تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

بِبَعِيدٍ) من الأمم القريبة من تاريخكم مما يجعلكم قادرين على معرفة الآثار التي تركوها ، والمدائن المخسوفة التي لا تزال ماثلة أمام أعينكم ، لأن الأعمال التي عذبهم الله بها هي أعمال التمرد على الله ، والكفر برسالته ورسله التي تقومون بها الآن.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) وافتحوا قلوبكم لله ، وأشهدوه عليها بالإحساس العميق بالندم ، والابتهال الخاشع إليه ، واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم في ما أسلفتم من ذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) في موقف عمليّ ، يؤكد رجوعكم عما أنتم فيه ، ويدفع بكم إلى الموقف الصحيح الذي يضع أقدامكم على الصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى الحصول على مغفرته ورحمته ورضوانه ، (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فمنه الرحمة الواسعة لعباده ، والمودّة الرحيمة التي يسبغها عليهم من لطفه وعطفه.

ولعل في تعبيره عن الربّ ، بالإضافة إليه ، بعد أن كان قد أضافه إليهم ، إشارة إلى ما يملكه من المعرفة به في صفاته الحسنى ، وجهلهم بتلك الصفات. بينما كان هدف إضافته إليهم في دعوتهم للاستغفار والتوبة ، الإيحاء بأنّهم المربوبون له ، لا إلى غيره من الأرباب التي يتوهمونها ويدّعونها من دونه ، الأمر الذي يفرض عليهم المبادرة للحصول على رضاه.

... ويستمر شعيب في إنذارهم وترويضهم بمختلف الأساليب ، ولكنهم لا يرتدعون ، ولا يسمعون ، فهم في شغل عن التفكير بذلك ، لانصرافهم إلى التفكير بالوسائل التي يضعفون بها موقفه ، ويهزمون بها رسالته ، (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) فليس لهذه الأفكار التي تثيرها أمامنا ، أي صدى في نفوسنا لأنها بعيدة عن الأجواء التي عشناها في حركة العبادة ، فقد تعوّدنا على نمط من الفكر والسلوك ، عايشناه ، ولا مجال معه للنظر في تفكير جديد أو دعوة جديدة ، لأن ذلك يدفع بنا إلى الاهتزاز في

١٢١

المواقف ، والابتعاد عن مواقعنا التاريخيّة المرتبطة بالآباء والأجداد. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن من يريد تغيير المجتمع على أساس دعوته لا بد من أن يملك القوة الاجتماعية التي تفرض على الناس اتباعه ، والخضوع له ، لأن قضية التغيير تمثل نوعا من أنواع القوّة التي لا تملكها بيننا ، (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) فأنت لا تملك قوّة ذاتية جسدية أو ماليّة ، أو معنويّة ، تعزز موقفك ، (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) فأنت تملك نفرا قليلا من عشيرتك ، وهو ما يعبّر عنه بكلمة الرهط ، نراعي موقفهم ونحترم موقعهم ، ولذلك فإننا لا نسيء إليك ، لأننا لا نريد الإساءة إليهم ، كونهم انسجموا مع موقفنا منك ، فلم يتبعوك في ما تدعونا إليه (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فليست لك أيّة منعة أو عزة أو كرامة ، مما يجعلنا ننظر إليك نظرة استهانة واحتقار ، فلا نعبأ بك ولا بما تقول.

ولكن شعيبا لا يتراجع عن موقفه ورسالته ، بل يتابع العمل على تصحيح مفاهيمهم الخاطئة والمنحرفة عن الخط المستقيم (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ، مما يدفعكم إلى احترامي لحساب قومي ، ولا تستجيبون لما أبلّغكم به من رسالات الله ، لحساب الله ربكم وربي ، فأيّ منطق هو هذا المنطق الذي توازنون من خلاله بين عباد مخلوقين ، هم رهطي ، وبين رب العالمين جميعا ، فتشعرون بالتعاطف مع هؤلاء ، وتتركون مراقبة الله القوي القادر القاهر الجبّار ... (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي جعلتموه وراء ظهوركم ، كناية عن نسيانه وعدم الاعتناء به ، وهذا منتهى السفه في التفكير وفي العمل ، يفقد معه الإنسان اتزانه في تقييم الأشياء ، وتقدير موازين القوّة ، ومواقع القدرة. (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

* * *

وقفة العزّة

ثم يقف شعيب وقفة القوّة والعزّة التي يستمدها من إيمانه بالله وتوكله

١٢٢

عليه ، ليؤكد لهم صلابة موقفه ، ومتانة مركزه ، وقوّة شخصيته ، وبأنه سيمضي في طريقه ، بالرغم من كل تهاويلهم وتهديداتهم ، ولن يتوقّف عن السير في الطريق إلى الله ، مهما قالوا ، ومهما فعلوا.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي تابعوا الحال التي أنتم عليها في المجالات التي تملكون فيها إمكانات الحركة وظروف العمل ، فهذا شأنكم في ما تريدون وما لا تريدون ، (إِنِّي عامِلٌ) في الخط الذي أسير عليه لأني واثق بسلامته ، وصحته ، ولن يغيّر قناعاتي شيء مما تهددون به ، أو تثيرونه ضدي ... وسترون النتائج السلبية لمواقفكم الكافرة على مستوى الدنيا والآخرة ، مقارنة بالمواقف الإيجابية لموقفي في السير على خط الرسالة. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ويرتفع عنكم غشاء الجهل والضلال الذي يغشي عيونكم وقلوبكم (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ولن يطول انتظاري وانتظاركم فسيأتيكم العذاب الشديد ، وستعرفون من الكاذب ، والصادق في ساحة الصراع.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وجاء العذاب ، وامتد في كل ساحاتهم حتى لم يبق منهم أحد ، أما شعيب والمؤمنون معه فقد أنجاهم الله منهم ، لأنهم آمنوا بالله وصدقوا معه ، وثبتوا في مواقف الاهتزاز ، كذلك يرحم الله عباده المؤمنين (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) التي صعقتهم فلم يستطيعوا حراكا ولا دفاعا ، ولم يملكوا ثباتا لأقدامهم في أي موقع (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) لا يتحولون عنها (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يقيموا فيها ، فقد ذهب كل أثر للحياة فيها من خلالهم ، كما لو كانوا يعيشون فيها منذ الأزل ، (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) قرية شعيب ، وهو الدعاء بالهلاك على سبيل الكناية (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) قوم هود الذين أهلكهم الله وأبعدهم عن ساحة رحمته.

* * *

١٢٣

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

* * *

معاني المفردات

(وَسُلْطانٍ) : الدليل الظاهر.

(وَمَلَائِهِ) : أشراف القوم.

(أَمْرَ فِرْعَوْنَ) : أفعاله وتصرفاته.

(الْوِرْدُ) : الورد : بلوغ الماء ، والورد : الماء بالذات ، واستعمل هنا في النار مجازا.

(الرِّفْدُ) : العطاء.

(الْمَرْفُودُ) : المعطى.

* * *

١٢٤

حديث موسى عليه‌السلام وفرعون

ويتابع الله حديث الأمم السالفة ، والطواغيت الذين طغوا وبغوا وتمرّدوا على الله ، ويدعو إلى أخذ العبرة من ذلك كلّه ، ويختصر الله في هذه السورة قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون من الجانب الذي كرّس أجواء السورة لإثارته ، وهو جانب النهايات السيئة للبعد عن خط الأنبياء والقرب من خط الطواغيت ، سواء بالنسبة إلى الطواغيت أم تابعيهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) بما أتاه الله من معجزات ودلائل وبراهين ، وبما أراده الله له من القوة في الموقف الذي يوحي بالسيطرة على فرعون وجماعته ، (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) فلم يستجيبوا له ، (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) في ما أمرهم به من الكفر بالله ، والتمرد على رسله ، (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) لأنه لا ينطلق من قاعدة التفكير العاقل الذي يوازن بين الأمور ليعرف الصالح من الفاسد ، والخير من الشرّ ، ويحسب الأرباح والخسائر في ما يأخذه أو في ما يدعه من الأشياء ، ولذلك دفعهم إلى السير في طريق غضب الله الذي يؤدي بهم إلى النار.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيكون لهم إماما في الآخرة ، فيواجهون باتباعهم له مصير الهلاك والعذاب ، كما كان لهم إماما في الدنيا فاختاروا معه الكفر والضلال ، (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) والورد هو الماء الذي يرده الناس ليرتووا منه ، واستعمل هنا في النار مجازا للتدليل على أنهم اتبعوه ليشفوا غليلهم ، ولكنهم اكتشفوا ـ في نهاية المطاف ـ أن الغاية التي وصلوا إليها كانت على عكس ذلك.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً) بابتعادهم عن الله ، فأبعدهم عن رحمته ، وترك الدعاء عليهم بذلك سنّة متّبعة إلى يوم القيامة ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)

١٢٥

فسوف يواجهون العطايا السيّئة التي لا تحقق لهم أي هدف مما كانوا يرجونه لجهة قضاء حوائجهم من خلال فرعون ، بل يحصلون على خلاف ذلك ، نارا محرقة مهلكة وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

* * *

١٢٦

الآيات

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(١٠٢)

* * *

معاني المفردات

(قائِمٌ) : الشيء القائم : هو الموجود بنحو من الأنحاء ، ولو بآثاره.

(وَحَصِيدٌ) : الحصيد : قطع الزرع من الأصل ، ويقال : حصدهم بالسيف إذا قتلهم ، وهنا بمعنى : المتساقط على الأرض.

(تَتْبِيبٍ) : من تبت يده ، أي : خسرت.

* * *

... وتبقى العبرة

... وينتهي هذا العرض من قصص الأنبياء مع شعوبهم ، ويبقى للقصة

١٢٧

دور العبرة ، ويبقى للعبرة دور الفكرة التي تفلسف للناس مسألة العذاب لتربطها بالذهنية التي كانت تحكم الكافرين في تصورهم لحقيقة الإله ، ومعنى العبادة ، وفي ممارساتهم للحياة المنحرفة على غير خط الله ، فتلك هي فلسفة الموقف الإلهيّ الذي أقام الحجة على الناس من خلال الرسالة ، وأنذرهم بالعذاب من خلال ذلك.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) في ما تلوناه عليك من أحاديث أهلها الذين واجهوا الأنبياء بالكفر والتمرد ، (مِنْها قائِمٌ) على أعمدته وبنيانه (وَحَصِيدٌ) متساقط على الأرض لا يبين منه شيء للناظر البعيد ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) لأننا عرّفناهم طريق الخير والشرّ ، ورزقناهم وسائل المعرفة ، وجعلنا لهم العقل ليحدّد لهم خطّ الهدى ، وأرسلنا إليهم الأنبياء ، وفتحنا لهم كل سبل النجاة على أساس الفكر والوحي والإرادة ، وأنذرناهم بالعذاب الأليم ، وجعلنا النتائج الإيجابية والسلبية تتحدد وفقا لمواقع الحرية والاختيار التي يملكونها ، وما ظلمناهم من أمرهم من شيء ، (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم لم يأخذوا بأسباب النجاة ، ولم يرتكزوا في حياتهم على قاعدة ثابتة من الهدى والإيمان ، بل اتبعوا غير الله من آلهة الكفر ، (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) لأنها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ، لافتقارها إلى القوة الذاتية ، كونها مخلوقة لله محتاجة إليه في وجودها ، وفي كل شيء آخر ، فكيف تملك لغيرها النفع والضرر ، وكيف تستطيع أن تدفع عن الناس أمر الله ، (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) لأن اتباعهم لهم ، وعبادتهم إياهم أوقعاهم في خسارة الدنيا والآخرة ، وهذا هو معنى التتبيب ، (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) فإنه يرسل عليها الخسف ، والصيحة ، والطوفان ، والزلزال ، وغير ذلك ، كما تراه أمام عينك ، وكما تسمعه من الآخرين بأذنك ، (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

* * *

١٢٨

الآيات

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)(١٠٩)

* * *

معاني المفردات

(مَشْهُودٌ) : يشهده الخلائق.

(مَعْدُودٍ) : معيّن في علم الله.

١٢٩

(زَفِيرٌ) : الزفير : أول صوت الحمار.

(وَشَهِيقٌ) : الشهيق : آخره. وقد كنى بهما سبحانه عن آلام أهل النار وأحزانهم.

(مَجْذُوذٍ) : مقطوع.

(مِرْيَةٍ) : المرية : الشك.

* * *

منهم شقيّ وسعيد

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) ذلك أن صدق الله وعده بالعذاب في الدنيا ، يوحي لعباده بصدق وعيده في الآخرة ، مما يبعث في نفس الإنسان الواعي الخوف الوجدانيّ من العذاب بحيث يتحرك في حياته على أساس انتظار ذلك اليوم ، (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) فلا يغيب عنه أحد من أوّل الخلق إلى آخره (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهده الخلائق كلهم ، (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) تبعا للحكمة الدقيقة التي أراد الله للحياة أن تخضع لها في بدايتها عند ما بدأ الله الخلق ، وفي نهايتها ، عند ما يعيدهم إليه ويحشرهم يوم القيامة.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فله الأمر كله ، ولا يملك أحد لنفسه ولا لغيره شيئا ، فلا يتكلم إلا من أذن الله له بالكلام ، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) من خلال ما اختاروه لأنفسهم من شقاء بعد الانحراف عن الخط المستقيم ، وعدم الإيمان بالله ، وبرسله ، وبرسالاته ، والعمل بطاعته ، أو من خلال ما اختاروه لأنفسهم من سعادة بالانسجام مع وحي الله وتعاليمه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) فذلك هو موقعهم في الآخرة ، (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) مما يعانوه من ضغط العذاب وشدّته ، وما يعيشونه من أحزان العقاب

١٣٠

وآلامه ، (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فلا مجال للتخلص من العذاب في أيّ وقت ، بل يمتد بهم ذلك بامتداد السماوات والأرض ، (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) لأن الأشياء كلها تخضع لمشيئته ، فلا حتميّة لشيء في الدنيا أو في عالم الخلود إلا من خلال إرادته التي تعطي الأشياء وجودها ، وتمنح الموجودات استمرارها ، فمشيئة الله تحكم كل شيء في البداية ، والاستمرار ، والنهاية ... ولعل هذا هو الملحوظ في هذا الاستثناء ، لتأكيد الإرادة الإلهية التي إذا حكمت على الأشقياء بالخلود في العذاب ، فإنه من الممكن أن ترفع ذلك عنهم في المستقبل ، لأنّ هذا الحكم مربوط بالمشيئة الإلهية ، التي قد تعلق حكم خلودهم في النار أو تمد بذاك الحكم إلى الأبد ، (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فهو المهيمن على كل شيء ، فكل شيء خاضع لإرادته.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بإيمانهم الخالص لله وبأعمالهم الصالحة ، (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فإذا شاء الله لهم الخروج منها فلا بد أن تتحقق مشيئته ، (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع ، إشارة إلى استمرار البقاء في الجنة ، على أساس ما يوحيه عدم الانقطاع في عطاء الرحمة والرضوان والنعيم.

* * *

الجنة والنار بين الخلود والأجل المحدود

وقد يثأر سؤال حول التعبير بكلمة : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، فهي تحدد الخلود بالشكل الذي قد يوحي بأنه إذا كان للسماوات والأرض أجلا محدودا ، فيترتب عليه وجود أجل محدود للجنة والنار ، باعتبار وجودهما في نطاق السماء والأرض ، وربما يؤكد ذلك بعض الآيات التي حددت للسماء والأرض أجلا كما في سورة الأحقاف : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا

١٣١

مُعْرِضُونَ) [الأحقاف : ١ ـ ٣] ، وقوله تعالى في سورة الأنبياء : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤].

على أن هناك آيات تدل على الخلود الأبدي للجنة والنار كقوله تعالى في سورة التغابن : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [التغابن : ٩] ، وقوله تعالى في سورة الأحزاب : (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [الأحزاب : ٦٤ ـ ٦٥] ...

فكيف يمكن التوفيق بين ذلك؟

* * *

الميزان ... رأي ومناقشة

وقد أجاب صاحب الميزان عند ذلك بقوله : «والذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا وسماوات ، وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه ، قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم : ٤٨] ، وقال حاكيا عن أهل الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] ، وقال يعد المؤمنين ويصفهم : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٢].

فللآخرة سماوات وأرض كما أنّ فيها جنة ونارا ولهما أهلا ، وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده ، وقال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] ، فحكم بأنها باقية غير فانية.

وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة أن السماوات والأرض مطلقا ، ومن حيث إنهما سماوات وأرض

١٣٢

مؤبدة غير فانية ، وإنما تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود ، وأما السماوات التي تظلّ الجنة مثلا ، والأرض التي تقلّها وقد أشرقت بنور ربها ، فهي ثابتة غير زائلة ، فالعالم لا يخلو منهما قط»! (١).

وقد نلاحظ أن ما استظهره العلامة الطباطبائي من الآيات التي ادعى دلالتها على فناء السماوات والأرض في عالم الدنيا غير دقيق ، لأن الآية التي تتحدث عن تبديل الأرض ليست ظاهرة في تبدل الحقيقة بل يمكن أن يكون المقصود بها تبدّل الصورة ، وهذا ما يؤكده الحديث عن تحول الجبال إلى قاع صفصف ، كما أن الآية التي تتحدث عن طيّ السماء قريبة من هذه الصورة. أما الآية التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض بالحق وأجل مسمّى ، فليس من الضروري أن يكون الأجل المسمّى أجلا لهما ، بل ربما كان الملحوظ فيه ـ كما يرى بعض المفسرين ـ المخلوقات التي تعيش عليها من خلال الحق الذي يراد لها أن تتحرك فيه ، ومن خلال الوقت الذي وقّت لها ...

وعلى كل حال ، فليس هناك من دليل على وجود سماوات وأرض في عالم الآخرة غير ما هو في عالم الدنيا ، ولا دلالة في قوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] فلعلها تصلح دليلا على أن الجنة في الأرض كما يستفيده البعض ، أو على وراثة المؤمنين للأرض ، وللجنة التي يتحركون فيها بحرّية ، وهكذا في آية تبدّل الأرض.

أما الحديث عن الخلود في دائرة دوام السماوات والأرض ، فلا يفرض أن يكون هناك وقت محدّد لهما ، بل يمكن أن يكون تعبيرا طبيعيا عن ارتباط الجنة والنار بالمكان الذي يوجدان فيه ، تماما كما هو الأمر في حالة التعليق بالمشيئة ، كأسلوب من أساليب التنوّع في التعبير الإيحائي ، للإيحاء بالعوامل المؤثرة في امتداد الخلود في خط الأبد ، وعلاقته بطبيعة الأشياء التي لا تحمل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١١ ، ص : ٢٥.

١٣٣

في ذاتها عناصر الحتمية إلا من خلال استكمال الشروط الطبيعية في الوجود ، والإرادة الإلهية في حركة الكون كله ... ويبقى للآيات الأخرى الحديث عن طبيعة الواقع الفعلي للشروط ، وعما تقتضيه المشيئة الإلهية من جهة أخرى ، وربما كان هذا المقدار من البحث كافيا في استيضاح طبيعة المسألة في هذه الآية.

* * *

الجمود في العقيدة

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك وريب ، (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) مهما حاولوا أن يثيروا من القلق في الموقف ، ومن الشك في الفكرة ، لأن الأساس الذي يرتكزون عليه لا يخضع لقاعدة فكرية بل كل ما لديهم من الحجة هو أن آباءهم كانوا يعبدونها ، فهم يقلّدونهم في عبادتهم تلك ، (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) وذلك هو سر الجمود في العقائد والعادات والتقاليد ، لأنّ الأبناء لا يريدون الابتعاد عن خطّ الآباء ، لشعورهم بالغربة الروحية في حال الاختلاف عنهم ، ولكن ذلك لا يعتبر مبرّرا لهم مهما حاولوا إقناع أنفسهم به ، والله سوف يحاسبهم على عبادتهم المنحرفة لأنه قد أقام عليهم الحجة بما يدعو إليه العقل ، ويرشد إليه الوحي ، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) لأنهم يستحقونه لعنادهم وتكبرهم.

* * *

١٣٤

الآيتان

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١)

* * *

معاني المفردات

(فَاخْتُلِفَ) : الاختلاف : ذهاب كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر.

(شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) : شك مريب : مثل عجب عجيب ، أو ظل ظليل ، أي : قوي دائم ، ومعناه : ترجيح الكذب على الصدق.

* * *

اختلافهم في كتاب موسى (عليه السلام)

... ويبقى تاريخ الرسالات خاضعا للصراع الذي يخوضه الرسل في ساحة الفكر والعمل ، ضدّ من يحاربون الحقيقة ، في مجال البحث والممارسة ، بل ويريدون للحياة أن تتحرك في الخطوط المنحرفة حيث تكثر المنعطفات ، وتختلف الغايات ، خلافا للخط المستقيم الذي تتمثل فيه حقيقة

١٣٥

القضايا في ظل وضوح الرؤية ؛ ولذلك فهم يختلفون في ما لا يختلف فيه ، ويثيرون النزاع في ما لا يوحي بالنزاع ، بهدف استثارة وبث الأوهام في مواجهة الحقيقة ، لإسقاط الفكرة.

ولم يكن كتاب موسى بدعا من الكتب التي أنزلها الله على رسله ، ولم يكن موسى فريدا في التحديات التي واجهته ، (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الذي أردناه حكما بين الناس ، وفرقانا بين الحق والباطل ، ليحل لهم المشكلة ، وليوضح لهم الحقيقة ، وليحسم لهم الأمور في ما اختلفوا فيه ، لأنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن هؤلاء المعقّدين لم يلتقوا بالوضوح البارز فيه ، فحاولوا أن يثيروا الضباب حوله ، ليحجبوا الرؤية عنه ، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) من موقع البغي والحسد وما إلى ذلك من عوامل شريرة ذاتية ، فانحرفوا عنه ، وابتعدوا عن صراطه المستقيم ، وكان من الممكن لله القادر على كل شيء أن يعذّبهم في الدنيا ، ولكن حكمته اقتضت أن يفسح لهم المجال ، وأن يمهلهم ليأخذوا حريتهم في اختيار الطريق الذي يريدونه لأنفسهم ، وليملي لهم ما شاء من الإملاء ، زيادة في إقامة الحجة عليهم ، حتى لا يترك لهم مبرّرا ، في أيّ موقع من مواقع الشبهة.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في ما اختلفوا فيه ، في عملية حاسمة لا مجال فيها للتردد ، لأنها تتمثل في العذاب الذي ينزل على المتمردين ، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) لأنهم لا يرتكزون على أساس متين في مصادر هذا الشك وموارده ، بل يرجعون فيه إلى ما يطوف في فكرهم من خيالات وأوهام ، وما يثور في حياتهم من أهواء وأطماع ، مما يوحي بالريب في الدوافع والخيالات ، أكثر مما يوحي بالفكر وبالجدّية في مواجهة الأفكار.

ولكن الله لا يترك الأمر لهم كما يريدون ويشتهون ، بل يؤخرهم ليوم لا مردّ له من الله (وَإِنَّ كُلًّا) أي كل واحد منهم ، (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) في ما

١٣٦

عملوه من خير أو شر ، فيجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فهو المطّلع عليهم في خفاياهم وأسرارهم ، (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يغيب عنه شيء من ذلك ، مما يوحي للإنسان بالحذر والتحفظ أمام ما ينتظره من عذاب الله ، نتيجة ما يمارسه من أعمال وذنوب.

* * *

١٣٧

الآيتان

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(١١٣)

* * *

معاني المفردات

(فَاسْتَقِمْ) : الاستقامة : الاستمرار في جهة واحدة ، وأن لا يعدل يمينا ولا شمالا.

(تَطْغَوْا) : الطغيان : تجاوز المقدار في الفساد.

(وَلا تَرْكَنُوا) : الركون إلى الشيء : هو السكون إليه بالمحبة له ، والإنصات إليه ، ونقيضه النفور عنه.

* * *

فاستقم كما أمرت

... وهكذا يريد الله للمسيرة الجديدة ألّا تنحرف كما انحرف أتباع الرسالات السابقة ، بل أراد أن تسير في خطها المستقيم الذي رسمه الله للناس على صعيد الفكر أو العمل أو الموقف أو العلاقات ، فلا يتجاوزونه إلى غيره ،

١٣٨

ولا يبتعدون فيه إلى الحد الذي ينفصلون به عن القاعدة الثابتة. وهذا ما أكّده الله في أكثر من آية حين اعتبر الاستقامة أساسا للشخصية الإسلامية ، كما أنها التزام بتوحيد لله في القاعدة ، ثم هي استقامة على هذا الخط في كل شيء ، فكل الحياة في مناهجها وأساليبها وعلاقاتها ترتبط به ، لأن الفكر والعمل ، يتحركان بين خط الشرك وبين خط التوحيد ، فلا مجال أمام الإنسان سوى اختيار أحدهما ، فمن انحرف عن خط التوحيد وجد نفسه في خط الشرك ، ولذلك كانت الاستقامة لا تعني للإنسان المسلم شيئا آخر سوى الالتزام بخط التوحيد في حركة الفكر والعمل.

من هنا جاءت دعوة الله إلى النبيّ وإلى المؤمنين للاستقامة في قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) من المؤمنين الذين اتّبعوك وتركوا الشرك ، لأن ذلك يمثل معنى الإخلاص لله ، بالسير في خطّ رضاه ، (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم ، كما تجاوزها الآخرون ، في تحريف المفاهيم ، وتغيير الأفكار ، وإرباك الأهداف.

* * *

الرسول مكلف كسائر المؤمنين

ولعلّ في هذا الأمر الموجّه للنبي وللمؤمنين معا ، إيحاء بأن النبي لا يختلف عن المؤمنين في المسؤوليات التفصيلية لخط السير ، لأنه يتحرك في حياته ، بصفته المسلم الأوّل الذي لا بد أن يطبّق الإسلام على نفسه ، قبل أن يدعو إليه ، ليكون الداعية بالقدوة ، قبل أن يكون الداعية بالكلمة ، وبهذا يمكننا استيحاء الردّ على الذين يفرضون للنبيّ تكليفا غامضا يختلف عن تكليف بقية المسلمين ، فيرون أننا لا نستطيع اعتبار أيّ عمل يقوم به ، لا سيما في خط الجهاد ، لأنه أعرف بتكليفه الشرعي الذي قد لا نعرفه.

١٣٩

إننا نستوحي من هذه الآيات وغيرها ، أنّ الله يخاطبه كما يخاطب غيره ، لأنه مسئول عما هم مسئولون عنه ، إلا أنه يختلف عنهم بصفة القيادة الرسالية والحاكمية ، التي تجعل مسئولياته أكثر ثقلا من مسئولياتهم ، ولكنها لا تبتعد عن الخطوط العامة للتشريع في مجال الدعوة والحكم ، ولو لا ذلك لما كان هناك معنى للقدوة التي ترى في سلوكه شريعة ، كما هي الكلمة منه شريعة ورسالة.

* * *

حذار الخلط بين الكفر والإسلام

وهذا ما نريد أن نثيره في حركة العاملين في سبيل الله ، في خط الدعوة إليه ، أو الجهاد ضد الكفر أو الانحراف ، وذلك أن يلتزموا خط الاستقامة في الفكر ، أمام عوامل الانحراف المتنوّعة التي تحاول أن تتجه بالفكر الإسلامي ، إلى خطوط كافرة أو قريبة من خط الكفر ، تحت واجهات غائمة لا تملك من عناصر الأصالة والوضوح الشيء الكثير ، بل تثير ـ بدلا من ذلك ـ الكثير من الشكوك والشبهات التي تخضع لكثير من أساليب الالتواء والانحراف ، وذلك في ما يحاول العابثون من الخلط بين الكفر والإسلام ، في مزيج من الأفكار التي تحمل مضمون الكفر في إطار الإسلام. إنّ عليهم الانتباه إلى ذلك بدقّة وحذر ، لئلا ينحرفوا من حيث يريدون الاستقامة ، فيعطوا الانحراف قداسة الإسلام.

وهذا ما وقع فيه بعض العاملين تحت تأثير المتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي فرضت نفسها على الساحة الإسلامية بدخول بعض التيارات الكافرة والمنحرفة في حركة الواقع ، حيث كان لتلك التيارات تأثير على فكر العاملين وطريقتهم في فهم الواقع والتحرك معه ، فأحدث ارتباكا وتعقيدا في حركتهم ، وأدخل بعض المفاهيم الكافرة ، في صلب منظومة المفاهيم الإسلامية ، كما نلاحظ في تطعيم الإسلام بالديمقراطية والاشتراكية والماركسية

١٤٠