تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

المنطق الفردي في تقييم الأمور ، بعيدا عن المنطق الجماعي الذي يربط بين حركة الفرد ، وبين النتائج السلبية أو الإيجابية على قضية الأمة والرسالة.

ولعلّ يوسف قد أطلق هذا النداء الحي من أعماق روحه عند ما وجد إرادته في موقع يتهددها بالسقوط ، فصرخ في ابتهال المؤمن أمام ربّه ، ليستعين بالله استمدادا للقوّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان.

وهذا ما تفرضه حاجة الرسالة إلى المواقف الثابتة على خط التضحية والإيمان ، بدلا من الكلمات الاستعراضية التي لا تحقق سوى الضوضاء التي تضيع في الهواء.

ولعله من الضروري ، لبناء هذه الشخصية ، التأكيد على تشكيل خطّة تربويّة متكاملة ، تشمل جانب الفكر والروح والشعور ، من خلال الكلمة الموحية ، والجوّ الروحي ، والقدوة الحسنة ، فإن تأسيس عمق الإحساس الداخلي بالرفض والقبول أمام ما يمكن أن يتعرض له المسلم سلبا أو إيجابا ، يجعل من عملية الرفض والقبول تلك عملا روحيّا يراقب فيه ربّه ، في روحانية وصفاء ، ويتمرّد معه ، على كل النوازع الذاتية والعوامل الخارجية ، التي تحاول الانحراف به عن الخط المستقيم ، فيعيش حالة السموّ في أخلاقيته بالمستوى الذي يجعله منسجما مع إيمانه ورساليته نظريا وعمليا. وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلامية التي يواجه فيها الإسلام كل تحديات الكفر والضلال التي تضغط على الفكر والشعور والحركة ، مما يفرض على المؤمنين الحصول على القوّة الروحية التي تدفعهم إلى التضحية على كل الأصعدة ، والانطلاق من زوايا الحاضر نحو المستقبل الرحب ، الذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا الكبيرة.

* * *

٢٠١

الآيتان

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)(٣٥)

* * *

صرف الكيد

وهكذا أفاض الله عليه من رحمته ولطفه ورعايته ، فاستطاع أن يتخلّص من كيدهن ، بالموقف القويّ ، والإرادة الصلبة ، والإيمان المنفتح ، فلم يستجب لكل ما أحاطته به تلك المرأة من إغراء يخاطب فيه مشاعر الغريزة ، وأحاسيس الشهوة ، ولم يخضع لكل الضغوط التي تحاصر حريته ، وتهدّده بالسجن وبغيره من وسائل التعذيب.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) الذي يستجيب لكل عبد مخلص يدعوه ، بكل خشوع وخضوع ، لينقذه من البلاء ويعصمه من السقوط في وهدة الانحراف ، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) بتثبيت موقفه على خط العفّة والصدق والإيمان ، وتهيئة الظروف

٢٠٢

التي تضغط عليهن وتمنعهن من احتواء مقاومته ، بالأساليب المتنوعة الساحرة ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع دعاء عباده ويعلم ما في داخلهم من صدق الشعور ، ونقاء الروح ، والرغبة في الالتزام.

* * *

ديدن المجتمعات المستكبرة

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) التي تبيّن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه ، في براءته من التهمة الموجهة إليه ، (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) للخروج من إحراج المجتمع الذي يلاحقهم بالتنديد ، لما يمثله موقف امرأة العزيز من خروج على تقاليد الطبقة الرفيعة التي ترفض الخيانة مع العبد ، وإن كانت تقبلها مع الحر المنتمي إلى الطبقة الرفيعة ، لذا أجمع الكل على التآمر على يوسف والإيحاء بأنه هو من راود سيّدته عن نفسه فامتنعت عنه ، الأمر الذي يحفظ للعائلة الكريمة سمعتها ، ويجعلها ضحيّة لاعتداء أثيم ، وهكذا كان السجن هو الحل للمشكلة الاجتماعية التي عاشوها ، وللفضيحة الكبرى التي كادت تطوق سمعتهم ومكانتهم ، وذلك ديدن المجتمعات المستكبرة ، التي تعمل على حماية القيم الظاهرية الخادعة في سلوك أفرادها بالعمل على إلصاق التهمة بالمستضعفين الذين لا يحترمهم المجتمع ، ولا يجد أيّ حقّ لهم في عيش كريم ، وإرادة حرّة ، وعدالة شرعية ، لأن ذلك هو حق الأحرار ، لا حق العبيد.

وربما كان السجن تنفيذا للتهديد الذي أطلقته ، في وجه يوسف ، وسيلة من وسائل الضغط عليه ليستجيب لها ، ودعت زوجها إلى تنفيذه في البداية ، وتحدثت به إلى صويحباتها ـ في النهاية ـ ليعرف ، من خلال فقدان حريته ، ورفاهية الحياة التي كان يتمتّع بها في بيت سيّدته ، أنّ الانسجام مع رغبتها ، هو الأولى به ، والأفضل له.

* * *

٢٠٣

الآيات

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٤٠)

* * *

معاني المفردات

(يا صاحِبَيِ) : الصاحب : الملازم لغيره على وجه الاختصاص.

٢٠٤

(الدِّينُ الْقَيِّمُ) : هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

* * *

السجن ساحة للدعوة

ودخل يوسف السجن بروحيّة الإنسان المؤمن الذي لا يعتبر السجن مشكلة ومأساة ، بل يرى فيه موقع الانتصار على النوازع الجسدية ، وعلى الضغوط الخارجية التي تتحدى فيه إرادة الإيمان ، وقوّة الالتزام. وفي هذا الجوّ كان يفكر بإنّ عليه ألّا يتجمّد في مشاعر الوحشة والفراغ لينتهي إلى حالة كئيبة من الضياع الروحي ، بل أن يستثمر فرص الحركة التي تتيحها الساحة له. وفكّر أنه ليس الوحيد الذي يدخل السجن ، فهناك من دخلوا قبله ، وهناك من سيدخلون بعده ، وفيهم الكافرون والضالون ، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي يعيشها السجين ، والمشاعر البائسة التي يخضع لها ، والآمال الطيبة التي يرجوها في يقظته ونومه ، والحالات النفسية الصعبة التي يحتاج فيها إلى من يساعده في مواجهتها مما يفسح المجال للهدوء في فكره ، والحياد في موقفه ، الأمر الذي يسهل على يوسف عليه‌السلام دخول قناعاته وتغييرها على أساس الحق والصواب ، وذلك هو شأن المؤمن الداعية الذي يعيش همّ الدعوة إلى الله ، وهداية الناس إلى طريق الحق ، فلا يترك فرصة إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير ، فهو في التفاتة دائمة لما حوله ، ولمن حوله ، وترقّب مستمر للأجواء الملائمة التي تفتح له قلوب الناس وعقولهم على الحق.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) فتعرّف إليهما ، وتعرّفا إليه ، ونشأت بين الثلاثة صحبة وألفة ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السجن من حاجة إلى من

٢٠٥

يستريح إليه السجين ويرتاح للحديث معه ، ليخفّف من وحشته ، وهكذا بدأ الحديث في شؤون كثيرة متنوّعة ، وكان هذان الشخصان قد شاهدا في منامهما ، حلمين غريبين أثارا في نفسيهما القلق والحيرة ، لأنهما لم يستطيعا فهم السرّ الذي يكمن خلفهما فأحبّا أن يحدّثا يوسف عنهما ، فلعلهما يجدان لديه التفسير الواضح الذي يكشف لهما هذا الغموض ، فقد لاحظا امتلاكه لفكر هادئ ، وعقل متحرك ، وشخصية حكيمة ، وهذا ما جعلهما يمنحانه الثقة الكبيرة.

* * *

إحسانه جذبهما إليه

(قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) ولم أستطع معرفة المضمون الواقعي لذلك في ما يحيط بحركة الحياة من حولي ، (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) فما معنى الخبز؟ وما سرّ حمله على الرأس؟ وماذا يمثل أكل الطير منه من رمز؟ فهل هو رمز للنعمة أو للعطاء ، أو هو رمز للنقمة والفناء؟ (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) لأن للأحلام تأثيرا في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل ، بما توحيه من تشاؤم أو تفاؤل يعرّف الإنسان كيف يحدد اتجاه موقفه ، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحبون أن يعطوا من مواقع ما يعرفون ، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها ، لأن ذلك هو معنى الإحسان الذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان ، تجاه من حوله.

وقد جاء في بعض الكلمات التفسيرية عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ـ في ما روي عنه ـ في قوله : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال : «كان يقوم على المريض ، ويلتمس المحتاج ، ويوسّع على المحبوس» (١). وربما كانت هذه

__________________

(١) بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار أحياء التراث العربي ، ط. الأولى ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ٥ ، ج : ١٢ ، ص : ١٤٧ ، باب : ٩ ، رواية : ٥.

٢٠٦

الأمور وما يدخل في جوّها الأخلاقي ، هي التي جعلتهما ينجذبان إليه ، وينفتحان عليه هذا الانفتاح الروحي الذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين.

* * *

توسل التأويل لهداية الفتيين

ولم يكن ليوسف شأن بالجانب الذاتي لما سألاه عنه ، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلمية في تأويل الأحلام ، أو في غيره من الأمور ، بل كان يتوسّل هدايتهما إلى الصراط المستقيم من خلال ذلك ككل داعية إلى الله ، يتحسس ضرورة استخدام كل طاقاته في سبيل الدعوة والهداية ، وتحريك علاقاته بالناس ، في هذا الاتجاه. وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما عما وهبه الله من إمكانات علميّة ، تمكنه من استيحاء الأحلام ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه ، أو في استلهام الإشراق الروحي الذي أودعه الله في قلبه ، واستكشاف آفاق المستقبل في حياة الناس.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما) لقد سألاه عن تفسير ما رأياه من الحلم فأجابهما بأنه يملك أن يخبرهما بما سيأتيهما من طعام ، قبل إتيانهما به ، لأن الله أمدّه بمعرفة بعض جوانب الغيب ، وربما كان السبب في ذلك أنه يريد أن يؤكد لهما سعة المعرفة التي يملكها ، كوسيلة من وسائل تعميق ثقتهما بشخصيته للتأثير عليهما وعلى قناعتهما الفكرية ، لأن معرفته تلك ينبغي أن تمنحهما الثقة بالطاقة الروحية المميّزة التي توحي لهما بضرورة الاهتداء بهديه ، والانسجام مع دعوته ومنهجه في الحياة ، لا سيما وأنه يتصل ـ في ذلك كله ـ بالله من أقرب طريق. (بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) مما يعلّم به عباده الذين يعدّهم لرسالته ، فيلهمهم علم ما لم يعلمه الناس ويزيدهم

٢٠٧

معرفة تجعلهم في مواقع القيادة والتوجيه ، وذلك بعد أن يطّلع على قلوبهم فيجد فيهم صدق الإيمان به ، والإخلاص له ، وعمق المعرفة به ، ورفض كل شريك له.

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) وانفصلت عن كل الأفكار التي يرتبطون بها ، والمفاهيم التي يحملونها ، والأوضاع التي يعيشونها لأن قضية الإيمان بالله واليوم الآخر ليست حالة شعورية طارئة تتمايز بها المشاعر الذاتية فقط ، بل هي قاعدة للفكر وللحياة ، لارتكازها على أسس العقيدة والشريعة والأخلاق ، فهناك خطّان لحركة الإنسان في الحياة ، لا يلتقيان في أيّ موقع ، خط الإيمان بالله واليوم الآخر ، وخط الإلحاد أو الشرك به ، فلكل واحد منهما منهج للوعي وللسلوك وللعاطفة ، وهذا ما جعلني أعيش الانفصال عن هذا المجتمع الذي اختار الابتعاد عن خط الإيمان بالله واليوم الآخر ، والاقتراب من خط الكفر ، (هُمْ كافِرُونَ) ولا يمكن للمؤمن أن يلتقي بالكفر في طريق ، (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وهؤلاء الذين حملوا رسالة التوحيد لله إيمانا ودعوة ومنهج حياة ، في ما يحمله فريق الإيمان في عقله وقلبه ، من رسالة وإيمان ودعوة ورفض للشرك.

(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأن الذي يكتشف روح التوحيد ، لا يمكن أن يلتقي بخط الشرك في العقيدة والعبادة ، (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) بما أعدّه لهم من سبل الهداية والصلاح من خلال الوحي الذي خصّ به رسله ليبلغوه للناس ، فيهتدون به ، مما يلزمهم بالشكر له ، والشعور بالجميل الذي يطوّقهم به ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فيشركون به ، في عبادتهم لغيره دون حجّة لهم في ذلك ، ولا دليل لهم عليه.

* * *

٢٠٨

وهم الأرباب

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) اللذين أشعر بأن لهما عليّ حق الصحبة في رحلة السجن مما يلزمني بالنصيحة في الفكر ، والموعظة في السلوك ، لأن الإنسان المؤمن ، هو الذي يحسّ بمسؤولية إرشاد الناس إلى خط التوحيد بما يمثله من استقامة في العقيدة والعبادة ، فيعمل على إثارة تفكيرهم ليقتنعوا من موقع الفكر ، ويعملوا من موقع القناعة ، لأن الإيمان لا يرتكز في حياة الإنسان على المشاعر العاطفية ، بل يرتكز على أساس التأمّلات الفكرية ، وهذا ما أراد أن يثير تفكيرهما فيه ، حين طرح عليهما هذا السؤال :

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ما الذي يملكه هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم من دون الله من الصفات التي لا بد أن يتميّز الإله بها ، ليستحق العبادة من خلقه ، من قدرة على الخلق وإعطائهم لنعمة الحياة ، ومنحهم لما ييسر لهم سبل الحياة ويمهد لهم سبل الراحة فيها؟! (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لقد تخيّلتم صورا في أشياء أو أشخاص ، وتوهمتم قوى خفيّة في مخلوقات ، وصنعتم لها من فكركم أسرارا وأوضاعا وصفات لا واقع لها ، بل هي خيال ، لا تملك من الحقيقة إلا وجودها المادي المحدود الذي يتساوى فيه مع كل الموجودات الأخرى ، أما الربوبيّة أو الألوهية وغيرها من صفات الخالق المعبود ، فلا وجود لها في عمق هذه الأشياء ، فهي مجرد أسماء أطلقتموها عليها دون أيّ أساس لذلك في عناصرها الحقيقيّة. ولكن الله هو الحقيقة التي تحتوي الوجود كله ، وتسيطر عليه ، وتقهر كل القوى فيه ، لأنه مخلوق له ، وخاضع في حركته كلها لإرادته ، وهو الذي يحكم كل مسيرته ، فلا حكم لغيره ، ولا سيطرة لسواه.

* * *

٢٠٩

الحكم والعبادة لله وحده

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فهو الذي يحدّد للإنسان خط العبادة ، وخط السير ، فلا يملك أن يختار لنفسه إلا ما يختاره الله له ، بأوامره ونواهيه ، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) بما تمثله العبادة من خضوع له في التشريع ، وفي الحكم ، وفي كل شؤون الحياة ، فلا أمر إلا أمره ، ولا حكم إلا حكمه ، ولا شريعة إلا شريعته ، وهذا ما يجعل الشرك في العبادة ، مسألة لا تتعلق بالجانب العبادي التقليدي على مستوى الصلاة والصيام والحج ونحوها ، بل تتعلق بالخط الذي يتحرك فيه الإنسان في حياته ، وما يلتزم به من أحكام ، وما يعيشه من أوضاع وعلاقات ، فمن اختار شريعة غير شريعة الله ، ومنهجا غير منهجه ، وقيادة غير قيادته التي أراد للناس أن يلتزموها ، فقد أشرك بعبادة الله غيره ، لأن هذا الخط يجسّد الخضوع المطلق لله في واقع الحياة بما تعنيه العبادة من معنى الخضوع.

* * *

الدين القيّم

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الذي يقوم على إدارة شؤون الحياة والإنسان ، ويحكم كل شيء فيها والذي يتلخّص في كلمة واحدة ، هي إخلاص العبادة لله وحده ، فذلك ما يمثل خط السير من البداية إلى النهاية ، ويحدّد الاتجاه ، في كل صعيد. ومن هنا نعرف أن الدين الذي أراده الله لعباده ، هو الذي يعيش الإنسان فيه مع الله في كل شيء ، بحيث يشعر بالارتباط به في الأمور كلها ، ويلتقي به في كل المواقع ، حتى أن كل العلاقات تمر به ، وكل الشرائع تلتقي عنده ، وتبقى كل التفاصيل خاضعة لهذا الخط في البداية ، وفي خطوات السير ، وفي النهاية ، حيث يبدأ الإنسان منه لينتهي إليه ، دون التواء أو

٢١٠

انحراف. وهذا ما يجب أن يفهمه الناس ويسيروا عليه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فينحرفون من موقع الجهل ، لا من موقع التفكير المضاد ، فيبتعدون عن الخط من حيث لا يعلمون.

وهكذا أراد يوسف لهما أن يعيشا هذا الجوّ ، وينفصلا عن أجواء الضلال التي عاشاها في المجتمع الكافر الذي كانا جزءا منه. ولا ندري هل استجابا له ، أو أنهما كانا يستعجلان معرفة تأويل الحلمين اللذين طلبا تأويلهما ، لأن القرآن لم يحدّثنا عن ذلك ، باعتبار أنه لا يجد كبير أثر فالجانب الأهم هو في ما أراد أن يوحيه من ضرورة الالتزام بخط الدعوة في ساحات مماثلة لساحة السجن ، حيث يملك الإنسان من حرية الحديث ، وإمكانات التأثير في الآخرين ، ما لا يملكه في غيرها ، مما يفرض عليه عدم التعلل بالأعذار الواهية أمام نفسه أو أمام الآخرين ، للتقاعس عن أداء المهمّة أو التحرك في خط الرسالة.

* * *

٢١١

الآيتان

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

* * *

معاني المفردات

(تَسْتَفْتِيانِ) : الاستفتاء : طلب الفتيا.

(بِضْعَ سِنِينَ) : البضع : القطعة من الدهر.

* * *

وحدثهما عن مستقبلهما

... وهكذا انتهى بهما يوسف إلى ما يريدانه من تأويل حلميهما ، الذي

٢١٢

كان مفاجأة سارة لأحدهما ، وسيّئة للآخر.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الذي حلم أنه يعصر الخمر (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) فيكون ساقيا للسلطان ، لأن ذلك هو ما يوحي به هذا الحلم ، (وَأَمَّا الْآخَرُ) الذي كان يحمل الخبز على رأسه فتأكل الطير من رأسه (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) عند ما يبقى نهبا لكل طير حيث يستمر الصلب عادة مدّة طويلة تغري الطير بالأكل منه ، في ظل فقدان الحماية له ، (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) فهذا هو القضاء الذي استوحاه يوسف من حلم هذا ، وحلم ذاك ، فليس الأمر بيده ليمنع الفاجعة عن المنكوب الذي سيصلب فتأكل الطير من رأسه ، لأنه ليس إلّا مفسرا للرؤيا ، أما الأمر فهو بيد الله.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو من قال له إنه سيكون ساقيا للعزيز ، مما يجعله قريبا منه ، أثيرا لديه ، مسموع الكلمة عنده ، (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) في ساعات نشوته وسروره ، وحدّثه عن مشكلتي في السجن الذي دخلته بلا ذنب ، واطلب إليه أن يخرجني منه ، (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) في غمرة مشاغل وضعه الجديد ، لعدم اهتمامه الكافي بوضعية يوسف ، كون علاقته به لم تتعد المستوى السطحي للعلاقات الطارئة التي لا يبقى منها بعد انفصال طرفيها سوى الذكريات.

* * *

مزاج الطاغية هو القانون

وهكذا استمر يوسف في السجن ، بسبب حكم الطغاة الذين لا يحترمون الإنسان ، ولا يشعرون بأيّة مسئولية تجاهه ، لا سيما إذا كان من طبقة العبيد ، الذين لا يمثلون في قانون المجتمع أيّة قيمة تدفع إلى الاحترام ، أو تدعو إلى الاهتمام. لذلك فإن قضاياهم تتعلق بمزاج الطاغية وإرادته ، فإذا اقتضى مزاجه إطلاق حرية العبد ، كان ذلك هو القانون الذي ينفّذ ، وإذا نسي الموضوع كله ،

٢١٣

أو كان مزاجه أن يبقى السجين في سجنه دون محاكمة ، فهذا هو خط «العدالة» الطاغوتية الذي لا يخضع لقاعدة إنسانية أو سماوية ، (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) لا نملك تحديدها ، ولكنها ـ كما قيل ـ تتراوح بين الثلاث والعشر ، وربما أكثر ، حددها البعض بكونها اثنتي عشرة سنة.

* * *

لا مشكلة في طلب الحاجة من العبد

وقد يثير البعض ، على ما طلبه يوسف من صاحبه الذي نجا ، سؤالا مثيرا ، وهو كيف يطلب حاجته من العبد ، بينما يفرض الإيمان على المؤمن ألّا يطلب شيئا من غير الله؟ وربما جاء في بعض الروايات ، أن الله عاقب يوسف على ذلك ، فأنسى الرجل ذكر أمره للعزيز ، والجواب : إننا لا نرى في ذلك أيّ مساس بالإيمان ، فضلا عن أن يكون ذلك خطيئة يستحق عليها العقوبة ، لأن من حق المؤمن أن يستخدم للوصول إلى أغراضه الحياتية الأشخاص الذين يملكون خدمته ، وذلك من خلال التوسّل إلى الله في إنفاذ كل أموره ، وهداية الآخرين إلى العطف عليه والسعي في حوائجه ، مما لا يجعل في الموضوع أيّة مشكلة له من قريب أو من بعيد.

* * *

٢١٤

الآيات

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)

* * *

معاني المفردات

(عِجافٌ) : جمع عجفاء ، أي المهزولة.

(تَعْبُرُونَ) : عبرت الرؤيا : فسّرتها.

٢١٥

(أَضْغاثُ) : جمع ضغث وهو قبضة ريحان أو حشيش ، أو قضبان ، وهو ما لا تستطيع أن تعرف حقيقته أو واقعه.

(دَأَباً) : العادة ، والمراد به هنا : الدوام على الزرع.

(تُحْصِنُونَ) : أي تحرزون.

(يُغاثُ) : أي يفرج الله عنهم ويطلق الغيث على المطر وعلى ما ينبت بسببه.

(يَعْصِرُونَ) : يستخرجون العصير مما يعصر ، كالعنب والزيتون ، وهو كناية عن الخصب.

* * *

الرؤيا الغريبة

... ومرّت الأيام ، وبقي يوسف في السجن يعاني قساوته ، ويواجه ظلماته ، وربما كان يلتقي بالسجناء القادمين ، فيعظهم ويرشدهم ويهديهم إلى سواء السبيل ، كجزء من مهمته الرسالية ، وربما استطاع أن يحقق الكثير من النتائج الإيجابية على هذا المستوى دون أن يتحدث القرآن عنه ، لأنه لا يدخل في حركة الفكرة في أحداث القصة ، كما هي الحال مع كثير من التفاصيل التي يغفلها القرآن ، أو يختصرها ، أو يكتفي بالإشارة إليها ، لعدم وجود أيّة علاقة بينها وبين الأفكار التي يريد إثارتها من خلال القصة ، وقد يكون الاكتفاء بذكر حديث يوسف مع صاحبيه في السجن وموعظته لهما ، وتفسيره لما رأياه من حلم للإيحاء بالشخصية الرسالية ليوسف ، ولعلاقة حديثه معهما بتطور قصته والتغير الذي طرأ على مواقعه في النهاية.

٢١٦

وقد تحوّل الرجل الذي كان معه في السجن ، إلى ساق للملك ، ولم يحدث ما يذكّره بيوسف ، ليذكر أمره للملك ، من أجل إخراجه من السجن ، حتى جاءت الحادثة التي هزّته ، وذكّرته بشخصية يوسف ، في أجواء الحاجة إليه ، التي قد تمنح هذا الساقي موقعا متقدما عند الملك ، فقد رأى هذا الملك مناما غريبا ، لم يعرف تفسيره ، (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) ، وهو أمر غريب لأن السمين القويّ هو الذي يمكن أن يغلب الضعيف الهزيل ، نظرا لطبيعة قوته ، وليس العكس ، (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) ، فما ذا يعني الاخضرار في هذه السبع ، واليباس في السبع الأخرى؟ وما الذي جعل هذه تخضرّ ، وتلك تيبس ، في الوقت الذي لا يختلف فيه مكان إحداهما عن الأخرى؟ (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) لأن الرؤيا ـ في مفهومهم ـ هي الرمز الحقيقي للمستقبل ، بما يختزنه من أحداث غيبية قد تعبّر عن نفسها بألوان الوحي الداخلي الذي يتحوّل إلى نوع من أنواع الإنذار للإنسان ، بما ينتظره من مفاجات مخيفة ، ليستعد لها من أجل تخفيف نتائجها السلبية في حياته المقبلة ، أو إلى نوع من أنواع البشارة ، بما ينتظره من أحداث سارّة ، ليعيش مشاعر السرور ، في روحه وفكره ، على أساسها.

* * *

هل للأحلام حقيقة في الواقع؟

وربما كان في هذا الفهم بعض الصواب نستوحيه من قصة يوسف التي توحي بأن للأحلام عمقا في حركة الواقع الإنساني ، ومدلولا حقيقيا في ما يعنيه الرمز الحيّ ، للحاضر والمستقبل ، وفي ما نفهمه من أن معرفة أسرارها تحتاج إلى إلهام ربّاني ، يلهم الله فيه بعض عباده ، ما يستطيعون به تحليل تفاصيلها ، وتوضيح مبهماتها ، فقد يعطي الله بعضهم سعة المعرفة في ذلك

٢١٧

كله ، وقد يمنح البعض القليل من ذلك ، وربما لا يستطيع الإنسان الجزم دائما بأن هناك قواعد ثابتة لمعرفة طبيعة الرمز وعلاقته بالواقع ، على الشكل المطلق ، فقد تختلف القضية حسب اختلاف الأجواء المحيطة بالرمز ودلالته من حيث الشخص والزمان والمكان ، في ما يتسع فيه الأمر لأكثر من احتمال ، ولكن هل معنى ذلك ، أن للمسألة بعدا كليا يفرض وجود حقيقة مع كل حلم ، أو أن للمسألة بعدا جزئيا في هذا المجال؟ فقد تكون بعض الأحلام ، ردّ فعل لحالة نفسيّة ، أو غذائية أو عمليّة ، أو استذكارا لأوضاع ماضية في حياته ، مما يجعلها صورة لما تختزنه النفس من مشاعر ، وأفكار وانفعالات ، أو لما يعيشه الجسد من حاجات.

ليس لدينا ما يؤكد الشمولية الكلية للمسألة ، بل قد نجد أن العكس هو الصحيح في ما نراه من عدم الصدق في الكثير من الأحلام ، وارتباط بعضها بالعوامل الذاتية الخاصة.

أما حول طبيعة القاعدة العملية التي تخضع لها الرؤيا وتصلح مقياسا لصدقها أو كذبها ، فإننا لم نقف لها على أساس ثابت ، بل ليس هناك سوى الحدس والتخمين ، أو التعليلات المنطلقة من إخضاع الإنسان لنظرية العامل الواحد ، كما نلاحظ في التعليل الذي يقدمه فرويد ، والذي يعطي الأحلام مداليل جنسية ، تتحوّل فيها رموز الأحلام إلى رموز للأعضاء التناسلية أو الحالات الجنسية وما إلى ذلك ، ارتكازا على نظريته. ولكن مثل هذه الاحتمالات أو النظريات لا ترتكز على أساس قطعيّ لها ، يجعلها في دائرة الحقيقة العلمية ، كما لا تنطلق من حجج علميّة مقنعة تجعلها في نطاق النظرية العلمية المعقولة ، ولهذا فإننا لا نستطيع الجزم بشيء من هذا القبيل ، تجاه ما نشاهده أو ينقل إلينا من أحلام ، إلّا من خلال النتائج التي نواجهها في المستقبل مما يتطابق مع صورة المنام ، أو نجدها في واقعنا الحاضر.

٢١٨

إنها لون من ألوان الغيب الداخلي في عالم النفس الذي لم نستطع أن نبلغ فيه المدى الواسع من آفاقه لأننا لم نعرف طريقة النفس ، أو الروح ، في إدراكها للمستقبل مما يدخل في عالم النبوءات من خلال الفكر أو الإلهام ، أو من خلال الأحلام ، وربما يكشف الله للإنسان في المستقبل بعض الوسائل التي تقوده إلى معرفة بعض حقائقه بطريقة أو بأخرى.

ولكنّ ذلك كله لا يمنع الإنسان من محاولة استيحاء رموز ودلائل أحلام الآخرين خاصة ما يمكن أن يفتح قلبه على آفاق الإيمان ، أو يدفعه إلى تصحيح خطأ من الأخطاء ، أو يمنعه من السير في طريق منحرف ، فإن ذلك يعتبر أسلوبا من أساليب التوعية ، ووسيلة من وسائل الهداية ، وهذا ما ينبغي أن يستفيد الدعاة إلى الله منه لدى سماع ما يرويه الآخرون من أحلامهم ، لأن الأحلام باب واسع من أبواب الدعوة.

* * *

تفسير الرؤيا

وهكذا أراد الملك من خاصته ، أن يفسّروا له رؤياه ، إذا كانوا ممن يملكون هذه المعرفة ، ولكنهم لم يهتدوا إلى ذلك سبيلا ، (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) وتشبيه هذه الرؤيا بالأضغاث ، يعود لكونها تمثّل مجموعة من الأشياء المتفرقة في طبيعتها والتي تختلط فيها الرؤية ، فقد تجذبك واحدة إلى جهة ، بينما تجذبك الأخرى إلى جهة ثانية ، وهكذا لا تستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن تحكم على أيّ وجه من وجوه الواقع ، تماما كما هي قبضة الحشيش أو الرياحين أو القضبان ، التي لا يقف من خلالها الإنسان على حقيقة ، أو يعرف منها بعضا من الواقع. وهذا ما أرادوا أن يوحوا به إلى الملك ، كتعبير عن طبيعة هذا الحلم غير المفهوم ، أو كتعبير عن مستوى ثقافتهم الذاتية في تفسير الأحلام كما يوحي به قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) لنفسّر لك

٢١٩

طبيعته ومدلوله.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد حين من الزمن ، (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) من خلال وسائلي الخاصة للمعرفة ، (فَأَرْسِلُونِ) إلى الشخص الذي يملك سرّ المعرفة للأحلام ، فقد عشت التجربة الحيّة معه إذ فسر لي رؤيا سابقة ، كانت حياتي كلها الآن شاهد صدق على صحة تفسيره ، وهكذا أرسله الملك وخاصته إلى يوسف ، فبادره بقوله : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ (١) أُخَرَ يابِساتٍ) ، أيّ رمز هو هذا الرمز ، وأيّ معنى هو هذا المعنى الذي يحتويه ، لقد عجزنا عن فهمه ، وعاش الجميع في حيرة من ذلك ، وتحوّل الأمر إلى ما يشبه القلق على المستقبل الذي ينتظرنا جميعا ، وكلنا مشدودون إلى تفسيرك ، وملهوفون إلى جوابك ، فأعطنا الجواب ، (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) حقيقة الأمر فيطمئنون إلى مستقبل حياتهم.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) بدون انقطاع (فَما حَصَدْتُمْ) منه (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) واحفظوه بطبيعته لئلا يتلف ويهلك ، ولا تتصرفوا فيه (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) مما تحتاجونه في الغذاء بكل اقتصاد ، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) بما تواجهونه من حالة الجفاف والجدب التي تتحوّل إلى مجاعة وحرج وشدّة في أكثر من جانب ، مما يجعل الناس يأكلون كل ما اختزنوه في سني الخصب والرخاء ، (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) وتدّخرون وتحتفظون به من القليل القليل ، كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم وأكلهم ، فيقدمون لها ما ادّخروه من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم ، وبذلك تصبح البقرات السمان ، رمزا لسني الرخاء ، والبقرات العجاف رمزا لسني الشدّة ، وكذلك الحال بالنسبة للسنبلات الخضر والسنبلات اليابسات.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) فيأتيهم الغوث من

٢٢٠