تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

تحمل إلّا الإثارة في عالم الضباب ، وتلك هي أساليب الكفر والضلال في مواجهة بيّنات الهدى والإيمان ، كجزء من حركة الصراع في ساحة الدعوة والتحدي ...

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي إلى مجموعة معينة من السنين ، تبعا للحكمة الإلهية في عالم العقاب والثواب في الكون ، في ما يريده الله من تخطيط النظام فيه ، (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) في استفهام تعجيزيّ ، يقصدون به استعجال العذاب في أسلوب من التحدّي والسخرية والإنكار ، ولكن الله يقرر الحقيقة الحاسمة التي تحكم هذه الأمور ، فلكل شيء وقت محدود ، فإذا جاء وقته فلا بد أن يتحقق ما يريده الله ، (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لأن إرادة الله لا تنفك عن المراد ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وحلّ بهم العذاب الأليم الذي سخروا منه ، وواجهوا الحقيقة الحاسمة التي لا مفر منها.

* * *

٢١

الآيات

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١)

* * *

معاني المفردات

(أَذَقْنَا) : الذوق : مصدر : ذاق ، أي تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم ، وسمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها ، تشبيها بما يذاق ثم يزول. وقد يكون المراد هنا : خبر نعم الله واختبرها.

(نَزَعْناها) : النزع : قلع الشيء عن مكانه.

(لَيَؤُسٌ) : فعول من يئس ، واليأس : القطع بأن الشيء المتوقع لا يكون ، ونقيضه الرجاء.

(نَعْماءَ) : النعماء : أنعام أو نعم أثرها على صاحبها.

٢٢

(ضَرَّاءَ) : الحالة التي تضرّ ، كالفقر والشدّة والعذاب ، وهي نقيض السّرّاء.

(السَّيِّئاتُ) : المراد بالسّيئات بقرينة المقام : المصائب والبلايا التي يسوء الإنسان نزولها عليه.

(فَخُورٌ) : فعول من فخر يفخر ، وهو الذي يكثر فخره ، بتعداد مناقب نفسه ، وهذه صفة ذم لما فيها من التكبير على من لا يجوز أن يتكبر عليه.

* * *

سلبيات الإنسان قابلة للتغيير

للإنسان خصائصه السلبية في نظر القرآن ، لوجود نقاط ضعف في شخصيته الداخلية ، تنعكس على مواقفه العملية في الخارج. وتتنوّع هذه الخصائص السلبية تبعا لتنوّع نقاط الضعف ، ولكنها مهما تنوّعت وامتدت في حياته ، فإنها لا تمثل خصائص لا تنفصل عن حركة الذات في وجودها ، لتكون ضريبة لازمة للإنسان في حياته ، بل هي من الخصائص القابلة للتبديل والتغيير ، بفعل التربية والممارسة والوعي المنفتح العميق.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) من الصحة والأمن والغنى والعلم وغير ذلك ، فعاشها مدّة من الزمن ، يتقلب في نعمائها وينهل من لذائذها ، ويستمتع بخيراتها ، جاهلا بأنّ هذه النعم إلى زوال ، لأن سنّة الحياة قائمة على التغير والتبدّل ، واستسلم في ظلها لأحلامه ، كما يستسلم الحالمون إلى الأجواء السحريّة اللذيذة ، وجاءت المفاجأة لتطوي صفحة وتفتح أخرى ، فقد أذقناه حلاوة النعمة فترة من الوقت (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) ، فإذا بالصحة تنقلب إلى مرض ، والأمن إلى خوف ، والغنى إلى فقر ، والعلم إلى جهل ونسيان ...

٢٣

فكيف كان شعوره أمام ذلك كله؟ هل يتقبّله بعقل واع منفتح ، يدرس الظاهرة الإيجابية الماضية من خلال أسبابها ، ويناقش الظاهرة السلبية الحاضرة ، من خلال مؤثراتها الواقعية ، مما يجعله يواجه النتائج في كلتا الحالتين بعقلانية هادئة تتحرك فيها حسابات الشعور من خلال حسابات العقل؟ أو أنه يواجه المسألة بالانفعال العنيف الباحث عن الأجواء المأساوية ليغيب فيها ، وعن العنف المتمرّد ليتحرك فيه؟ إن النتيجة هي اختياره للجانب الثاني ، لأن عنصر الانفعال أقوى لديه من عنصر العقل ، (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) فلا يخضع الأشياء للدراسة الواقعية ليفهم أن من الممكن للمشكلة أن تجد الحلّ ، وأن الحالة الصعبة قد تتحوّل إلى حالة سهلة ، وأن العسر قد يتحول إلى حالة إشراق ينطلق في أجواء الضياء. وهو لا يلجأ إلى منطق الإيمان ليعرف أن قدرة الله لا تقف عند حدّ ، فلا مجال لليأس أمام قدرته ، بل يبقى الأمل في خضرة دائمة ، ونموّ مستمرّ ، ولذلك فهو يسقط في وحول اليأس ، ويتخبّط في ظلمات الكفر ، فيعيش في قلب الدوّامة إلى غير قرار ، هذا في الحالة الإيجابية التي تتحول إلى حالة سلبيّة.

* * *

الزهو المتكبر والشخصية المهتزّة

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) فحصل على الصحة بعد المرض ، وعلى الغنى بعد الفقر ، وعلى الأمن بعد الخوف ، وانطلقت الإشراقة الروحية في حياته ، لتبدّد الظلمة التي عاشت في أحداقه مدة طويلة من الزمن ، فاستسلم للخير المستجد في حياته ، استسلام الاسترخاء الذي يبحث عن أرض يتمدّد عليها ، لا عن تجربة يستفيد منها ، في ظواهر قابلة للتغيير والتبديل ...

٢٤

وهكذا سيطرت عليه الغفلة ، فلم ينفتح على مخاوف المستقبل ، ولم يتحفظ أمام المفاجآت ، (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) انفتحت الحياة أمامي بكل مجالاتها الواسعة ، فلا انغلاق ولا ضيق ، فليفتح المستقبل لي كل أبوابه ، لأن موعد الشروق قادم بكل امتدادات الحياة ، (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) ، ليس هو الفرح الهادىء الذي يستمتع بالنتائج الحاضرة بطريقة لا أثر فيها للبطر وللخيلاء ، بل هو الفرح المتحرك بالزهو الاستعراضي المتكبّر ، الذي يعمل على الإيحاء بعظمة الذات ، وسحر الشخصية ، كما أنه ليس الفخر الواقعي الذي يقف أمام حدود القيمة داخل حركة الحياة من حوله ، بل هو الفخر المتعاظم بالمجد الضخم الذي ارتفع إليه من دون بحث عن مواقع القيمة في حركة الحياة الواقعية ، وتلك هي الشخصية المهتزة الواقعة في مهب الريح ، فلا مجال لديها لأيّ استقرار في الفكر والشعور والموقف ، لفقدانها القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها في انفعالها بالأحداث ، وفي تأثّرها بالقضايا ، وفي التزامها بالمواقف ، وذلك هو سرّ الضعف في عمق هذه الشخصية القلقة غير المتوازنة.

* * *

الصابر لا يطغيه الربح ولا تصرعه الخسارة

ولكن هناك نوعا آخر من البشر ، يملك الإيمان إلى جانب العقل ، والتركيز إلى جانب العلم ، فهو يفهم الحياة كنوع من الانفتاح والوعي والواقعية ، وبذلك ، فإنه يستطيع الوقوف بعيدا عن الاهتزاز ليثبت على الأرض الصلبة ، المتصلة بالعمق الأعمق من قوّة الحياة في الإيمان .. وهؤلاء هم المؤمنون الصابرون ، الذين انفتحوا على الصبر من خلال الإيمان ، وارتبطوا بالإيمان من خلال مواقع الصبر ، والتزموا بخط العمل الصالح ، على أساس

٢٥

ذلك كله.

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) ففهموا سرّ الحياة من خلال الهدوء الذي يصنعه الصبر الإيجابي في داخل الشخصية ، وفي رؤيتهم أنّ الحياة بكل مظاهرها المفرحة والمحزنة ، خاضعة لعوامل وأسباب طبيعية أودعها الله في سننه الكونية ، فإذا جاء الخير ، فإن معنى ذلك أن أسبابه متوفرة ، وإذا جاء الشر كان معناه ، أن الإمكانات لا تسمح بولادة الخير في الحياة وفي الإنسان ، تماما كما يجيء الليل وهو يحدق بالنهار ، أو يشرق النهار وهو يحمل في داخله تهاويل قدوم الليل ، فلا مشكلة مطلقة هنا ، ولا حل مطلق هناك. بل هناك الواقعية الصافية التي تواجه الأرباح بصبر ، فلا يطغيها الربح ، كما تواجه الخسائر بصبر ، فلا تصرعها الخسارة ، وهؤلاء هم الذين صبروا ولم يتزلزلوا ، بل ثبتوا أمام المتغيّرات في الحياة ، واعتبروها مسئوليّة محدّدة سواء تعلقت بحياتهم الشخصية ، أم بحياة الناس العامة ، وهذا ما عاشوه عند ما صبروا وتحمّلوا نتائج المسؤولية (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فجزاهم الله عن ذلك خيرا كثيرا ، ورفع درجتهم عنده ، لأنهم أخلصوا له العبوديّة بالقول والعمل ، (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ، وتلك هي نهاية الصابرين العاملين الصالحين.

* * *

٢٦

الآية

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٢)

* * *

معاني المفردات

(وَضائِقٌ) : فاعل من ضاق ، بمعنى ما يضيق به صدرك ، وضيق الصدر : كناية عن الغمّ والحزن.

(كَنْزٌ) : ما يدخر من المال ، وهو في الشرع كل مال لا يخرج منه حق الله تعالى من الزكاة وغيرها.

* * *

طروحات استعراضية للتشكيك بالدعوة

... وينطلق الحديث بوضوح عن المشاكل التي تعترض مسيرة النبيّ في رسالته ، فتعمل على خلق جو نفسي متأزّم له أمام ما تثيره التحديات الكافرة من

٢٧

مقترحات تعجيزيّة ، لا يستهدف أصحابها منها حلّ مشكلة فكريّة ، أو إزاحة شبهة إيمانيّة ، بل يستهدفون إغراق الرسول بالطلبات التي لا تمثّل شيئا في طبيعتها أمام الرسالة في مفاهيمها وقضاياها ، وشرائعها ، بغرض شغل الداعية عن مهمته ، وإبعاده عن هدفه ، فيضيق صدره ، وربما يفكر بالتراجع عن بعض ما يريد إثارته ، لأنه لا يشعر بالتجاوب منهم ، بل يرى ـ بدلا من ذلك ـ تشويشا وتشويها ، وتلاعبا بالمواقف ، وابتعادا عن الجدّية ، وتهرّبا من المسؤولية في جوّ من اللّامبالاة ، يوحي بأن الدعوة لن تحصل على نتيجة ، فلما ذا يتعب نفسه ، ويجهد بدنه بما لا طائل منه.

وتلك هي الصورة التي واجهها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ما كان يطرحه الكفار من طروحات استعراضية للإيحاء أمام الآخرين ، بضعفه في دعوى نبوّته ، لأنه لا يملك أسباب القوّة التي يعتبرونها علامة للصدق ، في حركة الأنبياء ، وهي ـ في زعمهم ـ القدرة على تغيير الظواهر الكونية ، واجتراح المعجزة استجابة لأيّ اقتراح يقترحه الآخرون. وذلك هو الخطأ الذي قد يعرفونه ولا يجهلونه في التصور ، يتظاهرون بالاعتقاد به ، ليخفوا حقيقة القصد السيّئ ، من وراء طروحاتهم ، فإن النبيّ لا يحمل مهمّة تغيير الكون في طواهره ، بل يتحمل مسئولية تغييره في مناهجه وطريقة التفكير ، والعمل في خطواته الفكرية والعملية ، من خلال التبليغ والتبشير والإنذار ... ويبقى لله أمره ، في ما يقضي وفي ما يفعل ، لأنه المسيطر على ذلك كله.

* * *

مقترحات الكفر

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) ممّا لا يتقبله الكافرون ، ولا ينسجم مع أفكارهم وأهوائهم ، ولا يتوافق مع مصالحهم وأجوائهم ... ، لتضمن

٢٨

بذلك رضاهم عنك ، أو لتوفر على نفسك موقف الرفض الذي يوحي به التحدّي الصادر منهم ، ليستريحوا إلى دعوتك في القضايا الأخرى التي لا تثير لديهم مشاكل كثيرة ، لأنها لا تتناول القضايا الحيويّة في واقعهم ، وهذا ما يفعله بعض العاملين من الدعاة إلى الله ، إذ يهملون بعض مسائل الدعوة وأفكارها ، ليحصلوا على النتائج الإيجابية في أصل الموقف ، أو بعض تفاصيله البسيطة التي لا تثير أحدا ، ليكون ذلك هو المدخل إلى قناعات الآخرين وأفكارهم ، لأن الحصول على بعض الموقف المؤيد منهم ، أفضل من خسارة الموقف كله. وربما كانوا خاضعين في ذلك ، لحالة نفسية انهزاميّة ، تدفعهم إلى التراجع الجزئي عن خط الدعوة ، لضمان التأييد والمحبة والرضى من مجتمعهم ، الذي لا يطيقون إهماله أو غضبه.

(وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) في ما يثيره داخل نفسك من حالات الحرج الشديد ، والمشقة الكبيرة ، تحت ضغط الصراع الداخلي بين ما تريد أن تقوله ، وبين ما لا تريد أن تقوله ، مما يوحي بالأزمة النفسية التي يضيق بها الصدر ، وتضعف معها الروح ، عند ما يعرضون عليك بعض ما لا تستطيع القيام به من طلبات تعجيزية لم يمكّنك الله من القيام بها ، ولم يمنحك القدرة عليها. وهناك تقف موقف العاجز أمامهم ، مما ينعكس على موقعك في المجتمع أمام البسطاء الطيبين الذين لا يعرفون خلفيّات الأمور ، ولا مواقع التحدّي التي ينبغي للإنسان الاستجابة لها أو لا.

(أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) مما يعنيه الكنز من امتلاك قوة ماليّة تجعله في مواقع الأغنياء القادرين الذين يشعر الآخرون بالهيبة تجاههم ، والضعف أمامهم ، فيستجيبون لهم في ما يدعونهم إليه ، على أساس استجابة الضعيف للقوي.

(أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ، يرفده بقوة روحيّة كدليل على الدعم السماويّ

٢٩

له ، فإن الملك يؤكد في وعيهم ، مساندة الملائكة في مواجهة التحديات البشرية ، مما يضعف قوّة مواقفهم ، لأن البشر لا يستطيعون الثبات أمام قوّة الملك ، فيتصاغرون أمامه ، خضوعا لهذه القوّة العجائبيّة القادمة من السماء.

* * *

إنما أنت نذير

ولكن ذلك كله لا معنى له ، فلا بد للناس من أن يفهموا دور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يخطئ الناس في فهمه ، وينحرفون عن معناه ، فليس النبي شخصا قادما من الغيب ، أو متحرّكا في أجوائه ، وليس له من الغيب إلّا علاقة الوحي الذي لا يدرك الناس سرّه ، وبعض ما يثيره الله أمامه من معاجز أو معلومات غيبيّة ، يرى الله في تعرفه عليها الصلاح لهم ، ولذلك لا مجال للاستجابة إلى مقترحاتهم ، لأنها لا تمثل شيئا في حسابات المعرفة ، ولأن النبوّة حملت في داخلها عوامل قوّتها ، ولأن الاستجابة لهم تمثل تقريرا للخطأ الذي أقاموا عليه فهمهم لخط النبوّة وشخصيّة النبي ..

(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ، بما تنذرهم به من عقاب الله في الدنيا والآخرة ، إذا تركوا الإيمان ، والتزموا بالكفر ، وتمردوا على الله. فإذا قمت بهذا الدور ، فقد قمت بمسؤوليتك خير قيام ولا ضير عليك في ما يتهامسون به بينهم ، أو في ما يثيرونه في الجوّ ضدّك من الإيحاء بضعفك في خطّ المواجهة ، لأن ذلك متروك لله سبحانه ، فهو المسيطر عليهم ، والوكيل على كل شيء يحيط بهم من قريب أو من بعيد ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

* * *

٣٠

هل كان النبي يخضع للضعف؟

وهنا يمكن سؤال : ماذا تعني هذه الآية في تقييم شخصية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل كان النبي يضعف أمام التحديات ، لتجيء هذه الآية وأمثالها من أجل أن تقوّي ضعفه ، أو تسند له موقفه ، أو تخفّف عنه أحزانه ، وتطيّب به نفسه ، وتزيل عنه آلامه؟ وهل جاءت في أجواء التأنيب الإلهي له ، أو ماذا؟.

والجواب عنه : إن الآية ليست في مورد الحديث عن الحالة الواقعية الفعلية التي كانت تحيط بموقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تمثل شخصيته ، بل كانت في مورد تقييم الطبيعة الموضوعية لما يمكن أن تثيره التحديات التعجيزية في الحالة الإنسانية من ضعف يبحث دائما عن الهروب ، مما يمكن أن يحطّم شخصيته أو يسيء إلى موقعه ، أو يتعقّد من ذلك ، فيتحول إلى مخلوق مختنق بأزمته ، وربّما كان هذا السبب هو السرّ في الإتيان بكلمة «لعلّ» التي توحي بإمكانيّة الموضوع ، لما تختزنه مثل هذه الأمور من نتائج على مستوى الانفعالات الإنسانية ، في مواجهة عوامل الإثارة.

وبذلك يمكن أن تكون الآية عاملا وقائيا يريد الله به حماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوقوع في مثل هذه التجربة ، أو الخضوع لهذا الانفعال ، أو تكون عملية إيحائية للعاملين ـ من خلال النبي ـ ألّا يستسلموا لهذه الحالة ، لو واجهوا مثلها ، انطلاقا من فهمهم لطبيعة الدور الذي أوكله الله إليهم من الدعوة إلى سبيله بالوسائل الواقعية المألوفة ، مما يجعلهم لا يعيشون الضعف في مواجهة هذه التحديات ، لأنهم لا يعتبرونها تحدّيا لدورهم أو لقدرتهم الطبيعيّة ، بل كان ما هنالك ، أنها التحدي لما يتوهمه أولئك من دور ، دون ارتكاز إلى علم أو إيمان.

* * *

٣١

الآيتان

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٤)

* * *

التحدي في مواجهة أساليب الكفار

... وهذا أسلوب من أساليب التشويه لصورة الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نظر الناس ، فهم ينسبون إلى الرسول أنه افترى على الله كذبا ، في ما نسبه إليه من هذا الكتاب ، لأنهم يدّعون أنه من صنع النبي ومن إبداعه ، أو أنه أساطير الأوّلين اكتتبها ، علّمه إيّاه المعلّمون الذين يعرفون أساطير الأوّلين وعلومهم ، وبذلك تتحول الرسالة إلى مضمون مفترى ، لا حقيقة له.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) على الله ، يوحي الله به إليه ، وهو لا يمكن أن يكون رسولا من قبله ، لأن الرسول بنظرهم لا يمكن أن يكون بشرا. ولكن كيف أثبتوا هذا الافتراء ، وما الوثائق التي قدّموها في دعواهم ، من مقارنة بين هذا القرآن وبين أساطير الأوّلين ، أو من إثباتات تؤكد دراسة النبيّ على غيره من أساتذة الديانات الأخرى ، أو من عرض التاريخ التفصيلي للنمو العلمي

٣٢

والثقافي لشخصية النبيّ ، في ما درسه ، وفي ما ناقش فيه ، وفي ما أثاره من قضايا وأمور فكرية قبل النبوّة؟!!

* * *

افتراضات لا تثبت أمام النقد

ليس هناك شيء من ذلك ، وإذا كانت هناك بعض الأشياء التي حدّثنا عنها من قبيل ، (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، أو : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] ، فإنها لم تكن إلّا افتراضات وأوهاما لا تثبت أمام النقد ، ولا ترتكز على أساس ، بناء على ما حدّثنا به القرآن ، أو تحدّث به التاريخ ، لأن مثل هذه الأمور لا تخفى على أحد لو كان لها أساس من الحقيقية ، لأن التحديات المضادّة للنبيّ وللنبوّة كانت تفرض كثرة الحديث عنها لو توفرت.

مع ذلك ، فإن القرآن لم يدخل في مناقشة هذا الموضوع معهم في هذه الآية ، لأنهم لم يكونوا في موقع يسمح بدخول الآخرين في نقاش حرّ معهم لمعرفتهم ، مقدّما بخسارتهم في ظل فقدان الحجّة القويّة في ما ادّعوه وقالوه. بل أطلق في وجههم التحدي الذي يدفع بهم إلى موقع الدفاع ، بعد ما كانوا في موقع الهجوم ، وهذا أبلغ أسلوب في مواجهة التعنّت والتمرّد والعناد ، فإنه يحطّم زهو الطرف الآخر ، عما يحاول أن يظهره من القوّة ، في ما يثيره من تحدّيات وتهاويل.

* * *

بماذا تحدى القرآن الآخرين؟

(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي مماثلة لهذه السور التي تعتبرونها مفتريات فإذا كان ما أقوم به بشريا ، فإن البشر الآخرين بما يملكون من قدرة ، أو

٣٣

بما يحصلون عليه منها بالدراسة والتدريب والتفكير ، يمكن أن يقوموا بمثلها.

وقد أثار المفسرون عدة أسئلة في مقام التعليق على هذه الآية :

منها : عن سرّ التحدي بالقرآن ، هل هو في إطار البلاغة والفصاحة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما معنى تحدّي الآخرين من غير العرب في ذلك ، فإن عجزهم عنه ، لا يعني نفي قدرة البشر الذين يملكون المعرفة في هذا المجال ، وما معنى الحديث في آية أخرى ، عن عدم اختلاف آيات القرآن ، كأساس لإثبات أنه من الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]؟؟ وعلى ضوء هذه المناقشة ، فإن بعض المفسرين يرى : أن التحدي «عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية ، والحجج والبراهين الساطعة ، والمواعظ الحسنة ، والأخلاق الكريمة ، والشرائع الإلهية ، والأخبار الغيبيّة ، والفصاحة والبلاغة» (١).

ولكن من الممكن التحفظ على ذلك بأنّ التحدي إنما يكون بالمعجز الذي لا يستطيعه أحد ، بالوسائل التي يملكها الناس ، في ما يستعملونه لمثل هذه الأمور ، وهذا مما قد نستطيع الموافقة عليه في مجموع القرآن من خلال ضمّ بعضه إلى بعض ، في ما اشتمل عليه من أسرار الكون والحياة والإنسان والتشريع ، ومن قضايا الغيب ، بالإضافة إلى أسلوبه البليغ. ولكن كيف نستطيع الموافقة على ذلك في التحدي بالسورة ، أو بالسور العشر ، التي يمكن أن تكون مشتملة على معنى محدود ، لا يمثل شيئا من الأسرار الخفيّة أو المطالب العالية ، أو الأمور الغيبيّة ، أو العملية ، التي لم يكن الناس يملكون وسائلها ، أو التي يمكن للناس أن يصلوا إليها بدون وسائل ، كما هو الحال في عصر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يمكن أن نفهم التحدي والإعجاز في ذلك؟

من هنا يمكن القول ، بأن التحدي بالسورة أو بأكثر منها يوحي بأن الإعجاز لا بد أن يكون مشتركا بين السورة في حدودها ، وبين القرآن كله ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٠ ، ص : ١٥٧.

٣٤

وليس ذلك إلا ما ذكروه من قضية البلاغة والفصاحة. أما الأمور الأخرى ، فإنها قد تكون دليلا على الصدق ، لا مظهرا للإعجاز ، وقد تحدثنا قليلا عن ذلك في تفسير سورة البقرة ، أما الحديث عن تحدي كل البشر ، فهو أسلوب كنائيّ يريد الإيحاء بأن المسألة إلهيّة لا بشريّة.

و «منها» عن رقم العشرة ، ما خصوصيته؟ وما المراد منه؟ وقد اختلف في ذلك دون الوصول إلى نتيجة حاسمة. ولعلّ أقرب هذه الوجوه إلى الصواب ما ذكره صاحب مجمع البيان ، في كتابه ، قال : «فإن قيل : لم ذكر التحدي مرّة بعشر سور ، ومرّة بسورة ، ومرّة بحديث مثله؟ فالجواب : أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام ، فيجوز أن يتحدى مرّة بالأقل ومرّة بالأكثر» (١).

وقد علّق على هذا صاحب الميزان بقوله : «أقول : وهو يصلح وجها لأصل التحدّي بالواحد والكثير ، وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ، ولا سيّما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب ، فلا» (٢). ولكن من الممكن أن يكون مقصود صاحب مجمع البيان ، هو أن الرقم لا خصوصية له ، بل يذكر كنموذج للقلّة في التعبير بالواحد ، وقد يذكر كنموذج للكثرة في التعبير بالعشرة ، أو بغيرها في ما تعارف عند العرب من أساليب التعبير ، والله العالم.

* * *

الألوهية قدرة مطلقة

(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ما يمكن أن تواجهوا به القرآن ، من قدرة المحاكاة ، ممن تعتبرونهم شركاء الله ، فإن مستوى الشريك لا بد أن يكون مساويا في القدرة لمستوى شريكه في موضوع الألوهية ، التي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ٢٢٢.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٠ ، ص : ١٥٧.

٣٥

تفرض القدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء. هذا إذا كان المقصود بكلمة (مِنْ دُونِ اللهِ) الشركاء الذين يدعونهم من دون الله ، أما إذا كان المقصود بها كل من هو غير الله ، فيكون كناية عن كل من يملك القدرة على ردّ التحدّي عبر ما يملكه من معلومات ، لأن ذلك لا بد أن يكون ملحوظا في كل حالات التحدّي ، سواء أريد به التحدي بالبلاغة ، أم التحدي بجميع العناصر التي اشتمل عليها القرآن. فكما لا يمكن توجيه التحدّي لمن لا يعرف العربية ، كذلك لا يمكن توجيه لمن لا يعرف شيئا من أسرار الكون ، ومن معارف الحياة من الأميين ، أو الجاهلين ، الذين لم يأخذوا من أسباب العلم بشيء حتى القراءة والكتابة.

* * *

دليل الحقيقة

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون إمكانات الاستجابة للتحدي ، (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) الذي لا يعجزه شيء ، مما يعجز الآخرون عن الوصول إليه ، فذلك هو الدليل الذي يؤدّي إلى اليقين بأن القرآن لم ينزل بعلم بشر كالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سلم أو غيره ، بل نزل بعلم الله وحده.

والظاهر من وحدة السياق أن الخطاب للمؤمنين الذين يريد الله أن يقدم إليهم الدليل الواضح على ما آمنوا به ، من باب تقرير الحقيقة من خلال التجربة الحيّة الماثلة للعيان ، ويمكن أن يكون خطابا للمشركين بتقدير توجيه القول إليهم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أمره الله بتوجيه التحدّي إليهم ، أي «فقل أو فقولوا» فأقام متعلق القول مقامه. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في ما تفرضه القدرة المطلقة التي يملكها دون غيره ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) له بالتصديق به ، وبرسوله وبرسالته.

* * *

٣٦

الآيتان

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ(١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٦)

* * *

معاني المفردات

(وَزِينَتَها) : الزينة : تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة.

(نُوَفِ) : التوفية : تأدية الحق وإيصاله إلى صاحبه بكماله.

(يُبْخَسُونَ) : البخس : نقصان الحق ، أو هو نقص الأجر.

* * *

هدف الحياة

ما هدفك في الحياة؟ وما مداك في كل ما تقوم به من أعمال ، أو تخطط

٣٧

له من مشاريع؟ إنك تعيش في هذا الوجود في نطاق المادة التي تتحرك معها ، وتتحرك معك ، من شهوات ، وغرائز ، وعلاقات ، ومصالح ، وما إلى ذلك ، مما تشتمل عليه هذه الحياة من مفردات ، فهل ما تعيش فيه هو كل همّك ، فأنت مستغرق فيه إلى أعمق أعماقه ، لا ترفع عينيك عنه إلى ما هو أبعد منه ، ولا تدفع فكرك إلى ما هو أسمى منه ، بل أنت مشدود إليه بكل حواسّك وفكرك ووجدانك ، فهو نهاية المطاف لديك ، إذا حصلت عليه حصلت على السعادة ، وإذا لم تحصل عليه توحي لنفسك بالشقاء ، وبالتعاسة ، والسقوط؟ أو أن لك هدفا أسمى من حركة الواقع حولك ، فأنت تحرك الواقع من خلاله؟ وهو الغاية من وجودك في ما تفهم فيه مسألة وجودك ، فالحياة ـ بالنسبة إليك ـ مرحلة تسبق غاية؟

وبذلك تكون قيمتها تابعة لقيمة الغاية ، سلبا وإيجابا ، وبذلك ترتبط كل الشهوات ، والغرائز ، والمصالح ، والعلاقات ، والأوضاع ، بعلاقتها بالهدف الأسمى ، لجهة القرب منه ، وذلك الهدف هو الله في عبوديتك له ، وفي ما يجسّده العمل بطاعته من مظهر حيّ للعبوديّة ، وذلك ما تعنيه كلمة الدار الآخرة بما تواجهه فيها من نتائج على مستوى النعيم أو الجحيم.

إن هاتين الآيتين توحيان للإنسان بأنه إذا حدّد ما يريده في الحياة ، فإن الله سيعطيه ما يريده منها ، على الطريقة التي يفكر بها على الصعيد الإيجابي أو السلبيّ.

* * *

سنّة الله

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ، بحيث كانت الحياة في دائرتها

٣٨

المادية ، التي يتعبّد فيها الإنسان لذاته في نطاق الجسد ، أو في مطامع علاقاته ، هي كل همه وكل حياته ، أمّا قيم الروح المرتبطة بالله بما تتضمنه من تضحيات ، وبعد عن المادّة العمياء ، فهو بعيد عنها بعد الأرض عن السماء ، إن من جعل إرادته محبوسة في هذه الدائرة فإن الله سيعطيه ما يريد (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقصون منها ، بل يأخذونها كاملة غير منقوصة ، لأن الله قد ربط الأشياء بأسبابها فمن أراد شيئا وعمل له ، فإن من سنّة الله أن يحصل عليه ، ولكنه لن يحصل على أكثر من ذلك.

وإذا كان هذا هو شأن الدنيا في ما يواجهه الإنسان فيها ، فإن شأن الآخرة كذلك ، فمن عاش لقيم الدنيا ، فإنه سيتنكر لقيم الآخرة ، وسيحصل على نتائج هذا التنكر في ما أعدّه الله له من عذاب (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) جزاء لما عملوه (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا) لأنهم لم يحصلوا منه على نتيجة ، فقد تركوا الدنيا كلها وجميع ما فيها من لذائذ وشهوات ، وخلّفوها وراء ظهورهم ولم يبق لهم منها شيء يستفيدون منه في دارهم الجديدة ، وهذا معنى الإحباط في عمقه الروحي ، (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، لأنه لا يمثل إلا الشيء الفاقد لمعناه ، الذي لا يتضمن إلا ملء الفراغ الوقتي ، من دون نتائج تتجاوز اللحظات الزمنية التي يمرّ بها ، فإذا ذهبت اللحظة ذهب العمل ، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه عند الإقدام على أي عمل ، وهو ما يستقبله من نتائج إيجابيّة تجعل له امتدادا في حسابات المستقبل.

* * *

٣٩

الآيات

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

* * *

٤٠