تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

معاني المفردات

(بَيِّنَةٍ) : البينة : الحجة : الفاصلة بين الحق والباطل.

(يُعْرَضُونَ) : العرض : إظهار الشيء ، ومعنى العرض على الله : أنهم يقفون في المقام الذي يريه العباد للمطالبة بالأعمال.

(الْأَشْهادُ) : جمع شاهد ، وهو العالم الذي يبين ما علمه.

(عِوَجاً) : العوج : العدول عن طريق الصواب.

(وَأَخْبَتُوا) : الإخبات : الطمأنينة ، وأصله الاستواء من الخبت ، وهو الأرض المستوية الواسعة فكأن الإنبات خشوع مستمر على استواء فيه.

(مَثَلاً) : المثل : قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول.

(كَالْأَعْمى) : العمى : عبارة عن فساد آلة الرؤية.

(وَالْأَصَمِ) : الصمم : عبارة عن فساد آلة السمع.

* * *

مثل الفريقين المؤمن والكافر .. هل يستويان؟

في أجواء هذه الآيات ، نلتقي بالساحة التي تتحرك فيها الدعوة بين الذين يتحركون إيجابيا في خط الإيمان والطاعة والانفتاح على الله ، وبين الذين ينطلقون سلبيا في خط الكفر والتمرّد والتكذيب والصدّ عن سبيل الله ، ثم نواجه النتائج الحاسمة في يوم القيامة ، فإذا بالفريق الأول يعيش في رضى الله ورحمته ليخلد في الجنة ، أما الفريق الثاني ، فيعيش الخسارة الكبرى ، والضياع والعذاب الأليم ... وذلك في ظل أجواء مليئة بالحركة تحتوي الحاضر

٤١

والمستقبل ، للإيحاء بارتباط الجانب العملي بالجانب العقيدي ، وامتداد أجواء الحياة الدنيا في خط الانحراف والاستقامة ، إلى الحياة الأخرى ، في خط الثواب والعقاب.

* * *

وضوح الإيمان

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) في ما هيّأ الله له من وسائل المعرفة ، بحيث يملك وضوح الرؤية في العقيدة التي تجعل إيمانه يصدر عن قناعة وثبات ، (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي ويتبعه شاهد يشهد له ، على صحة ذلك ، بالمستوى الذي لا يترك هناك مجالا للشك ، كأيّة قضيّة من القضايا التي تتأكد لدى المؤمنين من خلال الدلائل البيّنة ، والشهود الموثّقين. وقد اختلف المفسرون في شخصية هذا الذي كان على بيّنة من ربه ، هل هو رسول الله ، أو المؤمنون الذين كانوا معه ، أو جميع المؤمنين؟ واختلفوا كذلك في طبيعة هذه البينة ، هل هي القرآن ، أو العقل والوجدان ، أو شيء آخر غير ذلك؟ وكذلك في شخصية الشاهد هل هو القرآن ، أو جبرائيل ، أو الإمام علي ، أو غير ذلك من الاحتمالات؟

لقد تعددت الروايات حول هذه المسألة بالشكل الذي لا يمكن الركون إليها لخلل في سند بعضها ، وارتباك في مضمون بعضها الآخر ، ولا نجد في هذا المجال أوثق من عدم الخوض في ذلك ، لأن التفسير لا يختلف كثيرا في المعنى الأساس الذي تستهدفه الآية ، فقد يكفينا من المعرفة بذلك أن نفهم من الآية المقارنة ، بين من كان يعيش وضوح قضية الإيمان لديه ، مما هداه الله إليه بشكل قاطع ، فهو لا يحتاج إلى شيء آخر في زيادة المعرفة ، ويتبعه شاهد منه يؤكد هذه الحقيقة للآخرين ، سواء كان هذا الشاهد رجلا يملك المعرفة الكاملة للمسألة ، أم كتابا يشهد على صحة هذا الإيمان وصدقه أمام الآخرين ،

٤٢

وبين من كان لا يعيش وضوح ذلك ، لأنه لا يريد الاهتداء ، ولا يخضع له ، وقد نجد في كثير من الاحتمالات المذكورة في هذا المجال ما لا يتناسب مع سياق الآية. فلنجمل ما أجمله الله ، ولنطلب الوضوح في ما أراده لنا من قواعده ، ولنرجع علم ما أبهم علينا أمره إليه.

* * *

الله يؤاخي بين الرسالات

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) في ما تمثله التوراة من قاعدة للفكر وللتشريع ، أراد الله للناس أن يتمثلوها فكرا وعملا خلال حياتهم في الفترة التي سبقت نبوّة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أبقى الله من مفاهيمها وأحكامها في مضمون رسالته ، لأن التوراة كانت ـ كما يبدو ـ أوّل كتاب سماويّ شامل أنزله الله على رسله ، بحيث غدا إماما لبقيّة الكتب ، لأن الله أراد أن يؤاخي بين رسالاته وكتبه في الأسس الثابتة من العقيدة والتشريع ، وجعل من كل رسول امتدادا للرسول الذي سبقه ، ومن كل كتاب مصدّقا للكتاب الذي جاء بعده ، أو قبله ، بما يتضمّنه من وحي ينظم أمر العباد ، ويهديهم به إلى سواء السبيل. وربّما كان ذكر كتاب موسى ، في هذا السياق ، باعتباره مؤكّدا للإيمان في كثير من تفاصيله التي تصدّق هذا الكتاب في المبدأ والتفاصيل.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالكتاب ـ وهو القرآن ـ المستفاد من سياق الآية ، لأنهم يملكون البيّنة على هذا الإيمان. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) المتمثلة في جماعات الكفر والشرك والضلال ، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) ، لأنه لا يملك الحجة على ما يعتقده من كفره وضلاله ، في ما يملك الله الحجة البالغة عليه (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْهُ) أي من هذا الكتاب الذي أنزله الله عليك ، مهما أثاروا حولك من تهاويل الشك ، لأن ما تملكه من البيّنة

٤٣

الداخليّة والخارجيّة لا يمكن أن يقترب إليه الشكّ ، (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلا مجال للريب فيه من أيّ طريق ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا ينفتحون على المعرفة بمسؤولية ، بل ينطلقون معها من خلال المزاج والشهوة والإحساس ، ولذلك فإنهم يعيشون أجواء اللامبالاة أمام الكثير مما يطرح عليهم من دعوات وقضايا تتصل بالمصير ، وتدفع بالإنسان إلى أن يعيش الجهد والمعاناة والالتزام بالخط المستقيم ، انسجاما مع المسؤولية الشاملة للإنسان أمام الله.

* * *

مدلول اللعنة الإلهية

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بما يوحي به الافتراء من تزييف للصورة الحقيقية التي يريد الله للحياة وللإنسان المزيد من الارتباط بها ، فيسيء بذلك إلى الحياة والإنسان ، وقد تقدم بعض الحديث عن هذه الفقرة في أكثر من موضع من هذا التفسير ، (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) في موقف الحساب الذي يواجهون فيه نتائج أعمالهم السيّئة ، وافتراءاتهم الكاذبة ، (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) الذين كانوا يراقبون أعمالهم ، من الأنبياء والأولياء ، ويستمعون إليهم في ضلالهم ويتحملون منهم ألوان الاضطهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) في ما نسبوا إليه من أقوال وحرّفوه من كتبه ، وبما شرّعوه من أحكام ، (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم ، لأن الظلم ، بما يكشف من خلفيّات ، ونوايا شرّيرة ، وآفاق عدوانيّة في النفس ، وفي ما يؤدّي إليه من نتائج سلبية على مستوى واقع الحياة العقيديّة والعملية ، يبعد الإنسان عن ساحة رحمة الله ، ويقرّبه من ساحات غضبه ، وذلك هو مدلول اللعنة الإلهية في كل المجالات التي يعلن فيها لعنته على أحد من خلقه.

٤٤

الانحراف يضع الحواجز بين الناس وبين الله

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيمنعون الناس من الانطلاق في الخطّ المستقيم ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) فيريدون لهم أن يسيروا في الخط المنحرف الأعوج على مستوى العقيدة ، وعلى مستوى العمل ، بما يثيرونه من الشكوك والشبهات ، وبما يوجّهونه إليهم من تحديات ، أو يفرضونه عليهم من ضغوط نفسيّة أو جسديّة ، وهكذا يعلنون الحرب على الله في أكثر من جهة ، ويساهمون بذلك في إضلال الناس وإبعادهم عن الله ، فأيّة جريمة أفظع من هذه الجريمة ضد الله وضد الناس؟ إنك تمنع الخير عن نفسك عند ما تمنعها عن الاستجابة للهدى ، ولكنك لا تكتفي بذلك ، بل تعمل على أن تمنعه عن الناس ، فتسيء إلى قيمة الخير الصادر عن الله ، وإلى الناس جميعا. إنها صورة هؤلاء الذين يضعون الحواجز بين الناس وبين الله ، (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) فإن مظهر الإيمان بالآخرة هو مراقبة الله في كل موقف ، والخضوع لإرادته في كل مجال ، بينما يتمثل الكفر في التمرّد عليه في القول والعمل والموقف ، كأمثال هؤلاء (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) لأنهم لا يملكون أيّة قوّة ذاتية بعيدا عما يريده الله لهم من القوّة ، ولكن الله يمهلهم ويؤخرهم إلى أجل مسمّى ، من خلال حكمته التي أودعها في الكون ، وأجرى عليها سننه ، في تسيير أمور الحياة على نهج معيّن. فإذا جاء الأجل الذي تنتهي إليه الفترة ، فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ولن يعجزه أحد منهم ، مهما كانت قوّته.

* * *

٤٥

ضلال وإضلال

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ينصرونهم من دونه ، لأن ما يزعمونه من هؤلاء الأولياء مخلوقون له ، خاضعون بتكوينهم لإرادته ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا إلا بالله ، فكيف يملكونه لغيرهم؟ (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) جزاء ضلالهم وإضلالهم ، فيحصدون العذاب بسبب هاتين الجريمتين ، (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) وذلك لأن الله قد سلبهم السمع والبصر من خلال امتناعهم عن توجيه آذانهم إلى الاستماع ، وعدم استفادتهم من بصرهم ، وبهذا يتبين أن عدم استطاعتهم للسمع ، وعدم كونهم مبصرين ، لم يكن ناتجا عن حالة العجز الذاتي عن ذلك ، بل عن عجز طارئ كانوا هم السبب فيه ، في ما أودعه الله في الأشياء من علاقة المسبب بالسبب ، فإذا أراد الإنسان الاستماع ليسمع ، كان السمع أمرا طبيعيا له ، وكذلك البصر إذا أراد الإبصار ، أما إذا لم يرد ذلك وأغلق أذنيه بإغلاق قلبه ، أو أغلق عينيه بإغلاق المعنويّ أو روحيّ ، فإنه لا مجال لسمع أو بصر ، فيكون وزان هذه الفقرة ، وفق قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) [الأعراف : ١٧٩] ، أو قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١٠ ـ ١١] مما يوحي بأن المسألة لا تخرج عن إطار الإرادة والاختيار عندهم.

* * *

خسران النفس ومواجهة الهلاك

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فقد واجهوا الهلاك الأبديّ بكفرهم ، مما

٤٦

جعلهم يخسرون كل شيء بخسارتهم قضيّة المصير ، وذلك هو معنى خسارة النفس ، لأن الحياة في العذاب ، لا تمثل حياة ، بل موتا محتوما هو أقسى من الموت الطبيعي ، الذي يمنح الإنسان الراحة السلبية لعدم الإحساس معه بالألم والعذاب ، بينما لا يذوق الإنسان المعذب بالنار طعم الحياة ، ولا يملك راحة الميت ، كما جاء في قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١٣] ، وتلك هي الخسارة العظمى ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فلم يحصلوا على شيء منه ، وذهب كل ما افتروه وكذبوا به على الله ، أدراج الرياح ، كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لأنه لا يملك من الحقيقة شيئا ليبقى ببقائها ، ولا يثمر لهم أيّة نتيجة ، في ما استهدفوه من أطماع ومكاسب.

وجاء في الميزان : «عن الفرّاء أن (لا جَرَمَ) : في الأصل بمعنى : لا بد ولا مجالة ، ثم كثرت ، فحوّلت إلى معنى القسم وصارت بمعنى «حقا» ولهذا تجاب باللام ، نحو : لا جرم لأفعلنّ كذا. انتهى» (١). وعلى هذا فإن المعنى يأخذ معنى التأكيد بالقسم : أي حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.

أما الوجه في أنهم هم الأخسرون ، فقد يكون الأساس فيه اعتقادهم بأن الحياة هي الفرصة الأخيرة للإنسان ، لإنكارهم لليوم الآخر ، ولهذا فإنهم لا ينتظرون أيّ عقاب على أعمالهم ، فيستسلمون لشهواتهم وأطماعهم في استرخاء لذيذ ، فإذا بهم يفاجأون بعذاب ينتظرهم في الآخرة ، لا يتوقعون مثله ، بينما ينتظر غيرهم من العاصين العذاب ، فلا تصدمهم المفاجأة ، وقد يكون الأساس أن الكافرين يفقدون كل شيء في الآخرة ، بينما لا يفقد العاصون الذين لا يخلّدون في النار ، إذا عذبوا فيها ، إلا بعضا من فرص الآخرة. والله العالم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٠ ، ص : ١٨٣.

٤٧

بين عمى القلب وإشراقة الفكر

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي استسلموا إليه وخشعت قلوبهم له ، وشعروا ـ بعمق إيمانهم وصفاء وجدانهم ـ بأن الأمر كله له ، وأن طاعته هي فوق كل طاعة ، وأن هدف الإنسان هو تحقيق رضاه في كل شيء ، فكان جزاؤهم من الله سبحانه أن أقبل عليهم برحمته ، وأفاض عليهم من رضوانه ، ودعاهم إلى جنته ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وذلك هو الفارق بين الكافرين وبين المؤمنين في النتائج النهائية لهؤلاء وأولئك ، أما مثلهم في ما توحي به صورتهم في حركة الواقع ، فقد عبّرت عنه الآية الكريمة : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) بما يعكسه الكفر من عمى القلب والروح والشعور ، وما يعبّر عنه الإيمان من إشراقه الفكر والعقل والعاطفة ، أو بما يمثّله الكفر من صمم عن نداء الله ، ورفض للاستماع إليه ، وما يوحي به الإيمان من انفتاح القلب على كلمات الله في كل قضايا الحياة ، (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتطّلعوا على عمق الأفكار والمواقف بنتائجها الإيجابية والسلبية ، وما ينتهي إليه أمر الإنسان في عالم الرفض القبول.

* * *

٤٨

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١)

* * *

معاني المفردات

(أَراذِلُنا) : الرذيل : الخسيس الحقير من كل شيء ، والجمع أرذل ثم

٤٩

يجمع على أراذل ، كقولك كلب وأكلب وأكالب ، ويجوز أن يكون جمع الأرذل ، فيكون مثل أكابر جمع الأكبر.

(الرَّأْيِ) : الرؤية ، أي : رؤية العين. والرأي أيضا : ما يراه الإنسان في الأمر ، وجمعه آراء.

(بِطارِدِ) : الطرد : الإبعاد على جهة الهوان ، وتطارد الأقوال : حمل بعضها على بعض.

(تَزْدَرِي) : الازدراء : الاحتقار ، افتعال من الزراية. يقال : زريت عليه إذا عبته وأزريت به إذا قصرت به.

* * *

مع نوح في خط الدعوة

وهذه جولة جديدة مع رسالة نوح عليه‌السلام ، في خط الدعوة ، وحركة الحوار ، ومواجهة التحدّي ، حيث يريد الله أن يركز أمامنا القاعدة التي تلتقي عليها الرسالات ، في إطار المسيرة الإنسانية المستوعبة لكل تطلّعات الإنسان في الحياة ، مما يحتاج إلى التوفيق فيه بين رغباته الذاتية في الجانب المادي والروحي ، وبين رسالية الإيمان بالله.

ثم في ما يريد الله أن يعرّفنا من طبيعة الذهنية التي كانت تتحكم بقوم نوح ، فتدفعهم إلى الرفض والتمرّد والعصيان ، دون الرجوع إلى قاعدة فكرية أصيلة ، تناسب حجم الفكرة وما تفرضه من فكر وتأمّل ومسئوليّة ، ثم في موقف نوح الذي يمثل الأسلوب الوديع ، والمواجهة القوية الحاسمة التي لا تقدم أيّة تنازلات على حساب الرسالة ، ولا تتسامح في مسألة دعم المؤمنين مهما كانت الظروف ، ثم في الوقفة الرسالية التي يقف فيها الرسول أمام العالم

٥٠

بعيدا عن كل الوضعيات الاستعراضية ، ليواجهه من مواقع إنسانيته التي لا تبتعد عن الواقع في الوقف نفسه الذي تلتقي فيه الوحي ، من خلال النظرة الموضوعية للحياة وللناس.

وتلك هي قصة نوح ، النبي ، الداعية في إيحائها الدائم الذي يمكن أن يتحرّك في مواقف الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان ، في ما تلتقي فيه صفة الدعوة بين الأنبياء وبين أتباعهم ، وفي ما ينبغي لهم أن يتحركوا من خلاله على أساس وضوح القاعدة التي ينطلق منها خط الدعوة ، وفي الردّ الحاسم الوديع الذي يجب أن يحكم خطّ المواجهة ، وفي الحماية القويّة التي يشمل بها الداعية كل المؤمنين البسطاء الذين يتبعونه في مقابل المستكبرين المترفين الذين ينظرون إليهم باحتقار واستهزاء.

* * *

العبادة كلمة جامعة للنهج الرسالي

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ليبلغهم رسالة الله في كلمات موحية حاسمة ، فقال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) لأنذركم المصير الذي ينتظركم في الدنيا ، ويواجهكم في الآخرة ، نتيجة ما تمارسونه من عبادة الأوثان وما يتبعها من القيم المادية المستغرقة في الطين ، وفي غرائز اللحم والدم ، بعيدا عن كل المعاني الروحية السامية التي ترفع الإنسان إلى الله ، فتجعل لحياته معنى يتجاوز صورتها المادية ، وتثير فيها روح السموّ ، وامتداد القيمة ، وانفتاح الإنسانيّة على عمق الروح التي تتجاوز الذات إلى حياة الآخرين ، فالعلاقة بالله ليست مجرد حالة عبادية ذاتية يرتبط فيها بالله ذاتيا ، بل هي حالة روحيّة ، تجعل قضية الإيمان شيئا أساسيا في حركة الحياة ، لا مجرّد حالة ذهنيّة تجريدية ، وترف فكريّ لا علاقة له بالحياة والإنسان على مستوى المصير.

٥١

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) لتلتقي لديكم العبادة بالخط المستقيم الذي ينبغي لها أن تسير عليه ، لأن عبادة غيره لا تحمل أيّ معنى في حساب الحقيقة ، وفي ميزان القيمة ، لأن كل من هو غير الله مخلوق له ومحتاج إليه في كل شيء ، فكيف يعبده من هو مثله في المخلوقية والحاجة؟ وقد تحدثنا سابقا ، أن العبادة تمثل الكلمة الجامعة للنهج الإلهي الرسالي الذي يتحرك فيه الإنسان انسجاما مع إرادة الله ، لأنه يمثل خط السير في كل تفريعاته ومداخلة ومخارجه ، ويلتقي جانب التوحيد فيها ، بتوحيد الفكر والشريعة والمنهج ، في كل أقوال الإنسان وأفعاله على أساس كلمة الله ، فلا مجال لغيرها في ما يفكر فيه ، أو في ما يشرّعه ، أو ما يتحرك فيه من منهج ، ولهذا اقتصر القرآن في حديثه عن رسالة نوح عليها ، في الوقت الذي نعرف فيه أن هناك تفاصيل كثيرة ، تتعلق بالقضايا الجزئية التي تحكم حياة الناس في ما يريده الله منهم.

* * *

لهفة الرسول

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وفي هذا التعبير بالخوف نستشعر المعنى الإنساني الذي ينطلق به الرسول ، ليوحي إلى الناس أنه ليس إنسانا يفكر فيهم بطريقة جامدة ، ورسمية تتوسل المفردات القانونية في حساب الجزاء ، بل هو إنسان يتحدث معهم بلغة الإحساس والشعور والعاطفة ، عما يراه ـ كمثل الشمس ـ من مستقبل مؤلم للمتمردين وما سيواجهونه من العذاب الأليم في يوم القيامة ، إذ يناديهم في ما يشبه اللهفة الملتاعة ، ليرجعوا عن غيّهم وكفرهم لئلا يلاقوا العذاب الشديد. ومن خلال ذلك نفهم ما على الداعية أن يعيشه من تفاعل مع مشاكل الآخرين ، ليعتبر الانحراف لديهم

٥٢

مشكلة ترتبط بإحساسه تجاههم ، ليتحسسوا العاطفة في كلماته ، وتعبيراته ، ونظرات عينيه ، ونبضات قلبه ووجهه ، وذلك هو خط سير الأنبياء ، مما يجب أن تتحرك البشريّة معه في طريقها الطويل ، وتلك هي دعوة نوح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقومه ، فكيف أجابوه؟

* * *

الفهم الخاطئ للنبوة

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) فكيف يمكن أن تكون نبيّا ، في ما توحي به النبوّة من سرّ الغيب الذي لا بد أن يكون الحامل له شخصا غيبيا كالملائكة ، ويعود هذا الفهم الخاطئ للنبوة لديهم إلى عدم وعيهم لدور النبيّ في حياة الناس ، الذي يفرض أن يكون النبي من البشر لا من غيرهم ، ليتفاعلوا معه من موقع التكوين الذهني والحسّي المشترك.

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) وهذه هي نقطة الضعف التي يعتبرونها أساس امتناعهم عن اتباع نوح ، لأن النخبة التي تمثل طليعة المجتمع لم تكن ضمن الجماعة المؤمنة به ، فإيمان النخبة به ، في ما لو حصل ، يشكل سببا في انسجامهم معه ، واتباعهم لرسالته ، وذلك لما للنخبة ـ في اعتبارهم ـ من عمق في الفكر ، وامتداد في حساب العقل ، والقوة ، والمستوى الاجتماعي ، ولكن المحيطين به كانوا من الجماعة المرذولة ، التي تمثّل الطبقة السفلى في المجتمع من جهة الذهنية والامتيازات والثروة الاقتصادية ، وهم من الفقراء والمساكين ، ولم يأت إيمان هؤلاء عن تأمّل أو تفكير ، بل جاء انفعاليا سطحيا سريعا ، لرغبة في الحصول على موقع ، أو لضعف في الفكر ، وهذا ما تمثله كلمة : (بادِيَ الرَّأْيِ) أي قبل التأمل ، وهو الرأي الذي يبدو للذهن لأوّل وهلة ، كخاطرة سريعة طارئة.

٥٣

إنه المفهوم الخاطئ في تقييم الأشخاص باعتبار مستواهم الاجتماعي والاقتصادي أساسا للتقدير ، بدلا من المستوى الروحي والفكري ، كما أنّ هناك انحرافا في تحديد القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان ، فإن الأساس فيه هو التفكير في طبيعة مضمون الدعوة الموجّهة إلى الناس ، للحكم على ما تشتمل عليه من عناصر الخطأ والصواب ، لا التطلع إلى طبيعة الأشخاص الذين يؤمنون بتلك الدعوة ، فالعقيدة لا بد أن تخضع للمعاناة الفكرية الذاتية ، لا للتقليد والمحاكاة للآخرين.

(وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) وهذا هو الأمر الثالث الذي يرونه مانعا من اتّباعه ، فهم يرون الإيمان بالرسالة امتيازا اجتماعيا يقدّمه المؤمنون للداعية ، أو للرسول ، لتبوّئه مركز القيادة للمجتمع ، فلا بد من أن يكون له بعض التميّز في المستوى الاجتماعي ، لجهة امتلاك الجاه ، أو المال ، أو القوة ، أو غير ذلك ، ليتقبل الناس الخضوع له من موقع القيمة الطبقية التي يتمتع بها ، بينما لا يمتلك نوح والمؤمنون معه ، شيئا من تلك الفضائل يصلح أساسا لاتباعهم ، (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) لأنكم لا تملكون قاعدة «صدق» تتأسس على مستوى اجتماعيّ أو موقع مالي وغير ذلك ، لذلك ليست دعوتكم سوى وسيلة من وسائل الحصول على النفوذ الذي تفقدونه ، لا الإيمان الذي تعتقدونه.

* * *

كشف الخطأ

فما ذا كان جواب نوح؟

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) ، وهو هنا يناقش ما استبعدوه من فكرة النبوّة للبشر ، ليؤكد أن مثل هذه الأمور لا تخضع لمثل هذه الطريقة في التفكير ، بل تخضع لقيمة الدلائل والبراهين التي يرتكز

٥٤

عليها الرسول ، في ما يقدّمه منها. فهو يقول لهم : هذا ما أريد أن أثيره أمامكم ، فإني أملك من البينات الواضحة على الإيمان برسالتي ما أقتنع به مصدّقا بأني رسول من الله إليكم ، فقد أعطاني الله البيّنة على ذلك وآتاني رحمة من عنده بما أفاضه عليّ من موقع الرسالة ، ووضوح الرؤية للأشياء ، الأمر الذي يجعلني في موقع القوّة ، في ما أؤمن به وأدعو إليه ، وما المانع من أن يكون البشر رسولا ، ما دامت مسئولية الرسول لا تمثل حركة في الغيب ، بل هي حركة في الواقع ، خاضعة للخصائص التي يملكها العاملون في ساحته؟! وماذا أفعل لكم إذا كنتم خاضعين للفكرة الخاطئة التي ورثتموها عن آبائكم ، فمنعتكم عن التفكير المستقل الأصيل ، لما يطرح عليكم من بيّنات وبراهين؟! (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) كنتيجة للجوّ الفكري والنفسي الخانق الذي خضعتم له ، فحجب عنكم وضوح الرؤية للأشياء ، (أَنُلْزِمُكُمُوها) ونفرضها عليكم ، إذا لم تفرضوها على أنفسكم من موقع القناعة والإيمان الصادر عن التأمّل والتفكير ، (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) مما يبعدكم عن الانفتاح على الفكر الذي يقدّم إليكم ، بعمق وواقعية وتدبّر.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) فلم أطرح عليكم تقديم أي امتياز مالي شخصي لي كأجر على الرسالة ، لتفسروا الموقف على أساس الطمع في مكاسب وأرباح يبحث عنها الآخرون في مواقف مماثلة.

(إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ، فهو الذي حمّلني مسئولية الرسالة ، وهو الذي وعدني الأجر من عنده ، في ما أعدّه لرسله ولأوليائه المجاهدين من ثواب عظيم ، يدفع الدعاة العاملين في سبيله إلى التضحية والعطاء بلا مقابل دنيوي ، (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) استجابة لما تطرحونه من طلب استبعادهم عن ساحة الرسالة في الحياة ، كأساس لتفكيركم بالإيمان بها ، لأني لا أملك أمرهم ، كما لا أملك أمر تقييم ما في نفوسهم وصدق إيمانهم من خلال الأسس التي ترتكزون عليها في الحكم على الأشياء والأشخاص ، أو من خلال الاتهامات

٥٥

التي تثيرونها حول مواقعهم ، كما أنكم لا تملكون موقع الحكم عليهم ، (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ليواجهوا النتيجة الحاسمة لموقفهم ، فهو العالم بخفايا الناس بما تختزنه من صدق الإيمان ، وجدّية المواقف ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) في طريقتكم في التحدّي ، وأسلوبكم في التقييم والحكم على الواقع.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) فهم عباد الله الذين آمنوا برسالته ، وجاهدوا في سبيل ذلك ، فاستطاعوا الحصول بجهادهم على محبة الله ورضاه ، كمظهر من مظاهر القرب منه فكيف أطردهم ، وهم أحباء الله ، وأولياؤه ، وهل تنصرونني من الله ، إن أنا طردتهم تحت تأثير إلحاحكم عليّ في ذلك؟ إنّ الله يعاقبني على هذا الموقف ، لأنه لا يرضى من رسله الإساءة إلى عباده المؤمنين ، بل يريد لهم أن يقوموا بنصرتهم ورعايتهم وحمايتهم من كل عدوّ أو حاقد.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، وتعرفون مواقع الأمور في مواردها ومصادرها ، ونتائجها الإيجابية والسلبيّة.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) لأدعوكم إلى الإيمان من خلال التأثير النفسي المعنوي أو المادي ، الذي يضغط على أفكاركم ، لتؤمنوا بي ، وعلى مواقفكم لتسيروا معي ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لأجعل من ذلك أساسا للدخول إلى قناعاتكم من خلال ما يمثّله ذاك العلم من قوّة ذاتية أمام الآخرين ، لاتصاله بالعوالم الغيبية التي تجعله محيطا بخفايا الحاضر والمستقبل وبما تضمره ، النفوس ، أو في ما تشتمل عليه قضايا الواقع ، فليس من مهمة الرسول أن يكشف للناس الخفايا من خلال النبوءات ، بل كل مهمته كشف الواقع من خلال الخطط والأعمال ، (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) لأجاريكم في اعتقادكم : بفكرة المنافاة بين البشرية والرسالة ، وضرورة أن يكون النبيّ ملكا من الملائكة

٥٦

ليكون أكثر اتصالا بالغيب ، فيصبح أكثر انسجاما مع النبوّة التي هي حالة غيبيّة ، (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) من المؤمنين الفقراء والمساكين (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) لأنهم لا يملكون موازين القيمة بحيث ينالون عندكم ما تقدمونه للآخرين من خير على أساسها ، (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) من الإيمان والصدق والإخلاص لله ، وللحياة ، والإنسان ، والله يعطيهم الامتياز والموقع اللائق بهم ، والدرجة التي يستحقونها على أساس عملهم الصالح ، (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إذا فعلت ذلك أكون ظالما لهؤلاء في الحكم عليهم بغير الحق ، وفي إذلالهم وإسقاطهم من الموقع الكبير الذي أراد الله لي وللمؤمنين أن أضعهم فيه ، في ما يفرضه إيمانهم وعملهم.

* * *

٥٧

الآيات

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)

* * *

معاني المفردات

(جادَلْتَنا) : الجدال ، والمجادلة : المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجة أو شبهة.

والفرق بين الحجاج والجدال ، أن المطلوب بالحجاج ظهور الحجة ، والمطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب.

(بِمُعْجِزِينَ) : الإعجاز : هو الفوت بالهرب.

(نُصْحِي) : تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه ، ونصحت له الود :

٥٨

أي أخلصته.

(يُغْوِيَكُمْ) : الإغواء بمعنى الإهلاك ، فالمعنى : يريد أن يهلككم.

(افْتَرَيْتُهُ) : الفرق بين افتراء الكذب وقول الكذب ، أن قول الكذب قد يكون على وجه تقليد الإنسان فيه لغيره ، وأما افتراء الكذب فهو افتعاله من قبل نفسه.

* * *

قوم نوح يطالبونه بإنزال العذاب

... وجاء جوابهم انفعاليا لا يحمل أيّة مناقشة لما طرحه عليهم من أفكار ، بل هو التشنّج والهروب من الموقف ...

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) ولا نملك أي جواب لما تقول ، ولسنا مستعدين للدخول معك في حوار ، لأننا لا نريد أن نؤمن بك وبرسالتك مهما اعتمدت من أساليب وقدمت من أفكار ، فإذا كان لك ما تهددنا به في إنذارك لنا ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب الأليم ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وهذا مظهر تحدّيهم لنوح ، لاعتقادهم أنه غير قادر على ردّ التحدّي بمثله.

* * *

المنطق الهادىء للأنبياء

ولكن الأنبياء لا يواجهون التحدّي بانفعال ، أو بإحباط ، لأنهم لا ينطلقون من موقع ذاتي ، بل يعتبرون أنفسهم مجرّد رسل يبلغون الناس ما يأمرهم الله به ، فإذا واجههم الناس بالتمرّد والتحدّي فإنهم يرفعون الأمر إلى

٥٩

الله ، لأنه موجّه إليه قبل أن يكون موجّها إليهم ، لذا كان جواب نوح صورة للموقف الرسالي الهادىء الذي لا تزلزله التحديات.

(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) لأن الله هو الذي يملك أمر إنزال العذاب بكم من مواقع قدرته ، ومنه يصدر الإنذار ، ولست إلا مبلّغا لما أرسلني به ، وقد قدّر بمشيئته التي خضعت لها الأشياء أن لكل شيء وقته ، فما مدى قدرتكم حتى تطلقوا التحدي بمثل هذه الطريقة الاستعراضية؟ وما وعيكم لقدرة الله على عباده التي جربتموها في ما مرّ بكم من مصائب وأهوال ، وما تشاهدونه من حوادث الموت والفناء في الحياة؟! (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لأنكم لا تملكون الهرب من قضاء الله وقدره ، ولا تستطيعون الوقوف أمام عذاب الله في أيّ وقت جاءكم ، وفي أيّ مكان.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) في ما أستخدمه من ترغيب وترهيب يدفعني إليه ما أحبه لكم من النجاة والنجاح ، (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) من خلال زيادة غوايتكم لأنفسكم بالجحود والتمرد ، وبالتهرب من حوار الفكر والإيمان ، مما يجعل من الغواية عن طريق الرشد نتيجة طبيعية لذلك ، في ما ربط الله به الأشياء بأسبابها ، فإن الله جعل للرشد سببا ، وللغواية سببا ، إذا أخذ الناس به كانت إرادة الله في حصوله بالسبب ، وهذا هو تفسير نسبة إرادة الغواية إلى الله ، (هُوَ رَبُّكُمْ) القادر على تغيير ما أنتم فيه بسبب غير طبيعي ، ولكن حكمته اقتضت أن تخضع الحياة في كل شيء لسننه الطبيعية التي أودعها في الكون ، ليتحرك الناس من موقع الإرادة والاختيار ، لا من موقع القهر والإجبار ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيحاسبكم علي ما قدمتم من الأعمال السيئة في طريق الغواية والضلال.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ويصرّون على اتهامه بذلك علي الرغم من براهين الصدق التي قدمها إليهم ، كأسلوب من أساليب التجريح والتشوية لموقفه.

٦٠