تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

الآيات

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

* * *

معاني المفردات

(سِيءَ بِهِمْ) : أي : وقع لوط في ما ساءه بسبب مجيء الرسل.

١٠١

(ذَرْعاً) : الذرع : منتهى الطاقة ، ومثله الذراع ، أي : صعب عليك احتماله.

(عَصِيبٌ) : العصيب : الشديد.

(يُهْرَعُونَ) : يسرعون.

(رَشِيدٌ) : الرشيد : العاقل.

(رُكْنٍ شَدِيدٍ) : الركن الشديد : الناصر الذي يعصمه من قومه.

(فَأَسْرِ) : السّرى : بالضم ، والإسراء : يكون في الليل ، والسير يكون في النهار.

(بِقِطْعٍ) : بكسر القاف ، أي : جزء منه.

(سِجِّيلٍ) : السجيل : الطين المتحجر.

(مَنْضُودٍ) : وضع بعضه على بعض.

(مُسَوَّمَةً) : عليها علامة.

* * *

لوط يشعر بالحرج

وجاء الملائكة إلى لوط ، بصورة ضيوف من البشر ، ذوي وجوه جميلة ، تثير غرائز قومه الذين انحرفوا عن السبيل السويّ ، باتجاه الشذوذ الجنسي المذكّر الذي سمي ب «اللّواط» ، وكانت هذه مشكلة لوط اليوميّة التي يعاني منها عند ما يأتيه ضيوف أمثال هؤلاء ، فيحاولون الاعتداء عليهم ، فيعمل لوط

١٠٢

على الدفاع عنهم بما يملكه من وسائل قد لا تثبت أمام ما يملكونه من القوّة والكثرة المسيطرة ، لذا شعر بالحرج عند ما جاءه هؤلاء في ما حدّثنا الله عنه.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) لما كان يخافه من مشاكل قد تعترض هؤلاء الضيوف ، أو تعترضه في الدفاع عنهم ، إلى درجة إحساسه بعدم الرّغبة في استقبالهم كيلا يقع في هذا الحرج المخجل أمامهم. وهذا هو سرّ شعوره بالسوء عند ما استقبلهم (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) بما تعبّر عنه الكلمة من العجز عن إيجاد منفذ أو مهرب. فقد تحوّلت المسألة عند قدومهم ، إلى أمر واقع لا مجال معه للتخلّص منهم ، ولا بد له من مواجهة الموقف بكل سلبيّاته ومشاكله (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي شديد ، لأنه سيواجه فيه قومه ، بصراع عنيف سيخوضه ضدّهم دفاعا عن ضيوفه الذين جاءوا إليه في صورة غلمان مرد يتميزون بالجمال المثير ، وأخذ ينتظر اللحظة الحاسمة ، التي اعتادها من سلوك قومه.

* * *

استخدام كل الوسائل لمواجهة الانحراف

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) ويندفعون نحوه بسرعة ، فقد شاهدوا هؤلاء الضيوف وتنادوا للحصول على هذه الوليمة الشهيّة ، بطريقة عدوانيّة تتوسل الهجوم على بيت لوط ، حتى إذا لم يستطيعوا الحصول عليهم بالحسنى ، عمدوا إلى استخدام أسلوب القوّة ، ووسيلة العنف ، (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) في ما كانوا يقترفونه من معاص ومنكرات ، ويقومون به من أنواع الفحشاء ، فهم معتادون على ذلك ، ولا يجدون حرجا في الإعلان عن رغباتهم الشريرة ومقاصدهم الفاحشة ، ولهذا جاءوا بمثل هذا الأسلوب الهجوميّ ، ولم يخجلوا من الإعلان للوط عن رغبتهم في ممارسة الفحشاء مع ضيوفه.

١٠٣

وحاول لوط صدّهم بكل ما لديه من وسائل الصدّ ، وردعهم عن هؤلاء الضيوف بما يملك من إمكانات الردع ، حتى انتهى إلى العرض الأخير ، وهو أن يعرض بناته عليهم : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، ولعل من البديهيّ أنه لا يعرضهنّ عليهم للزنى ، لأنه لا يمكن أن يردع عن فحشاء بفحشاء ، بل الظاهر أن عرضه كان على أساس الزواج بقرينة قوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) لأن الطهارة لا تتم إلا بهذه الوسيلة ، (فَاتَّقُوا اللهَ) في ما تقدمون عليه من عصيان أمره بارتكاب الفاحشة ، والاعتداء على الناس ، (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) لأن اعتداءكم على ضيوفي يجلب لي الخزي والعار بين الناس ، لأنني لم أستطع حفظهم من العدوان عليهم بارتكاب الفاحشة معهم ، مما يفرض عليكم معرفة ظروفي والمحافظة على كرامتي وموقعي ، فإذا لم تعترفوا لي بموقع النبوّة ، فلا بد على الأقلّ أن تعترفوا بأني رجل منكم تتصل كرامتي بكرامتكم ، فما يصيبني من الخزي والعار سيصيبكم.

ولكن يبدو أن كل هذه الأساليب لم تنفع معهم ، فأطلق الصيحة اليائسة الأخيرة : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) عاقل ، يفكر بطريقة متّزنة ويدير الأمر على أساس العدل والحكمة؟! ولكن أحدا لم يستجب لعرضه الذي رفضوه بسرعة ، (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) لأننا لا نرى لنا فيهن حقا ، ونظرا لعدم رغبتنا بالنساء كما لغيرنا من الناس الذين يجدون فيهن موضوعا لإشباع حاجاتهم ، ويلتمسون الوسائل المشروعة للحصول عليه ، لأن ما يجعل من الشيء حقا لأحد لدى نفسه ، رغبته الذاتية فيه ، ورغبة المجتمع في تحقيق وصوله له ، وهذا ما لا يتيسر في مجتمع قوم لوط الذين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من قضاء شهواتنا في رجال أمثال ضيوفك ، ممن قد لا يتيسر لنا الحصول عليهم في كل وقت.

* * *

١٠٤

المدد الإلهي

وأسقط في يديه ، فقد استنفد كل الوسائل ولم يحصل على نتيجة ، ووقف موقف العجز والضعف ، بعد أن اجتمع الكل ، للضغط على موقفه ، ولم يبق من يمكن أن يستعين به من الناس ، فبدأ يتحدث بلغة التمني اليائس : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) فيكون لي من بينكم الجماعة المؤمنة التي أستعين بها على دفع الشرّ عن ضيوفي ، (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، أي عشيرة مانعة قوية تقف معي في مواجهتكم ، بما تمثله العشيرة من حماية لأفرادها وما يتعلق بهم من أهل وضيوف ، ووقف موقف الحائر الذي لا يملك أيّة وسيلة للدفاع.

وجاءه المدد من الله ، وتدخّل الملائكة الذين كان مظهرهم يوحي بالضعف مما يغري هؤلاء القوم بالانقضاض عليهم ، دون أن يملك لوط أمر الدفاع عنهم ، وأعلنوا عن صفتهم الملائكية للوط ، وأوضحوا له دورهم الإلهي في إنزال العذاب بقومه : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولن يقدروا أن يصيبوك بسوء ، فلا تحمل هم إحساسك بالضعف تجاههم ، لأنك قوي بالله الذي بسط عليك حمايته ، فلن تحتاج ـ بعد ذلك ـ إلى قوّة ذاتيّة من نفسك ، أو من قومك ، أو من عشيرة مانعة تحميك ، وعليك أن تعدّ نفسك للخروج من البلد ، وتنفذ التعليمات الموجّهة إليك لتحقيق النجاة لك ولأهلك.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي قطعة منه ، أو بعض منه ، (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) وهو كناية عن الانطلاق بعزم ، لا مجال فيه للالتفات والانصراف عنه (إِلَّا امْرَأَتَكَ) التي كانت على نهج القوم في كفرهم وضلالهم ، كما كانت تتعاون معهم ضدّك فتخبرهم بمن يأتي إليك ، وتسهل لهم مهمة الاطلاع على أسرارك ، (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) من العذاب لأنها منهم ، فلا

١٠٥

يميزها عنهم شيء ، ولا قيمة لعلاقتها بك لأن الله يجزي كل إنسان بعمله ، فلا يغني أحد عن أحد شيئا ، ولا يضر أحد أحدا شيئا.

* * *

أليس الصبح بقريب؟!

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) موعد العذاب النازل بهم ، فلا خوف من الانتظار الطويل ، ولا بدّ من العجلة في الخروج ، لأنه لم يبق هناك وقت كثير لنزول العذاب ، (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) فلم يبق لبزوغه إلا سواد هذا الليل.

... وخرج لوط بأهله ، وجاء العذاب بكل ثقله وقوّته وشدّته (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) فقد خسف الله بهم الأرض فانقلبت عليهم ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) وهي الطين المتحجر المتراكم بعضه فوق بعض ، (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي معلّمة بعلامة خاصة من الله ، ولا تصيب إلا من يستحقها ، (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فلا يأمن الكافرون الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ، وظلموا الناس بالعدوان ، من عذاب الله ، إذا أصروا على الكفر والبغي ، فإن الله لهم بالمرصاد وسيجزي الحاضرين بما جزى به الماضين ، فإذا لم يجزهم بما جزاهم به نفسه ، فإنه يجازيهم بما يقاربه.

* * *

١٠٦

الآيات

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(٨٦)

* * *

معاني المفردات

(وَالْمِيزانَ) : الوزن : تعديل الشيء بغيره في الخفة والثقل بآلة التعديل.

(تَبْخَسُوا) : البخس : النقص والعيب.

(تَعْثَوْا) : العثو : الفساد.

(مُفْسِدِينَ) : أي : متعمدين.

(بَقِيَّتُ) : ما يبقى بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال ، وإن قلّ.

* * *

١٠٧

على قاعدة التوحيد تواجه الانحرافات

وهذه قصة نبيّ آخر أرسله الله إلى قومه ليعالج واقع الانحراف الفكري والعملي ، لا سيّما ما يتعلق منه بالجانب الاقتصادي المتمثل بالتطفيف في المكيال والميزان ، باعتبار أن ذلك يمثّل الروحية المظلمة المليئة بالأنانية ، التي لا تنظر إلا إلى حماية مصالحها ، ولو كان ذلك ، على حساب مصالح الآخرين. وقد أراده الله أن يعالج الانحراف بتركيز الخط على القاعدة الإيمانية التي تربط الإنسان بالله في كل أموره ، لينظم بالتالي علاقته بكل مفردات الحياة ، وبكل أفراد الناس. وهذا هو الخط المستقيم في عملية الإصلاح ، فإنك لن تستطيع أن تصل إلى النتيجة الحاسمة في القضاء على الظاهرة المنحرفة من خلال معالجتها بطريقة مباشرة في نطاق حدودها الضيّقة ، لأن العوامل الانحرافية يمكن أن تطوّق عمليّة الإصلاح بأكثر من أسلوب ، وبأكثر من جوّ ، ولهذا فإن الأنبياء الذين يرسلهم الله إلى بعض الشعوب التي تعيش انحرافا معيّنا ، ينطلقون في توجيههم من التأكيد على القاعدة التي يخضع لها الحل ، لا على ظاهرة الانحراف بشكل مستقل ، كما نلاحظ ذلك في قصة لوط مع قومه ، وفي قصة شعيب مع قومه ، هذه التي نواجهها الآن في حديث هذه الآيات.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإن توحيد العبادة لله ، في ما يوحيه من رفض لكل شريك له ، على مستوي العقيدة أو العبادة ، يوحد الذهنية والموقف والحركة في هذا الاتجاه ، ويحقّق للإنسان المؤمن الانضباط على الخط ، في الدائرة التي يتحرك فيها الإيمان ويطوف فيها وحي الله ، وهذا ما استوحاه شعيب في تركيزه على معالجة الظاهرة من خلال التوحيد ، (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) فإن الله لا يرضى بذلك ، لأن هذا

١٠٨

من تسويلات الشيطان الذي يريد أن يقودكم إلى السير في خط الظلم والأنانية والضلال ، (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) في ما أغدقه عليكم من النعم الوافرة ، من المال ، وسعة الرزق ، وخصب الأرض ، وما إلى ذلك ، مما يجعلكم بغنى عن هذه اللعبة الشيطانية ، التي تتوسلونها للحصول على الزيادة عن حقكم ، وسلب الآخرين حقّهم ، لأن من يحتاجون ذلك هم الذين يعيشون في ضيق من الحال ، الأمر الذي يوحي بأنكم تنطلقون في ذلك من موقع عقدة الطمع لا من موقع الحاجة ، (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) وهو يوم القيامة الذي يحيط فيه عذاب الله بكم من كل الجهات ، فلا مجال للهرب ، ولا منفذ للخلاص ، فلا بد لكم من التفكير بالقضية من زاوية أمر الله ونهيه ، عند ما تفكرون بالمسألة.

* * *

الخلل الاقتصادي يفسد توازن المجتمع

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) فللناس حقّ في أن تؤدّوا إليهم ما يستحقونه كاملا من دون نقصان ، تماما كما تفكرون في حقوقكم على الناس عند ما تتبايعون وتتشارون ، فتطلبون منهم أن يؤدوا إليكم حقكم وافيا بجميع جهاته ، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لأن ذلك يعتبر نوعا من أنواع السرقة والخيانة ، فإنك إذا بعت إنسانا شيئا ، فإن البيع يوجب ملكيته له ، فإذا أنقصت منه جزءا ، فإنك تكون سارقا له ، كما لو كان قد اشتراه من غيرك لأن النتيجة واحدة ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تفسدوا في الأرض ، ولا تمارسوا أعمال الخيانة حال كونكم مفسدين ، في مقام التأكيد على النهي عن الفساد.

إن من المفروض على الإنسان المؤمن الذي يوحّد الله في العبادة ، أن

١٠٩

يخضع له في ما يفرضه الخط الإلهي التشريعيّ ، وقد أراد الله للإنسان أن يعتبر الدور الموكول إليه هو إصلاح الأرض بنشر العدل والأمانة والخير والسلام ، قولا وفعلا ، فإذا مارس الفساد في نشاطاته العامة والخاصة ، فإنه يكون قد خان دوره أمام الله. وهكذا أراد شعيب من قومه أن يتحركوا ضمن هذا الخط الذي ينهاهم عن الفساد ، وأبرز مظاهره ، أي التطفيف في المكيال والميزان باعتبار أن الخلل الاقتصادي في الأمة ، يفسد توازن المجتمع ، ويفقده أساس الثقة ، بنسفه القاعدة الأخلاقية التي ترتكز عليها حركة الاقتصاد ، ولا يبقى هناك أيّة ضمانة للطمأنينة والسلام ، وعلى هذا الأساس فإن التطفيف لا يمثل بنفسه خطورة كبيرة ، إلا بما يكمن خلفه من خلل في القاعدة الأخلاقية العامة التي يرتكز عليها الفكر والسلوك وقد جاءت هذه الآية تأكيدا للفكرة وتوسيعا لها ، وضربا للقاعدة ، بعد ما كانت الآية الأولى إشارة للجانب السلبيّ منها في إطاره المحدود.

* * *

في المال الحلال بركة

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الظاهر أن المراد من هذا التعبير (بَقِيَّتُ اللهِ) هو ما يحصلون عليه من ربح يزيد على رأس المال ، يعود إليهم من خلال معاملاتهم التجارية ، فإن ذلك هو المال الحلال الذي يجعل الله فيه الخير والبركة ، فينبغي لهم أن يقنعوا به ، ويستمروا في هذا السبيل الذي قام عليه نظام الحياة بين الناس ، حتى يهيّئ الله لهم ، من ذلك ، الكثير من الخير والبركة ، فإن هذا أفضل لهم من السرقة والخيانة وغير ذلك من الأساليب التي تدمر حياتهم ، وتهدّد مصيرهم في الدنيا والآخرة. وهذا هو خط الإيمان الذي

١١٠

يجب على المؤمنين أن يسيروا عليه ، ويؤكدوا التزامهم به في كل مراحل حياتهم.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) فلم يجعلني الله حفيظا عليكم بطريقة القوّة والإجبار ، بل أنا رسول من الله إليكم ، لأبلّغكم أوامره ونواهيه ، ولأفتح عيونكم على الجانب المشرق من الحياة الذي تلتقون فيه برضى الله ورحمته ولطفه. فإذا تمردتم وعصيتم ، وقادكم ذلك الى السقوط في مهاوي الهلاك ، فلا أملك لكم من الله شيئا إذا أراد الله أن يعذبكم في الدنيا بخطاياكم ، أو في الآخرة بكفركم وضلالكم.

* * *

١١١

الآيات

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

* * *

١١٢

معاني المفردات

(أُخالِفَكُمْ) : أرجع.

(يَجْرِمَنَّكُمْ) : أي لا يكسبنكم.

(شِقاقِي) : الشقاق : المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة وشقها.

(نَفْقَهُ) : الفقه : فهم الكلام.

(رَهْطُكَ) : الرهط : عشيرة الرجل وأصله.

(لَرَجَمْناكَ) : الرجم : الرمي بالحجارة.

(أَعَزُّ) : الأعز : نقيض الأذل.

(ظِهْرِيًّا) : الظهريّ : بكسر الظاء : المتروك وراء الظهر ، لا يعتني به.

(مَكانَتِكُمْ) : المكانة : الحالة التي يتمكن بها صاحبها من عمله.

(وَارْتَقِبُوا) : انتظروا.

(الصَّيْحَةُ) : صيحة العذاب.

(جاثِمِينَ) : الجاثم : البارك على ركبتيه مكبا على وجهه.

(بُعْداً) : دعاء بالهلاك.

* * *

١١٣

السخرية سلاح القوم

... وهكذا ينتهي حديث شعيب في الدعوة إلى توحيد الله ، وفي تطبيق تعليماته ، ليبدأ ردّهم عليه ، فما ذا قالوا؟ هل ناقشوا التوحيد كفكرة في مقابل فكرة الشرك؟ أو هل دافعوا عن فكرة التطفيف من الموقع الذي هاجمه شعيب؟ هل أكدوا فكرة الصلاح فيها ، في مواجهة ما أثاره من فكرة الفساد والإفساد ، لتكون القضية هي قضية فكر يواجه فكرا؟

إنهم لم يفعلوا ذلك ، بل لجأوا إلى أسلوب الإثارة لمواجهة الموقف معتمدين على السخرية ، والكلمات الاستعراضية التي لا ترتكز على حجّة أو دليل بغرض التهرّب من المسؤولية ، وتحطيمه نفسيا. وأخذوا يسخرون من صلاته باعتبارها المظهر البارز لتوحيد العبادة لله ، والخط الفاصل بين موقفه وموقفهم ، حسب ما ورد في دعوته لهم إلى عبادة الله بأسلوب الصلاة ، فحاولوا أن ينظروا إليها باستهانة وازدراء وتهكّم ، باعتبارها مصدر الإيحاء في حديثه ، فهم لم يجدوا فيها شيئا مهما ، شكلا ومضمونا ، لأنهم لا يستطيعون استيعاب المعنى الروحي العميق للصلاة ، لأن تأثيراتها لا تتمثل في الشكل ، بل تحتاج إلى المعاناة الداخلية التي تثير الفكر ، وتهز الكيان ، وتوقظ الروح.

وهكذا لم يفهموا كيف يمكن للصلاة أن تدفع النبي شعيبا إلى التحرك في موقع المسؤولية ، ليقف في خط المواجهة ، ويأمرهم بما أراد الله أن يأمرهم به ، ويشهد الله ، وهو بين يديه ، أنه قد أدّى رسالته ، وقام بمسؤوليته.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) إننا نراك تصلي دائما ، ثم تنطلق لتثير معنا الحديث المستمر عن رفض عبادة الأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها ، فصارت جزءا من شخصيتنا ، تعبيرا عن امتداد الآباء في

١١٤

وجودنا بكل عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم ، كمظهر حي للوفاء وللالتزام بخطّ العشيرة بما تمثله من أفكار وأعراف ، تمتد في الحاضر والمستقبل كتاريخ أصيل يصنعه الماضي. وإذا كانت القضية في هذا المستوى ، فكيف يمكن لنا أن نترك كل هذا التاريخ الضخم ، من عبادة هذه الأوثان ، لنستسلم لما تثيره صلاتك فيك من مشاعر ومواقف ، لتأمرك بأن نترك ما يعبد آباؤنا ، فأين هو موقع الصلاة من شخصيتنا كلها ، وأين هي قيمتها من تاريخنا كله؟

* * *

التشريع يحول دون حرية التصرف المطلق بالمال

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) إنك تتحدث إلينا بلغة غير سليمة ، فلا علاقة للصلاة بأموالنا ، ولا علاقة للتوحيد والشرك في ذلك ، ولا علاقة لك أنت بأموالنا التي ورثناها من آبائنا ، أو التي حصلنا عليها بجدّنا وجهدنا وسعينا ، فهي تخصنا وحدنا ، وليس لأحد أن يفرض علينا كيفية التصرف بها ، إننا نملك فيها كل الحرّية التي هي فوق كل أمر ، وفوق كل تشريع.

إن رفض هؤلاء القوم للمبدأ التشريعي الذي يحرّم التطفيف ، يرجع إلى اعتقاد خاطئ ، وهو حرية التصرف المطلق ، في ما يملكه الإنسان من مال ، فليس لأيّ تشريع أن يقترب من هذه الحرية بأيّ نوع من أنواع التضييق والتقييد ، وهذا ما يعبّر عنه احتجاجهم على ذلك بقولهم : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا).

وقد كان شعيب منسجما مع القاعدة الإلهية التي لا تعتبر الحرية وعدمها ، إلا بالمقدار الذي يحقق للإنسان مصلحته العامة ، وللحياة توازنها الدقيق ، ولذا كان التشريع يتحرك على أساس تحقيق هذا التوازن عند ما يمنح الحريّة أو يقيّدها ، في ما يحلّل أو في ما يحرّم ، وقد كان التطفيف نوعا من

١١٥

أنواع الاستغلال الخبيث الذي يجسّد التعدّي على حقوق الناس ، وسرقة أموالهم ، ممّا يسبّب إخلالا بالتوازن الذي تريد الأديان إقامته في حياة الناس ، لجهة تحقيق العدالة في التعامل كضمان لتساوي طرفي المعاملة في الأخذ والعطاء ، تبعا للالتزام العقدي الذي ينظّم الحقوق والواجبات. وعلى هذا الأساس جاء تحريم التطفيف ، منعا للفساد في الأرض.

* * *

من رحم الاقتصاد الحر ولد الاستعمار

وقد نخرج ـ من هذا كله ـ بنتيجة حاسمة ضد كثير من الدعوات التي تبشّر بمبدإ الاقتصاد الحرّ الذي يسمح للإنسان بكل أنواع التعامل ، ما كان منه مضرّا بمصلحة الإنسانيّة ، وما كان غير مضرّ ، ويوفّر للإنسان الحماية القانونية لعمليّات الإفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي يمارسها تحت شعار التجارة الحرّة التي تحركها دوافع الربح والخسارة ، بعيدا عن أيّ جوانب أخلاقيّة أو إنسانية.

وهذا ما يتمثل في التفكير الرأسمالي الحديث الذي يشجع الإفساد ، ويحميه في إطار الحرية الاقتصادية التي تعتبر ـ في مفهومهم ـ إحدى ركائز الحرية الأساسية في الكون.

وقد أدّى هذا التفكير إلى إفساح المجال لولادة الاستعمار الذي يستعبد الشعوب ، ويستغلّ ثرواتهم الطبيعيّة ، ويحوّلهم إلى وحدات استهلاكيّة ، لتصريف المنتجات الصناعيّة بكل ما يستلزمه ذلك من حماية التخلّف والجهل والخرافة ، والوقوف بقسوة ، ضد كل نوازع التحرّر والاستقلال السياسيّ والاقتصادي.

وقد كان من نتائجه الكبيرة العمل على إثارة الخلافات الدينية والاجتماعية والإقليمية ، وغيرها ، وتحويلها إلى نزاع مسلّح معقّد طويل ،

١١٦

يستنزف طاقات الشعوب وثرواتها من أجل تحريك مصانع الأسلحة التي لا تزدهر إلا في الحروب ، مما يجعل من السياسيين في كل بلد ، عملاء طبيعيين لأصحاب تلك المصانع ، من أجل دفع الفتنة أشواطا إلى الأمام ، وإثارتها من جديد ، كلما قاربت الركود والهدوء.

* * *

الحرية الاقتصادية بين الإسلام والرأسمالية

إن حوار شعيب مع قومه يؤكد لنا «رفض الحرية الاقتصادية ، بمفهومها الرأسماليّ ، الذي لا يخضع للمفهوم الإنساني والأخلاقي ، ولا يضع موضوع الحرية المالية ضمن نطاق مصلحة الإنسان ، وتوازن الحياة ، ليسمح بما يدخل في ذلك ، ويمنع ما يخرج عنه ، في كل زمان ومكان.

وربما نشعر بالحاجة إلى التأكيد على كثير من المؤمنين ، أو العاملين في سبيل الله ، الذين يغفلون عن الخطّ الدقيق الفاصل بين الحرية الاقتصادية ـ كما تفهمها الرأسمالية ـ وبين الحرية الاقتصادية ـ كما يفهمها الإسلام ـ من خلال تشريعه الملكية الفردية وحمايته لها. إنّ الرأسمالية تطرح شعار قوم شعيب الذي عبّر عنه القرآن الكريم في احتجاجهم على منعهم من فعل ما يشاءون ، لأنهم يرون الحق لهم في ذلك كله ، بينما يطرح الإسلام شعار شعيب : قال (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ، وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). فهو يؤمن بالملكية الفردية بشرط ألا يستغلها أصحابها في إفساد البلاد والعباد ، سواء في ذلك مصادرها ومواردها. فإذا تحوّلت إلى عنصر إفساد ، وقف الإسلام ليقيّدها ، بكل قوّة وعنف ، لتجري الحياة على أساس من الحرية الملتزمة ، لا الحرية المنفلتة» (١).

__________________

(١) فضل الله ، محمد حسين ، الحوار في القرآن ، دار الملاك ، ط. الخامسة ، ١٩٩٦ م ١٤١٧ ه‍ ، ص : ٣١٠ ـ ٣١١.

١١٧

محاولات غير مجدية لاحتواء الرسول

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) بما تملكه من هدوء الطبع وسعة الأفق ، وعمق النظرة للأمور بحيث تراعي الموازين الحقيقية للأشياء ، فكيف صدر منك هذا التصرف ، وهذا الكلام الذي يدل على النزق ، وعلى عدم الحكم السليم على القضايا؟ إنهم يحاولون بهذا الأسلوب القيام بعملية تطويق عاطفيّ ، واحتواء نفسي له ، بإثارة شعوره بمكانته الرفيعة عندهم ، كي يقوده ذلك إلى التراجع عن موقفه ، ليحتفظ بهذه المكانة ، كما هو شأن الكثير من الناس الذين يريدون الحصول على ثقة المجتمع ، بالانسجام مع ما يحب ويرغب. ولكن أنبياء الله لا يعيشون لأنفسهم ، بل يعيشون لرسالتهم ، ولذلك فإنّهم لا يتنازلون عن خط الرسالة لحساب الذات ، وإذا أرادوا الوصول إلى ثقة المجتمع ، فإنما يريدونها على أساس الثقة بالرسالة ، لتكون قيمة الذات ، في ما تجسّده من السلوك الرساليّ ، لا في ما تجسّده من صفات الذات ، ولذلك رأينا النبيّ شعيبا يقف أمامهم بقوّة من دون أيّ تأثّر عاطفيّ بما قالوه.

* * *

بيّنات ... وأهواء

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) لما أعيشه في مسألة الإيمان من وضوح الرؤيا والدلائل والبينات التي أكرمني بها الله ، إلى درجة عدم إحساسي بأيّ حالة من حالات الشك والريب في صحة ما أنا عليه ، وفي صدق ما أدعو له ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) بما أغدقه علي من نعمه وألطافه ، وبما رزقني من رسالته ، فلا بد لي من أن أقف لأدعو ، وأتحرّك لأتحدّى بالأسلوب الذي يحقق القناعة للفكر ، ويركّز القوة للموقف ، ويبعث الامتداد في الدعوة ،

١١٨

وليست المشكلة هي أن يرضى الناس أو لا يرضوا ، بل كل مشكلتي ، هي أن يرضى الله عما أقوم به في مجال تأدية الرسالة ، وإخلاص الدعوة.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ، فلم أنهكم عن شيء إلا وقد ألزمت نفسي بتركه ، انطلاقا من قناعتي بما يتضمنه من المفسدة ، وما يؤدّي إليه من الضرر ، وبذلك فإن موقفي ينطلق من موقع القناعة والإيمان ، لا من موقع الرغبة في التحكّم بكم ، والتضييق عليكم ، والتقييد لحريتكم ، كما تزعمون. لأجل ذلك ، كان لا بد لي من إثارة الفكرة أمامكم ، لحثكم على الدخول معي في نقاش فكريّ حولها ، ولكنكم واجهتم المسألة باللامبالاة ، وابتعدتم عن مسئولية ما تحملونه من عقيدة ، وما يلقي عليكم من فكر ، فاستسلمتم لعقائد آبائكم التي لا ترتكز على أساس ، ولحرية الأهواء التي لا تخضع لقاعدة ، فوقفتم هذا الموقف السلبيّ الساخر المتعنّت. إن ذلك شأنكم في التصرف الذي سوف تتحملون مسئوليته أمام الله ، في الدنيا والآخرة ، أما أنا فسأبقى في ساحة الرسالة من أجلكم ، لأقدم لكم النصح الذي يصلح أمر دنياكم وآخرتكم.

* * *

دين الله لإصلاح الإنسان والحياة

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) هذا هو الشعار الذي أرفعه في حركة الرسالة ، وهذا هو مضمون مفاهيمها وتشريعاتها ، وهذا هو الهدف الذي أسعى إليه من وراء موقفي معكم ومع الناس ، فليس لدي هدف شخصيّ في ما أدعوكم إليه ، ولا أريد ممارسة السيطرة عليكم ولا التحكم بكم ، بل كل ما أريده تأدية الرسالة في إصلاح الإنسان والحياة ، على هدي دين الله ، ولذا فإنني ألتزم في نفسي وفي حياتي العملية بما أدعوكم إليه ، وهل يريد الإنسان لنفسه

١١٩

إلا الخير ، (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وسأستمر في السير إلى الهدف ، متطلعا إلى توفيق الله ورعايته ، معتمدا على الله فهو الذي يهيّئ لعباده الأسباب ، ويدبّر لهم الأمور.

* * *

الله هو الكافي

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في كل ما أريد أن أقدم عليه ، في إمكاناتي الذاتية التي رزقني بها الله ، وفي كل ما يمكن أن يواجهني في حاضر الحياة ومستقبلها ، من تهاويل المجهول الذي جعل الله أمره بيده ، فهو الكافي له ، والحامي منه ، لأنه يكفي رسله من كل شيء ، في حدود الحكمة والمصلحة ، ولا يكفي منه شيء ، لأنه القادر على ما لا يقدرون عليه ، والمهيمن على كل شيء من مخلوقاته الناطقة والصامتة ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) فهو المرجع في الدنيا ، والملاذ في الآخرة ، وإليه المصير.

وهذا هو موقف القوة الواعية التي أراد شعيب أن يعيشها في نفسه لئلا تهتز أمام ضغوطهم ، وليبينها لهم ، حتى يشعروا بطبيعة القوة التي يملكها بالاعتماد على الله ، والتوكل عليه في جميع أموره مما يجعل لموقفه قوة بارتكازه على الغيب أولا ، وعلى قوة شعيب الذاتية ثانيا.

* * *

تحذيرات شعيب لا تلقى الصدى المطلوب

ثم يتابع شعيب ممارسة الضغط النفسي عليهم ، فيعيدهم إلى ما ينتظرهم من نتائج الكفران والجحود ، الذي أصاب السابقين من الكافرين (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي لا يدفعنكم خلافكم معي ، ومعاداتكم لرسالتي ، (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الأمم السالفة ، (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ

١٢٠