تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

حاجة في نفس يعقوب!

وبذلك استطاع أن يوحي لنفسه بالثقة ، فارتاحت مشاعره من الشك والقلق ، وانسابت عاطفته ، لتحتوي أولاده كلهم من جديد ، عند ما أراد أن يودعهم ، فقد خاف عليهم من حسد الحاسدين ، لما يمكن أن يثيره دخولهم دفعة واحدة إلى المجلس الذي يجتمع إليه الناس من الدهشة والإعجاب بهذه المجموعة من الإخوة الرجال الذين يملكون القوّة في الجسد والتوافق في الرأي ، والوحدة في الموقف ، فأراد أن ينصحهم بنصيحة أبويّة تبعدهم عن أجواء الحسد الذي يبعث على الكيد والتآمر من قبل الحاسدين.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) فإن ذلك قد يشكل إثارة في نفوس الحاضرين ، فيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ، (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) كي تضيع الصورة الحقيقية القوية بذلك ، ولا تلفتوا الأنظار إليكم. وليس في هذا ما يمنع القضاء إذا أراد الله له أن يحدث ، ولكنه قلق الوالد على أولاده الذي يبحث عن أية وسيلة لحمايتهم ، عبر رعايته المباشرة لهم أو عبر تزويدهم بوصايا ونصائح تكفل لهم ذلك ، (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إن أراد بكم سوءا فهو المالك لكل شيء ، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في كل أمور عباده ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري ، (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) في إرجاع كل القضايا إليه ، فهو المعوّل عليه في الشدّة والرّخاء.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأن مثل هذه الوسائل لا تمنع الخطة المرسومة التي يريد الله للناس أن يخضعوا لها في قضائه وقدره في علاقة المسبّبات بالأسباب ، فإذا أراد الله شيئا هيّأ أسبابه. وهكذا لم يرد يعقوب أن يغيّر القضاء ، أو يعطّل الأسباب (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) في ما كان يريده لهم من تحفظ يبعدهم عن المشاكل من

٢٤١

بعض النواحي. ولم نعرف ـ من خلال القرآن ـ نوعية هذه الحاجة بالتحديد ، لكن ربّما كانت حالة من الطمأنينة الداخلية التي أراد أن يعيشها في نفسه ، وربما كانت حاجته الملحة إلى رجوع يوسف إليه ، التي هيّأ الله له أسباب تحقيقها في سفر إخوته مع أخيهم غير الشقيق إليه ، الذي انتهى بلقاء يوسف وأخيه لأبيه وأمه ، وبذلك يكون الضمير في «قضاها» راجعا إلى الله ، لا إلى يعقوب ـ كما يذهب إلى ذلك بعض المفسرين ـ ، وربما كانت تلك الحاجة شيئا لا نعلمه ، مما قد يكون معلوما لدى يعقوب مما علّمه الله إياه من أسرار الغيب في ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ). ولعلّ المراد به العلم الخاص الذي يلهم الله به الأنبياء أو يوحي به إليهم من علمه ، الذي لا يريد أن يبينوه ، بل يريد لهم أن يعيشوه ، ويكتفوا في تبيانه على طريقة الإشعار أو الإيحاء لمصلحة ما هناك. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم يتعاملون في أمورهم من خلال الرؤية المحدودة للأشياء ، مما يحجب عنهم الكثير من الأسرار التي تختفي في غيب المستقبل ، أو في خلفيات الحاضر.

* * *

٢٤٢

الآيات

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(٧٦)

* * *

معاني المفردات

(آوى) : ضمّ.

٢٤٣

(تَبْتَئِسْ) : تحزن.

(السِّقايَةَ) : وعاء يسقى به.

(بَعِيرٍ) : جمل.

(صُواعَ) : مكيال.

(زَعِيمٌ) : كفيل.

* * *

خطته لاستبقاء أخيه

... ووصل الإخوة إلى مصر ، ومعهم أخوهم غير الشقيق (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) وسلّموا عليه ، وعرّفوه على أخيهم ، (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) وقرّبه إليه وحدثه بحميميّة توحي بأن هناك علاقة غير عادية بينه وبينه ، وانفرد به أو همس في أذنه بشكل مفاجئ بالحقيقة الصارخة التي هزّت أخاه الذي ربما كان قد نسي يوسف ، (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) الشقيق ، فلا تشعر بالوحدة معهم ، لما تلاقيه من اجتماعهم مع بعضهم ، وانفرادهم دونك ، (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولا تحمل همّ ما كان يصدر منهم نحوك ، فهذا أوان الفرج والانفتاح على الحياة ، من خلال المحبّة الصادقة والأخوة المخلصة الطاهرة ، ولن ترجع إليهم لتعود إلى حياة القهر والإيذاء. وأخذ يدبّر الخطة التي يستطيع بواسطتها العذر في استبقائه عنده ، والحجة التي تبرر ذلك أمامهم دون أن يضطر إلى استعمال العنف ضدّهم للوصول إلى إقناعهم بذلك ، لأنه لا يريد أن يبطل الفكرة الطيبة العادلة التي حملوها عنه.

* * *

٢٤٤

بين الغاية والوسيلة

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) وهي الصاع التي كانت تستعمل للسقاية ، فقد أمر فتيانه أن يجعلوها في متاع أخيه ، (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) وصاح صائح رافعا صوته للإعلام بوجود شيء مفقود في رحل القافلة ، (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي القافلة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ).

هل ذلك حكم عليهم بالسرقة؟ ولكن كيف ذلك وهم لم يسرقوا؟ هل هو وارد على سبيل التورية؟ على أساس سرقتهم ليوسف من أبيهم ، وبيعهم له ، أو أنه مجرد توجيه للتهمة من ناحية شكليّة على سبيل الاستفهام ، من أجل الوصول إلى ما توخاه يوسف من احتواء أخيه عنده؟ وقد لا يكون في ذلك أيّة مشكلة ما دامت الغاية نظيفة ، والوسيلة لا تضر أحدا ، لأن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد ضغط نفسيّ على إخوة يوسف ، بما يتضمنه الموقف من إحراج لهم أمام أبيهم ، ولكنه لا يؤذيهم في شيء ، بل قد ينفّس عقدتهم ضد يوسف وأخيه ، فقد تكون هذه الحادثة فرصة للتشفي من هذا الأخ الذي حل محل يوسف في قلب أبيه دون أن يملكوا فعل شيء حياله ، لا سيما أن الأب ما زال يعيش همّ يوسف في نظراته إليهم التي لا تخلو من ملامح الاتهام.

وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة ، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهميّة ، لأنها بذلك تنظّف الوسيلة ، وتطهّرها. وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتهامهم بالسرقة ، وفوجئ هؤلاء الشباب بالتهمة ، فهم لم يسرقوا لأنهم ليسوا بحاجة إلى السرقة ، بالإضافة إلى أنهم يعرفون ما فعلوا ، الأمر الذي يثبت براءتهم ، أما أخوهم غير الشقيق فليس في تاريخه حالة سرقة ، مما جعلهم يجزمون بأن التهمة ناشئة من سوء تفاهم ، أو من سوء فهم للواقع. لقد كان النداء صدمة كبيرة لهم ، ومفاجأة سيئة.

٢٤٥

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) حتى تتهمونا بالسرقة؟ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) وهو صواع مميز لا يمكن أن نتسامح به ، لأنه يخصّ الملك ، لذا فإن الحصول عليه أمر غاية في الأهمية ، ولمن يأتي به جائزة كبيرة ، (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام ، (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل ، قالها المنادي للإيحاء بالثقة بأنّه هو يضمن حصول من يأتي بالصواع على الجائزة ، إذا لم يستطع الوصول إلى الملك الذي أمر بها. وربما كان في ذلك ما يخفّف من وقع التهمة ، فقد تحرك إعلان المنادي بالشكل الذي يوحي وكأن فقدان الصاع قد لا يكون نتيجة سرقة ، بل نتيجة ضياعه بين الأدوات خطأ ، أو شبه خطأ ، ولهذا حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم ، ويظهروا براءة ساحتهم.

* * *

التدبير الإلهي الخفي

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) فقد عرفتم سلوكنا وطريقتنا في التعامل معكم ، وربما يذكر بعض المفسرين أن إخوة يوسف أعادوا البضاعة التي وضعها يوسف في رحالهم ظنا منهم أن في الأمر خطأ ما ، مما يوحي بأمانتهم. ولكن مثل هذا غير دقيق ، بلحاظ كلامهم مع أبيهم الذي كان يوحي بأنهم كانوا مقتنعين بأن هذه البضاعة قد ردّت إليهم ، إحسانا وترغيبا لهم في الرجوع. ومهما كانت المسألة ، فها هم يقفون ليشهدوهم بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض بالعبث بأملاك الملك عن طريق السرقة ، (وَما كُنَّا سارِقِينَ) في الماضي لنسرق في الحاضر ، لأن ذلك ليس من أخلاقنا ولا من عاداتنا. ولم يعلق فتيان يوسف على ذلك ، بل تركوا لهم أن يتحدثوا بما يشاءون.

ولكنهم بوحي من يوسف الذي كان يعرف شريعة يعقوب في عقاب

٢٤٦

السارق ، سألوهم عن ذلك ، (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في دعواكم الأمانة ، وإنكاركم للسرقة ، لأننا لا نريد أن نعاقب السارق بمقتضى شريعتنا ، بل نريد أن نلزمكم بما تفرضه شريعتكم ، لتعلموا أننا لا نقصد استغلال موقعكم الضعيف عندنا بأن نفرض عليكم ما نريد ، بل نترك الأمر لكم في اكتشاف المسألة وفي الحكم عليها. (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) وذلك بأن يسترقّ ويستعبد ، أو يؤسر ليفعل به صاحب المال ما يشاء ، وتلك كانت شريعة يعقوب في معاقبة السارق ، (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا غيرهم بالاعتداء على ماله ، وظلموا أنفسهم بالانحراف عن أمر الله.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) ليبدو الأمر طبيعيا لهم ، فلا يثير أيّ شك لديهم بوجود خطّة لإبقاء أخيه ، فلم يجد في أوعيتهم شيئا مما أثار في نفوسهم الاطمئنان إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون اشتباها. وهنا كانت المفاجأة التي تنتظرهم : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) ووقفوا جميعا أمام هذه الصدمة الكبيرة لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يفسرون الأمر بعد أن واجهتهم الحقيقة الصارخة.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) ودبّرنا له الحيلة في الوصول إلى هذه النتيجة السعيدة التي كان يحبّها ويرتضيها ، إنه التدبير الإلهي الخفي ، (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأن دين الملك وشريعته أن يسجن السارق أو يعاقبه ، ولكن الله ألهمه أن يلزمهم بما تفرضه شريعة يعقوب ، فحصل على ما يريد ، ولعل هذا هو المراد بقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فإذا شاء أمرا هيّأ أسبابه ، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما رفعنا مكانة يوسف بالعلم والتقوى ، فبلغ ما بلغه من الشأن ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) حسب ما تفرضه طبيعة اختلاف الدرجة في المعرفة ، وربما كان في هذا بعض الإيحاء بما يميز يوسف عن إخوته في العلم ، لأنهم كانوا يحملون بعض العلم حسب ما ذكر المفسرون.

* * *

٢٤٧

الآيات

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٠)

* * *

معاني المفردات

(اسْتَيْأَسُوا) : يئسوا.

(خَلَصُوا) : انفردوا عن الناس.

(نَجِيًّا) : متناجين متشاورين.

(فَرَّطْتُمْ) : قصدتم.

٢٤٨

(أَبْرَحَ) : أفارق.

* * *

خطة يوسف عليه‌السلام والهدف الكبير

... وأسقط في أيديهم أمام هذا الدليل الصارخ ، والحجة القاطعة ، ولكنهم أرادوا وضع أنفسهم في موقع يميزهم على صعيد مستوى الأمانة والشرف عن أخويهم الآخرين من غير أمّهم لئلا تنزل مكانتهم عند العزيز ، وكأنهم يريدون أن يقولوا له : لقد أتينا إليك في المرة الأولى ، ولم يحدث فيها ما حدث الآن ، لأننا لا نقوم بمثل هذه الأعمال التي قام بها أخونا هذا وأخوه ، الذي سبقه إلى القيام بهذا العمل ، من قبل ، ولكنها إرادتك الحاسمة التي فرضت علينا المجيء به إليك ، دون أن نعرف طبيعة العدوى التي سرت إليه من أخيه. ربما كان هذا ما كانوا يفكرون به عند ما تحدثوا مع يوسف بهذه الطريقة.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وحاول المفسرون أن يبحثوا في تاريخ يوسف عن هذه السرقة التي ألصقوها به ، كما لو كانت حقيقة ، ولم يدر في أذهانهم ، أن المسألة قد تكون مجرّد كذبة استثارها حقدهم على يوسف وأخيه ، وعقدتهم التي يحملونها في داخل نفوسهم. وإلّا فما معنى الحديث عن يوسف ، وما المناسبة التي تفرضها طبيعة المشكلة التي يعيشونها في مسألة السرقة ليتحدثوا بهذا الأسلوب؟!

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) وحاول أن يسيطر على انفعالاته التي كاد أن يطلقها لتواجههم بأكاذيبهم ، ولترد لهم الكيل كيلين ، لأنه

٢٤٩

لا يريد لخطته التي رسمها للوصول إلى هدفه الكبير في ضم أخيه إليه ، واستقدام أبويه ، وحلّ المشكلة نهائيا بينه وبين إخوته أن تفشل ، مع ما يتضمن ذلك من معاناة كبيرة في الضغط على المشاعر وتحمّل المتاعب ، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ واجههم من موقعه الكبير ليحمّلهم المسؤولية كمجموعة ، لأنهم يتحملونها في العمق ، في تاريخهم معه ، وإن لم يكونوا مسئولين عن السرقة في ما دبر أمره. لقد أطلق الكلمة الصارخة التي تدينهم ، وتبعد أخاه ، كما تبعده ـ هو ـ عن مجرى اتهاماتهم ، (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) في تفكيركم وعملكم ، فليس لكم أن تواجهوا المسألة بهذه الطريقة التي تحاولون ـ من خلالها ـ أن تلصقوا الشرّ بالآخرين ، وتبرّئوا أنفسكم منه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) في ما تتهمون به الآخرين.

* * *

خذ أحدنا مكانه

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) ولا بأس بأن تتجاوز حرفيّة القانون نظرا للظروف الصعبة التي تحيط بهذا الأخ ، لأن له أبا شيخا يرتبط به ارتباطا عاطفيا قويا فوق مستوى العادة ، بحيث يشكل احتجازه بالنسبة له صدمة عنيفة قد تودي بحياته. فإذا كانت المسألة تمثل لديك حالة ثأر واقتصاص ، فمن الممكن أن يتحمل أحدنا المسؤولية عنه ، لأننا نمثل مجموعة واحدة ، إذا أساء أحدنا فكأن الآخرين أساءوا أيضا ، ولك على هذا الأساس أن تأخذ أيّ واحد منا ، فلا تتحمل أية مسئولية شرعية سلبية نتيجة ذلك ، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يتغلب فيهم جانب الرحمة على جانب الانفعال ، فيتحركون من مواقع الإحسان إلى من حولهم ، في ما يتمثل في سلوكهم من الرأفة واللطف ، ومراعاة الظروف المحيطة بكل قضية ، بكل واقعية وبكل مرونة وإخلاص.

٢٥٠

ولكن يوسف يتمسك بحكم الشريعة ، فلا يريد أن يتجاوز حرفيّة النص لأنه لا يوافق على ذلك ولا يجد مبرّرا له. أما العاطفة ، فإنها لا تمثل شيئا أمام تطبيق الشريعة ، والاستسلام لها قد يعطّل حالة التوازن في العدالة التي يريدها الله لعباده ، في أحكام شريعته. (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) لأن هذا من الظلم الذي لا نوافق على اقترافه ، (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) وهذا ما لا يمكن أن نتحمل مسئوليته أمام الله. وهكذا حسم يوسف المسألة فلم يترك لهم مجالا للأخذ والرد.

* * *

هو خير الحاكمين

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) واجتمعوا مع بعضهم يتداولون الرأي ، حول ما يمكنهم القيام به لمواجهة حرج موقفهم من أبيهم ، (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) فإذا كنتم لا ترون في هذا الميثاق الذي أخذتموه على أنفسكم ، أمام الله ما يلزمكم بالبقاء ، لملاحقة قضية أخينا ، والحفاظ عليه ، فإني أرى نفسي ملزما بمتابعتها ، ما أمكنني ذلك ، ولن أعيد التجربة السابقة في التفريط بأخي هذا ، (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) وبعتموه بثمن بخس ، وتركتم مصيره للضياع ، فلا نعلم الآن عنه شيئا ... وربما يتكرر الأمر مع أخيه ، فيضيع في أجواء الاسترقاق ، كما ضاع أخوه ، (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الذهاب إليه ، لأكون في حلّ من عهدي ، بعد ما أكون قد قمت به من جهد في سبيل تخليص أخي ، (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بأن يفتح لي أبواب النجاح ، أو أبواب العذر ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) بما يدبّره من أمر عباده.

* * *

٢٥١

الآيات

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٨٧)

* * *

معاني المفردات

(سَوَّلَتْ) : زينت.

(كَظِيمٌ) : الكظيم : الممسك للحزن في قلبه لا يبثه إلى غيره تعالى.

٢٥٢

(حَرَضاً) : مشرفا على الهلاك.

(بَثِّي) : البث : الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه.

(فَتَحَسَّسُوا) : التحسس : طلب الشيء بالحواس كالسمع والبصر.

* * *

الصدمة الكبيرة

... وبقي كبيرهم هناك ، التزاما بعهده ، وتخلّصا من الموقف المحرج أمام أبيه ، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم ، ليخبروه بتفاصيل ما حدث بالطريقة الحكيمة الحاسمة : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) فقد شاهدنا القوم يخرجون صواع الملك من متاعه ، (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) عند ما أعطيناك الميثاق بشكل مطلق ، فلم نكن نعرف في ظل الأجواء العاطفية التي تحجب الرؤية أنه يمكن أن يسرق. ولكنّ الواقع فاجأنا بغير ما نتوقع ، وهذا ما جعلنا نواجه الحقيقة معك ، لنتحمل مسئوليتنا أمام هذه الحادثة التي تهزّنا وتحطمنا ، على المستوى النفسي ، جميعا.

وربما لا تجد لديك أيّ أساس للثقة بنا ، ونحن لسنا في صدد الدخول معك في نقاش حول ذلك ، فهو أمر لا يصل بنا إلى أيّة نتيجة ، ولكن المسألة لم تحدث في زاوية خفية من زوايا مصر ، بل حدثت في الساحة العامة حيث تجتمع القوافل للتموين وللشراء وللانطلاق ، وحيث يلتقي أهل البلد ، والقادمون إليها ، ونحن ، ندعوك إلى سؤال الناس كلهم هناك ، والقافلة التي كنا فيها من منطقتنا ، فإذا كنت لا تثق بنا ، فهل تفقد الثقة بكل هؤلاء؟!

٢٥٣

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) بجميع من يعيش فيها من أفراد ، (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي القافلة التي تضمّ الإبل ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في كلامنا عن أخينا وما حدث لنا بسببه من الخزي والعار ... لقد علّمهم كبيرهم أن يقولوا ذلك لأبيهم ، كي يحاصروا بذلك كل جوانب الرفض عنده ، فدخلوا على أبيهم ، وتحدثوا إليه بذلك كله ، وكان ذلك بمثابة الصدمة الكبيرة له ، ولكنه يعرف أخلاقيّة ولده ، فقد ربّاه أحسن تربية ، ورعاه أفضل رعاية ، وخبر كل ما يحمله من خلفيات طيّبة ، ولذلك فقد كانت حكاية سرقته لصواع الملك أمرا لا يمكن أن يصدّق ، لأن السرقة ليست خلقا لديه ، ولا تمثّل حاجة عنده ، فلما ذا يسرق؟ وكيف ذلك؟

* * *

الصبر الجميل والإحساس بالفرج

لهذا كان رد فعله مختلفا عما كان أولاده يأملونه ، بعد تقديم كافة البراهين له ، (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) إن هناك شيئا ما في هذه القضية ، ولا بد من وجود خلل ما في بعض التفاصيل ، فهو لا يثق بأولاده ، بعد ما صدر عنهم في قصة ولده يوسف. إنّ هناك غموضا في الجوّ ، وعليه أن يتماسك أمام الفاجعة ، فلا يواجهها بالانفعال السريع ، بل بالصبر ، لذا أعلن لهم عن مشاعره ، وموقفه ، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وللصبر نتائجه الطيبة على مستوى عواقب الأمور ، واستطاع الصبر أن يفتح قلبه على آفاق الفرج الكبير في ساحات رحمة الله.

وها هي صورة يوسف تلمع في ذهنه فلا يلمح فيها أيّ شحوب يقربها من أجواء الموت ، وها هي صورة أخيه تلتقي بصورته ، فهل هي صدفة أو أن هناك وحيا ربّانيا يهمس في قلبه أن المشكلة تقترب من الحل ، وأن اللقاء بهما قريب ، وأنّ شمل العائلة سيجتمع في الأجواء الحميمة التي تخفّف الآلام ،

٢٥٤

وتصفّي القلوب؟؟ وهذا ما عاشه يعقوب كنبيّ يستشرف الغيب ، في مثل لمعة الضوء الخاطفة ، (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) إنه الإحساس العميق بالفرج القريب الذي يستمده من الله ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي يعلم خفايا الأمور ، ويدبّر خلقه برحمته ، ويحتوي حياتهم بحكمته.

* * *

كظم الحزن

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وأعرض بوجهه عنهم ، وغرق في أمواج الذكريات ، وتحركت عاطفته ، وانسابت الدموع في قلبه ، قبل أن تتفجر في عينيه ، وتذكر يوسف ، (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) فقد كان قرّة العين ، وثمرة الفؤاد ، بما يحمله من المعيّة الفكر ، وروحانية الروح ، وجمال النفس والجسد ، (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) لما كان يذرفه من دموع حارّة حزينة حتى فقد بصره ، ودمعه كان ينساب بهدوء ، كتعبير صاف عن عمق الحزن ، لكن يعقوب لم يجزع ولم يثر أية مشكلة لمن حوله ، (فَهُوَ كَظِيمٌ) يكظم حزنه ويحبسه ، ولكنه يعيشه وحده ، في خلوات وحدته.

* * *

الشكوى إلى الله

وفوجئ أولاده بحديثه عن يوسف ، فقد أصبح شيئا قديما جدّا ، وانتهى كحقيقة ، لقد أصبح ذكرى ميتة ، فما باله يعيدها إلى الحياة ليربك حياتهم من جديد ، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذنب؟ ولهذا واجهوه بعنف يتوسل أن يرحم نفسه أو أن يرحمهم ، لما اختزنوه من شعور بالألم : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تنفك تذكر يوسف الذي ذهب في ذمة التاريخ ، وانقطعت أخباره حتى يئسنا جميعا من عودته مما يجعل الحديث عنه ، أمرا لا

٢٥٥

فائدة منه ، كما أنه لا فائدة من السعي للبحث عنه. وهكذا أرادوا أن يقولوا له إن الإلحاح في استثارة الحزن من خلال استثارة الذكرى لن ينتهي (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي مشرفا على الهلاك ، (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) الذين تسقطهم الصدمة النفسية في قبضة الموت.

ولكنه جابههم بأن الأمر لا يعنيهم ، وهو لا يشكو إليهم أمره ، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أولا ، ولا يستطيعون أن يقدّموا له شيئا ثابتا ، بل يشكو أمره إلى من يسمع شكواه ويملك أن يحل مشكلته ، (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) وهو الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه ، (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لأن معرفتي بالله ، وما يفيضه على عباده من رحمته ، وما يتّسع له لطفه ، يجعلني كبير الثقة بمصير يوسف ، لأنه إذا ابتعد عن رعايتي له ، فإن رعاية الله ولطفه يفوق كل ما أختزنه له في قلبي من حبّ ورحمة. وإذا كنت أحزن ، أو أعيش الهمّ ، فلأن جانب الضعف في الإنسان يخلق لديه ، من خلال التفكير بالتفاصيل ، مشاعر سلبية تثير شجونه ، وتدمّر استقراره النفسي. وهكذا بدأ الأمل يخضرّ في نفسه ، وينمو مع روحانية الحديث الذي كان يعيشه في مناجاته لله ، حتى كاد أن يلامس مصير يوسف المشرق ، كما لو كان يراه. ولهذا طلب من أولاده ، أن يعودوا إلى مصر من جديد ليبحثوا عنه ، حيث تركوا أخاه ، لأن في داخله إحساسا لا يعرف حقيقته ، بأن يوسف قد التقى بأخيه ، وأنّه من الممكن أن يجدوه حيث يوجد أخوه.

* * *

لا تيأسوا من روح الله

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) واطلبوه بكل ما تستطيعون توسله من أساليب تتحرك فيها حواسكم السمعية والبصرية ، فلعلكم تواجهون المفاجأة التي لا تخطر لكم على بال ، (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) وفرجه ، لأن

٢٥٦

المؤمن يبقى واثقا بالله في كل أموره مهما ضاقت عليه الأحوال ، ومهما تعقّدت من حوله الظروف ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لأن اليأس من الفرج لا يخلو من أحد أمرين ، إما الشك بقدرة الله ، وإما الشك بعلمه ، لأن الذي يمنع من حل المشكلة هو العجز عنها ، أو عدم معرفة أبعادها ، وكلاهما كفر بالله ..

* * *

اليأس يوجب الكفر

وهذا ما قرّره الرازي في تفسيره حيث يقول : «واعلم أن اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بكريم ، بل هو بخيل ، وكل من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، فإذا كان اليأس لا يحصل إلّا عند حصول أحد هذه الثلاثة ، وكل واحد منها كفر ، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا ...» (١)

ومن خلال ذلك نعرف أن القرآن الكريم أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان بإعادته إلى إيمانه لينطلق معه في وعي ويقظة كبيرين ، يجعلانه يشعر بالأمل الذي يتفجر من ينابيع الإيمان كمثل الشعاع المنسكب من قلب الشمس في روعة الشروق.

وبهذا يلتقي الإيمان بالأمل في وحدة رائعة تجعل الروح التي تشع أحدهما على الإنسان ، تشع على الآخر أيضا كما هي حال كل شيئين متلازمين في الوجود.

__________________

(١) الفخر الرّازي ، التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي ، ط. الثالثة ، م : ٧ ، ج : ١٨ ، ص : ١٩٩.

٢٥٧

أما اليأس فجذوره الكفر وإن لم يشعر الإنسان به بشكل مباشر. وعلى ضوء هذا ، فإن على الإنسان الذي يعيش اليأس في قلبه ، أن يعيد النظر في إيمانه ، ليعرف إن كان منطلقا من أساس متين ، أو لا.

وربّما كان في طلب يعقوب منهم أن يتحركوا في ساحات العمل ، حتى في حالات اليأس بعض الإيحاء بأنّ على الإنسان ألّا يستسلم لحالة اليأس عند ما تحتل داخله ، ولا يحاول في سبيل الوصول إلى مواقع الأمل أن ينطلق في حالة تجريدية ، بل ينبغي له ، أن يتحرك على الأرض ويحرك الإمكانات المتوفرة لديه ، ليصل إلى الأمل الكبير من خلال الحركة المتصلة بالحياة المتحركة من حوله. وبذلك يتخلص الإنسان من عوامل اليأس النفسية ، بخطوات العمل الواقعية ، لتنعكس المسألة عنده ، فإذا كان التصور الأسود يجمّد أمام الإنسان حركة الحياة ، فإن الحركة تحوّل الحالة النفسية المظلمة إلى حالة مشرقة من خلال المقولة التي تجعل التجربة في خدمة الفكرة ، بدلا من أن تكون الفكرة حاجزا أمام التجربة.

* * *

٢٥٨

الآيات

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩٣)

* * *

معاني المفردات

(الضُّرُّ) : المجاعة.

(بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) : البضاعة المزجاة : الرديئة أو القليلة.

(آثَرَكَ) : اختارك وفضلك.

٢٥٩

(تَثْرِيبَ) : التثريب : التعنيف والعقوبة.

* * *

همّهم الطعام

ورجعوا من جديد إلى مصر بعد أن أمرهم أبوهم أن يعودوا إليها. ولم يكن همّهم البحث عن يوسف وأخيه ، بل كان كل همّهم أن يبحثوا عن الطعام ، لنفاده لديهم ، وعدم وجود ثمن يكفي لشراء ما يحتاجونه منه ، ولهذا كانت طريقتهم في العرض والطلب ، توحي بالاستعطاف والمسكنة.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) وحاصرتنا المجاعة من كل جانب ، وكبرت حاجتنا إلى ما عندك من الطعام ، (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي رديئة أو قليلة لا تتناسب مع ما نريده منك من حيث الكمية أو النوعية ، (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) ولا تنقص منه شيئا من موقع كرمك ، (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) ولا تطلب منا المساواة في البدل ، من موقع إحسانك ، (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) الذين يبذلون أموالهم للفقراء بلا مقابل حبّا بالله ، وتقرّبا إليه ..

* * *

يوسف عليه‌السلام يحاكمهم

وانتظروا أن يتجاوب مع ما طلبوه بعض الشيء ، وأن يتحدث معهم في التفاصيل ، وربما كان يدور في ذهنهم ، أنه سيعترض على ذلك ، أو يفرض عليهم بعض الشروط ، ولكنهم لم ينتظروا أن ينقلهم إلى حديث يوسف وأخيه ، وأن يحاكمهم على ما فعلوه معهما في الماضي.

٢٦٠