الحاضر المحدود في نطاقه ، إلى البعد الروحي الواسع الذي ينطلق بالإنسان نحو أهداف أخرى يسعى إليها في الحياة كإنسان مسلم ملتزم ، يختزن الطاقة الروحية التي تعينه على تحمل أعباء المسؤوليات ، ولهذا كانت هذه الفريضة ، تكليفا يشمل كل جوانب الحياة اليومية في الليل والنهار ، وكانت الدعوة إلى إقامتها ، (طَرَفَيِ النَّهارِ) في أوّله ووسطه حتى النهاية ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وهي الساعات الأولى منه القريبة من النهار ، وذلك ما يحقق للإنسان الاستقامة على الخط المستقيم ، ويفتح حياته للحسنات على صراط التوبة ، وفي حركة الطاعة ، وهذا ما جعله الله أساسا لتصحيح الموقف ، ولإنقاذ المصير ، فإن الحسنة تمحو السيئة ، في ما تختزنه من معنى التوبة والإخلاص لله في داخلها ، وفي ما تمثله من موقف عمليّ حاسم ، (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

* * *

في الصلاة سر النجاة

وقد ورد في بعض الأحاديث أن المراد بالحسنات هو الصلوات التي يصليها الإنسان ، فإنها تذهب السيئات التي قبلها ، وبهذا اعتبرت هذه الآية أرجى آية ، وأكثرها مجلبة للأمل بمغفرة الله ، وربما كان ذلك من باب التفسير بالمصداق على سبيل التطبيق. وربما كان خاضعا لشروط داخلية وخارجية في طبيعة العمل الصلاتي لدى المؤمن (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) ليتعرفوا ـ من خلاله ـ سر النجاة ، وليتذكروا ـ دائما ـ أن الارتباط بالله ، والشعور بحضوره الدائم في وعي المؤمن ، وحركة حياته ، هو الأساس للحصول على رضاه ، والانضباط في خط طاعته.

وإذا كانت الصلاة تحقق للإنسان هذا الوعي العميق الممتد بذكر الله ،

١٤٤

فإن السير في هذا الاتجاه قد يكلّف الكثير من الآلام والتضحيات والخسائر ، مما يخلق الحاجة الملحّة إلى الإرادة القوية القادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية ، ولا بد من طاقة داخلية روحية ، تملك على الإنسان موقفه ، فلا ينهار ، وتحفظ له خطواته فلا تهتز ولا تنحرف ، وهي طاقة الصبر الذي يمنع الإنسان من أن يصرخ من الألم ، أو يتلوّى من الجراح ، أو يسقط أمام الخطر ، وهذا ما أراد الله لنا أن نواجهه في الساحة ، فلا نكتفي بالصلاة على أهميتها الحيوية والعبادية والروحية ، بل لا بد من تكاملها مع الصبر موقفا وحركة ومنهج حياة ، (وَاصْبِرْ) على كل مسئوليات الساحة ، ونتائجها السلبية ، وظروفها الصعبة ، ليتحقق لك ـ من خلال ذلك ـ الإحسان للناس وللحياة ولنفسك ، بكل ما يفرضه من تضحية وعطاء ومعاناة ، فستلاقي جزاء ذلك غدا عند الله ، (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا.

* * *

١٤٥

الآيتان

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)

* * *

معاني المفردات

(الْقُرُونِ) : جمع قرن ، وهو أهل كل عصر ، وشاع تقديره بمئة سنة.

(بَقِيَّةٍ) : بقية الشيء : ما يبقى منه ، يقال : بقية السلف الصالح أي : من بقي منهم بعد ذهاب أكثرهم.

(أُتْرِفُوا) : الترف : النعمة والجدة ، أي اتبعوا ملذات الدنيا ، فأبطرتهم وأفسدتهم.

* * *

المعصية والكفر إجرام

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كان المطلوب أن يكون من هؤلاء

١٤٦

القوم الذين عاشوا في القرون السالفة ، (أُولُوا بَقِيَّةٍ) جماعة جاءت بعدهم وانتهجت سلوكا على غير الطريقة التي ساروا عليها (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) من موقع المسؤولية عن إصلاح الدنيا وتهديم الفساد ، ولكن لم يحدث ذلك فقد تبع الخلف السلف في طغيانه وتمرّده في عملية الفساد والإفساد ، (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) من الأنبياء والمؤمنين الذين اتبعوهم في الإيمان بالرسالة وجاهدوا في سبيل الله ، وهؤلاء يمثلون القلّة في المجتمع الذي سيطر عليه المترفون بكفرهم وضلالهم ، ممن ظلموا أنفسهم ومن حولهم من الناس ، والحياة التي تحيط بهم ، (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) من مال وشهوات وأطماع في ما تدعوهم إليه من ظلم للناس ، واحتكار لأرزاقهم ، وتحكّم فيهم بما لا يرضى به الله ، وانقياد للذائذهم وشهواتهم ، واستسلام لدعوات الشيطان وخطواته في ما يأمرهم به ، أو ينهاهم عنه ، وتركهم لدعوة الله في السير على الصراط المستقيم في خطّ العقيدة والعمل.

(وَكانُوا مُجْرِمِينَ) وأيّة جريمة أعظم من الاستعلاء على الناس ، وإفساد حياتهم ، وتدمير عقيدتهم ، وإبعادهم عن الله ، وتشوية أفكارهم وتصوراتهم ، وإقامة الحواجز بينهم وبين رسل الله ودعاة الحق ، إنها الجريمة البشعة لأنها تمثل الاعتداء على الحياة بكل روحيتها وعمقها الإنساني وامتدادها الرسالي نحو الله.

* * *

الله الرحيم العادل

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) لأن العذاب لا يمثل حالة عقدة ، كما هو الحال لدى الناس الذين يحكمون فيتحركون ـ في حكمهم ـ من موقع العقدة الذاتية التي تتلذّذ بعذاب الآخرين وترتاح بظهور الألم في حياتهم ، وتشعر بالعظمة أمام مشاريع هلاكهم ، ولكن الله غنيّ عن

١٤٧

ذلك كله ، فهو الخالق والرازق والمنعم ، الذي يملك القوّة كلها ، وهو الرحيم بعباده ، وهو الحكيم الذي لا يتصرف إلّا وفق الحكمة في الثواب والعقاب فلا يعاقب إلا على أساس ما يمثله العقاب من مصلحة للإنسان ، وسلامة للحياة ، وذلك في الحالات التي يستسلم فيها الناس للتمرد والعصيان والطغيان والانحراف ، والإفساد لحياة الناس ، فإن العقاب يمثل حالة رادعة ، ومعاملة للمسيء بما يستحق من عذاب ، بينما يمثل الثواب تكريم المحسن بما يستحق من نعيم وإلا كان المحسن والمسيء بمنزلة سواء. أما إذا كان الناس مصلحين في فكرهم وعملهم ، فإن الله لا يمكن أن يعاقبهم لأنهم لم يرتكبوا ذنبا يعاقبون عليه ، بل عملوا عملا يثابون عليه ، فيكون العقاب في هذه الحال ظلما ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

١٤٨

الآيتان

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

* * *

ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) ، فإن قدرته في خلقهم على الشكل الذي خلق فيه أجسادهم هي قدرته نفسها على خلق الطريقة التي يستخدمون بها عقولهم وأفكارهم ، لأنه قادر على كل شيء يتعلق بهم في أصل الخلق وتفاصيله ، فإذا أراد أن يجعلهم على مستوى واحد في التفكير ليصلوا إلى نتيجة واحدة ، أو ليكونوا ـ في أصل وجودهم ـ على تصور واحد لكل القضايا المتعلقة بالإيمان والحياة ، فهو قادر ، لأنه إذا أراد شيئا فإنه يتفتح على القضية الحاسمة (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في ما اقتضته سنّة الله في وجود الإنسان من اختلاف في مستوى التفكير وطريقته ، وتنوّع في التجربة وطبيعة النتائج التي ينتهي إليها كل منهم ، مما يوجب كثيرا من التنازع والارتباك في شؤون الحياة الخاصة

١٤٩

والعامة للناس ، ويؤدّي إلى الانحراف عن الخط المستقيم ، والبعد عن خط الإيمان والاقتراب من خطوط الكفر والضلال.

* * *

لماذا يحدث الخلاف بين الناس؟

وتلك هي طبيعة الحرية التي جعلها الله للإنسان في إرادته ، في ما تتحرك به في الخطوط المتوازية للفكر والعمل لما يراه الله من الحكمة في ذلك ، بعيدا عن أيّ محذور عقليّ ، لأن الله جعل من الضوابط الذاتية التي تحدّد للإنسان خط السير في مناهج الفكر وأساليبه ، وطبيعة المضمون ، مما لو اختاره وسار عليه لاستطاع أن يصل إلى نتيجة واحدة ، ولكنّ مشكلته ، أن نوازعه الذاتية تتدخّل في نهج تفكيره ، وفي عملية الاختيار ، كما أن أوضاعه العاطفية والانفعالية ، قد تؤثر على قراراته الفكرية ، فتختلط عليه الأمور ، وتتشابك القضايا ، ويفقد وضوح الرؤية لما يحيط به.

وبذلك يحدث الخلاف بين الناس الذي يؤدّي إلى أكثر من نتيجة سلبية على مستوى الواقع الإنساني العام ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) من المؤمنين الذين تقبّلوا ما أفاضه الله على الناس من رحمته فاختاروا الإيمان من مواقع الوضوح ، وساروا في خط الهدى على ضوء العقل الواعي الذي يتابع الأمور بتركيز واتزان. ذلك أن بعض الناس يتعامل مع الرحمة الإلهية بالانفتاح في الوعي والفكر المسؤول ، فيصل إلى الحقيقة من أقرب طريق ، أما البعض الآخر ، فيعيش لونا من الضباب العاطفي والحسّي ، ويستغرق في دائرة من الانغلاق الفكري عن مواقع الحقيقة فيبتعد عنها.

* * *

١٥٠

غاية الخلق الرحمة أم الاختلاف؟

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) لينفتحوا على آفاق رحمته ، في ما يريده لهم من الالتزام بطاعته التي تحقق لهم مصالحهم المادّية والروحيّة ، والابتعاد عن معصيته التي تبعدهم عما يفسد حياتهم أو يضرّها ، وهذا المعنى يلتقي بمضمون الآية الكريمة التي تحدثت عن غاية الخلق ، وهي : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وهذا التفسير أولى من إرجاع الفقرة إلى الاختلاف باعتبار ما يوحيه من تنوع في الأفكار والأذواق والأدوار ، التي تقتضيها طبيعة الحياة في حركتها ، مما لا يمثل حالة سلبية في واقع الإنسان ، لأن التنوع يلعب دورا محرضا لتحريك الحياة وتطويرها على الصعد كافة ، وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين ، ولكن الظاهر من سياق الآية أنها تؤكد على مسألة الهدى والضلال في عالم الوحدة والاختلاف ، وتعتبر الاختلاف مظهرا سلبيا لارتكازه على البغي والعدوان كما صرّحت في أكثر من آية ، ولذلك كان الاستثناء بفقرة (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) التي تعتبر الرحمة نعمة تستحقها الفئة التي اختارت الإيمان في ما حاولت أن تمارسه من مسئولية الحرية في الإرادة بما ينسجم مع تشريع الله.

وربما كانت الفقرة التالية دليلا على مثل هذا الجوّ المتحرك في السلوك الإنساني ، القائم على أساس المسؤولية الداخلية والخارجية عن أعماله أمام الله ، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وإرادته الحاسمة في حكمه النافذ في الأشياء ، في المطيعين والعاصين الذين يمثلون الخط الإيجابي والسلبي في نطاق الاختلاف الإنساني ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) في ما يمثله هذا المفهوم من امتلاء الجنة بالناس والجن الذين أطاعوا الله في ما أمر به أو نهى عنه ، ولم يعصوه في ذلك في قليل أو كثير ، كما هو الحال في امتلاء جهنم بالعاصين من الجنة والناس على ما ينص عليه منطوق الآية.

* * *

١٥١

الآيات

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

* * *

معاني المفردات :

(نَقُصُ) : القصص : الخبر عن الأمور بما يتلو بعضه بعضا.

(أَنْباءِ) : والنبأ : الخبر بما فيه عظيم الشأن.

(نُثَبِّتُ) : نقوي.

(مَكانَتِكُمْ) : مكانة الإنسان : حاله التي تمكنه من العمل.

* * *

١٥٢

القصة في حركة الرسالة

وهكذا تلخّص لنا نهاية السورة الدور القصصي الذي تضمنته ، والنتيجة المرعبة التي تنتظر غير المؤمنين ، ويحتمل غموض التهديد الصادر عن الله أن يحدث أي شيء من الذي يملك الأمر كله ، وإليه ترجع العبادة كلها ، فهو في حضور دائم ، في كل شيء ، ومع كل شيء.

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) الذين سبقوك في المرحلة ، فبلّغوا وعملوا وواجهوا كل أنواع التحدّي والتمرّد ، وثبتوا في مواقع الاهتزاز ، وانتصر الله لهم في أكثر من موقف ، فوقفوا في الموقع القويّ الذي زادهم قوة إلى قوّتهم. ولكن ما مهمة هذا العرض القصصي؟؟ هل هو مجرد حكاية التاريخ ، وسرد أحداثه ، أو هو تخطيط إلهيّ لتثبيت موقف النبي ، أمام الهزات النفسية التي قد يتعرض لها أمام التحديات الصعبة التي تواجه حركة الرسالة؟ إن الله يثبت لنا الشقّ الأخير في المسألة ، فالقرآن كتاب رساليّ يخطّط للرسول طريقه ، في التفكير والإحساس ، ويوجه السائرين على خط الرسول أن يقفوا في مواقع الثبات والقوّة أمام حالات التحدي ، لأن سرد التاريخ الرساليّ أمام الرساليين يجعلهم يستشعرون الخط الثابت الذي تتحرك فيه الرسالات فيسيرون عليه امتدادا لحركة التاريخ في ما يلتقي فيه الأنبياء في خط الدعوة والتغيير.

(ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) فلا يقترب إليك القلق ، ولا يدنو منك الاهتزاز ، وفي هذا بعض الإيحاء بأن الله يربّي نبيّه بآياته أمام ما يمكن أن يعانيه من مشاعر سلبيّة في مواجهة واقع صعب يتحداه ، بوصفه بشرا يتأثر بما حوله من دون أن يغيّر ذلك شيئا من طبيعة الموقف ، فيأتي القرآن ليفتح قلبه على الأفق

١٥٣

الرحب من التاريخ ، ليبدع تاريخا جديدا منفتحا للرسالة ، وهذا ما ينبغي للرساليين أن يواجهوه عند قراءة التاريخ الرسالي في القرآن ، حيث التجربة الرسالية النبويّة التي تفتح القلوب على الله ، وتحرّك المشاعر في اتجاه النور.

* * *

دور القرآن في حياة الإنسان

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ) الآيات (الْحَقُ) الذي يحتوي كل المفاهيم المتعلقة بقضايا الإنسان في الكون والحياة بالطريقة التي تحتوي الخير كله ، وتلتقي بالثبات كله ، فلا مجال للاهتزاز ولا للاختلاط بالباطل في أي اتجاه ، (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) في ما يفتح قلوبهم على الله ، واليوم الآخر ، فتخشع قلوبهم لذكر الله ، وترتعد فرائصهم للحديث عن عقابه ، وتنتعش أرواحهم لذكر ثوابه ، فتلتقي الموعظة بالذكرى في عملية انفتاح وتأمّل وتدبّر وتذكر لقضية المصير في الآخرة. وهذا هو دور القرآن في حياة الإنسان ، فهو لا يغفل حركة الإنسانية في أعماقه ، ولكنه يفتح لها الآفاق التي تجعلها تبدع وترقّ وتصفو ، وتثير المشاعر في اتجاه التركيز المصيري للحياة في عملية تنمية وتوعية وتذكير.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) وتصرّفوا بما يحلو لكم في المواقع التي أنتم فيها ، وخذوا حريتكم في ما تفيضون فيه من أعمال ، وفي ما تتحملونه من مسئوليات ، فقد اخترتم سبيل الكفر ، وتمردتم على الله في ذلك كله ، (إِنَّا عامِلُونَ) فلن نتوقف عن السير في الخط الإلهيّ مهما تحملنا من جهد ، ومهما كلّفنا ذلك من تضحيات ، لأننا نجد فيه الخير الذي يبني الحياة على أساس ثابت من الإيمان والعمل الصالح ، (وَانْتَظِرُوا) نتائج أعمالكم السيئة في ما تتحركون به من خطط الشرّ القائمة على الكفر والشرك ،

١٥٤

وستعرفون من خلال ذلك صدق وعيد الله لكم بالعذاب ، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ذلك لأننا آمنا به لإيماننا بالرسول.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بما يعلمه من شؤون خلقه وأعمال عباده ، وهو المسيطر على ذلك ، فلا مهرب لأحد منه ، ولا ملجأ إلّا عنده ، لأن إرادته هي التي تحيط بكل شيء ، وتصنع كل شيء ، وتتدخل في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) وليس لأحد معه شيء ، فهو الواحد في ألوهيته ، وهو المستحق للعبادة ، (فَاعْبُدْهُ) ولا تعبد غيره ، (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) في كل أمورك ، فلا تخف من أشباح الغيب التي يمكن أن يواجهك بها المجهول ، الذي لا تملك أمره قدرة واختيارا ، وتقدّم إلى حياتك ورسالتك بقوّة وثبات ، فإن الله يكفي المتوكلين عليه من كل شر ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فلا تغفلوا عن مراقبته ، في كل عمل ، لتخلصوا له وتطيعوه ، فلا يصدنّكم الشيطان عن ذلك بوسوسته وتثبيطه ، وكيده وحبائله وغروره ، فيبعدكم عن الله ، ويصرفكم عن الحق من حيث لا تشعرون ، وتلك هي الرقابة الداخلية التي يريد القرآن إثارتها في وعي الإنسان ، فيشعر بالحضور الإلهيّ في كل أموره وأعماله ، فينضبط في موقع المسؤولية ، ويثبت في مواقف الاهتزاز ، لتحصل له العصمة من ربّه ، في ما يرحم به عباده ، وفي ما يفيضه عليهم من لطفه ورضوانه ، إنه أرحم الراحمين.

* * *

١٥٥
١٥٦

سورة يوسف

مكيّة

وآياتها مائة واحدى عشرة

١٥٧
١٥٨

جولة في آفاق السورة

... وهذه سورة مميزة تدور فيها قصة أسرة من أسر الأنبياء ، فتجد فيها ما تجد في المجتمع الذي يحيط بها من ألوان التناقضات في الأخلاق والسلوك ، وتحسّ معها بالوداعة الصافية ، التي تصطدم بالتعقيد النفسي المليء بالحسد ، وتلتقي عندها بالشخصية النبوية الهادئة التي تتحسس الخير في داخلها ، وتحاول أن تنشر على من حولها معانيه ، في مواجهة أفعال البشر التي تتعمّد الإساءة إلى الخير ، لتشير لهم بأن الخير هو الأصل في الإنسان ، وهكذا نستوحي منها ، أنّ البيئة الخيّرة ليست السبب الوحيد لصنع الإنسان الخيّر ، كما أن البيئة الشرّيرة ، في المقابل ، ليست السبب الوحيد لصنع الإنسان الشرّير ، فيمكن للعوامل الأخرى أن تتدخل سلبا أو إيجابا في صنع الشخصية الإنسانية مما يفرض على العاملين في خط التغيير ألّا يستريحوا للجوّ الإيجابي الذي يحيط بالمجتمع ، ويعتبروه ضمانة ضد ظهور الاتجاه السلبي في الواقع ، كما أن عليهم ألّا ييأسوا من الأجواء السلبية ، فيمتنعوا عن العمل في الاتجاه الإيجابي المضاد.

ونلاحظ من خلال شخصية النبي يوسف عليه‌السلام في هذه القصة ، كيف يثبت الإنسان المؤمن الذي يعيش صفاء الإيمان ووداعته في مواقف الاهتزاز ، على الرغم من الضغوط النفسية والمشاكل الداخلية التي تتحدى صبره وإيمانه وصلابته ، أمام ما يلاقيه من تعسّف واضطهاد ، وما يواجهه من إغواء وإغراء ، وذلك بلجوئه إلى الله في موقف الشدة ، والاستعانة بإيمانه في

١٥٩

موقع الاهتزاز ، فيحصل على الثبات والتماسك والامتداد في الخط المستقيم.

ثم نلاحظ ـ من ناحية أخرى ـ كيف يتعهد الله عباده المؤمنين بالرعاية والعناية في حالات الشدّة ، كما تعهّد يوسف عليه‌السلام فنقله من حالة إلى حالة ، برفق ، ولطف ، وحنان ، حتى وصل به إلى ما يريده له من القوة في موقع السلطة الشاملة التي أباحت له تنفيذ حكم الله في المجتمع بكل حكمة واتزان ، وكيف ساهم ذلك كله في التأثير على حالات الانحراف لدى إخوته ، فرجعوا إلى الله وتابوا إليه ... وخلاصة التجربة التي مرت بها هذه الأسرة تؤكد أنه من الممكن للإنسان أن يقوم من عثرته إذا توفرت له الظروف الملائمة. وتقدم لنا آيات السورة أكثر من فكرة ، بما تعكسه من الأجواء المشبعة بالإغراء ، أو الأجواء الضاغطة بالبلاء والشدّة ، وكيف يسقط بعض الناس أمام هذه التجربة أو تلك ، وكيف ينجح آخرون بالامتحان ، لتحافظ حركة الإنسان في كل مواقع التجربة الصعبة ، على التنوع الذي يمليه ويحدد وجهته السلبية والإيجابية اتجاه الإنسان الفكري ، إذا ما توفرت لذاك التوجه المناخ المناسب من إرادة قوية تمنع الانحراف ، أو إرادة ضعيفة تؤكد الانحراف وتقويه ، لذا على الإنسان المؤمن أن يكون واعيا لدوره الذي يريده الله له ، فينتبه إلى ما حوله ومن حوله في عملية تأمل ، ووعي ، وإرادة ، وتأهب للانطلاق.

ويبقى لنا أن نواجه كل التفاصيل في حركة آيات السورة.

* * *

١٦٠