تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)

* * *

نحن نقصّ عليك أحسن القصص

(الر) من الحروف المقطعة التي ألمحنا في ما مضى من التفسير إلى الوجوه المذكورة فيها ، فراجع.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) في إشارة إلى المضمون الفكري لآيات القرآن المبيّنة للخط المستقيم الذي يجب أن يسير عليه الناس ، في ما يحملونه من مفاهيم ، وما يتحركون فيه من خطوات ، وما يسددونه من أهداف ، لأن دور الكتاب هو توضيح الصورة الحقيقية التي يريد الله للحياة أن تكون عليها. وذلك ما ينبغي على الإنسان أن يستحضره في نفسه عند ما يريد تركيز مفاهيمه ،

١٦١

والتخطيط لطريقه ، ليستهدي بهدى الله.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فقد اختار الله رسوله من أمّة تنطق بالعربية لتكون المنطلق الأول للرسالة ، من حيث الإيمان بعقيدة الإسلام والسير على شريعته ، وحمل رسالة الدعوة إليه ، وكان لا بد لهذه الأمة أن تملك الوضوح في وعيها للرسالة وفي فهمها لها ، الأمر الذي فرض أن ينزل القرآن بلسان عربيّ مبين ، وهكذا أنزله الله قرآنا عربيا ، ليبني للأمة ، التي نزل فيها ، عقلها وفكرها ، لتعقل ما يريد الله لها أن تعقله من شؤون الحياة العامة والخاصة.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) الذي أطلق القصة ، بهدف إظهار العبرة التي تفتح القلوب والعقول على كلمة الله ، وتزيل عنها حجاب الغفلة ، بما تعنيه المعرفة من يقظة الفكر والروح ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) في ما يفرضه عدم العلم من غفلة عن كثير من شؤون الحياة والتاريخ.

* * *

١٦٢

الآيات

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(رُؤْياكَ) : الرؤيا : تصور المعنى في المنام على توهم الأبصار.

(كَيْداً) : الكيد : ضرب من الاحتيال ، وقد يكون مذموما وممدوحا ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر ، وكذلك الاستدراج والمكر.

(يَجْتَبِيكَ) : الاجتباء : الاختيار.

* * *

يوسف عليه‌السلام يقص على أبيه رؤياه

... وجاء يوسف إلى أبيه ، وكان أثيرا عنده حبيبا إليه ، لجماله ووداعته

١٦٣

وصفاء روحه ، وجلس عنده يقص عليه رؤياه الغريبة التي أثارت في نفسه القلق لما تشتمل عليه من جوّ يوحي بالسموّ ، ولكنه حافل بالغموض ، فأراد من أبيه الذي أكرمه الله بالنبوّة أن يفسّر له اسرار هذه الرؤيا ، ليوضح له معالم المستقبل من خلالها ، وربما كان يعتقد ، أنها رؤيا صادقة فحاول أن يعرف طبيعتها ، وربّما كان حائرا بين هذا النوع من الرؤيا الصادقة ، أو الرؤيا الحالمة ، فأحب أن يجلو كنهها ، كأيّ إنسان في مثل عمره الذي كان يلتقي بأوائل الشباب.

* * *

الحدس النبوي

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) من هذه الكواكب المتناثرة في السماء ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) كما يسجد الناس للشخص العظيم تحية واحتراما وخضوعا. فما معنى ذلك؟ وما مداه؟ وكيف يمكن أن تسجد هذه المخلوقات الكونية العظيمة لبشر مثلي؟! وما موقعي من ذلك كله؟!

ويستشرف يعقوب بحدسه النبويّ مستقبل ولده يوسف من خلال هذا الحلم العجيب ، فيرى فيه شخصا عظيما يسمو على أهله بالمكانة والمنزلة ، إلى مستوى يشعرون معه بأن عليهم أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع الملوك العظام ، الذين كانت تقاليد ذلك العصر تفرض على الناس أن يقدموا لهم فروض الاحترام بطريقة السجود.

* * *

حسد الإخوة

على أن يعقوب كان يعرف أن أولاده الآخرين يحسدون يوسف على ما

١٦٤

يتميز به عنهم من جمال وذكاء ووداعة وصفاء ، وعلى ما له من المنزلة عند أبيه ، كنتيجة لما يملكه من هذه الصفات وغيرها التي أهّلته للمعاملة المميّزة ، وكان يخشى على يوسف منهم ، لأن العقدة التي كانوا يشعرون بها تجاهه قد توحي إليهم بالتآمر عليه ، والتخلّص منه إذا تحدث إليهم عن رؤياه ، وفهموا منها مستقبله الكبير الذي قد يقفون فيه موقف الخاضع الحاسد له عند ما يصبح غدا في موقع رفيع يفوقهم ، ولأن الحسد يدفع أصحابه إلى الكيد للمحسود وأذيته بشكل مباشر ، وليس عبر تسليط عين الحسد كما يعتقد الناس عموما. فأحبّ يعقوب تحذير يوسف من أن يقصّ رؤياه عليهم في ما أوحاه له من مستقبل باهر ينتظره ، يجعله في موقع الكيد من إخوته.

* * *

عقدة الشيطان

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) لأنها توحي لهم بتفوقك عليهم في مستقبل عمرك ، فقد يستوحون منها ما استوحيت ، من أنهم هم الكواكب التي تسجد لك ، (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ، فيسعوا إلى هلاكك ، ليمنعوا ما ينتظرك من مستقبل مشرق ، ظنا منهم أنهم يستطيعون تغيير ما يريد الله له أن يكون ، وهذا ما تسوّله لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء الغارقة في ضباب الأوهام والأحلام الكاذبة ، والواقعة تحت تأثير أفكار الشرّ والجريمة التي يبثها فيهم الشيطان ، من خلال العقدة المتأصّلة بالذات التي يتعامل معها بطريقة تزيدها تعقيدا ، ويزيد بالتالي في ضلال الإنسان الذي يستسلم له فيحركه في اتجاه معصية الله ، ليفسد عليه حياته ، ومصيره ، فيقوده إلى عذاب الله في الآخرة ، وتلك هي العقدة الشيطانية التي بدأت بخروجه من دائرة رحمة الله ، لامتناعه من السجود للإنسان الأول المتمثل بآدم ، فكانت عقدته الكبيرة ، أن يجرّ ذريته إلى النار ليكون مصيرهم ومصيره واحدا ، على غرار ما يفعله الأعداء مع

١٦٥

أعدائهم (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) في مقاصده ووسائله.

* * *

يوسف عليه‌السلام وبداية المسيرة

وهكذا بدأت المسيرة التي أرادها الله ليوسف على طريق النموّ الفكريّ والروحيّ الذي يمهّد له السير في طريق الأنبياء الصالحين الذين يربّيهم الله على خطّ هداه ، من خلال المعاناة الجسديّة والروحية التي يواجهون فيها عملية تدريب يوميّة ، تقوّي إرادتهم ، وتوسّع آفاقهم ، وتفتح لهم نوافذ التفكير على أكثر من جانب من جوانب الغيب والحياة. وقد كانت رؤيا يوسف بداية طيبة له ، تفتح له باب التفكير في آفاق هذه الرؤية الواقعية ، وفي كيفية النفاذ إلى المواقع المميّزة في حياة الناس ، كما سنرى ، في ما يأتي من قصة يوسف ، وهذا ما أراد الله أن يوحي به إلى يوسف في بداية أمره ، في ما خاطبه به ، وفي تنمية إحساسه الداخلي في ما ألهمه الله منه ، أو في إخبار أبيه له ، أو في ما يقترب من ذلك.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) فيمن يجتبيه من عباده ، ويصطفيه منهم ، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وتفسيرها في ما يستشرف به الناس أمور المستقبل من خلال أحلامهم ، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بما يغمرهم به من لطفه ورحمته ، وبما يفتحه لهم من أبواب الخير ، أو ينزل عليهم من وحيه ورسالته ، أو يخرجهم منه من ضيق وعسر ، (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) اللذين خصهما الله بكرامة الرسالة والقرب إليه ، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو الذي يعلم الغيب كله ، لأنه هو الذي خلق المستقبل كله ، وهو الذي يجري الأمور كلها ، على وفق حكمته في العطاء للعباد والمنع عنهم ، في المجالات المادية والمعنوية.

* * *

١٦٦

الآيات

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(١٠)

* * *

معاني المفردات

(آياتٌ) : الآية : العلامة والعبرة.

(عُصْبَةٌ) : العصبة : الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض.

(غَيابَتِ الْجُبِ) : غور البئر وما غاب منه عن أعين الناظر ، وكل ما غيّب شيئا وستره فهو غيابة.

١٦٧

(السَّيَّارَةِ) : جمع سيار ، وهو المسافر.

* * *

المعاناة الصعبة

وتبدأ القصة في حياة يوسف من موقع المعاناة الصعبة التي تجعله يعيش الكثير من الآلام ، ويقع في العديد من المشاكل ، ويصطدم في أكثر من موقف من مواقف الصراع النفسي على مستوى أخلاقه ومبادئه ، ويدخل في كثير من مجالات الدعوة إلى الله ، وينفتح على أجواء جديدة لا عهد له بها من قبل. ولكن النتائج الأخيرة تفتح له أبواب الخير بأوسع مجالاتها ، وكان لإخوته دور شرّير ، حاولوا فيه ، الدفع به إلى الهلاك ، وقد عاشوا حياتهم في جو بعيد عن الإيمان والأخلاق ، ولما ضاقت بهم سبل الحياة لجأوا إلى أخيهم ، وانتهى الأمر بهم للخضوع له ، فانتصر الخير على الشر ، والوداعة على التعقيد ، والمحبّة على الحقد ، انتصر يوسف في روحه ورسالته وإخلاصه لله.

والآيات الواردة في السورة تبعث على التفكير ، وتثير في النفس الكثير من المشاعر الروحية الطاهرة التي تدفع الإنسان إلى الرجوع إلى الله ، والثقة به ، في أشد حالات التحدي ، وفي أقسى ألوان البلاء ، فلا مجال لليأس ، ولا موقع للانهيار والسقوط ، وهذا ما أراد الله لنا أن نتمثله في هذه القصة الحافلة بألوان التعقيد في العلاقات الإنسانية بين الإخوة ، والمليئة بالمشاعر الخانقة.

* * *

أخذ العبرة

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) الذين يريدون معرفة

١٦٨

حقائق أمور الحياة ، والاستفادة من تجارب الآخرين التي شاهدوها ، أو سمعوها ، ليضيفوا ذلك إلى ما يملكونه من تجارب ذاتية ، ليتسع لهم جانب المعرفة بحركة المستقبل في حياتهم العامة والخاصة ، وفي هذا إيحاء بالجانب الفكري للقصة ، الذي يريد القرآن توجيه الإنسان إليه لأخذ العبرة منه ، وعدم الاكتفاء بالجانب التفصيلي للأحداث بما تخفيه من لهو فكري وتسلية ذاتية ، فالهدف الاستفادة من التفاعل الإنساني مع تجربة الآخرين لتحديد الخطوات العملية المستقبلية وما يصلح للحياة ، أو ما لا يصلح لها ، وهكذا تبدأ القصة في حياة يوسف وإخوته ، بآلام يعانيها يوسف وتحدد ما يستقبله من أحداث.

* * *

المعيار الخاطئ

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، وهذا ما أثار في نفوسهم الحقد ، فقد كانوا عشرة من أمّ ، وكان يوسف وأخوه من أمّ أخرى ، وربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميّزة لهما ، كنتيجة لبعض الخصائص الروحية أو الأخلاقية التي يتمتعان بها ، ولصغر سنهما الذي يجعلهما بحاجة إلى الاحتضان العاطفي من جهة ، وما يستثيره ذاك السن من عاطفة حميمة ، تجعل الكبير يهفو إلى الصغير من جهة أخرى ، ولكن الكبار ـ عادة ـ لا يفهمون ذلك ، لا سيما مع اختلاف الأمّ الذي يبعث على التعقيد في نفوس الأولاد تبعا للتعقيد بين الأمهات ، وكان هؤلاء يفكرون بالقضية وفق معيار التفوق العددي الذي يدفع إلى ترجيحهم على الأقل ، أو انطلاقا مما يوحيه العدد الكبير من قوة تتيح لهم تصحيح ما يعتبرونه خطأ في تمييز أبيهم في مشاعره الأبوية تجاه أولاده ، الأمر الذي عبروا عنه بقولهم الذي أشار إليه الله في قوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصية النبي في أبيهم ، وهو الذي لا ينطلق في سلوكه من عقدة

١٦٩

ذاتية ، بل من حالة عقلانيّة روحيّة لا تبتعد عن خط الرسالة في السلوك الذاتي ، أو في السلوك العام ، لأن دور النبيّ أن يكون القدوة في كل شيء ، لأنه يمثل الرسالة في حياته كما يمثلها في كلماته ، من خلال التكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرسالة والرسول.

وقد يحدث ذلك للعديد من الأبناء الذين يستسلمون للعلاقة الطبيعية بين الأب وولده التي قد تتحرك في تفاصيل الحياة في أجواء التبدّل الطبيعي في البيت العائليّ ، فلا يشعرون بالهيبة تجاه الأب التي يشعر بها الآخرون. وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثّر بالجوانب الأخرى من شخصية الأب ، أو عدم الشعور بقدسيتها وعظمتها ، فينعكس ذلك على نظرتهم إليه في مشاعره وسلوكه ، بعيدا عن التعمّق في طبيعة ذلك كله.

* * *

الخطة الشريرة

وبدأت الخطة الشريرة تتفاعل في تفكيرهم ، وقرروا التخلص منه بأيّة طريقة ممكنة ، لأن ذلك هو السبيل إلى أن يستقلوا بعاطفة أبيهم عند ما ينسى يوسف ويتقرب من جديد إليهم ، لملء الفراغ العاطفي الأبوي لديه ، وهكذا طرحوا المسألة على بعضهم البعض.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ليضيع في التيه ، أو ليموت في الجب ، أو لتأكله السباع ، (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) فلا يجد أمامه غيركم فيتجه بكل عاطفته إليكم. إنها الفكرة المسيطرة على أذهان الجميع ، بحيث كان كل واحد يقولها لإخوته ، ونلاحظ أنهم لم يتحدثوا عن أخ يوسف ، ولم يفكروا بالتخلص منه ، لانصراف العاطفة الجياشة تجاه يوسف ذي الميزات الجسدية والروحية ، أما أخوه ، فقد كان موقعه من حديثهم كونه الأخ الشقيق ليوسف ، ومن المعلوم أن يوسف لم يكن شقيقهم من ناحية الأم ، التي اعتبروها مسئولة عن هذا العطف

١٧٠

غير العادي من أبيهم ليوسف ، وهكذا كانت الفكرة الشريرة خاضعة للحالة النفسية المعقدة التي نفذ الوسواس الشيطاني منها إليهم ، ليوحي لهم بارتكاب الجريمة أوّلا ، ثم بالتوبة ، وهذا هو دأب الأسلوب الشيطاني في مواجهة لحظة الخوف الإنساني من الله عند ما يهم الإنسان بارتكاب ما يخالف أمره ، إذ يعجل المعصية للإنسان ، ويمنيه بالتوبة ، ثم يدفعه إلى التسويف فيها بعد ذلك ، وهكذا قال بعضهم الآخر ، إن عليكم ان تقوموا بهذه الجريمة ، وتتوبوا إلى الله بعدها ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) في ما تقومون به من أعمال صالحة ، وعبادات خالصة.

وربّما كان بعضهم يكنّ عاطفة لأخيه ، ولكن بالمستوى الذي يبعد عنه فكرة الموت بيد إخوته ، فاقترح اقتراحا معينا في هذا الاتجاه ، (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي في أعماق البئر التي لا تغرق من يقذف فيها ، لقلة ما تحتويه من الماء ، (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) من القوافل السائرة على طريق البئر ، فيكتشفونه عند ما يريدون الاستقاء منها ، فيأخذونه ويبيعونه ، فيضيع في البلاد النائية ، ويفقد بالعبودية حرية الحركة. فهذا هو الحل الذي يحقق الخلاص من يوسف ، ويمنعنا من القيام بجريمة قتله ، فابدءوا بالتخطيط العملي لذلك ، (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ومصرّين على تصميمكم في إبعاد يوسف عن أنظار أبيه.

* * *

١٧١

الآيات

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)

* * *

معاني المفردات

(يَرْتَعْ) : أي يتنعم.

(نَسْتَبِقُ) : الاستباق : افتعال من السبق ، ومنه المسابقة ، وهو على ثلاثة أوجه: سباق بالرمي ، وسباق على الخيل والإبل ، وعلى الأقدام.

١٧٢

(مَتاعِنا) : المتاع ما يحمله المسافر من زاد ولباس.

(سَوَّلَتْ) التّسويل : تزيين النفس ما ليس بحسن ، وقيل : هو تقدير معنى في النفس على الطمع.

* * *

تنفيذ المؤامرة

واتفقوا على تنفيذ خطة المؤامرة ، وجاءوا إلى أبيهم في أسلوب استعطاف يوحي بالمحبة ليوسف ، وينكر على أبيهم شكّه فيهم وعدم ائتمانه لهم عليه ، الأمر الذي يظهر عدم سماحة في ما مضى لهم باصطحابه معهم في مشاريع الخروج للبرّ وللبساتين ، للهو واللعب ، بهدف الترويح عن النفس في الهواء الطلق. (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) ، ونحن إخوته الذين يكّنون له كل محبة الأخ لأخيه ، ويحبون له ما يحبون لأنفسهم من الراحة والانطلاق ، تماما كما يشعر أحدنا بالنسبة لبقيّة إخوانه ، (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) في ما ينصح به الأخ أخاه. إننا لا نجد لموقفك السلبي مرارا سوى الغلوّ في العاطفة الأبوية والتعلّق به بطريقة تكاد تخنقه وتمنع عنه التحرك في الهواء الطلق ، وأنت تشكّ في كل شيء يتحرك من حوله ، حتى لنشعر أنك تتهمنا بالعمل على إيذائه والتآمر عليه.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) لأن من حق الشاب أن يمارس مع الشباب اللهو واللعب والانطلاق في الهواء الطلق ، لتتفتح روحه ، وتصفو أفكاره ، وترتاح مشاعره ، لأن لكل مرحلة من مراحل العمر حقها في التنفس والانطلاق ... وكيف يمكن أن يظل معك محبوسا في دائرة الالتزامات

١٧٣

الاجتماعية التي يلتزم بها الشيوخ في تقاليدهم وأوضاعهم وعلاقاتهم الاجتماعية!؟ إن هذا هو السجن بعينه. إننا نريد منك أن تحرّره من ذلك كله ، وأن تثق بنا كما يثق الأب بأولاده الذين عاشوا معه الحب كله ، والإخلاص كله ، ولا تخف عليه من أي سوء فإنا سنحميه بما نحمي به أنفسنا ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل عدوان بشريّ أو حيوانيّ.

ولكن أباهم صرف الحديث إلى جانب آخر ، فلم يؤكد اتهامه لهم بالعداوة له ، بل أثار أمامهم مسألة أخرى ، وهي خوفه عليه من الذئب الذي قد يفترسه عند غفلة إخوته عنه في لهوهم ولعبهم ، (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لأن طبيعة أجواء اللهو واللعب ، توحي بالغفلة عن كثير من الأشياء المهمّة ، للحالة المحمومة التي تتحكم بالأعصاب وبالمواقف. وجاء في بعض الروايات أنّ يعقوب كان يريد أن يلقّنهم الحجة في ما يعتذرون به بعد تنفيذ خطتهم ، في ما أخبره الله به ، الأمر الذي لم يكن واردا عندهم في تفكيرهم حول الموضوع ، والذي لم يثبت عندنا ، وإن كان ممكنا ، وقد أجابوا أباهم بأن هذا الخوف لا مجال له أمام عددهم الكبير ، فإذا غفل عنه واحد أو أكثر منهم ، فكيف يغفل عنه الآخرون؟

وكانت المسألة تمثّل التحدي الكبير لهم في إطار ما يريدون الحصول عليه من ثقة أبيهم حيال أغلى الأشياء عنده ، ومن ثقة الناس بهم في حفظ الأمانة الأخوية والإخلاص لها ، والاهتمام بها في أعلى درجات الاهتمام (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) في العدد والقوة ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) وأي خسارة أعظم من خسارة الإنسان ثقة الناس به ، في أكثر الأشياء اتّصالا بالجانب الحميم من حياته ، وهذا ما أراد أن يؤكده في موقفهم الاستعراضي الذي يحاولون من خلاله الإيحاء لأبيهم بأنهم في مستوى المسؤولية وفي أعلى درجات الوعي واليقظة والقوة والإخلاص ، لأن المسألة تمثل حالة متّصلة بالذات ، في تقييمهم الشخصي والروحي.

١٧٤

ووافق يعقوب على ما طلبوه منه ، وأرسل يوسف معهم ، فنجحوا في الخطوة الأولى من خطتهم المرسومة. (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) واتفقوا على تنفيذ المؤامرة ، فتعاونوا على شدّ وثاقه ، في فظاظة وغلظة لم تأبه لتوسلات يوسف المستغيثة بوداعة ، بحثا عن أمل في الانفلات منهم ، ولكن عبثا يحاول ، فأنزلوه إلى أعماق البئر وتركوه هناك ، وتمّ لهم ما أرادوه ، وقد أراد الله ليعقوب أن يوحي إليهم بما فعلوه بالرمز والإشارة في أسلوب من الاتهام الخفيّ الذي يحسّ به المتهم من خلال كلمة أو همسة أو نظرة ، (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بطريقة خفيّة موحية ، وهذا ما فعله يعقوب في ما نراه من ختام هذا الفصل.

* * *

دموع التماسيح

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) ويعلو الصراخ بشكل يوحي بالفاجعة في عملية إثارة الشعور بالذنب على طريقة دموع التماسيح التي لا تتحرك من الأعماق ، بل تبقى في دائرة الشكل ، (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) في سباق عنيف يغفل الإنسان فيه عن نفسه وعمن حوله ، ولم يكن من الممكن ليوسف أن يستبق معنا لصغر سنه وضعف جسمه ، (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) ليقوم بحراسته ، وابتعدنا عنه في تراكضنا نحو الهدف ، فاستغل الذئب هذه الفرصة ، فلم يجد عنده أحدا ، ولم يملك أن يدافع عن نفسه ، (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وتلك هي الحقيقة الصارخة التي عشناها بكل ما يختزنه الإنسان من قساوة الألم ، وعنف الحزن ، وفداحة الخسارة ... ولا نملك ما نؤكّد به لك هذه الحقيقة (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) لأن الشك يغلب جانب ثقتك بنا ، مع أن الأمر محتمل جدا ، لكثرة ما تقع فيه أمثال هذه الحوادث ، وقد كنت أوّل من أثار المسألة أمامنا على أساس الاحتمال الذي استبعدناه واستقربته ، ولكن ، ماذا نقول لك

١٧٥

أمام حالة الشك التي تنطق بها كل لمحة في عينيك ، وكل نبضة في وجهك ، وما الطريق التي نرفع فيها عن أنفسنا الشبهة ، ونؤكّد لك الحقيقة؟.

إن من المؤسف أن تفقد ثقتك بنا وتتهمنا بما لا دخل لنا به (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) في ما نخبرك به. ولكن ما القيمة في أن يكون الإنسان صادقا ، وهو لا يملك الحجة القاطعة على صدقه؟.

* * *

الصبر أمام الفاجعة

وكانوا قد نزعوا عن يوسف قميصه ، ولم يمزّقوه كما يفعل الذئب عند أكل الفريسة مما يتنافى مع دعواهم ولطخوه بدم كذب ، (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) كشاهد على دعواهم ، ولكن يعقوب لم يقتنع بذلك ، لا سيما بعد أن أوحى إليه الله بما عملوه ، (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) غير هذا الذي تدّعونه ، ولن أدخل معكم في التفاصيل ، لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسه عن الموضوع ، فلم يأت الوقت المناسب لذلك ، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصميم ، (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) فهو الذي يعين عبده على مواجهة الفواجع والكوارث بالصبر والتسليم والثقة بما عند الله من آفاق الأمل ووسائل الفرج ، وهو الذي يكشف الحقيقة التي عملتم على إخفائها ، وهو الذي يهيّئ لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النتائج الطيبة التي تحل المشكلة على أفضل وجه.

* * *

١٧٦

الآيات

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢١)

* * *

معاني المفردات

(وارِدَهُمْ) : الوارد : هو الذي يتقدم القوم ليستقي لهم.

(دَلْوَهُ) : الدلو : مؤنث ، وقد يذكّر ، وأدلى دلوه ، أرسلها في البئر.

(يا بُشْرى) : كلمة تقال عند البشارة ، مثل : يا عجبا عند العجب.

(وَأَسَرُّوهُ) : أخفوه.

(بِضاعَةً) : سلعة ومكسبا.

(وَشَرَوْهُ) : باعوه.

١٧٧

(بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : البخس : النقص من الحق.

(مَثْواهُ) : الثواء : الإقامة ، والمثوى : موضع الإقامة ، والمراد بأكرمي مثواه : أحسني معاملته.

(مَكَّنَّا) : مكّنا له في الأرض : جعلنا له مكانة فيها.

* * *

سوق النخاسة والثمن البخس

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) مارّة على طريق البئر الذي كان فيه يوسف ، (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) الذي يرد مواقع الماء فيطلبه لقومه ، (فَأَدْلى دَلْوَهُ) في البئر وأخرجه ، فإذا به أمام المفاجأة السارّة ، فقد كان ينتظر خروج الدلو بالماء ، فإذا به يخرج بغلام جميل الصورة صغير السنّ ، هو يوسف الذي تعلق بالدلو عند ما أنزله صاحبه إلى البئر للاستقاء به ، (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) فالتفت إلى قومه ليبشرهم بالربح الذي يمكن أن يحصلوا عليه إذا ما باعوا الغلام الذي وجد في البئر في سوق النخاسة. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) فقد أخفوه لديهم لأنهم خافوا أن يبصره أهله فيطالبوهم به ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) فهو المطّلع على السرّ وأخفى ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة ، وهو الذي أراد ليوسف أن يسير في هذا الاتجاه ليصل إلى النتائج الطيبة في نهاية المطاف ، فإذا كانوا قد أخفوه عن الناس فلا يمكن أن يخفوه عن الله الذي يحيط بهم من كل جهة ويشمل يوسف بكل رعايته.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) والشراء هنا بمعنى البيع ، فقد باعوه بثمن زهيد بدراهم محدودة ، يمكن معرفتها بالعدد لقلتها ، (وَكانُوا

١٧٨

فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) لأنهم أرادوا التخلص منه بسرعة ، والحصول على ثمنه بأيّ مقدار كان ، حذرا من أن يكتشفهم أهله ويأخذوه منهم قبل أن يبيعوه ويقبضوا ثمنه. والظاهر أن الضمير راجع إلى القوم الذين أخرجوه من البئر وأسرّوه بضاعة لأن السياق يوحي بذلك ، ولا يلتفت إلى احتمال أن إخوة ليوسف هم الذين باعوه ، بعد أن اكتشفوا إخراج السيارة له ، فادّعوا أنه عبدهم فباعوه منهم ، لأن هذا خلاف الظاهر.

* * *

بدء التمكين

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) فقد أعجبه هذا الغلام ، ونفذ إلى قلبه ، بحسنه ووداعته وصفاته الروحية والأخلاقية ، مما قد لا يجتمع في العبيد الذين يعرضهم النخاسون في سوق النخاسة ، فأراد من امرأته ألّا تعامله بالشدّة والقسوة التي كان يعامل بها العبيد ، بل أراد معاملته باللطف والإكرام ، كإنسان يستحق الإعزاز والاحترام ، لينتفع به ، ويعتمد عليه في الأمور الخاصة ، ويكون موضع سرّه يأتمنه على خصوصيات البيت وأسراره ، أو يتبناه ، لأنه كان عقيما لا ولد له ، وهذا ما أوحى به إلى امرأته : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

وهذا ما أراد الله أن يهيئه ليوسف من وضعيّة تمكنه من السير في اتجاه تقوية مركزه ودعم مكانته ، لا سيما بعد أن يتجاوز بنجاح الظروف المثيرة والأحداث الصعبة ، مما أهّله لفرصة الاعتماد عليه في تفسير الحلم الكبير للملك ، لأن الله قد ألهمه ، تأويل الأحاديث بطريقة تسمح له جلاء الكثير من غوامضها.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) فجعلناه في الموقع الذي يمكنه من بلوغ المنزلة الكبيرة ، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) لنهيّئ له المدخل الطبيعي

١٧٩

للنفاذ إلى ذلك المجتمع الكبير المعقّد ، الذي لا يسمح لأحد بدخوله إلا من باب الامتيازات الخاصة التي يملكونها ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) في ما يريد أن ينفّذه من مشيئته وإرادته في خلقه ، فلا رادّ لمشيئته في جميع الأمور ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلا يعرفون علاقة كل شيء بالله لأن الأسباب مهما تعددت وتنوّعت ، فإن أمرها ينتهي إليه ، فهو القادر على تغييرها من حال إلى حال ، وتوجيهها بالاتجاه الذي يريده ، وهو أمر لا يلتفت إليه الناس عند تقدير عواقب الأمور.

* * *

١٨٠