روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إن أول ثلاثة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره. وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفتها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤].

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمراد منه أمته ، وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم ، ويحتمل أن يكون عاما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب الخاطبين ، وقيل : إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو عليه كقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات ـ وفيه نظر لا يخفى ـ والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ ، وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر ، قالوا : وهذا على عكس قول القائل : لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب.

وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان ، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان ، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة ، فالأولى أن يقال : علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر ، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه ، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه ، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة ، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية ، وبعض فسره باليهود ، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت ، وإلى ذلك ذهب الفراء ، والقول الأول أظهر ، وأيّا ما كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم ، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد (لا يَغُرَّنَّكَ) بالنون الخفيفة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل ، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب ، وفيما رواه مسلم مرفوعا «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فينظر بم ترجع» ، وقيل : إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مئونة السعي وتحمل المشاق فضلا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها.

(جَهَنَّمُ) التي لا يوصف عذابها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم ، وفيه إشارة إلى مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.

٣٨١

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). (لكِنِ) للاستدراك عند النجاة وهو رفع توهم ناشئ من السابق وعند علماء المعاني لقصر القلب وردّ اعتقاد المخاطب ، وتوجيه الآية على الأول أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة وتصرفهم في البلاد لأجلها جاز أن يتوهم متوهم أن التجارة من حيث هي مقتضية لذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وأن لهم ما وعدوا به أو يقال إنه تعالى لما جعل تمتع المتقلبين قليلا مع سعة حالهم أو هم ذلك أن المسلمين الذين لا يزالون في الجهد والجوع في متاع في كمال القلة فدفع بأن تمتعهم للاتقاء والاجتناب عن الدنيا ولا تمتع من الدنيا فوقه لأنه وسيلة إلى نعمة عظيمة أبدية هي الخلود في الجنات ، وعلى الثاني ردّ لاعتقاد الكفرة أنهم متمتعون من الحياة والمؤمنون في خسران عظيم ، وعلل بعض المحققين جعل التقوى في حيز الصلة بالإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى ، والمراد بها الاتقاء عن الشرك والمعاصي ، والموصول مبتدأ والظرف خبره ، و (جَنَّاتٌ) مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو مرتفع بالابتداء ، والظرف خبره ، والجملة خبر المبتدأ ، و (خالِدِينَ) حال مقدرة من الضمير المجرور في (لَهُمْ) أو من (جَنَّاتٌ) لتخصيصها بجملة الصفة ، والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار ، وقرأ أبو جعفر «لكنّ» بتشديد النون (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل بضمتين وكذا النزل بضم فسكون ما يعد للضيف أول نزوله من طعام وشراب وصلة ، قال الضبي :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له (نزلا)

ويستعمل بمعنى الزاد مطلقا ، ويكون جمعا بمعنى النازلين كما في قول الأعشى :

أو ينزلون فإنا معشر (نزل)

وقد جوز ذلك أبو علي في الآية ، وكذا يجوز أن يكون مصدرا ، قيل : وأصل معنى النزل مفردا الفضل والريع في الطعام ، ويستعار للحاصل عن الشيء ، ونصبه هنا إما على الحالية من (جَنَّاتٌ) لتخصيصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار إن كان بمعنى ما يعد إلخ ، وجعل الجنة حينئذ نفسها (نُزُلاً) من باب التجوز ، أو بتقدير مضاف أي ذات نزل ، وإما على الحالية من الضمير في (خالِدِينَ) إن كان جمعا ، وإما على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف إن كان مصدرا وهو حينئذ بمعنى النزول أي نزلوها نزلا ، وجوز على تقدير مصدريته أن يكون بمعنى المفعول فيكون حالا من الضمير المجرور في (فِيها) أي منزولة ، والظرف صفة (نُزُلاً) إن لم تجعله جمعا وإن جعلته ففيه ـ كما قال أبو البقاء ـ وجهان : أحدهما أنه حال من المفعول المحذوف لأن التقدير (نُزُلاً) إياها ، والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من عند الله أي بفضله ، وذهب كثير من العلماء على أن النزل بالمعنى الأول ـ وعليه تمسك بعضهم بالآية على رؤية الله تعالى لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها وليس وراء الله تعالى شيء ـ وهو كما ترى ، نعم فيه حينئذ إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى وفي ذلك كمال اللطف بهم (وَما عِنْدَ اللهِ) من الأمور المذكورة الدائمة لكثرته ودوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل لقلته وزواله ، والتعبير عنهم ـ بالأبرار ـ ووضع الظاهر موضع الضمير كما قيل : للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل ، وزعم بعضهم أن هذا مما يحتمل أن يكون إشارة إلى الرؤية لأن فيه إيذانا بمقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة ، والموصول مبتدأ ، والظرف صلته ، و (خَيْرٌ) خبره و (لِلْأَبْرارِ) صفة (خَيْرٌ).

٣٨٢

وجوز أن يكون (لِلْأَبْرارِ) خبرا والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار و (خَيْرٌ) على هذا خبر ثان ، وقيل (لِلْأَبْرارِ) حال من الضمير في الظرف ، و (خَيْرٌ) خبر المبتدأ ، وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الاختيار (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لما مات النجاشي : «اخرجوا فصلوا عن أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وأنس وقتادة ، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليه‌السلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ومن معه ، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي ـ وهو بفتح النون على المشهور ـ كما قال الزركشي.

ونقل ابن السيد كسرها ـ وعليه ابن دحية ـ وفتح الجيم مخففة ـ وتشديدها غلط ـ وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة ، ونقل ابن الأثير تشديدها ، ومنهم من جعله غلطا ـ وهو لقب كل من ملك الحبشة ـ واسمه أصحمة ـ بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة ـ والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ، ومعناه عندهم عطية الصنم ، وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن اسمه مكحول بن صعصعة ، والأول هو المشهور ، وقد توفي في رجب سنة تسع ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك ، بل منهم من له مناقب جليلة ، وفيها أيضا تعريض بالمنافقين الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات ، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجرين إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان المناسبة أقوى ، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ) باليهود زادت قوة بعد ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن العظيم الشأن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك ، وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم ، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي خاضعين له سبحانه ، وقال ابن زيد : خائفين متذللين ، وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل (يُؤْمِنُ) وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا ، وقيل : حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط ، وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل ، و (لِلَّهِ) متعلق ـ بخاشعين. وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لأجل الله تعالى ، والأول أولى ، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين ، والجملة في موضع الحال أيضا والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ

٣٨٣

على التحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين ، وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أُولئِكَ) أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة ، واختيار صيغة البعد لإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص : ٥٤] وقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا : إن (أُولئِكَ) مبتدأ والظرف خبره وأجرهم مرتفع بالظرف ، أو الظرف خبر مقدم ، و (أَجْرُهُمْ) مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر المبتدأ ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) نصب على الحالية من (أَجْرُهُمْ).

وقيل : متعلق به بناء على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم ، وجوز أن يكون (أَجْرُهُمْ) مبتدأ ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبره ، «ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف ، والأوجه من هذه الأوجه هو الشائع على ألسنة المعربين (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وإنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذ تكون الجملة استئنافا واردا على سبيل التعليل لقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أو تذييلا لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر ، وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء ، وحينئذ تكون الجملة تكميلا لما قبلها فإنه في معنى الوعد كأنه قيل : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عن قريب ، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة ـ ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام ـ ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى ، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضاء ، فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها ، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر ، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية (وَصابِرُوا) أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرا أكثر من صبرهم ، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشدّ فيكون أفضل ، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨](عَلَى الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه (وَرابِطُوا) أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم ، والمرابطة أيضا نوع من الصبر ، فالعطف هنا كالعطف السابق.

وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنا من الفزع» ، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سماوات وسبع أرضين» ، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعا «الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة».

وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مرّ اندراجا أوليا.

٣٨٤

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تظفروا وتفوزا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح ، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا ، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان الأول ما يتعلق به وحده ، والثاني ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة ، وقد أمر سبحانه ـ نظرا إلى الأول ـ بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر ، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها ، وأمر ـ نظرا إلى الثاني ـ بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان ، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس ، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بدّ منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى ، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى ، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر ، وأولى منه أن يقال : إنه تعالى أمر بالصبر العام أو لا لأنه كما في الخبر بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.

وقال بعضهم : لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر ، ومن هنا قال الشاعر :

لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه ، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب ، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها ، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة.

ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية ، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك ، فقد اخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) إلخ؟ قلت : لا قال : إما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها ، ففيهم أنزلت أي (اصْبِرُوا) على الصلوات الخمس (وَصابِرُوا) أنفسكم وهواكم (وَرابِطُوا) في مساجدكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما علمكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط».

ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له ، ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور

٣٨٥

لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد ، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه‌السلام : «فذلكم الرباط» من قبيل زيد أسد ، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة.

وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد (اصْبِرُوا) على الجهاد (وَصابِرُوا) عدوكم (وَرابِطُوا) على دينكم ، وعن الحسن أنه قال : (اصْبِرُوا) على المصيبة (وَصابِرُوا) على الصلوات (وَرابِطُوا) في الجهاد في سبيل الله تعالى ، وعن قتادة أنه قال : (اصْبِرُوا) على طاعة الله تعالى (وَصابِرُوا) أهل الضلال (وَرابِطُوا) في سبيل الله ، وهو قريب من الأول ، والأول أولى.

هذا «ومن باب الإشارة» (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي العالم العلوي والعالم السفلي (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الظلمة والنور (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محل القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة ، وقال بعضهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) أي قائمين باتباع أوامره (وَقُعُوداً) أي قاعدين عن زواجره ونواهيه (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال (وَيَتَفَكَّرُونَ) بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وذلك التفكر على معنيين ، الأول طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود ، والثاني جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك ، ويفصح بالمقصود قول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

(سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن يكون في الوجود سواك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) وتحجبه عن الرؤية (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وأذللته بالبعد عنك (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير (مِنْ أَنْصارٍ) لاستيلاء التجلي القهري عليهم (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) بأسماع قلوبنا (مُنادِياً) من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن (يُنادِي لِلْإِيمانِ) العياني (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي شاهدوا ربكم فشاهدنا ، أو (إِنَّنا سَمِعْنا) في المقام الأول (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان (فَآمَنَّا) يعنون قولهم : «بلى» حين شاهدوه هناك سبحانه (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي ذنوب صفاتنا بصفاتك (وَكَفِّرْ عَنَّا) سيئات أفعالنا برؤية أفعالك (وَتَوَفَّنا) عن ذواتنا بالموت الاختياري (مَعَ الْأَبْرارِ) وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) بقولك : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن تحجبنا بنعمتك عنك (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لكمال رحمته (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ) القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين (أَوْ أُنْثى) النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) من غير الله تعالى عزوجل (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وهي مألوفات أنفسهم (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بما قاسوا من المنكرين ، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى ، ولهذا قال الجنيد قدس‌سره : جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى وقاتلوا أنفسهم في وهي أعدى أعدائهم وقتلوا بسيف الفناء (لَأُكَفِّرَنَ

٣٨٦

عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) ثلاث وهي جنة الأفعال ، وجنة الصفات ، وجنة الذات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أنهار العلوم والتجليات (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) الجامع لجميع الصفات (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) فلا يكون بيد غيره ثواب أصلا (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي حجبوا عن التوحيد (فِي الْبِلادِ) في المقامات الدنيوية والأحوال (مَتاعٌ قَلِيلٌ) لسرعة زواله وعدم نفعه (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الحرمان (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الذي اختاروه بحسب استعدادهم (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن تجردوا كمال التجرد (لَهُمْ جَنَّاتٌ) ثلاث عوض ذلك (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) معدا لهم «وما عند الله» من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) ويحقق التوحيد الذاتي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من علم التوحيد والاستقامة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات (خاشِعِينَ لِلَّهِ) للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) تعالى وهي تجليات صفاته (ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهي تلك الجنات (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) عن المعاصي (وَصابِرُوا) على الطاعات (وَرابِطُوا) الأرواح بالمشاهدة (وَاتَّقُوا اللهَ) من مشاهدة الأغيار (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالتجرد عن همومكم وخطراتكم ، أو «اصبروا» في مقام النفس بالمجاهدة (وَصابِرُوا) في مقام القلب مع التجليات (وَرابِطُوا) في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء (لَعَلَّكُمْ) تفوزون بالفلاح الحقيقي ، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه.

وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله تعالى عليه وسلم كل ليلة ـ كما أخرج ذلك ابن السني وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

وأخرج الدارمي عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة ، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس ، وخبر ـ من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانا على جسر جهنم ـ موضوع مختلق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد عابوا على من أورده من المفسرين ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل إنه جواد كريم رءوف رحيم ، وليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين ، وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين ، وهو الجلد الأول من روح المعاني (١) ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة ١٢٥٤ ألف ومائتين وأربعة وخمسين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين آمين.

__________________

(١) هو من الطبعة الأولى.

٣٨٧
٣٨٨

سورة النّساء

مدنية على الصحيح ، وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) [النساء: ٥٨]. الآية نزلت بمكة اتفاقا (١) في شأن مفتاح الكعبة ، وتعقبه العلامة السيوطي ، بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية ، أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ، ومما يردّ عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا ، وقيل : إنها نزلت عند الهجرة ، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون ، وعند الكوفيين ست وسبعون ، وعند الباقين خمس وسبعون ، والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما (أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء : ٤٤] وثانيتهما (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [النساء : ١٧٣] فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط ، والشاميون يثبتون الثانية أيضا ، والباقون يقولون هما بعضا آية ، ووجه مناسبتها لآل عمران أمور ، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة به ، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور ، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف (٢) وقوم يسمونه بالتسبيغ ، وذلك كقول ليلى الأخيلية :

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة رواها

رواها فأرواها بشرب سجالها

دماء رجال حيث نال حشاها

ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفي هذه السورة ذكر ذيلها ، وهو قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨] فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ، ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [آل عمران : ١٧٢] إلخ ، وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) [النساء : ١٠٤] الآية ، وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك.

__________________

(١) وذكر الطبرسي أن آية الكلالة نزلت بمكة أيضا ا ه منه.

(٢) ولا يضر في ذلك كون الخطاب الأول (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب الثاني (يا أيها الناس) كما لا يخفى ا ه منه.

٣٨٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ تحقيقه ، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف ، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك ، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا : لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر ، وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها ، ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص ، والأصل عدمه ، والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة ، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد ، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم : بصرف المنافع للسيد ، وعن الثاني بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض ، والمسافر ، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد ، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقا ، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال ، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور.

وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه ، ثم قال : ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى ، وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة ، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل. وعلى العلات لفظ (النَّاسُ) يشمل الذكور والإناث بلا نزاع ، وفي شمول نحو قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خلاف والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة ، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن ، فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخت لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي ، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر ، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول

٣٩٠

المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف فيقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] إلا باعتبار التأكيد ، والتأسيس خير من التأكيد ، وقال الآخرون : المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق ، وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة ، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام الزكاة ، وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم ، ثم قال : أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة ، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب ، وأجيب أما عن الأول فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع ، والجمهور يقولون به ، لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع (١).

وأما عن الثاني فبمنع الملازمة ، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام بمثل هذه الصيغة ، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج؟ والأمر كذلك ، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك ، وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة ، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا ، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب ، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة ، ودخول الإناث في الأمر ـ بالتقوى ـ للدليل الخارجي ، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم ، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح ، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى.

وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد ـ وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوص ـ بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال ، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له ، أو باعثة عليه ، داعية إليه ، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة ، أو النعمة الجسيمة ، ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاء بالشكر الواجب ، وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدا ، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى ، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك ، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه‌السلام ، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد ـ وهو أبو البشر ـ وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم وآدم ، بين كل آدم ألف سنة ، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ، ثم عمرت خمسين ألف سنة ، ثم خلق أبونا آدم عليه‌السلام ، وروي ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج ـ ونقل عن محمد بن علي الباقر ـ أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم وأكثر ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم

__________________

(١) فإن قيل : الأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يصار إلى المجاز إلا لدليل ، أجيب بأنه لا نزاع في أن الصيغة للرجال وحدهم حقيقة ولو كانت لهم وللنساء معا حقيقة أيضا لزم الاشتراك ، وإلا فالمجاز وقد تقرر في الأصول أن المجاز أولى من الاشتراك ا ه منه.

٣٩١

بأربعين ألف سنة آدم غيره ، وفي كتاب الخصائص (١) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عزوجل عالما غيرهم ، وأنى للحجة عليهم ، ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابرسا وجابلقا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه ، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد ، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فما لا يراه أهل السنة والجماعة ، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد ، نعم إن آدمنا هذا عليه‌السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا يخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان ، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك ، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان ، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى ، الأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها.

والقول ـ بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك ـ فمما لا أرتضيه دينا ولا أختاره يقينا ، والخطاب في (رَبَّكُمُ) و (خَلَقَكُمْ) للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناء على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه‌السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا ، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهو عطف على (خَلَقَكُمْ) داخل معه في حيز الصلة ، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل ، والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه‌السلام والأيسر (٢) كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره ، وروى الشيخان «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج» وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك ، وزعم أن معنى منها من جنسها والآية على حد قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه‌السلام كان ينكح بعضه بعضا ، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى ، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل ، أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به ، ومع هذا يقال عليه: إن الحور خلقن من زعفران الجنة ـ كما ورد في بعض الآثار ـ فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه ـ كما هو نص كلام الزاعم ـ فبينها وبين آدم عليه‌السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كليّ يكاد يكون افتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية ، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه أن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب

__________________

(١) لابن بابويه ا ه منه.

(٢) وقيل : إنها خلقت من فضل طينته ونسب للباقر ا ه منه.

٣٩٢

منه ، وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص ، وأيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضا.

والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالد ـ كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك ـ ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه ـ كما أنه قادر على خلق آدم من التراب ـ هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا ، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه‌السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول : بأن ذلك يجر إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه. لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي.

فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء ، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع ، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه ، وليس الإنسان بجزء واحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص ، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.

ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل ، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر ، والخلف ـ كما في الصحاح ـ أقصر أضلاع الجنب ، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام ، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها ، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه‌السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر واختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل.

وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة ، كأنه قيل : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقها أولا (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) إلخ ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا ، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك ، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس ، ولعل ذلك لأنه لو لا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما) أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) تكرارا لقوله سبحانه : (خَلَقَكُمْ) لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة ، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها ، والناس إنما خلقوا (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) من غير مدخل للزوج ، ولا يلزم ذلك على

٣٩٣

العطف ، وجعل المخاطب ـ بخلقكم ـ من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون (وَبَثَّ مِنْهُما) إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر ، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامّا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس ، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامّا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه ، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب. والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا.

والمعطوف متكفل ببيان ذلك ، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى ، والتلوين في (رِجالاً وَنِساءً) للتكثير ، و (كَثِيراً) نعت ل (رِجالاً) مؤكد لما أفاده التنكير ، والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل ، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثا (كَثِيراً) ولهذا أفرد ، وجعله صفة حين ـ كما قيل ـ تكلف سمج ، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات ، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا ، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره ، وقيل : ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب ، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال ، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور ، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى ، وقرئ ـ وخالق ، وباث ـ على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو ـ زيد راكب وذاهب ـ أي وهو ـ خالق وباث.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تكرير للأمر الأول وتأكيد له ، والمخاطب من بعث إليهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كما مر ، وقيل : المخاطب هنا وهناك هم العرب ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ لأن دأبهم هذا التناشد ، وقيل : المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة ، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل : اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها.

وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال ، فإن قول القائل لصاحبه: أسألك بالله ، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه ، و (تَسائَلُونَ) إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها ، وإما بمعنى تسألون ـ كما قرئ به ـ وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة ـ «تتساءلون» ـ بتاءين فحذفت إحداهما للثقل ، وقرأ نافع وابن كثير وسائر أهل الكوفة (تَسائَلُونَ) بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس (وَالْأَرْحامَ) بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ، أو على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حدّ مررت بزيد ، وعمرا ، وينصره قراءة ـ «تساءلون به وبالأرحام» وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ، ويقولون : أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم ـ كما أخرج ذلك غير واحد ـ عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى ، وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد ، والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر

٣٩٤

رضي الله تعالى عنه ، واختاره الفراء. والزجاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.

وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة ـ منهم ابن عطية ـ وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة ، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت».

وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش. والإمام بن أعين ومحمد بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق ـ وكان صالحا ورعا ثقة في الحديث ـ من الطبقة الثالثة.

وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه ، ومنهم إمام الكوفة ـ قراءة وعربية ـ أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم ـ كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر ، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الردّ عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ما ذهب اليه الكوفيون من الجواز ، وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث إن ذكر الأرحام ـ حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ـ ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة ـ وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».

وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو ـ كقول القائل ـ والرحم لأفعلن كذا. ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية ـ لا يخفى ما فيه فافهم ، وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر فقال في الخصائص : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك. رسم دار وقفت في طلله. أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟ بقول : خير عفاك الله تعالى ـ أي بخير ـ ويحذف الباء لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة ، وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه ، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو ـ الله لأفعلن ـ وفي نحو ـ ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك ـ والحمل

٣٩٥

على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو ـ اتق الله تعالى فو الله إنه مطلع عليك ـ ترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.

وقرأ ابن زيد (وَالْأَرْحامَ) بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي (وَالْأَرْحامَ) كذلك أي مما يتقى لقرينة (اتَّقُوا) أو مما يتساءل به لقرينة (تَسائَلُونَ) وقدره ابن عطية ـ أهل لأن توصل ـ وابن جني ـ مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ـ ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال : نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت : بلى قال : فذلك لك» وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة (١) متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى : أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته».

وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة (٢) من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة».

والأخبار في هذا الباب كثيرة ، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي حفيظا ـ قاله مجاهد ـ فهو من رقبه بمعنى حفظه ـ كما قاله الراغب ـ وقد يفسر بالمطلع ، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه ، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم ، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل ، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه ، وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي ، واليتيم ـ من الإنسان من مات أبوه ، ومن سائر الحيوانات فاقد الأم ـ من اليتم وهو الانفراد ، ومن هنا يطلق على كل شيء عز نظيره ، ومنه الدرة اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلا لا يجمع على فعالى بل على فعال ـ ككريم وكرام وفعلاء ـ ككريم وكرماء ـ وفعل كنذير ونذر ـ وفعلى ـ كمريض ومرضى ـ إما لأنه أجري مجرى الأسماء ، ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل (٣) وأفائل ، ثم قلب فقيل : يتامي بالكسر ، ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقبلت الياء ألفا ، وقد جاء على الأصل في قوله :

أأطلال حسن بالبراق «اليتايم»

سلام على أحجاركنّ القدايم

أو لأنه جمع أولا على يتمى ، ثم جمع يتمى على يتامى إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع ، فإن فعيلا فيها يجمع على فعلى ، وفعلى يجمع على فعالى كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى ، ووجه الشبه ما فيه من الذل

__________________

(١) الحجنة بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون ـ صنارة المغزل التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل ا ه منه.

(٢) الشجنة ـ بسكر أوله المعجم وضمه ـ القرابة المشتبكة اشتباك العروق ا ه منه.

(٣) بوزن ـ أمير ابن المخاض فما فوقه ـ الفصيل ا ه منه.

٣٩٦

والانكسار المؤلم ، وقيل : ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات ، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع ـ وكذا العرف ـ خصصه بالصغار ، وحديث «لا يتم بعد احتلام» تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ.

والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك ، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها. وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر ، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء ، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة ، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول ، أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها ، وعدم فك الفك لأكلها ، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به ، وقيل : المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل ، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل ، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص ، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر ، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول ، وقيل : يجوز أن يراد باليتامى الصغار ، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل : وآتوهم إذا بلغوا ، وردّ بأنه قال في التلويح : إن المراد من قوله تعالى : «وآتوا اليتامى أموالهم» وقت البلوغ باعتبار ما كان ، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم ، فالورود للبالغ على كل حال.

وقال بعض المحققين : تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلا بدّ من التأويل بما مر ، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة ، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه ، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين : نسبة بين الشرط والجزاء ـ وهي التعليقية ـ وهي واقعة الآن ، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج ، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين ـ وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة ـ والمقصود الأولى ، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ، ألا تراهم قالوا في نحو ـ عصرت هذا الخل في السنة الماضية ـ أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء ـ وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.

وقيل : المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا ، ومن (الْيَتامى) ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب ، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع اليه عند بلوغه رشيدا ، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) [النساء : ٦] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم ، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد ، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك ، وايضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى :

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) يقوي ذلك ، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره ، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية ـ وما سيأتي بعد ـ كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة ، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ

٣٩٧

وإيناس الرشد ، ويرد على آخر الوجوه أيضا أن فيه تكلفا لا يخفى ، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت (وَآتُوا الْيَتامى) إلخ ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي. والواحدي عن مقاتل. والكلبي أن العمّ لما سمعها قال : أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم نعوذ بالله عزوجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر ، فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) [البقرة : ١٠٨] إلخ ، وقوله سبحانه : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة : ٦١] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ : ١٦] إلخ ، وأخرى بالعكس كما في قولك : بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة ، واقتصر الدميري على الأول ، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني ، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم. وبدل طالعي نحسي بسعدي. وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧](فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) [الكهف : ٨١] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه ، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته ، وقوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) [البقرة : ١٨١] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء ، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده ، وهذا معنى قول الجوهري : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل ، ومعنى التبدل الاستبدال ، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلا ، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال : أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.

والمراد ـ بالخبيث والطيب ـ إما الحرام والحلال ، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا ، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر ، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج ، وقيل : المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث ـ وهو اختزال مال اليتيم ـ بالأمر الطيب ـ وهو حفظ ذلك المال ـ وأيّا ما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد ، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف ، ويقول : درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب ، وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل. أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.

وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم بصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه ، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه ، ولا يضر تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل

٣٩٨

اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره ، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول (١) بما لا اشعار للفظ به ، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق ، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف ، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله ، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمونة إلى أموالكم أي تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام ، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها ، وقد وقع حالا ، وقدره أبو البقاء مضافة ، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم ، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل» ، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد ، أو مع أموالهم ، يفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها ، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ، ويندفع السؤال بذلك.

وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها ، وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق ، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله ـ على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية ـ لحصلت المبالغة ، والتخلص عن الاعتذار ، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا ، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول ـ بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو مالهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم ـ لا يخلو عن خفاء (إِنَّهُ) أي الأكل المفهوم من النهي ، وقيل : الضمير للتبدل ، وقيل : لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك (كانَ حُوباً) أي إثما ، أو ظلما وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان ، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب ، فقال : هو الإثم بلغة الحبشة ، فقال : فهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :

فإني وما كلفتموني من أمركم

ليعلم من أمسى أعق «وأحوبا»

وخصه بعضهم بالذنب العظيم ، وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا.

وقرئ ـ «حابا» ـ وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما ، ووصف بقوله تعالى (كَبِيراً) للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة ، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم (٢) لكن لا رغبة فيهن بل في ما لهنّ

__________________

(١) قيل : وإن ذهب إلى التأويل لا محالة فالأولى أن يقال : المهزول هو الطيب ، والسمين هو الخبيث ضربه مثالا للحرام والحلال فتدبر ا ه منه.

(٢) كذا بخطه ، والخطب سهل ا ه.

٣٩٩

ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظوا في ذلك وهذا قول الحسن ، ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية. فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه ـ والربط يقتضيه ـ و (مِنَ النِّساءِ) غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه ، والإقساط العدل والإنصاف ، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف ، وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء فقيل : هو من قسط بمعنى جار وظلم ، ومنه (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] ولا مزيدة كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] ، وقيل : هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همزة تستعمل استعمال أقسط ، و (الْيَتامى) جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث ، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه ، و (إِنْ) وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران : النصب عند سيبويه ، والجر عند الخليل ، و (ما) موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها ، أو صفتها ، وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا ، وما تختص ـ أو تغلب ـ في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات ، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول : ما زيد؟ في الاستفهام ، أي أفاضل أم كريم؟ وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم.

وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي ـ انكحوا الطيب من النساء ـ وهو تكلف مستغنى عنه ، وقيل : إن إيثارها على (مِنَ) بناء على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين ، وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن ، و (مِنَ) بيانية ، وقيل : تبعيضية ، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته ، وقيل : ما حل لكم ، وروي ذلك عن عائشة ، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك ، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح ، ويلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال ، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام ، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين ، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية.

وقال بعض المحققين : (ما طابَ لَكُمْ) ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن ، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى ، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه

٤٠٠