تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

الآيات

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)

* * *

معاني المفردات

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : استكمل قوته جسما وعقلا.

١٨١

(وَراوَدَتْهُ) : المراودة : المطالبة بأمر بالرفق واللين.

(وَغَلَّقَتِ) : التغليق : إطباق الباب بما يعسر فتحه.

(هَيْتَ) : أقبل أو أسرع.

(هَمَّتْ) : الهم : العزم على الفعل.

(وَقَدَّتْ) : القدّ : شق الشيء طولا.

(وَأَلْفَيا) : وجدا.

* * *

يوسف يؤتى حكما وعلما

... وعاش يوسف ، لا كما يعيش من هم في سنّه من الشباب حياة اللهو والعبث ، بل عاش حياة فكر وتأمّل وعلم ، ودراسة واقعية للساحة التي تحيط به لما تقتضيه الحكمة من معايشة للواقع ، وفهم له ، وملاحقة لخصوصيات التجارب المختلفة كي يصدر الحكم على الأشياء من قاعدة الوعي العميق لطبيعتها وطبيعة انطلاقها وحركتها ، وقد وهبه الله من فضله ، ما يكفل وصوله إلى الغايات التي يريدها من حركة حياته في خط رسالته وتدبيره ، كونه أحسن النيّة ، وصدق العمل ، وسار في الطريق المستقيم.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) فأصبح من أولي الحكم الذين يقصدون للحكم من موقع فكريّ عميق واسع ، وعلم غزير شامل ، جزاء لصبره وإحسانه ، لما يمثله الصبر في حياة الإنسان من تعميق للفكر وتوسيع له ، أمام مصاعب الحياة ومشاكلها التي لا يتحملها إلا الصابرون ، وبما يمثله الإحسان

١٨٢

من انفتاح على الكون في حاضر الحياة ومستقبلها ، بالشكل الذي يغني التجربة ، ويوسّع الأفق ، ويوحي بالامتداد ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في ما نخصهم به من مواهب ونعم في الحكم والعلم والقدرة.

* * *

تجربة الإغراء الصعبة

وبدأت التجربة الصعبة في حياته ، فها هو يواجه الإغراء بأشدّ صوره ، مما لا يملك الامتناع عنه ، إذا أراد لحياته أن تستمر في النعيم الذي يتقلّب فيه ، والامتيازات التي يملكها ، وإلا فقد ذلك كله ، مع خطر على الحرية التي يعيش فيها ، وخوف على حياته من الهلاك.

إنه في سن المراهقة حيث تتفتح الغرائز في فضاء الشهوة ، وتضيع المشاعر في أجواء العاطفة ، ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس ، ويتحرك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضبابيّة المبهمة التي تثير الجوّ من حوله ، ليحسّ بأنه يسبح في بحور من الحب والخيال ، مواجها المزيد من أمواج الحسّ التي تطغى على فكره وحكمته.

ففي البيت تعيش امرأة تضج شهوة وعاطفة إزاء ما يملك من حسن في ملامحه الجميلة ، وهي في الوقت نفسه ، امرأة تتبوأ مواقع السلطة والقدرة ، فلا يردّ لها أحد طلبا ، ولا تمتنع عنها رغبة ، سواء من قبل زوجها ، أم من قبل أصحاب النفوذ الذين يحيطون بها ، فكيف بهذا الشاب الذي لا حول له ولا قوّة ، لأنه عبد مملوك اشتراه زوجها بماله ليخدمه ويخدمها ويستجيب لكل طلباتهما ورغباتهما ، وقد كانت تشعر أن ما تريده من قضاء الشهوة معه ، لا يمثل إلا بعض الرغبات الطبيعية التي يجب عليه تلبيتها كعبد لأسياده. وبدأت عملية الإغراء والمعاناة معا ، وتحركت كل الضغوط الجسدية والخارجية لتلاحق إرادته لتسقطها أمام التجربة الصعبة.

١٨٣

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) في عملية هجوم عاطفي يوحي إليه بأجواء الإغراء ، ويحرّك فيه مكامن الشهوة ، ويمنع عنه طريق الهروب ، ولعل في التعبير بأنه في بيتها إيحاء بالجو الضاغط الذي يحيط به ، لتوفره على الاختلاط والسيطرة اللذين يسهّلان مهمة السقوط. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) في صوت يشبه الفحيح المحموم الذي يخرج من أعماق الغريزة ، فقد استعدت كل الاستعداد الروحي والشعوري والجسدي لهذا الموقف ، واعتبرت الحصول على ما تريده حالة طبيعيّة ، ومهمة سهلة لا تحتاج إلا إلى طلب الاستجابة من يوسف ، ولهذا كانت الدعوة بهذا الأسلوب الذي يختصر الموقف في كلمة مشبعة بالرغبة الحميمة «هلم إليّ» ، ولكن يوسف كان في عالم آخر ، فهو لا يعيش الاستغراق في عالم الحس وتحقيق الارتواء الغريزي ، كقيمة إنسانية حيوية يستهدفها الشباب عموما ، بل يعيش لنداء الروح ، في ما تنطلق به من روحية الإيمان ، وإحساس الوفاء ، فهو لا ينظر إلى ما في داخله من أشواق الحسّ ، بل يتطلع إلى ما في روحه من آفاق السموّ نحو الله ، وهذا ما عبّر عنه في كلمته التي صوّرها الله لنا بقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ) في كلمة مؤمنة موحية تعبّر عن الرفض الحازم من جهة ، وعن اللجوء إلى الله ، والاستجارة به من هذا النداء الشّبق المفعم باللهفة والإغراء ، الذي يكاد يفترس منه روح الطهر ، ويدفعه إلى العهر والفجور.

* * *

مواجهة الإحسان بالإحسان

ثم انطلق ليتحسّس المسألة من جهة أخرى ، وهي مسألة الوفاء لسيده الذي أحسن مثواه ، فكيف يمكن أن يخونه في زوجته؟ إنه لو فعل ذلك فسوف يحس بالاحتقار لنفسه ، كما يحس أيّ خائن ، (إِنَّهُ رَبِّي) الذي رباني بما

١٨٤

تتضمنه الكلمة من معنى التربية والرعاية والسيادة ، (أَحْسَنَ مَثْوايَ) في ما أعدّه لي من منزل وإحسان وحرّية وراحة ، فلا بد من أن أواجه الإحسان بالإحسان ، فلا أظلمه بالإساءة إليه وخيانته مع زوجته ، لأن ذلك لن يحقق لي النجاح والفلاح في عواقب الأمور ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية ، ويظلمون غيرهم بالخيانة ، لأن النتائج لن تكون في صالح دنياهم أو آخرتهم.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى إنّ الحديث عن الله لا عن سيّده ، فقد استعاذ يوسف به من الخضوع لإغراء الشهوة ، ثم عبّر عن إحساسه بنعمة الله بالمستوى الذي يردعه عن الاندفاع للخيانة ، ولهذا كان من المناسب إثارة جانب الاحترام الذي يشعر به يوسف تجاه سيّده ، وربما كان التعبير بكلمة (رَبِّي) متعارفا في الحديث عن السيّد المالك في ذلك المجتمع ، كما أن كلمة (أَحْسَنَ مَثْوايَ) قد تكون أقرب إلى علاقة يوسف بزوجها الذي رعاه وحماه من التشرّد والضياع الذي يعاني منه العبيد عادة بالانتقال في أسواق النخاسة من مالك إلى مالك ، ومن بلد إلى بلد ، بينما كان ليوسف في قلب هذا الإنسان موقع الولد ، كما عبّر (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وإن لم يصل ذلك إلى مستوى التبني ، ولو كان الحديث عن الله لكان من المناسب الحديث عن النعم الكبيرة التي تتصل بوجوده وخلقه ورعايته في كل الأمور.

أما عدم تقدّم ذكره ، أو قرب ذكر لفظ الجلالة من موقع الضمير ، فليس بشيء يحقق الظهور لما يريدونه ، لأن الحديث عنه قد تقدّم في قوله ، (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) كما أن جوّ الحادثة يوحي به بشكل بارز ، فإن الموقف من الزوجة التي تريد خيانة زوجها يبعث على التفكير بالزوج بطريقة طبيعيّة ، تماما كما لو ذكر باللفظ.

إنها ملاحظات قد ترجّح الوجه الذي نستقربه ، والله هو العالم بحقائق آياته.

* * *

١٨٥

ولقد همت به .. وهمّ بها

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) في اندفاعها نحوه ، من أجل أن تحتويه بكل ما لديها من عاطفة وشهوة وإغراء في حركة ضاغطة ، مشبوبة من موقع الضعف الأنثويّ الغريزيّ الذي لا يرتكز في الجانب الآخر من الشخصية على قاعدة من العقل والإيمان اللذين يمكن لهما أن يحقّقا حالة من التوازن والانضباط. وهكذا رأت أن الظروف الصعبة التي يعيشها هذا الغلام الجميل الذي وضعته الأقدار تحت سلطتها ، تساعدها على تحقيق أغراضها الغريزية منه ، فيستسلم لسلطتها وإغرائها (وَهَمَّ بِها) في حالة شعورية طبيعية ، يتحرك فيها الإنسان غريزيا من دون تفكير ، لأنّ من الطبيعي لأيّ شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها ، تماما ، كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عند ما يشمّ رائحة الطعام ، وهذا أمر يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن ، لأنه من شؤون الإحساسات الغريزية للجسد ، ولكن القضية تتناول الموقف الذي يحدّد للإنسان شخصيته من مواقع الإيمان والالتزام ، أو مواقع الكفر والانفلات. وهكذا نتصور موقف يوسف ، فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعوريا ، وهمّ بها استجابة لذلك الإحساس ، كما همّت به ، ولكنه توقّف وتراجع ، ورفض الحالة بحزم وتصميم ، لأن موقفه ليس متعمدا ، كما هو موقفها ، ليندفع به نحو النهاية ، كما اندفعت هي ، ولكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي ، والاندفاع الغريزيّ.

* * *

الموقف اليوسفي

إنها لحظة من لحظات الإحساس ، عبّرت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت

١٨٦

أمام العقيدة الراسخة ، والقرار الحازم المنطلق من حساب دقيق لموقفه من الله لو أطاع إحساسه ، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) في ما تعنيه كلمة البرهان من الحجة في الفكرة التي توضح الرؤية ، وتكشف حقيقة الأمر ، فيحسّ ، بعمق الإيمان ، أنه لا يملك أيّة حجة في ما يمكن أن يقدم عليه ، بل الحجة كلها لله ، وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١]. وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة (وَهَمَّ بِها) لكلمة : (بَلَغَ أَشُدَّهُ) فقد اندفعت إليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء ، فحركت فيه قابلية الاندفاع ، وكاد أن يندفع إليها لو لا يقظة الحقيقة في روحه ، وانطلاقة الإيمان في قلبه ، وبذلك كان الموقف اليوسفيّ ، انجذابا وتماسكا وتراجعا مستوحى من الكلمة ومن الجوّ الذي يوحي به السياق معا (١).

* * *

__________________

(١) والحقيقة أن ما ذهبنا إليه هنا من تفسير لقوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ..) ليس مما نتفرد به ، إذ ذهب اليه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في تبيانه. فقد ذكر ـ رضوان الله عليه ـ من معاني الهم : «الشهوة وميل الطباع ، يقول القائل في ما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه : هذا من همي ، وهذا أهم الأشياء إليّ. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن ، وقال : أما همها ، وكان أخبث الهم وأما همه ، فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء ، وإذا احتمل الهم ، هذه الوجوه ، نفينا عنه (ع) العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله ...». (الطوسي ، أبو جعفر ، محمد بن الحسن ، التبيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، ج : ٦ ، ص : ١٢١). والأمر عينه ذهب إليه أيضا السيد المرتضى (ره) في كتابه «تنزيه الأنبياء» ، وذلك في معرض تعليقه على المعاني المتعددة لكلمة «الهم» ، قائلا : «فإذا كانت وجوه هذه اللفظة» (أي الهم) مختلفة متسعة على ما ذكرناه ، نفينا عن النبي ما لا يليق به وهو العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه ، لأن كل واحد منها يليق بحاله (راجع تنزيه الأنبياء ص : ٧٣ ، ٧٥).

١٨٧

هل في الآية ما ينافي العصمة؟

لقد تحدث المفسّرون كثيرا عن تأويل هذه الفقرة لما لها من علاقة بعصمة يوسف ، معتبرين أنه قد لا يكون نبيا آنذاك ، ولكن رأي الكثيرين ، أن العصمة تسبق النبوّة ، كما تلحقها أو ترافقها ، ويرى بعض آخر أن النبي إذا لم يكن معصوما قبل البعثة ، فمن الطبيعيّ أن يكون ذا مناعة أخلاقية لا تسقط أمام أيّة حالة من حالات الإغراء ، لأن مسألة النبوّة ليست وظيفة تتعلق بالدعوة ، بل هيّ مسألة تتصل بالعمق المتأصّل في روحية النبيّ من قوّة الشخصية تؤهله للقيام بمهمّة تغيير العالم.

هذا بالإضافة إلى شهادة الله له ، بأنه من عباده المخلصين في آخر الآية ، مما يفرض أن يكون الإخلاص لله في العبودية ، سرّا مركوزا في شخصيته ، لا حالة طارئة عليها.

ولكننا في الوقت الذي نلتقي مع هؤلاء في جوّ الفكرة ، مع بعض التحفظات في تفاصيلها ، نعتقد أن العصمة ، أو المناعة الروحية ، أو القوة الأخلاقية ، لا تتنافى مع الحالة الإنسانية التي تخضع لعوامل التأثر الطبيعيّ الإنسانيّ بالرغبة والرهبة ، بل إن كل ما تؤمنه ، هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخط المستقيم ، فلا ينحرف في موقف ، ولا يسقط في تجربة ، أما التهاويل والخطرات ، والمشاعر ، فهي أمور طبيعية ، لذلك فلا مجال لإثارة الشبهة حول موقف يوسف ، كما يظهر في الآية ، مما يدفع إلى كثير من التأويل والتكلّف الذي يبتعد عن المضمون الحقيقي لها.

* * *

يوسف عليه‌السلام ينصرف عن السوء

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) بما يلهمه الله لعباده من فكر ،

١٨٨

وما يثير فيهم من شعور ويفتح لهم من أفق ، بهدف عصمتهم من السقوط أمام التجربة ، أو الانحراف أمام الإغراء ، ليستقيم لهم الدرب في الأفق الواضح ، فيحصلوا على ثقة الأمة ، في مواقع الصدق في القول والعمل ، لتلتزم بما يأمرون أو ينهون عنه ، من موقع الثقة ، وهذا ما أراد الله ليوسف أن يبلغه ، من خلال رؤية البرهان الإلهي الذي استطاع أن يعصم موقفه ، ويضبط مشاعره الحسية ، (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا لله الإيمان ، فاقتربوا من وحيه ، والتزموا بشريعته ، وانسجموا مع هداه ، فرعاهم الله واحتضن روحهم وفكرهم ، وحياتهم العامة والخاصة. ولا بد لنا أن نثير في هذا المجال ، أن الصرف عن السوء والفحشاء ، ليس أمرا بعيدا عن حرية الإرادة والاختيار ، بل هو قريب منها كل القرب ، لأن الله لم يجبره على الابتعاد عن المعصية ، بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكل تلقائيّ وعفويّ.

* * *

الكيد العظيم

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) فقد اندفع يوسف إلى الباب ليهرب منها ، وليتخلص من ضغطها العنيف الذي كاد أن يسقطه في الإغراء ، واندفعت هي خلفه ، لتمنعه من الهرب ، ولتفرض عليه الاستجابة لنداء الشهوة ، في عملية سباق يحاول فيه كل واحد منهما أن يسبق الآخر. ولكنها استطاعت أن تلحقه قبل أن يفلت من يديها ، (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) من الخلف ، ومزقته عند ما كانت تجذبه إليها ليرجع إلى داخل البيت ، وكانت المفاجأة لهما بالمرصاد ، (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ). وفوجئ بالموقف الملتهب أمامه ، ولكنها لم ترتبك ولم تخف منه ، بل حاولت أن تحوّل المسألة إلى اتهام ليوسف بالاعتداء عليها ، لتعاقبه على امتناعه عن الاستجابة لها ، بتشويه صورته ، واستغلال الفكرة الشائعة عند الناس ، أن الرجل هو الذي يعتدي على المرأة ، وليس العكس ، وربما كانت تشعر بتأثيرها العاطفيّ الكبير على زوجها ، كما نستوحي من

١٨٩

أسلوب مواجهته لها بالاتهام بعد ذلك ، وهكذا حاولت الإيحاء بأن مسألة إدانة يوسف بمحاولة الاعتداء عليها ، أمر مفروغ منه ، لا يحتاج إلى المناقشة أو الإثبات ، لأن الموقف أبلغ شاهد على ذلك ، ولهذا كان حديثها مع زوجها في نوعية العقوبة التي يستحقها كجزاء على ذلك ، (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهكذا حدّدت له طرفي الاحتمال في ما يختاره من العقوبة.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ولكنه دفاع ضعيف لا يخضع لطبيعة الفكرة الشائعة عند الناس التي تجعل المرأة في موقف الضعف ، في هذا الجانب ، بينما يقف الرجل في موقف العدوانية عليها ، إلا أن هناك عنصرا جديدا يتدخل ليقوّي موقف يوسف بشهادة لا تحدّد طبيعة ما حدث بشكل مباشر ، ولكنها تضع أمام العزيز ـ الزوج ـ أساس الحكم في المسألة ، بطريقة لا تقبل الشكّ ، لأنها تتناسب وطبيعة الأشياء.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) مما يجعله في مستوى الثقة ، لأنه لا يتصل بيوسف من قريب أو من بعيد ، لتكون شهادته له موضع شبهة : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأن من المفروض في الرجل الذي يعتدي على المرأة جنسيا ، أن يواجهها بالهجوم ، وجها لوجه ، كما يفترض بالمرأة التي تدافع عن نفسها ، في هذه الحال ، أن توجه ضرباتها إليه في وجهه ، وأن تمزّق قميصه لجهة الصدر ، (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأن المرأة عند ما تريد الضغط على الرجل الذي يرفض مراودتها له ، لا بد لها من ملاحقته وهو يهرب منها ، مما يؤدي إلى تمزيق الثوب ويكون ذلك من الخلف ، تبعا لموقعها منه ، وموقعه منها ، في عملية الملاحقة ، وبهذا تكون دعواها كاذبة في الحديث عن مبادرته بالعدوان عليها.

واقتنع العزيز بهذه الملاحظة لأنها قريبة لمنطق الأشياء ، (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) صدّق يوسف بأنها راودته عن نفسه ، والتفت إليها في موقف

١٩٠

استنكار وتأنيب ، (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) لما كان يحمله في نفسه من انطباع عن كيد النساء اللواتي يقمن ضعفهن الأنثوي في مخاطبة شهوة الرجل وغريزته ، واستعمال ذلك الضعف كسلاح ضدّه ، في ما تذرفه من دموع في حالة الشكوى ، وفي ما تقدّمه من أساليب أخرى في محاولة لإقناع الآخرين بظلامتها. وفي هذا الاتجاه سارت زوجة العزيز في موقفها من يوسف ، مستغلة وجوده عندها في البيت ، وحاجته إليها في ظروف العبودية التي فرضت عليه ، ويقظة غرائز المراهقة في دمه وأعصابه ، وعند ما امتنع عليها لاحقته في محاولة منها للضغط عليه ، ولما فاجأها زوجها بالموقف الشائن بادرت إلى اتهام يوسف بالاعتداء عليها ، اعتقادا منها بأن طبيعة الأمور في مثل هذه الحالات تفرض على زوجها تصديقها وتكذيب يوسف ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لأنّ المرأة تملك من الوسائل الخفيّة ، ما تستطيع به السيطرة على الموقف من أوسع السبل.

* * *

الكيد وضعف المرأة

وقد ذهب البعض ، إلى أن التاريخ البشري الذي عزل المرأة عن النشاط الفكري والعمل الجدّي الواسع في حركة الحياة ، وحبسها في دائرة البيت وأضاء الأجواء الخاصة المحيطة بموقعها من الرجل جعلها تتجه إلى تفجير طاقاتها في التخطيط للدفاع عن نفسها ، بالتآمر والكيد والحيل المتحركة في أجواء الخفاء ، في مجتمع النساء والرجال معا ، ولهذا كانت هذه الوسائل نتيجة طبيعية لانطلاقة عبقريتها الذهنية بكل طاقاتها في هذا الاتجاه فأبدعت فيه ، ككل إنسان يكرس لشيء ما كل طاقاته الفكرية والعملية. وبهذا فإن الحيل والمكيدة لا تمثل حالة طبيعية في المرأة ، بل تمثل لونا من ألوان النشاط

١٩١

الذهني والعملي الذي تحركه أجواء معينة يمكن للرجل أن يقوم به أيضا في أجواء مماثلة ، إلا أن ما يميز المرأة في هذا الشأن أن موقعها الضعيف أمام الرجل والحواجز التي تحول دون حصولها على ما ترغب تجعل الكيد أسلوبا تحتاجه للوصول إلى ما تريد ، خلافا للرجل الذي يتمتع بفضل سلطته وقوّته وموقعه المميّز ، بحرّية الحركة ، وإمكانات الوصول إلى ما يريد من أقرب طريق بشكل مباشر ، دون حاجة للحيلة الكبيرة ، والفكر الدقيق.

* * *

يوسف عليه‌السلام يخرج من التجربة بنجاح

لذا أصدر الزوج الحكم لمصلحة يوسف ، ولكنه أراد للقضية ألّا تأخذ حجما كبيرا يصل بها إلى مستوى الفضيحة ، لأن ذلك يضر بمركزه ، أو يعقّد علاقته بزوجته التي كان يحبّها ـ كما يبدو من ملاحظة دورها المميز معه ـ. وبهذا فقد اعتبرها لونا من ألوان العبث الذي يدعو إليه الضعف الأنثوي ، فتوجه إليها وإلى يوسف ، وقال له : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) وانس كل ما يتعلق به ، ولا تتوقف عنده ، واعتبره أمرا طارئا ، ككل شيء يحدث بسرعة ، وينتهي بسرعة ، وقال لامرأته : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) في مراودتك ليوسف بما يمثله ذلك من عدوان عليه ، ومن خيانة لحقوقي الزوجية ، (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) في ما كنت تحاولينه من الوقوع في الزنى بطريقة الضغط والعدوان ، مما يجعل الخطيئة مضاعفة في الموقع الذي تقفين فيه.

وهكذا أسدل الستار على هذا المشهد في نطاق المشكلة التي أثارها هذا الوضع الطارئ القلق في البيت ، وعاد كل واحد إلى عالمه الخاص ، وهدأ كل شيء في الداخل ، ونجح يوسف في الامتحان الروحي الإيماني في أوّل تجربة صعبة تهزّ كل وجدانه ، وكل وجوده.

* * *

١٩٢

الآيات

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٣٣)

* * *

معاني المفردات

(شَغَفَها) : أي بلغ شغاف قلبها ، أي باطنه ، وقيل : وسطه.

(وَأَعْتَدَتْ) : أعدّت وهيأت.

(مُتَّكَأً) : ما يتكأ عليه من فرش ونحوه.

(وَقَطَّعْنَ) : جرحن.

١٩٣

(فَاسْتَعْصَمَ) : طلب العصمة وامتنع عما أرادت منه.

* * *

شياع الخبر

ومضت امرأة العزيز في حبّها ليوسف ، يأخذ عليها كل كيانها ووجدانها ، ويملأ كل حياتها ، ولكنها لم تجرّب أن تمارس الضغط الجسدي عليه ، بعد فشل التجربة الأولى ، بل كانت تحاول إثارته بكل ما تملك من وسائل الإغراء ، في كل وقت ، مستغلة ضعف موقعه كعبد ، أمام قوة موقعها منه كسيّدة ومالكة له ، وتعاظم هذا الحب الذي بدأ يعبّر عن نفسه في نظرات العيون ، وحركات الجسد ، وكان الشغل الشاغل لها ، فلم تستطع معه أن تحفظ لنفسها بهذا السرّ ، فعرف الناس بذلك من خلال ما كانوا يشاهدونه في طريقة معاملتها له ، وفي ما كانوا يلاحظونه أو يستنتجونه من مراودتها له ، وهكذا شاع الخبر بين الناس ، وتلقفته أفواه النساء اللاتي رأين فيه مادّة طيّبة للحديث ، ولونا من ألوان التندّر والسخرية بامرأة العزيز التي كن يضمرن لها بعض الحسد ، لموقعها المميز في الوسط الاجتماعي الذي ينتمين إليه ، وهذا ما حدثنا القرآن عنه.

* * *

مكر النسوة

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وتدعوه إلى ممارسة الفحشاء معها ، (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) وملأ كل قلبها حتى الأعماق ، وسيطر على كيانها ، حتى دفعها إلى الخيانة ، (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وأي ضلال أبعد وأوضح من عشق السيّدة لعبدها ، في ما يمثله ذلك من خسّة في النفس ، وخروج عن التقاليد ، وتنكّر للموقع الاجتماعي الذي تقف فيه ، فإذا

١٩٤

كان المجتمع الراقي يبيح للمرأة أن تخون زوجها وتتخذ لها عشيقا ، فإن عليها أن تتخذه من داخل الطبقة المميزة التي تنتمي إليها ، لئلا تسيء إلى تقاليدها الطبقية التي تفرض إقامة الحواجز بينها وبين الطبقة السفلى ، فلا تتنازل السيدة فيه لعبدها مهما كانت الظروف ، في أيّة لفتة عطف ، فكيف يسمح لها أن تدعوه إلى نفسها في علاقة جنس؟! وهكذا بدأ الحديث عنها يتخذ منحى خطيرا في تشوية سمعتها وتحقير مكانتها ، والتنديد بخروجها عن الأخلاق الطبقية التي يحترمها مجتمعها ، ويرى في الخروج عنها ضلالا مبينا ، وانحرافا خطيرا ، وربما كان هذا الحديث صادرا عن سوء نيّة ، وشعور بالحسد لها ، لا عن إخلاص للقيم الاجتماعية ، والتقاليد الطبقية.

* * *

خطة الالتفاف

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) بما يتحدثن به عنها ، وما يسعين له من تحقير لمكانتها في المجتمع ، (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) في دعوة اجتماعية لا توحي بأيّ طابع مميّز ، تماما كما هي عادة النساء في اجتماعاتهن الخاصة ، لمناسبة فرح أو حزن ، أو للأخذ بأسباب اللهو ، أو التحدث في أيّ أمر طارئ ، أو في أي شيء يملأ الفراغ ، ويمتّع النفس ، وكانت تريد مفاجأتهن ، والالتفاف على مكرهن بمكر أشدّ في عملية ذكية لتوريطهن بما تورّطت به ، ولايقاعهنّ في خطيئة التمرد على تقاليد المجتمع الطبقية ، فدعتهن إليها ، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) في ما يوحي به ذلك من المجلس المميز الذي يستسلمن فيه للراحة والاسترخاء ، ليأخذن حريتهن في الجلوس وفي الحديث في جوّ عائليّ حميم. (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لتقطع به الفاكهة التي قدمتها إليهن في هذا المجلس ، وهنا كانت المفاجأة التي لم يتهيّأن لها ، فلم يكن في البرنامج أو هكذا يبدو أن يخرج يوسف إليهن ، أو يجلس معهنّ ، لأن التقاليد الطبقية لا

١٩٥

تسمح بذلك. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) في أمر حاسم صادر من السيدة لعبدها ، فخرج إليهن ، لأن موقعه يفرض عليه الطاعة لسيدته ، فإذا بالزلزال الروحي والعاطفي والشهواني يهزّ كل كيانهنّ ، ويسيطر على كل مشاعرهنّ ، في اندفاعة ساحقة ، (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) لإشراقة وجهه وجمال صورته ، وسحر ملامحه ، وحلاوة شخصيته.

* * *

الدخول المفاجئ

لقد كان ذلك كله مفاجأة لهن ، لأنهن كن يتصورنه على صورة العبيد الذين لا يملكون أيّة ميزة جمالية ، ولهذا كنّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه ، وأن تعشقه ، وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئا من احترامهن للأخلاق والعفّة ، لأن مجتمعهن الطبقي لا يعير ذلك أهمية ، بل قد يكون ناشئا من اعتبار موقفها شذوذا في التصرّف ، وانحرافا في الذوق تستسلم معه المرأة الكبيرة ، لعبد لا جمال فيه أو إثارة ... أما الآن ، فقد وجدن لها كل العذر ، لأنهن وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهول وانجذاب ، فقدن معه السيطرة على مشاعرهن ، ووعيهن ، حتى لم يعدن يعقلن ماذا يفعلن ، فعند ما رأينه ، تركن تقطيع الفاكهة بالسكاكين التي قدمت لهن لذلك ، (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) من دون شعور ، فإذا بالدماء تسيل ، وهن لا يشعرن بالألم أمام سكرة النشوة بهذا الجمال ، (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) في تعبير يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة التي تجعله من صنف البشر ، كأنهن يقلن حاش لله أن يكون كذلك في ما يقوله الناس عنه ، (ما هذا بَشَراً) لأن البشر لا يملكون مثل هذا الجمال الروحي الذي لا مثيل له ، (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) في ما يتصورن به الملائكة من السموّ في الجمال الخارق الذي لا يدانيه جمال في الكون ، لأنهم يمثلون أقصى حدود الروعة في التكوين.

* * *

١٩٦

تبرير الانحراف

وهنا جاء دور امرأة العزيز لتدافع وتبرر علاقتها المنحرفة بيوسف التي عرضتها لهجوم هؤلاء النسوة ، (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فإذا كنتن قد فقدتنّ شعوركن وإراداتكن وعقولكنّ أمام النظرة الأولى لهذا الملاك الجميل ، فما حال المرأة التي تعيش معه في البيت في كل أوقاتها ، في خلوة كاملة ، توحي لها بكل إغراء الحرية ، أمام إغراء الجمال ، فهل عليّ لوم إن فعلت ما فعلت ، أو ثارت عواطفي تجاهه ، إنها التجربة الصعبة التي لا مثيل لها ، فالنيران تلهب مشاعري وأحاسيسي وغرائزي كالجحيم ، دون أن أتمكن من إطفائها ، بل أعاني الشعور بالحقارة أمام نظرته المتعفّفة الورعة المتعالية عن الإغراء التي ترفض كل هذا الجمال الذي أقدّمه له ، وتستهين به ، وتحتقره ، كما يثير فيّ الرغبة التي تشتد أمام الامتناع من جهة أخرى.

* * *

يوسف عليه‌السلام بين ضغوط الإغراء والتهديد بسجنه

وربما شعرت أن حديثها يضعها في موقف الضعف ، فكيف يمتنع هذا العبد عليها ، وهي السيدة المالكة له ، المسيطرة عليه ، وكيف يرفضها وهي التي تساقط كل الرجال تحت أقدامها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوتها أمامه ، وأمامهنّ ، لئلا يحتقرن موقعها منه فقالت: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) من الخضوع لرغباتي وشهواتي ، (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) بما أملكه من تأثير على زوجي وعلى أولي الأمر ، يتيح لي الضغط لإدخاله السجن حيث يشعر بحقارة موقعه ، ويعرف حقيقة قدره ، فيقف عند حدوده ، ولا يتمرّد على أسياده ، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزّ وكبرياء.

١٩٧

وشعر يوسف بأنه محاصر بهذا الجمال المتنوع بين امرأة العزيز التي تدعوه إلى نفسها في الليل والنهار بكل ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء ، بهدف إثارة غريزته وشهوته ، وبين هؤلاء النسوة اللاتي عرفنه في هذا اللقاء ، وبدأن يراودنه عن نفسه ، بطريقة خفيّة أو معلنة ، وربما يلاحقنه في المستقبل ليؤثرن عليه ، وقد يحاولن الضغط عليه بتهديده بطريقة أو بأخرى ، بالسجن أو غيره ، كما ذكرت امرأة العزيز ... فما ذا يفعل؟ إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن ، ويسقط في التجربة أخيرا ، لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء ، ونداء الغريزة.

* * *

اللجوء إلى الله

إن يوسف بشر كبقية البشر ، يتأثر بما يتأثرون به ، ويستجيب لما يستجيبون له ، ولو لا رعاية الله وعصمته له ، لانقاد لها في ما دعته إليه ولكنه ها هو يستعين بالله ، في هذا الموقف كما استعان به في الموقف السابق ، ويريد له أن ينقذه الآن ، كما أنقذه من قبل ، إنه يفضّل كل مصائب الدنيا وآلامها ، على موقف معصية لربه ، ولهذا لجأ إلى الله وصرخ بكل قلبه ، في دعاء خاشع حار مبتهل ، وبروحية العبد الذي تحضر كل مشاعره وأحاسيسه ، ويتحرك كل عقله وإرادته ، طلبا للنجاة من ملاحقة الشيطان له ، الذي يريد إسقاط عفته وأمانته وإرادته ، ويبعده عن محبة الله ، إنه ينشد الخلاص من هذا الحصار الشهوانيّ الغريزيّ الذي يعرض عليه الجمال المتنوع بكل كنوزه.

* * *

١٩٨

السجن أحب من ارتكاب المعصية

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من ارتكاب الفاحشة ، والخضوع لتأثير الإغراء ، لأن السجن مع رضاك ، أفضل عندي ، وأحب إليّ ، من الحرية واللذة والمتعة مع معصيتك ، لأن في رضاك سعادة الروح في الدنيا والآخرة ، وفي غضبك ، شقاء الروح في الدنيا والآخرة. إنني أقف بين سعادة الأبد في خط الطاعة مع ظلام السجن ، وبين شقاء الأبد في حركة المعصية ، في نور الحرية ، فأرى في السجن السعادة ، وفي الحرية الشقاء ، فأعنّي ـ يا رب ـ على بلوغ رضاك ، وقوّ إرادتي لتقف في ساحة محبتك ، وامنعني من أن أقارف معصيتك. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) بما تمنحني إياه من قوّة الإيمان والإرادة ، وبما تبعدني به عن أجواء الإغراء ، (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) وأمل إلى تحقيق رغباتهن التي قد تستجيب لها رغبتي ، (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة ، لقاء لذة فانية لا تمثل شيئا في عالم السعادة والخلود.

* * *

بين تكبل الجسد وحرية الروح

وهكذا تتمثل ، في هذا الموقف النفسي الإيماني الروحي المتمرد على أشد أنواع الإغراء ، أروع مواقف الرفض للانحراف ، من أجل أن يستقيم للمؤمن خطّه ، ويتعمّق إيمانه ، ويستمر في حركته الصاعدة إلى الأعلى.

إنه الموقف الذي يوازن فيه الإنسان بين حرية جسده في التحرك في خط الشيطان ، وبين حرية روحه في التحرك في خط الله.

١٩٩

لقد فكر يوسف أن الاستسلام لرغبة امرأة العزيز وصويحباتها في ممارسة الفاحشة معهن يجعله عبدا لهن ، وبذلك يفقد إنسانيته فكرا وشعورا وحركة إيمان ، وربما كان يفكّر أن عبوديته لامرأة العزيز التي كان يعيشها لم تكن مشكلة كبيرة له ، لأنها كانت تمثل حجزا لحريته في حركة الحياة العادية ، من تنقلات وتوقيت لليقظة والنوم ، وعمل على خدمتها وخدمة زوجها ولكن ذلك كله لم يكن ليقترب من عمق المضمون الروحي لإنسانيته ، ببعدها الأخلاقي والسلوكي التزاما بأوامر الله ونواهيه.

أما الاستسلام لما يردنه له من شهوات ، فيمثل السقوط في الهاوية حيث يفقد إمكانية رفض ما يرفضه أخلاقيا وروحيّا ، وإمكانية قبول ما يؤمن به من خلال مبادئه ورسالته ، وبهذا تتحقق عبوديته بأقسى دلالاتها في نفسه ، فلا تبقى حالة العبودية من الخارج بل تتحول إلى عبودية الإرادة والقرار ، حيث لا يملك أن يقرّر بحرّية ، ولا يستطيع أن يوجّه إرادته باستقلال ، ولهذا اختار السجن الذي تتكبل فيه حركة الجسد لتتنفس روحه هواء الحرية. وهكذا انطلق الإنسان الحر في شخصه ، ليولد مستقبلا جديدا له يحقق من خلاله الحرّية لأمته وللناس أجمعين.

* * *

كيف نستوحي الموقف؟

وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف ، في كثير من المواقف التي يواجه فيها المؤمنون الضغوط القاسية : الخيار بين السجن والانحراف ، أو بين الاضطهاد والخيانة ، حيث يضطرون للمفاضلة ـ في كثير من الحالات ـ بين قضية الرسالة ، وقضية الذات ، فيختار البعض حريته تحت تأثير تبريرات تصور له التراجع كما لو أنه حالة اضطرار تحلّ فيه المعصية وتسوّغ الانحراف ، لتبني

٢٠٠