روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِ ىرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ

٣

تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

(تِلْكَ الرُّسُلُ) استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل : إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا ، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وما فيه من معنى البعد ـ كما قيل ـ للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم ، واللام للاستغراق ، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المذكورة قصصها في السورة ، واللام للعهد ، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر ، وقيل : المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع ، ومنهم من لم يشرع ، وقيل : هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل ، ويؤيد الأول قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا ، والجملة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : بل من (فَضَّلْنا) والمراد بالموصول إما موسى عليه‌السلام فالتعريف عهدي ، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة ، وهم آدم ـ كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ـ وموسى وهو الشهير بذلك ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب ، وقرئ (كَلَّمَ اللهُ) بالنصب وقرأ اليماني ـ كالم الله ـ من المكالمة قيل : وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة ، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف ، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى. وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام. وطأطأت له رءوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين ، والمنزل عليه قرآن مجيد (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة ، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين ، وقيل : المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه ، وقيل : إدريس لقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] ، وقيل : أولو العزم من الرسل ، وفيه ـ كما في الكشف ـ أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام البتة ، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى ، و ـ درجات ـ قيل : حال من بعضهم على معنى ذا درجات ، وقيل : انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل : ورفعنا بعضهم رفعات ، وقيل : التقدير ـ على ـ أو ـ إلى ـ أو ـ في ـ درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه ، وقيل : إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ ، وقيل : إنه بدل اشتمال وليس بشيء (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى. والاخبار بما يأكلون ويدخرون ، أو الإنجيل ، أو كلما يدل على نبوته ، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه ، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد تقدم تفسيره ، وإفراده عليه‌السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط ، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم‌السلام متفاوتة الأقدار

٤

فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي جاءوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق واتباع الرسل الذين جاءوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة ، ومن قدر ـ ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل ـ إلخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من جهة أولئك الرسل ، وقيل : الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل ، المجرور متعلق ـ باقتتل ـ وقيل : بدل من نظيره مما قبله (الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدي إلى الاقتال (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشئ من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه ، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة (مَا اقْتَتَلُوا) وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عزوجل : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس‌سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس ، وذكر أنه خلاف استعمال (لَوْ) عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل ، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم ، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه ـ كما ذكره صاحب الانتصاف ـ وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها ، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد ، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل : ١٠٦] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس ، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) قيل : أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن ، وقيل : يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج

٥

واختاره البلخي ، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب ، وقال الأصم : المراد به الإنفاق في الجهاد ، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى ، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا ، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه ، و (مَا) موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) أي لا مودة ولا صداقة (وَلا شَفاعَةٌ) أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة ، والمراد ـ من وصفه بما ذكر ـ الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عزوجل ؛ و (مِنْ) متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير ـ هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة ـ والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح ، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو. ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا ، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات ، والمغلوب منقاد لحكم الغالب ، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد (يَوْمٌ) جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة ، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا ، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم ، والجملة معطوفة على محذوف ـ أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون ـ إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا ، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر ، أو جعل مشارفة عليه ، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج ، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال : أن عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة ، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير ، قيل : وللناس ـ في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله ـ أقوال خمسة : قولان معتبران ، وثلاثة لا معول عليها ، فالقولان المعتبران : أحدهما أن يكون رفعه على البدلية ، وثانيهما أن يكون على الخبرية ـ والأول هو الجاري على ألسنة المعربين ـ وهو رأي ابن مالك ، وعليه إما أن يقدر للأخير أولا ، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان ؛ ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق ، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة ، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء ، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما ، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي

٦

الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب ، وأما على تقدير الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام ، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم : إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة ، وقد قامت عبادتها على ساق ، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق ، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان ، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه ، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال : إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان ، والأول لا ينفي الإمكان ، والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل ، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا ، والقائلون بعدم تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن (لا) هذه لا خبر لها ، واعترض بأنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من (لا) واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم (لا) وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى ، واستشكل الإبدال من جهتين ، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه ، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي ، وأجيب عن الأول بأن (إِلَّا) تغني عن الضمير لإفهامها البعضية ، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل ، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد.

والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد (إِلَّا) ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل (لا) في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا ، وقد قالوا : بامتناع الحيوان إنسان ، وأجيب عن الأول بأن (لا) لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى ، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم ، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه.

وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا اسم لا باعتبار المحل ، والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود ، وثانيها ـ وقد نسب للزمخشري ـ أن لا إله في موضع الخبر ، و (إِلَّا) وما بعدها في موضع المبتدأ ، والأصل هو ، أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على

٧

الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ ـ بإلا ـ وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد (إِلَّا) والمقصور هو الواقع في سياق النفي ، والمبتدأ إذا اقترن ـ بإلا ـ وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد (إِلَّا) مرفوع ـ بإله ـ كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران ، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان (إِلَّا) فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق ، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة ، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه ، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع (لا) وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد (إِلَّا) في مثل هذا التركيب وجه ، وقد جوزه فيه جماعة ، وعلى الثالث أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.

هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام ، وفي قوله تعالى : (الْحَيُ) سبعة أوجه من وجوه الإعراب : الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة ، الثاني أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف أي هو الحي ، الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، الرابع أن يكون بدلا من (هُوَ) وحده ، الخامس أن يكون مبتدأ خبره (لا تَأْخُذُهُ) ، السادس أنه بدل من الله ، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت ، وفي أصله قولان : الأول أن أصله ـ حيي ـ بياءين من حيي يحيي ، والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء ، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل ، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه ، ووزنه قيل : فعل ، وقيل : فيعل فخفف كميت في ميت ، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية ، أو قوة الحس ، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة ـ كما قيل بكل ـ فالحي ذات قامت به تلك الصفة ، وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات. ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات ، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى ، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله : إن الحي ـ بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن

٨

يمدح الله تعالى به نفسه ـ في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع ، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات ، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة ، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب ، وبين الأزلي والزائل ، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة ، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال : إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان ، فإن قال : كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا : فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به ، وليس كمثل الله تعالى شيء ، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء ، ولعلي من وراء المنع لذلك ، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعى (الْقَيُّومُ) صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ؛ ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي ، ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرئ ، وروى أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه ، وقرئ القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن جبير : الدائم الوجود ، وقيل : القائم بذاته ، وقيل : القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء ، وإيصال أرزاقهم إليهم ـ وهو المروي عن قتادة ـ وقيل : هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه ، وقال بعضهم : هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وذكر الراغب أنه يقال : قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه ، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطى له ما به قوامه ، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام ، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى ، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى ، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل ، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم ، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره ، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك ، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام ، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة ـ بكسر أوله ـ فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع :

وسنان أقصده النعاس فرنقت

في عينه (سنة) وليس بنائم

والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش ، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله ، وتقديم ـ السنة ـ عليه وقياس المبالغة

٩

يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ ، وقيل : إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي ـ السنة ـ يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] ولهذا توسطت كلمة (لا) تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما ، وقيل : إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن ، وقال بعض المحققين : هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء ، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة ـ كما ذكره الراغب ، وغيره من أئمة اللغة ـ ومنه قوله تعالى : (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه ـ السنة ، ولا النوم ـ الذي هو أكثر غلبة منها ، والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه ، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمة ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك؟ قال : اتقوا الله تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك» ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم ، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ـ تقريرا ـ لقيوميته تعالى ـ واحتجاج على تفرده في الإلهية ، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر. وسائر النجوم. والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) استفهام إنكاري ولذا دخلت (إِلَّا) والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي أمر الدنيا (وَما خَلْفَهُمْ) أي أمر الآخرة قاله مجاهد ، وابن جريج ، وغيرهما ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ، عكس ذلك ، وقيل : يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم ، وقيل : ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك ، وقيل : ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل ، ووجه الإطلاق فيه ظاهر ، وضمير الجمع يعود على ما في (ما فِي السَّماواتِ) إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره ، وقيل : للعقلاء في ضمنه فلا تغليب ، وجوز أن يعود على ما دل عليه (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء ، وقيل : الأنبياء خاصة ، والعلم ـ بما بين أيديهم وما خلفهم ـ كناية عن إحاطة علمه سبحانه ، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في ـ بإذنه ـ (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي معلومه كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا ، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة ، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى : (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلم ، وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره

١٠

ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع ، وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته ـ أي الكرسي ـ إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال : «يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وفي رواية الدار قطني. والخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) إلخ «قال : كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره» وقيل : هو العرش نفسه ، ونسب ذلك إلى الحسن ، وقيل : قدرة الله تعالى ، وقيل : تدبيره ، وقيل : ملك من ملائكته ، وقيل : مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل ، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : عن الملك أخذا من كرسي الملك ، وقيل : أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة ، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف ـ فرارا من توهم التجسيم ، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا ، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري ـ الكرسي ـ موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل ؛ وفي رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع» وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.

وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك ، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين ، وقد وسع السماوات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع ، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين ، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك ، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا ، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى ، ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب ، واشتقاقه من الكرس ـ وهو الجمع ـ ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم ، وقيل : كأنه

١١

منسوب إلى ـ الكرس ـ بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي ـ كبختي وبخاتي ـ وفيه لغتان ضم كافة ـ وهي المشهورة ـ وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين ، وكسر السين في (وَسِعَ) على أنه فعل والكرسي فاعله ، وقرئ بسكون السين مع كسر الواو ـ كعلم ـ في علم ، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر ـ كرسيه ـ ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خبره (وَلا يَؤُدُهُ) ـ أي لا يثقله ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته ، وماضيه آد ، والضمير لله تعالى ؛ وقيل : الكرسي (حِفْظُهُما) أي السماوات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه ، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس ، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي المتعالي عن الأشباه ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد ، وعن امارات النقص ، ودلالات الحدوث ، وقيل : هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء (الْعَظِيمُ) ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية ، والوحدانية ، والحياة ، والعلم ، والملك ، والقدرة ، والإرادة ، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.

أخرج مسلم ، وأحمد ، وغيرهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي» وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد» وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي» والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة ، وبعضها منكر جدا كخبر «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين».

ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال : إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري. والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا نقص فيه ، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل ، وأجازه إسحاق بن راهويه ، وكثير من العلماء ، والمتكلمين ـ وهو المختار ـ ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء ، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب أن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون

١٢

على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ٣] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)(١) بسيوف الهوى ونبال الضلال (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاء به الوحي (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي ، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها (وَما ظَلَمْناهُمْ) [هود : ١٠١ ، النحل : ١١٨ ، الزخرف : ٤٣] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول (اللهُ لا إِلهَ) في الوجود العلمي (إِلَّا هُوَ الْحَيُ) الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته (الْقَيُّومُ) الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به ، وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به ، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.

و (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) إذ كلهم له ومنه وإليه وبه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من الخطرات (وَما خَلْفَهُمْ) من العثرات ، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات ، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ) معلوماته التي هي مظاهر أسمائه (إِلَّا بِما شاءَ) كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الذي هي قلب العارف (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد ، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به ، وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت (وَلا يَؤُدُهُ) ولا يثقله

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولفظة «جاءوا» ليست من ضمن الآية.

١٣

(حِفْظُهُما) في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن الذي لا تقيده الأكوان (الْعَظِيمُ) الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : (خالِدُونَ) من بقية آية الكرسي ، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله ، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا ، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى ، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية ـ وهو المحكي عن الحسن ، وقتادة. والضحاك ـ وفي سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك».

وأل في (الدِّينِ) للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام ، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ، من الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولو لا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وإلى ذلك ذهب القفال (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و ـ الرشد ـ بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر ـ رشد ـ بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين ، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض ـ الغي ـ وأصله سلوك طريق الهلاك ، وقال الراغب ، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد ، والغيّ اعتبارا بالأفعال ، ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغيّ بالرشد ، ويقال لمن أصاب : رشد ، ولمن أخطأ غوى ، ويقال لمن خاب : غوى أيضا ، ومنه قوله :

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما)

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال مجاهد ، وقتادة ـ وعن سيعد بن جبير ، وعكرمة أنه الكاهن ، وعن أبي العالية أنه الساحر ، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى ، وعن بعضهم الأصنام ، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت ، واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ـ وإلى ذلك ذهب الفارسي ـ وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير ـ وإليه ذهب سيبويه ـ وقيل : هو جمع ـ وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان ، وأصله على الأول طغيوت ، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت ، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي

١٤

(وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) وهي الإيمان ـ قاله مجاهد ـ أو القرآن ـ قاله أنس بن مالك ـ أو كلمة الإخلاص ـ قاله ابن عباس ـ أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد ، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية ، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات ، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن ، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق ـ كما قيل ـ ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا (لَا انْفِصامَ لَها) أي لا انقطاع لها ؛ والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح ـ كما قال الفراء ـ وفرق بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة ، والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية ، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة ، والعامل (اسْتَمْسَكَ) أو من الضمير المستكن في (الْوُثْقى) لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق ، و (لَها) في موضع الخبر (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالعزائم والعقائد ، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد ، قيل : وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد من الإيمان من الاعتقاد والإقرار.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل (يُخْرِجُهُمْ) بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في (وَلِيُ مِنَ الظُّلُماتِ) التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه ، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات ، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات ، والنور ـ على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار ، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه ، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا ، ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل (أَوْلِياؤُهُمُ) حقيقة أو فيما عندهم (الطَّاغُوتُ) أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق ، والموصول مبتدأ أول ، و (أَوْلِياؤُهُمُ) مبتدأ ثان ، و (الطَّاغُوتُ) خبره ، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها ، قيل : ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع (الطَّاغُوتُ) في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا ، وقرء «الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون الله تعالى (يُخْرِجُونَهُمْ) بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى ، والتعبير عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك (مِنَ النُّورِ) أي

١٥

الفطري الذي جبل عليه الناس كافة ، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه ، وقيل : التعبير بذلك للمقابلة ، وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول ، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان (إِلَى الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى ، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح ، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم ، وفيه بعد (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون أبدا ، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء ، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة ، وقيل : إن قوله سبحانه (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٨] دل على الوعد وكفى به.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف ، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون ، وقيل : استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها ، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عزوجل ، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته ، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي ، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي ـ ألم تنظر ، أو ألم ينته علمك ـ إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل ، وأين مقام الخليل من الحبيب ، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين ، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب ـ وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، كما قاله مجاهد وغيره ـ وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها ، واختلف في وقتها فقيل : عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار ـ وهو المروي عن مقاتل ـ وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما ـ وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في ـ أن ، وإن ـ وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل ، والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما ، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية ، وعلى الثاني تهكمية ـ كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه ـ وجوز أن يكون (آتاهُ) إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه

١٦

أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها ، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه ـ كجئت خفوق النجم ، وصياح الديك ـ ولا يجوز إن خفق وإن صاح.

وأجيب باعتبار الوقت ممتدا ، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح ، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب ، والحق أن التعليل لما أمكن ـ وهو متفق عليه ـ خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام ـ قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور ـ في غاية من التعسف ، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع ، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح ـ ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان ، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير (آتاهُ) لإبراهيم عليه‌السلام لأنه تعالى قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقال سبحانه : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي ـ ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح ، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه‌السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.

وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي ، وإيجاب الطاعة على الخلق ، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان ، والقول : بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول ، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال ، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب ـ والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ـ وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف لحاج ، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت ، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له ـ وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في (آتاهُ) وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا ، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية ، وقد جاء ذلك ، وقال الحلبي : ـ وهذا بناء ـ منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل ـ غلط بل بدل كل من كل ، وفيه ما تقدم من الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا من (آتاهُ) بدل اشتمال ، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال ، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك ، ومن هنا قيل : إن الظرف متعلق بقوله سبحانه : (قالَ أَنَا) إلخ ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل : كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب ، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء ، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه : (حَاجَ) ، و (رَبِّيَ) بفتح الياء ، وقرئ بحذفها ، وأراد عليه‌السلام ـ بيحيي ويميت ـ يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال : ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا

١٧

يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها ، وهي مسألة متنازع فيها ، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية ، وثانيهما أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال : ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة ، قال الإمام : والإشكال عليهما من وجوه.

الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب ، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر ، والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز ، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح ، وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي ، والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب ، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول ، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك ، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه‌السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل ، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء.

فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول ، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه‌السلام بالإماتة والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه‌السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب ، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له : إنك أحييت الحي ولم تحي الميت ، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له : أحي من قتلته إن كنت صادقا

١٨

لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا ، وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة ، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه ، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب ـ فما هو الجواب هنا هو الجواب ـ وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الإتيان بالشمس من مغربها فسكت ، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه‌السلام ـ وهو ضعيف ـ بل الجواب أنهعليه‌السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية ، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال : هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها ـ مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات ـ كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق ، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب ، وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه ، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى شأنه ـ ولا أظنك في مرية من هذا ـ ولعل الأظهر مما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصابئة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن ، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه‌السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله ، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء ـ كما عند بعض القاصرين من المتكلمين ـ مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير ، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء ، وقال : ـ أنا أحيي وأميت وأبدي ـ فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه‌السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء ـ فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب ـ منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة ، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض ، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال ، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل : ربي الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا ، فلما اعترض جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق ـ كما لا يخفى ـ هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.

١٩

وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن يقال : إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه‌السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها ، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ) إلخ. والباء للتعدية ، و (مِنَ) في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل ، وقيل : متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه ، وقرئ ـ بهت ـ بفتح الباء وضم الهاء ـ وبهت ـ بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم ـ وبهت ـ بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا ، و (الَّذِي) فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم ، و (الَّذِي) مفعوله ـ أي فغلب إبراهيم عليه‌السلام الكافر وأسكته ـ وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم ، قال الكيا : وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه ، وقيل : لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة ـ لأرأيت ـ محذوفا أي ـ أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة ـ ألم تر ـ عليه على أنه قد قيل : إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله :

قال لها كلابها أسرعي

كاليوم (مطلوبا ، ولا طالبا)

وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك ـ الفعل الماضي ـ مثل : نصر ، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل : لأن منكر الأحياء كثير ، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل : إنها زائدة ـ وإلى ذلك ذهب الأخفش ـ أي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أو (كَالَّذِي مَرَّ) إلخ ، وقيل. إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : (أَلَمْ تَرَ) كالذي حاج ، أو (كَالَّذِي مَرَّ) وقيل : إنه من كلام إبراهيم عليه‌السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر ، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير ، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على (الَّذِي) نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف ، وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم ، وهو عن ـ وذلك على قلة أيضا ، وقال بعضهم : إن كلا من لفظ (أَلَمْ تَرَ) و (أَرَأَيْتَ) [الكهف : ٦٣ ، الفرقان : ٤٣ ، العلق : ٩ و ١١ و ١٣ ، الماعون : ١] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال ـ أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح (أَلَمْ تَرَ إِلَى) مثله إذ يكون المعنى انظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع ، ولذا لم يستقم عطفك (كَالَّذِي مَرَّ) على (الَّذِي حَاجَ) ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف ـ أي أرأيت كالذي مر ـ فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى ـ أرأيت كالذي حاج ـ فيصح العطف عليه ؛ ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) أو مثل (كَالَّذِي مَرَّ) فعدم

٢٠