تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

ولكن نوحا لا يخضع لذلك ، بل يبقى في هدوء الروح الرساليّ ، وصفاء الفكر ، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) ولا شأن لكم في ما أتحمّله من مسئولية إزاء ذلك ، إن أراد الله أن يعذبني عليه ، ولكني أعرف من صدق الدعوة ، وسلامة الموقف في نفسي ما يجعلني بعيدا عن ذلك ، وما يدفعني إلى الثقة بالرسالة بالمستوى الذي يبعدني عن موقع ردّ الفعل الذي أردتم وقوعي فيه. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) كما أني لا أتحمل مسئولية كفركم وتمردكم ، لأنني أقمت عليكم الحجة ، ولم أقصّر في الدعوة والتبليغ ، وبقي عليكم تحمّل مسئولية عملكم لأن الله جعل مسئولية الجزاء فرديّة ، يتحمل على أساسها كل إنسان عمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.

ذلك هو منطق الأنبياء الهادىء الذي يطرح الفكرة بقوّة ، ويواجه الموقف بحسم ، ويرد التحدي بعقل هادئ ، وفكر منفتح ، وهو ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يستوحوه ويسيروا على هداه في كل زمان ومكان.

* * *

٦١

الآيات

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٩)

* * *

معاني المفردات

(تَبْتَئِسْ) : الابتئاس : حزن في استكانة ، وهو افتعال من البؤس.

(وَاصْنَعِ) : الصنع : جعل الشيء موجودا بعد أن كان معدوما.

(الْفُلْكَ) : هي السفينة ، مفردها وجمعها واحد.

(بِأَعْيُنِنا) : الأعين : جمع قلة للعين ، وإنما جمع للدلالة على كثيرة المراقبة وشدتها.

(سَخِرُوا) : السخرية : إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل ، ومنه التسخير : التذليل. ويكون استضعافا بالعقل.

* * *

٦٢

يا نوح لا تبتئس من قومك

وانتهت مهمة نوح في الدعوة ، فقد استنفذ كل التجارب والأساليب ، فلم يؤمن له إلا نفر من قومه ، أما الباقون فقد ازدادوا تمردا وطغيانا ، فلم ينفع ترغيب معهم أو ترهيب ، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم وإيمانهم ، وجاء دور العذاب ... ولكن الله أراد أن يعلن ذلك لنوح بأسلوب ينعش روحيته ولا يشعر معه بالهزيمة ، أو بالتقصير ، لقيامه بمهمته كنبيّ خير قيام ، وصبره علي ما لا يملك عليه أحد صبرا خلال مسيرة دعوته التي امتدت طويلا ، امتداد عمره ، دون تأفف أو ضجر ، ولم يسقط أمام كل تحديات الكفار.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من كفر وعصيان لأنّك قد أقمت عليهم الحجة بمختلف الوسائل ، ويسّرت لهم كل سبل الهداية فامتنعوا عن السير فيها ، وبذلك فإنهم يتحملون مسئولية أفعالهم كلها ، فلا تتعقّد من جهتك الشخصية ، لأنك لم تقصر ، ولا من جهتهم فهم لا يستحقون الرحمة ، التي رفضوا إسباغها عليهم في ظل الالتزام بدين الله ، ولا تلتفت إلى كل هذا التاريخ الشاقّ المليء بالجهد والمعاناة ، فقد أدّيت رسالتك ، وقمت بمهمتك خير قيام ، ولم يبق عليك إلا أن تساهم في الإعداد لمرحلة العذاب ، استجابة لطلب الله في نطاق قدرتك.

* * *

نوح يصنع الفلك

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) أى السفينة (بِأَعْيُنِنا) أى برعايتنا ، باعتبار أن عمله كان بنظر الله بحيث لا يستطيع أن يمنعه أحد من ذلك (وَوَحْيِنا) في ما أمره الله ، وفي ما علّمه من طريقة الصنع ، ومهّد له من تبيان وسائله ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي

٦٣

الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعفو عنهم ، انطلاقا من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك ، فقد صدر الحكم عليهم من الله ، وانتهي أمرهم بذلك ، لأنهم لا يستحقون الرحمة من الله بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته ، فحق عليهم العذاب ، (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) بطريقة عجيبة معجزة لا يتصورها أحد منهم ، ولا تخطر لهم على بال.

* * *

إن تسخروا منا فإننا نسخر منكم

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) ويستمر في صناعته بجدّ واجتهاد في الليل والنهار ، ولكن عمله ذاك كان محلّ استغراب ، لأن المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها ، أو في المواقع القريبة منها ، بما يوحي أن عمله ذاك كان حالة من العبث ، أو مظهرا لغياب العقل ، لذا كان موضع سخرية قومه : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه ، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيته ، وعلى إذلاله ، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرع لا ينفذ إلى أعماق الأمور ، فلو فكروا بطريقة موضوعيّة ، لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره ، وسلامة نظره ، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر ، باعتباره صادرا عن شخص يملك العقل الكامل ، والذهنية المتوازنة ليتمكنوا بعد استجماع كل عناصر الموضوع الحكم ، ولكنهم ينطلقون من موقع الرغبة في تحطيمه ، لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور.

ولكن الله أراد لنوح أن يردّ الأسلوب بمثله ، لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر ، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار ، أما من يريدون التحطيم والتدمير ، عن قصد وتصميم شرّير فلا بد من مواجهتهم بأسلوبهم ، لأن ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال ، وهكذا أراد الله له أن يقول ، في ما ألهمه من وحي الحكمة : (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ

٦٤

مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) ، فذلك هو ردّ الفعل على الموقف ، ولكنه يختلف في دوافعه عما انطلقتم فيه ، فإذا كانت سخريتكم ناشئة عن عقدة ، أو عن جهل لطبيعة العمل الذي أقوم به ، فإنا نسخر منكم من موقع اطلاعنا على النهاية السيئة التي ستنتهون إليها ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) من دون أن تشعروا ، أو تفكروا ، أو تواجهوا ذلك بجدّية ومسئوليّة ، فإن من يرقص في مأتمه ، أو يعبث بما يمثل قضيّة المصير عنده أدعى للسخرية مما تسخرون منه ، لأن مقدار العبث فيه أشدّ من العبث الذي تتصورونه في صنع السفينة ، التي ستكتشفون أن صناعتها أمر جدي كل الجدّية لا مجال فيه لأيّ عبث ، أو جهل ، أو ما يشبه ذلك.

* * *

المواجهة بالفكر ليست دائما ناجحة

وهذا هو الأسلوب الذي نستوحيه ، في مقام الدعوة إلى الله ، عند ما يعترضنا الكافرون بأسلوب السخرية ، لتمييع الجوّ المحيط بالدعوة ، وتعريضه للضحك والعبث بهدف إسقاط الدعوة ، لا سيما إذا وقف الداعية للدفاع عن الفكر بأسلوب جدي ، واستخدم في ذلك أدلّة علميّة ، فإن الجوّ الضاحك العابث يحوّل ذلك إلى مادّة جديدة للسخرية ليحطّموا وقار العلم الذي يمثله الفكر بأدوات الجهل ، مما يجعل من الموقف الجادّ موقفا خاسرا على أكثر من صعيد. ولذلك فإن الموقف الحكيم هو مواجهة هؤلاء بأساليبهم ، سخرية بسخرية ، واستهزاء باستهزاء ، لإحداث صدمة قوية عند المستهزئين تسقط موقفهم ، وتهزم أساليبهم ، فيتراجعون أو ينهزمون ، في حيث يقف الداعية موقف المنتصر المتماسك ، الذي لم يسمح للعبث أن يحطم موقع الجدّ من فكره ، ولم يدع للضعف أن يقترب من شخصيته ، لينعكس ذلك على موقع الرسالة الثابتة في ساحة الحق.

* * *

٦٥

الآيات

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

* * *

معاني المفردات

(وَفارَ) : الفور : الغليان وأصله الارتفاع.

(التَّنُّورُ) : تنور الخبز : وهو مما اتفقت عليه اللغتان الفارسية والعربية ، ويحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى وقيل إن المراد به

٦٦

وجه الأرض.

(مَجْراها) : مجراها : من الجري ، وهو السير.

(وَمُرْساها) : من الإرساء وهو الثبوت ، أي بسم الله مسيرها وثبوتها (مَعْزِلٍ) : المعزل : مكان عزلة وانفراد.

(أَقْلِعِي) : أي أمسكي عن المطر.

(وَغِيضَ الْماءُ) : أي غار في الأرض.

(الْجُودِيِ) : جبل في الموصل كما قيل.

* * *

السفينة أعدت للانطلاق ... وكان الطوفان

وتم صنع السفينة ، وأعدّت للانطلاق ، واستكمل نوح عمله الذي أمره به الله (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي وارتفع التنور وتفجّر ، والمراد به على وجه الأرض ـ كما قيل ـ وهناك أقوال أخرى ـ ويمكن أن يكون ذلك على وجه الكناية تشبيها لفوران الماء من الأرض بفوران النار وارتفاع اللهب من التنور. وامتد الماء من الأرض ، وأصبحت السفينة صالحة للانطلاق ، (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي ذكرا وأنثى من الحيوان مما يستطيع حمله ، (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) واحمل أهلك معك جميعا إلا من حكم الله عليه بالهلاك ، (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) فهؤلاء من كتب لهم النجاة مع نوح ، أما الآخرون فقد كان حقّ عليهم القول بالغرق والهلاك.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) ؛ قالها لكل الذين أمره الله بحملهم معه ، وابتدأ

٦٧

خطّ السير ب (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) فهي تجري باسمه وبإرادته وبقدرته ، وترسو وتقف باسمه وبإرادته وبقدرته ، (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو الذي يغفر لنا ذنوبنا التي أسلفناها بلطفه الإلهي ، وهو الذي يرحمنا في ما ننتظره من رحمة الله في كل أمورنا المستقبلية.

* * *

الولد العاق

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وسارت السفينة بهم وارتفع الموج حتى كاد أن يصبح كالجبال في علوّها ، وأيقن الجميع هلاكهم عند ما أخذ كل شيء يغرق. وأسرع الكثيرون يطلبون الهرب ، ومن بينهم ابن نوح الذي كان قد تمرّد على أبيه ، فلم يؤمن بدعوته ، وعاش مع قومه تحت تأثير أمه ، في حركة الكفر ، حتى إذا جاء أمر الله لم يصعد إلى السفينة مع من صعد ، فنظر إليه نوح وناداه (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) فقد اعتزل أباه (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) فهذا هو سبيل النجاة الوحيد ، (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) الذين سينتهي أمرهم إلى الهلاك.

ولكن هذا الولد الضال العاقّ لم يلتفت إلى نداء أبيه ، لأنه يعيش التمرّد ضد رسالته ، أوّلا ، ولأنه لم يعرف طبيعة هذا الطوفان ، ثانيا ، (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) ظنا منه بأنه سينجو ، لأن ارتفاع الماء إلى أعالي الجبل ليس أمرا طبيعيا ، (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لأن القضية أبعد من الوضع الطبيعي المعتاد لصورة الفيضان عند الناس ، فالمسألة مسألة غضب الله الذي أراد تدمير كل مظاهر الحياة الكافرة للبشرية ، على الأرض ، (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وأبوه ينظر إليه في حسرة ولهفة ، ولكنها ليست حسرة الأب الذي يفقد ولده في الدنيا ، بل هي حسرة الأب الذي

٦٨

يفقده في الدنيا والآخرة.

* * *

نهاية تاريخ

وانتهى كل شيء بإرادة الله وقدرته ، ولم يبق إلا المؤمنون الذين بدأ بهم تاريخ الجيل الثاني للبشرية ، (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) لتختزنها عيونا تتفجر في المستقبل ، (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ، وكفّي عن هطول الأمطار التي أغرقت الأرض. (وَغِيضَ الْماءُ) وغار في أعماق الأرض ، فلم يبق منه إلا ما كان فيها ـ قبل ذلك ـ من أنهار وعيون ، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) فوقفت السفينة واستقرّت على جبل الجودي ، وهو جبل بالموصل ـ في ما قيل ـ ، (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين أبعدهم الله عن رحمته بكفرهم ، وضلالهم ، وتمرّدهم ، على الرّسل والرسالات.

* * *

٦٩

الآيات

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)

* * *

القرابة للرسالة لا للنسب

... ويقيت لدى نوح ـ النبي ـ الإنسان ، مسألة يريد أن يعرف أبعادها ، هي موضوع ولده ، فقد وعده الله أن ينقذ أهله ، وولده من أهله ، فكيف غرق؟ هذا ما أبهم أمره عليه ، فواجه ربه بالسؤال ، في خشوع واستعطاف.

٧٠

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) في ما وعدتني أن تنقذ أهلي عند ما أمرتني أن أحملهم ، وهو منهم ، ولكن ذلك لم يحدث (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) فلا يصدر عنك شيء إلا لحكمة لا يدركها أحد غيرك.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين أمرتك بحملهم معك ، وتعهدت لك بإنقاذهم ، (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أما أهلك فهم الصالحون السائرون على طريقك ، لأنهم هم الذين يرثون الأرض ليصلحوها ، أمّا غير الصالحين فلا فرق بينهم وبين الآخرين من الكافرين ، ولا يمكن أن تطلب مني أن أقربهم إليّ لقربهم منك ، فلا فرق عندي بين عبادي جميعا ، لأنهم يتساوون أمامي في الخلق ، فأقربهم إليّ أقربهم إلى خط الرسالات ، وأبعدهم عني أبعدهم عنه.

وهكذا تتحدد القرابة لا على أساس ما تربطه العاطفة النسبيّة بالرسول ، بل الأساس هو العلاقة الرسالية. وكان الأمر في بدايته واضحا عند المراجعة والتأمّل ، فالوعد بحمل أهلك كان مختصا بغير من سبق عليه القول بالهلاك ، وقد كان ولدك منهم ، فلا تستسلم للعاطفة في انفعالاتك ، (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، ولعل المراد من هذا التعبير الكناية عن عدم كونه حقّا لتعرف عنه ذلك باعتبار أن الباطل لا أساس له ، ليتعلق به العلم ، وربما كان المقصود به الكناية عن الفعل الإلهي الذي يخفى سرّه عن الناس ، أي : فلا تسأل ما لا تستطيع معرفته ، وقد فسّره الكثيرون بأنه يتعلق بنجاة ابنه ، وهو غير واضح من سياق اللفظ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين لا ينطلقون في رغباتهم من الخط الصحيح الذي يتناسب مع خط الحق المرتبط بالإيمان ، لأن ذلك يعبر عن جهل في شخصية الإنسان ، بينما ينطلق العالمون بحقائق الأشياء وفق ارتباط رغباتهم بالحق ، لأن الإيمان يمثل الانسجام بين الفكر والرغبة ، كيلا يعيش المؤمن الازدواجيّة بين ما يفكر فيه ، وبين ما يشتهيه ويطلبه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) مما لا يتفق مع الحق ،

٧١

لأن إيماني بك يفرض عليّ أن أريد ما تريده ، وأرفض ما ترفضه في كل شيء ، وأنت المسدّد لي في ذلك كله ، وأنت الهادي إلى طريق الصواب ، فأجرني من الانحراف ، واعصمني من كل ما لا يلتقي مع إرادتك ، (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) في ما تعبّر عنه العبوديّة لله من خشوع واستكانة ، تتمثل بطلب المغفرة والرحمة ، وإن لم يكن هناك ذنب ، لأن الكلمة أصبحت تعبيرا عن المضمون الروحي الخاشع أمام الله ، أكثر مما هي تعبير عن مضمونها اللغوي ، (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأن الخسارة العظمى هي فقدان رحمة الله ومغفرته التي تمثل البعد عن مصدر القوّة الذي يمد الإنسان بالثبات والحياة.

* * *

بين العصمة والعاطفة النبوية

وقد يتساءل المتسائل عن مدى انسجام هذه الآيات في مدلولها مع عصمة الأنبياء ، فكيف يمكن لنوح ـ النبيّ ـ الذي وقف أمام كل تحديات الانحراف الكافر ، من كل القوى الشرّيرة ، طوال هذا العمر المديد الذي يقارب الألف سنة ، كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة الأبوة ، ليقف بين يدي الله ، طالبا إنقاذ ولده الكافر ، من بين كل الكافرين ، وكيف يخاطبه الله بهذا الأسلوب الذي يقطر توبيخا وتأنيبا ، ويتراجع نوح مستغفرا طالبا الرحمة كيلا يكون من الخاسرين؟؟!

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك ، أن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرّد ، ولكنها عاطفة تأمل وتساؤل ، فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل ، وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل ، لأنه من أهله ، ولم يلتفت إلى كلمة (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) لأنها لم تكن

٧٢

واضحة. وهكذا كان منسجما مع خط الإيمان عند ما نادى نداء المتوسل المستفهم ، وكان الرّد الإلهيّ منسجما مع ما أراده الله له من العصمة ، كأسلوب من أساليب تربية الله لأنبيائه ليمنع عنهم الانحراف العاطفيّ ، قبل حدوثه ، إذا ما كانت الأجواء جاهزة لذلك ، لو لا لطف الله بهم ، وقد تكون الشدّة في الردّ لونا من ألوان التأكيد على ذلك.

وكان الانسجام النبويّ مع خط التربية الإلهيّ رائعا في التعبير عن روحية الخضوع والخشوع بالكلمات المستغفرة المسترحمة الخائفة من الخسران ، خشية أن يكون في هذه الحالة المستفهمة المتأمّلة بعضا من ذنب ، وإن لم يكن ذنبا ، أو بعضا من تمرّد ، وإن لم تكن كذلك ، ومن الطبيعي ألّا يبتعد ذلك عن خطّ النبوّة المستقيم الذي عاش العمر كله جهادا في سبيل الدعوة إلى الله ، تحت رعاية الله ، ووقف الآن في خط الاستقامة محاولا إخضاع كل عواطفه لروحيتها بتوفيق الله وبرحمته.

* * *

مهبط السلام

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) فقد منحه الله نعمة السلام الروحيّ المتمثل في الطمأنينة النفسية التي تشيع في داخله ، والسلام الإلهيّ الذي يتمثل في رحمة الله المرفرفة حوله. كما أعطاه نعمة البركات الفيّاضة التي تجعل منه عنصر خير ونفع للناس وللحياة من حوله ، (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي واهبط أنت وأمم معك بسلام منا وبركات ، لأنهم اتبعوك وآمنوا بك ، وشاركوك في خط جهادك الطويل ، فكان لهم من الخير والثواب ما كان لك ، (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) وهذه جملة مستأنفة تشير إلى أن المستقبل سيتمخّض عن أمم

٧٣

أخرى لا تؤمن بك وبالرسالات والرسل من بعدك ، بل تتحرك في خط الكفر والضلال والعصيان ، وسنمتّعهم ما امتدت بهم الحياة التي قدّرناها لهم ، ولكنهم لن يفلتوا من العقاب ، مهما امتدّ بهم العمر ، وأقبلت عليهم الحياة ، بل سيواجهون نتائج المسؤولية وجها لوجه يوم القيامة (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

* * *

تلك من أنباء الغيب

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) في ما نكشفه لك من غيب التاريخ الذي لم تحضره ، ولم يحضره أحد معك ، (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) لأنها لم تنقل إليكم في كتاب ، أو في رواية شاهد من الناس ، (مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) فإن لك في الصبر على ما تلاقيه من قومك وفي الامتداد في خط الدعوة دون تراجع ، مما توحيه التقوى التي تستمد القوّة والثبات في الموقف من الله كل خير وعاقبة طيبة ، تماما كما حصل عليها نوح وقومه ، في ما اتقوا الله وأطاعوه.

* * *

٧٤

الآيات

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٦)

* * *

معاني المفردات

(فَطَرَنِي) : فطر الشيء فطرا : أي شقة ، فظهر ما فيه. ومنه : فطر الله الخلق ، أي : خلقهم ، فهو فاطر السماوات والأرض ، أي : خالقها.

٧٥

(مِدْراراً) : مبالغة في الدر ، وهو القطر المتتابع غير المفسد.

(اعْتَراكَ) : أصابك.

(بِناصِيَتِها) : الناصية : قصاص الشعر وأعلى الجبهة ، والمراد بأخذها هنا : ملك الأمر كله.

* * *

هود يدعو قومه

وهذا نبيّ آخر جاء بعد تلك الفترة التي أعقبت فترة نوح ، حسب الترتيب القرآني في ذكر الأنبياء ، وهو هود المبعوث إلى قوم عاد الذين كانوا يملكون من القوّة البدنية ، ما أصبح ميزة لهم على الآخرين حتى قيل ـ في حديث قصص الأنبياء ـ إنهم من العمالقة ، وكانت قضية الشرك والتوحيد في العقيدة والعبادة هي القضية التي بدأ بها رسالته ، باعتبارها العنوان الشامل لكل تفاصيل الفكر والعمل ومفرداتهما.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) فقد كان منهم في العشيرة ، (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فهي الحقيقة الفكرية والعملية التي تتمحور حولها كل حقائق الحركة الإنسانية في الحياة ، وتوجّه كل خطواتها إلى الطريق المستقيم ، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) وكاذبون في ما تدّعونه وتعبدونه من أوثان ، وفي ما تتخذونه لكم من شرائع وأحكام ، بعيدا عن نهج الله وشريعته.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لأني ليست تاجر مبادئ ورسالات يستغلّها في سبيل تحقيق الربح ، والحصول على الثمن من أتباعه ، فلا أريد منكم أيّ امتياز ماديّ ومعنويّ ، لأن الرساليين الذين يعيشون حياتهم للرسالة لا يبتغون منها عوضا ، بل قد يفكرون بالتضحية بالمال وبالجاه إذا احتاجت حركة

٧٦

الرسالة لذلك ، لأن الهمّ الكبير لديهم هو رضوان الله وثوابه ، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) وخلقني من عدم ، فله الفضل عليّ في نعمة الوجود كله. ولهذا فإن الدعوة إلى عبادته ، ورفض ما عداه ، يمثل الوجه المشرق لعمليّة الشكر الإنساني بين يدي الله ، بالإضافة إلى أنه الوجه الأصيل للحقيقة الكونية والعملية في الحياة ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتناقشون المسألة من موقع الفكر ، لا من موقع الغريزة ، لتعرفوا طبيعة القاعدة التي ترتكز عليها حياتكم ، وطبيعة الرسول الذي يدعوكم إلى الانطلاق في خط الله.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فقد انحرفتم كثيرا عن طريقه ، وتمرّدتم على إرادته ، وعصيتم أحكامه ، مما يستتبع الابتعاد عن ساحة رحمته ، والوقوع في ساحة غضبه ، فارجعوا إليه في وقفة استغفار ، ليغفر لكم ذنوبكم إذا عرف منكم صدق النيّة ، وإخلاص الموقف ، وتوبوا إليه توبة نصوحا تعلن الندم عما مضي ، وتقرّر التغيير في ما يأتي ، فهو وليّ الإنسان والحياة ، فمنه قوّته ، ومنه نعمته ، ومنه قبل ذلك كله ، سرّ حياته ، فلا يستطيع الإنسان الانفصال عنه ، بل لا بد من الرجوع إليه في كل الأمور ، فإذا كنتم تريدون زيادة القوّة ، لتواجهوا كل تحديات الآخرين من حولكم بشكل أقوى ، وإذا كنتم تريدون خصب الأرض التي تسكنونها ، ووفرة الماء الذي تشربونه ، فارجعوا إليه ، بخشوع وخضوع ، (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) في هطول متتابع ، فيحيي زرعكم وأنعامكم ، (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) لأنه خالق القوة كلها ، فمنه وجودها ومنه حركتها ونموّها ، (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي لا تعرضوا عن هذه الدعوة ، وعن الله ، لتسيروا في خط الجريمة في العقيدة وفي السلوك.

* * *

٧٧

بين التوبة وزيادة القوة

وقد يطرح البعض سؤالا حول هذا التلازم بين التوبة ، وزيادة القوة ، وهطول المطر ، في الوقت الذي نعرف فيه أن الله قد أجرى لكل شيء سببا ، فقدّر لزيادة القوّة شروطا لا بد من تحققها ، وجعل للمطر أسبابا لا بدّ من حصولها.

وقد يجاب عنه ، بأن هذا لا يمنع من وجود المعجزات ، فلعلّ المسألة في الآية خاضعة لهذا الأساس ، ويمكن أن تكون الغاية من ذلك الإيحاء النفسي لهم بأن الله هو مصدر النعم ، فإذا انحرفوا عن طاعته ، فإن النعمة تكون مهدّدة بالزوال ، في ما يمكن أن يحقّقه من أسباب زوالها بطريقة بأخرى ، فيمنع عنهم قطر السماء ، ويضعف قوّتهم ، وإذا أقبلوا عليه ورجعوا إليه فإنه يهيّئ لهم أسباب ما يحتاجونه ويريدونه ، في ما يهمّهم أمره. وهكذا تكون المسألة مسألة تنمية لروحية العقيدة في ما يتفرّع عنها من الجانب العملي ، الذي قد يغفل عنه الآخرون عند ما يفقدون الإحساس بالإيمان ، فلا يشعرون بالارتباط بين الله وبين حركة النعم في حياتهم سلبا أو إيجابا ، والله العالم.

هذا ما قاله هود ، فما ذا كان جواب قومه؟.

* * *

التخلي عن التفكير والإيمان بالخرافة

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ

٧٨

بِمُؤْمِنِينَ) لقد أنكروا عليه الدليل على رسالته ، واعتبروها مجرد دعوى لا ترتكز على أساس ، لأنهم لا يريدون التأمل والتفكير ، في ما يدعوهم إليه من عبادة الله وحده ، والإخلاص له في الطاعة ، والارتباط به في خط السير ، إذ لم تكن قضية دعوتهم للإيمان بنبوته هي المسألة الأولى لديه ، بل كان همه أن يتأكدوا عبر حجتها والدليل من حجتها دون حاجة إلى معجزة أو ما يشبه المعجزة.

ولعلنا نلاحظ في ذلك ، أن الإلحاح كان يرتكز على مضمون الرسالة ، لا على صفة الرسول ، بحيث كانت صفة الرسولية طريقا إلى الانسجام مع خط رسالته. وهكذا كان إنكارهم للبيّنة منطلقا من عدم وعيهم للرسالة في ما تحمله من دلائل الصدق ، واعتبارهم المعجزة في خوارق العادة هي الأساس في الالتزام بالدعوة ، لذا رفضوا الابتعاد عن آلهتهم ، وترك عبادتهم باعتبار أن قوله لا يرتكز على دليل ـ حسب زعمهم ـ وقد رفضوا الإيمان به ، كمجموعة متضامنة في الوقوف ضدّه.

ويتصاعد موقفهم الرافض مسلحا بمنطق خرافي يزعم أن للآلهة تأثيرا سلبيا على من يعارضونها ويرفضون عبادتها ، ويدعون الناس إلى البراءة منها والابتعاد عنها ، ولذلك كانوا يرون في موقف هود دلالة على بعض الخلل في عقله ، فلا يتصورون المسألة منطلقة من حالة إيمان بالرفض ، بل يعتبرونها منطلقة من موقع اهتزاز في التفكير ، وهذا ما عبّروا عنه بقولهم : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) في ما يمثله ذلك من جنون يفقد معه الإنسان صوابه وسلامة فكره.

* * *

٧٩

هود في ذروة التحدي

ويبادر هود إلى إنهاء هذا الحوار الذي يدور في حلقة مفرغة ، بإعلانه موقفا يرسم الحد الفاصل بينه وبينهم ، ويميّز الحق من الباطل ، كيلا يظنوا أن في مقاطعته للحوار لونا من ألوان الضعف ، أو حالة من حالات التردّد ، أو نوعا من أنواع القناعة بما يقولون في الداخل مع إظهار الرفض له ، (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) الذي يطّلع على السرائر ، فيعرف حقيقة موقفي وما أؤمن به ، وما أرفضه ، (وَاشْهَدُوا) عليّ بإقراري الذي أعلنه أمامكم في ما أعتقده وأتحرّك فيه من خطّ ، (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) بعبادتكم لهذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) إذا كنتم تملكون قوّة الكيد لي والتآمر عليّ ، بأنواع الضغوط المختلفة القاهرة (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلوني لحظة واحدة ، وتلك هي ذروة التحدّي الرساليّ الصادق القويّ الذي يقف فيه النبيّ وحده أمام القوى الكافرة ليقول لهم : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) فيتصاغرون أمامه ولا يستطيعون مواجهة التحدي بمثله ، مما يوحي بأن الإنسان الذي يستمد قوته من ربّه ومن عناصر القوّة في شخصيته ، ثم يقف أمام الناس ، ليثير أمامهم حقيقة ذلك بتصميم ، يستطيع أن يهزم موقف الآخرين ويدخل الرعب فيهم.

* * *

المؤمنون والحرب النفسية

وهذا ما يحتاجه الدعاة والمجاهدون في سبيل الله ، من استثارة الإحساس بالقوة الفاعلة في داخلهم ، لينطلقوا منها في مواجهة من يحاولون استعراض عضلاتهم وتوظيف ذاك الاستعراض في حرب الأعصاب ، ليهزموا المؤمنين نفسيا قبل الدخول في المعركة الفاصلة ، ولذلك فإن من المفروض على العاملين أن يقتحموا الساحة بأسلحة الحرب النفسية ، وذلك بالإعلان عن

٨٠