روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] وبذكر هذا المفعول قرأ ابن عباس.

وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه ، وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين ، وإليه ذهب الزجاج ، وأبو علي الفارسي ، وغيرهما ، ويؤيده قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ) أي فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم (وَخافُونِ) في مخالفة أمري ، وإما المتخلفون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأولياءه هو المفعول الأول والمفعول الثاني إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف ، أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه ؛ وعلى هذا لا يصح عود ضمير (تَخافُوهُمْ) إلى الأولياء بل هو راجع إلى الناس الثاني كضمير ـ اخشوهم ـ فهو ردّ له أي فلا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال وتجبنوا (وَخافُونِ) فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى امتثال ما يأمركم به ، وإلى هذا الوجه ذهب الحسن والسدي ، وادعى الطيبي أن النظم يساعد عليه ، والخطاب حينئذ لفريقي الخارجين والمتخلفين والقصد التعريض بالطائفة الأخيرة ، وقيل : الخطاب لها و (أَوْلِياءَهُ) إذ ذاك من وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم بأنهم أولياء الشيطان ؛ واستظهر بعضهم هذا القيل مطلقا معللا له بأن الخارجين لم يخافوا إلا الله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) وأنت تعلم أن قيام احتمال التعريض يمرض هذا التعليل ، والفاء لترتيب النهي أو الانتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا أو قولا له مما يوجب عدم الخوف والنهي عنه ، وأثبت أبو عمرو ياء (وَخافُونِ) وصلا وحذفها وقفا والباقون يحذفونها مطلقا وهي ضمير المفعول وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح ، وإن كان للخارجين كان مساقا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم ، وإن كان للجميع ففيه تغليب ، وأيّا ما كان فالجزاء محذوف ، وقيل : إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل ، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس.

هذا (ومن باب الإشارة) في الآيات (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بسيف المحبة (أَوْ مُتُّمْ) بالموت الاختباري (لَمَغْفِرَةٌ) أي ستر لوجودكم (مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) منه تعالى بتحليكم بصفاته عزوجل (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي أهل الكثرة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري (لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ولم يتحملوا مئونة ذلك ، أو يقال : لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك ، أو يقال : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة ، أو يقال : لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كنت في مقام الفعل اختبارا لهم وامتحانا لمقامهم (فَإِذا عَزَمْتَ) وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه ، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لان (١) لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولو لا ذلك

__________________

(١) قوله : (وأنه لان) إلخ كذا في خطه ا ه مصححه.

٣٤١

لاضمحلت تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال.

وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب ، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات ، ونصره المحبين بنعت المدانات ، ونصره العارفين بكشف المشاهدات ، وقد قيل : إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه و (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)(١) لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وهو الغال المحتجب بصفات نفسه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) وهي أسفل حضيض النفس المظلمة (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كونه في لباس الشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم (قَدْ أَصَبْتُمْ) قوى النفس (مِثْلَيْها) مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات (قُلْتُمْ أَنَّى) أصابنا (هذا) ونحن في بيداء السير في الله تعالى عزوجل (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم ، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقة مقربين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق ، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواب طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية ، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف.

والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال ، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بدّ من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة ، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها.

ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث : «الأطفال هم دعاميص الجنة» والدعاميص

__________________

(١) قوله : (وما كان لنبي أن يغل) وقوله : (أفمن اتبع) إلخ كذا في خطه رحمه‌الله ، ولا يخفى على من حفظ القرآن ما بينهما كتبه مصححه.

٣٤٢

جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر ، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ ، ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها ، ومنه خبر «إن الدنيا حلوة خضرة» وقول عمر رضي الله تعالى عنه : إن الغزو حلو خضر ، ومن أمثالهم النفس خضراء ، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه ، وأمر الظرفية في الخبر سهل ، وباقي ما فيه إما على ظاهره ، وإما مؤول ، وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات ، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات ، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار ، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط ، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس.

وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى ، أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم ، وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم ، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سدّ باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والنعمة والزلفى عنده (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد ، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوزهم بالمأمن الأعظم ، والحبيب الأكرم (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عظيمة وهي جنة الصفات (وَفَضْلٍ) أي زيادة عليها وهي جنة الذات ، ومع ذلك (أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ) إيمان (الْمُؤْمِنِينَ) الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الاستقامة (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة (وَاتَّقَوْا) النظر إلى نفوسهم لهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) وراء أجر الإيمان (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وتحشدوا للإنكار عليكم (فَاخْشَوْهُمْ) واتركوا ما أنتم عليه (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة وقالوا (نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) كما أشرنا إليه (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) المحجوبين بأنفسهم ـ فلا تخافوا ـ المنكرين (وَخافُونِ) إذ ليس في الوجود سواي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي موحدين توحيدا حقيقيا والله تعالى الموفق للصواب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.

والمراد من الموصول إما المنافقون المتخلفون ـ وإليه ذهب مجاهد وابن إسحاق ـ وإما قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام لمقاربة عبدة الأوثان ـ وإليه ذهب أبو علي الجبائي ـ وإما سائر الكفار ـ وإليه ذهب الحسن ـ وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ

٣٤٣

قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤١] ـ وإليه ذهب بعضهم ـ ومعنى (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه ، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [آل عمران : ١٣٣] وغيره ، وأوثر ذلك قيل : للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [آل عمران : ١١٤ ، المؤمنون : ٦١] في حق المؤمنين ، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل (يَحْزُنْكَ) وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك ، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي.

والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك ، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ردا وإنكارا لظن الخوف ، والكلام على حذف مضاف ، والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه ، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى ، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية ، و (شَيْئاً) في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما ، وقيل : مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا ، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه ، ولعل المقام يدعو إلى خلافه ، وقرأ نافع ـ «يحزن» ـ بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] فإنه فتحها وضم الزاي ، وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى.

وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع ، والماضي على قراءة الفتح حزن ، وعلى قراءة الضم من أحزن ، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة ، وقيل : حزنته بمعنى أحدثت له حزنا. وأحزنته بمعنى عرضته للحزن ، وقال الخليل : حزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا ، وأحزنته بمعنى جعلته حزينا.

وقرئ يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم.

(يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل : لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم ، فكيف لا يسارعون ، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه ، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين ، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه ، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه (وَلَهُمْ) مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقدر قدره ، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدرة عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه ، وقيل : إنه لما دل قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم ، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم ، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب.

٣٤٤

وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل للنهي السابق ، وأن المعنى ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفا على الإسلام ولا ترحما عليهم أما الأول فلأنهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه ، وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله ، وأما الثاني فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم.

واستأنس له بأنه كثيرا ما وقع نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم وخوطب بأنه ـ ما عليك إلا البلاغ ـ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] ولا يخلو عن بعد (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ولهذا وضع (اشْتَرَوُا) موضع بدلوا فإن الأول أظهر في الرغبة وأدل على سوء الاختيار ، وقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تقدم الكلام فيه ، وفيه هنا تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم ، والمراد من الموصول هنا ما أريد منه هناك والتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة لكونه علما في الخسران الكلي والحرمان الأبدي صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا ، ودال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير ، من مضارة أولياء الله تعالى الذين تكفل سبحانه لهم بالنصر وهي أعز من حليمة وأمنع من لهاة الليث ، وجوز أن يراد بالموصول هنا عام ، ويراد به هناك خاص وهو ما عدا ما ذهب إليه الحسن فيه ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام ، وجوز الزمخشري أن يكون الأول عاما للكفار وهذا خاصا بالمنافقين وأفردوا بالذكر لأنهم أشدّ منهم في الضرر والكيد ، واعترض بأن إرادة العام هناك مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم واعتبار كونها من مبادئ حزنه عليه الصلاة والسلام مما لا وجه له ، ويمكن أن يقال : إن القائل بالعموم في الأول لم يرد بالكفار مقابل المؤمنين حيث كانوا وعلى أي حال وجدوا بل ما يشمل المتخلفين والمرتدين مثلا ممن يتوقع إضرارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم وحينئذ لا يرد هذا الاعتراض.

وقيل : المراد من الأول المنافقون أو من ارتدوا مما هنا اليهود ، والمراد من الإيمان إما الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما هو شأن اليهود مثلا ، وإما الإيمان الاستعدادي الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق والدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة مما عدا ذلك وإما القدر المشترك بين الجميع كما هو دأب الجميع فتفطن (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم والجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه ، أو مقررة للضرر الذي آذنت به الجملة الأولى قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك ، نقله مولانا شيخ الإسلام.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ(١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ

٣٤٥

وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) عطف على قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ) والفعل مسند إلى الموصول ، و «أن» وما عملت فيه سادّ مسدّ مفعوليه عند سيبويه لحصول المقصود وهو تعلق أفعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر ، وعند الأخفش المفعول الثاني محذوف ، و «ما» إما مصدرية ، أو موصولة وكان حقها في الوجهين أن تكتب مفصولة لكنها كتبت في الإمام موصولة ، واتباع الإمام لازم ، ولعل وجهه مشاكلة ما بعده ، والحمل على الأكثر فيها ، و (خَيْرٌ) خبر ، وقرئ خيرا بالنصب على أن يكون ـ لأنفسهم ـ هو الخبر و (لَهُمْ) تبيين ، أو حال من (خَيْرٌ) والإملاء في الأصل إطالة المدة والملأ الحين الطويل ، ومنه الملوان لليل والنهار لطول تعاقبهما ، وأما إملاء الكتاب فسمي بذلك لطول المدة بالوقوف عند كل كلمة.

وقيل : الإملاء التخلية والشأن يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.

وحاصل التركيب لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم ، أو الذي نمليه (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم ، أو خيرية الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة ، ومآل ذلك نهيهم عن السرور بظاهر إطالة الله تعالى أعمارهم وإمهالهم على ما هم فيه ، أو بتخليتهم وشأنهم بناء على حسبان خيريته لهم ، وتحسيرهم ببيان أنه شر بحث وضرر محض ، وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء ، والخطاب إما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأنسب بمقام

٣٤٦

التسلية إلا أن المقصود التعريض بهم إذ حسبوا ما ذكر ، وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم ، والموصول مفعول ، و (أَنَّما نُمْلِي) إلخ بدل اشتمال منه ، وحيث كان المقصود بالذات هو البدل وكان هنا مما يسدّ مسدّ المفعولين جاز الاقتصار على مفعول واحد ؛ وإلا فالاقتصار لو لا ذلك غير صحيح على الصحيح ، ويجوز أن يكون (أَنَّما نُمْلِي) مفعولا ثانيا إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات فلا بد من تقدير ، أما في الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم ، وأما في الثاني أي لا تحسبن الذين كفروا أصحاب (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) إلخ ، وإنما قيد الخير بقوله تعالى : (لِأَنْفُسِهِمْ) لأن الإملاء خير للمؤمنين لما فيه من الفوائد الجمة ، ومن جعل خيرا فيما نحن فيه أفعل تفضيل ، وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على اعتبار الزعم والمماشاة ، والآية نزلت في مشركي مكة ـ وهو المروي عن مقاتل ؛ أو في قريظة والنضير ـ وهو المروي عن عطاء (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا ، إما لأنه غرض وإما لأنه مراد مع الفعل فيشبه العلة عند من لم يجوز تعليل أفعاله بالأغراض. وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا ، ولهذا جعلوا ازدياد الإثم هنا باعثا نحو قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله ، ولما لم يكن الازدياد متقدما على الإملاء هنا ، والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه استعارة بناء على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه يتقدم الباعث في الخارج ولا يخفى تعسفه ، ولذا قيل : إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة.

واعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ولم يصلح هذا تعليلا لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا فتأمل قاله بعض المحققين.

وقرأ يحيى بن وثاب بفتح (أَنَّما) هذه وكسر الأولى وبياء الغيبة في (يَحْسَبَنَ) على أن (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل (يَحْسَبَنَ) و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) قائم مقام مفعولي الحسبان ، والمعنى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان وتدارك ما فات ، (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله ومعناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا وتابوا. والفرق بين القراءتين أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة والإملاء للازدياد منفي ، وعلى القراءة الأخرى هو مثبت ، والآخر منفي ضمنا ولا تعارض بينهما لأنه عند أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة لأنه مشروط بشروط كما علمت.

وزعم بعضهم أن جملة (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) إلخ حالية أي لا يحسبن في هذه الحالة هذا ، وهذه الحالة منافية له وليس بشيء (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا أو حال من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين في القراءة الأخيرة ـ كما ذهب إليه غير واحد من المحققين ـ ليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) وليكون لهم عذاب ، وجعلها بعضهم معطوفة على جملة (لِيَزْدادُوا) بأن يكون (عَذابٌ مُهِينٌ) فاعل الظرف بتقدير ويكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وهو من الضعف بمكان ، نعم قيل : بجواز كونها اعتراضية وله وجه في الجملة هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا ـ قاله شيخ الإسلام ـ ويمكن أن يقال : إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهو أنهم أعزة لديه عزوجل إثر الإشارة إلى ردّه بنوع آخر.

٣٤٧

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية ، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام ، وفي هذا الوعد والوعيد أيضا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الكلام السابق ، وقيل : الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريعته لهم ، ولا يخفى أنه بعيد فضلا عن كونه أقرب ، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين ، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير ، وقال أكثرهم : إن الخطاب للمنافقين ليس إلا ، ففيه تلوين فقط ، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضا.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير ، وغيره عن قتادة أن للكفار ، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدا ، واللام في (لِيَذَرَ) متعلقة بمحذوف هو الخبر لكان ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ـ كما ذهب إليه البصريون ـ أي ما كان الله مريدا لأن يذر المؤمنين إلخ ؛ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل ؛ ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعلم كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم ، وأصل يذر يوذر فحذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة ، وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثله ـ يسع ويطأ ويقع ـ ولم يستعملوا من يذر ماضيا ولا مصدرا ولا اسم فاعل مثلا استغناء بتصرف مرادفه وهو يترك.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل : ما يتركهم على ذلك الاختلاف بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية ، ويفهم منه كما قال السمين : إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه ، وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلا على كل منهما بما يليق به وإشعارا بعلة الحكم ، أفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانا بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين ، وقيل : إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون.

وقرأ حمزة والكسائي «يميّز» بالتشديد وماضيه ميز ، وماضي المخفف ماز ، وهما ـ كما قال غير واحد ـ لغتان بمعنى واحد ، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح ، لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد ، ونظير ذلك عاض وعوض ، وعن ابن كثير أنه قرئ «يميز» بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز ، واختلف بم يحصل

٣٤٨

هذا الميز؟ فقيل : بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد ، وقيل : بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين ، وقيل: بالوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا أردفه سبحانه بقوله :

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم.

والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم ، وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون ، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم تبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى ، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور ، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به ، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء.

وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل ، ولهذا قيل : إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة ، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله ، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر ، وأولى ، وقد سبقه إليه أبو حيان ، والمراد من قوله سبحانه : (لِيُطْلِعَكُمْ) إما ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد ، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له. فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقا ليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت.

ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : عرضت على أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا : يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية» وقال الكلبي : قالت قريش : «تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل : والحق اتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سببا للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالا حتى قال بعض الحفاظ في بعضها : إني لم أقف عليه ، وقد روي عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت ، والاجتباء الاستخلاص كما روي عن أبي مالك ويؤول إلى الاصطفاء والاختيار وهو المشهور في تفسيره ، ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لانكسار ما قبلها ، وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لإرشادهم و «من» لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم‌السلام للدلالة على

٣٤٩

أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر مبين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.

وقيل : إنها للتبعيض فإن الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل ، وفي بعض الأوقات حسبما تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم ، وأما كونه مختصا ببعض الرسل ففي القلب منه شيء. ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا استقلالا وهم يقولون : إن المختص بالرسل عليهم‌السلام هو الثاني على أنه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الاستشكال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ومثله على ما قيل ما في قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) والمراد آمنوا بصفة الإخلاص فلا يضر كون الخطاب عاما للمنافقين وهم مؤمنون ظاهرا.

وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته ، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا ، وقد يقال : إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعا على الغيب.

ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم في أمر الشرائع ، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق. ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان (وَتَتَّقُوا) المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق (فَلَكُمْ) بمقابلة ذلك فضلا من الله تعالى (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وبهذا ترتبط الآية بما قبلها.

وقيل : وجه الارتباط أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع هاهنا في التحريض على بذل المال وبين الوعيد الشديد لمن يبخل وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه وفعل الحسبان مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه.

واعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة فلما تكرر طلبه امتنع حذفه ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضا ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل.

ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولي حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئا واحدا في المعنى كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) [آل عمران : ١٦٩] على القراءة بالياء التحتية ، ثم قال : وهذه الآية ليست كذلك فلا بدّ من التأويل بأن يقال : إن (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الفاعل لما اشتمل على البخل كان في حكم اتحاد الفاعل والمفعول ولذلك حذف ، وقيل : إن الزمخشري كنى عن قوة القرينة بالاتحاد الذي

٣٥٠

ذكره وكلا القولين ليسا بشيء ، والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة فمتى وجدت جاز الحذف ومتى لم توجد لم يجز.

والقول بأن هو ضمير رفع استعير في مكان المنصوب وهو راجع إلى البخل أو الإيتاء على أنه مفعول أو لا تعسف جدا لا يليق بالنظم الكريم ـ وإن جوزه المولى عصام الدين تبعا لأبي البقاء ـ حتى قال في الدر المصون: إنه غلط ، والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب لا توكيد للمظهر كما توهم ، وقيل : الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب ، والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف أي بخل الذين ، والثاني (خَيْراً) كما في الوجه الأول وهو خلاف الظاهر ، نعم إنه متعين على قراءة الخطاب.

وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف أي لا يحسبن ، أو «لا تحسبن الذين يبخلون» بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة أو خيرا لهم من الإنفاق (بَلْ هُوَ شَرٌّ) عظيم (لَهُمْ) والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لكيفية شريته لهم ، والسين مزيدة للتأكيد ، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مثّل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية».

وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوّقه» ثم قرأ الآية.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال : يجعل ما بخلوا به طوقا من نار في أعناقهم.

وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد ، والمعنى كما قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون ، وقال أبو مسلم : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما ، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة ، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روي ذلك عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة ، فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها ، ومعنى (سَيُطَوَّقُونَ) ما قاله أبو مسلم ، أو المراد أنهم يطوقون طوقا من النار جزاء هذا الكتمان.

فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وعليه يكون هذا عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل : ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله تعالى وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته ، فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، والمراد به ما يتوارث ، والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه ، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم ، ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج : أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ملكا له (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من المنع والبخل

٣٥١

(خَبِيرٌ) فيجازيكم على ذلك ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشدّ وهي قراءة نافع ، وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون بالياء على الغيبة.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيت المدراس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ـ وكان من علمائهم وأحبارهم ـ فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية ، وأنزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب و (لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦] الآية.

وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [الحديد : ١١] قال : يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.

وأخرج الضياء. وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فقالوا : يا محمد فقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله تعالى الآية ، والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك ، وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم الوعيد في هذا المقام فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضا ـ كما في سمع الله لمن حمده ـ وإنما عبر عن ذلك بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ولهذا أنكروه ، ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي ، وفيه أيضا من التشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد ما لا يخفى ، والعامل في موضع إن وما عملت فيه قالوا : فهي المحكية به ، وجوز أن يكون ذلك معمولا لقول المضاف لأنه مصدر ، قال أبو البقاء : وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو أصل ضعيف ويزداد هنا ضعفا بأن الثاني فعل ، والأول مصدر وإعمال الفعل لكونه أقوى أولى.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة ، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز ، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول ، كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن اعتقاد أو استهزاء بالقرآن؟! وهو الظاهر ، ولذلك عطف عليه قوله تعالى (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) إيذانا بأنهما في العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها ومعصية استباحوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء بغير حق في اعتقاده أيضا كما هو في نفس الأمر لم يستبعد منه أمثال هذا القول ، ونسبة القتل إلى هؤلاء القائلين باعتبار الرضا بفعل القاتلين من أسلافهم ، وقيل : المعنى سنجمع ما قالوا (وَقَتْلَهُمُ

٣٥٢

الْأَنْبِياءَ) في مقام العذاب ونجزيهما جزاء مماثلا لتشاركهما في أن في كل منهما إبطالا لما جاء به المرسلون ، ولا يخفى أنه مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب.

والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق ، أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل ـ كما قاله بعض المحققين ـ والذوق : كما قال الراغب ـ وجود الطعم في الفم ؛ وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له : أكل ، ثم اتسع فيه فاستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره هنا ـ كما قال ناصر الدين ـ لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المالك وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال ، ولك أن تقول : إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصا وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد ، وقيل : لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون والقائل لهم ذلك ـ كما قال الضحاك ـ خزنة جهنم ، فالإسناد حينئذ مجازي ، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبئ عن اليأس فقد قال الزجاج : ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى ، والقول للتشفي المنبئ عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات ، قرأ حمزة سيكتب بالياء والبناء للمفعول (وَقَتْلَهُمُ) بالرفع ، ويقول بصيغة الغيبة (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد ، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه ، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدارج العمل عليه ، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ـ وإليه ذهب الفحول من المفسرين ـ وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله : وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب.

وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببا له ، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلة الموجبة ، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها ، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه.

فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا ، وأما قولهم في العدل المقتضي إلخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلي وطبعه ، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الإثابة والمعاقبة على ما ينبئ عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي : «سبقت رحمتي غضبي» ، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور وحينئذ :

٣٥٣

لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول : إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه : (وَأَنَّ اللهَ) إلخ فنقول : حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين ، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه ، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب ـ كما قلنا ـ ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه ، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب عليكم ولم يترك ، بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببا لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سببا لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض ، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا فإن دلالة الكلام على كون الظلم سببا لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كان يكون سببا لوجود المسبب يكون عدمه سببا لعدمه ـ كما في طلوع الشمس ووجود النهار ـ فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببا لعدم التعذيب ، وقيل : إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم.

وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى ، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله : أن يعذبهم ، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعا وعقلا. وقوله : للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة إلخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر ، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى إلخ ناشئ عن الغفلة عن مراده ، فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى إلخ ناشئ عن الغفلة أيضا لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم.

فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدا ، ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببا وهاهنا قيدا للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب ، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى.

والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر ـ وإليه ذهب من ذهب ـ ويجوز أن يجعل ـ وإليه ذهب شيخ الإسلام ـ (أَنَ) وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر

٣٥٤

لمضمون ما قبلها ، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم ، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل : إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده ، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في (بِظَلَّامٍ) باعتبار الكمية لا الكيفية ، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا ، وبأن (بِظَلَّامٍ) للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما فنفى اللازم لنفي الملزوم ، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة ، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال ، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام (الَّذِينَ قالُوا) نصب أو رفع على الذم ، وجوز أن يكون في موضع جرّ على البدلية من نظيره المتقدم.

والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا هذا القول : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أي أمرنا في التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ) أي بأن لا نصدق ونعترف (لِرَسُولٍ) يدعي الرسالة إلينا من قبل الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها ـ كما قاله غير واحد ـ وقرئ (بِقُرْبانٍ) بضمتين (تَأْكُلُهُ النَّارُ) أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دويّ ، والمراد من أكل النار للقربان إحالتها له إلى طبعها بالإحراق ، واستعماله في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل ، وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعا في زمن الأنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك ، ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ، ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم ردّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء القائلين تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم (مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) بعينه وهو القربان الذي تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي فما لكم لم تؤمنوا بهم حتى اجترأتم على قتلهم مع أنهم جاءوا بما قلتم مع معجزات أخر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه ، والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان الفعل لأسلافهم لرضاهم به ـ على ما مرّ غير مرة ـ وإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم ، والمعجزات تابعة للمصالح ، ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا : من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير

٣٥٥

قربان ، والظاهر عدم ثبوت هذا الشرط أصلا (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما جئتهم به.

(فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) جاءوا بمثل ما جئت به ، والجملة جواب للشرط لكن باعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تكذيب قومه واليهود له ، واقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن : كذبوك فلا تحزن وتسل ، وجعل بعضهم الجواب محذوفا وهذا تعليلا له ومثله كثير في الكلام.

وقال عصام الملة : لا حاجة إلى التأويل ، والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك ، وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية ، ونظر فيه بأن التسلية ، على ما ذهب إليه الجمهور ـ أتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاها وصريحا ، وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم شفاهي وصريح ، وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك ، ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية ، وعليه يجوز في (مِنْ) أن تتعلق ـ بكذب ـ وأن تتعلق بمحذوف وقع صفة ـ لرسل ـ أي كائنة من قبلك. وعلى الثاني يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحات الباهرات (وَالزُّبُرِ) جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته قاله الزجاج ، وقيل : الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الموضح أو الواضح المستنير.

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن ، ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما اشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] على وجه ، وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالاعتبار وهو واحد ، وقيل : المراد به التوراة ، والإنجيل. والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع ، ووجه إفراد الكتاب بناء على القول الأول ظاهر ، ولعل وجه إفراده بناء على القول الثاني والثالث ، وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعدّدت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد.

وقرأ ابن عامر ـ وبالزبر ـ بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام.

ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف باعتبار أسمائها كألف ولام ، وبالزبر الحروف باعتبار مسمياتها ورسمها كأب ، وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلاما.

وادعى أهل هذا القول : إن لكل من ذلك معاني وأسرارا لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة باعتبار لفظها وباعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وباعتبار اسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف ، ولا يخفى أن هذا اصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه.

والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب ، وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية.

٣٥٦

وفي الخبر «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره» وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله ، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدا ، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم؟ قولان ، والجمهور على دخولهم. فعن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] قالت الملائكة : مات أهل الأرض فلما نزل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت : ٥٧] قالت الملائكة : متنا. ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين. ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة ، فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفي الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة ، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون ، ولعلهم يفرقون بين موت وموت ، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر ، وقرأ اليزيدي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت على الأصل ؛ وقرأ الأعمش (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بطرح التنوين مع النصب كما في قوله :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر لله إلا قليلا

وعلى القراءات الثلاث (كُلُّ نَفْسٍ) مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم ، و (ذائِقَةُ) الخبر ، وأنث على معنى (كُلُ) لأن (كُلُّ نَفْسٍ) نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ (كُلُ) جاز. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وقت قيامكم من القبور ، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة ، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» ، وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي بعد يومئذ عن نار جهنم ، وأصل الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، وقد أريد هنا المعنى اللازم (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي سعد ونجا قاله ابن عباس ، وأصل الفوز الظفر بالبغية ، وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة ، ونيل المراد ، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد ، وفي الخبر «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية».

وأخرج أحمد ، ومسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لذاتها وشهواتها وزينتها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع ما يتمتع به وينتفع به مما يباع ويشترى وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند

٣٥٧

من أمعن النظر فيها :

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وعن قتادة هي متاع متروك أو شكت والله أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن استطعتم ولا قوة إلا بالله ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه هي لين مسها قاتل سمها ، وقيل : الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور ، وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة ، وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ ، وفي الخبر «نعم المال الصالح للرجل الصالح» ، والغرور مصدر أو جمع غار (لَتُبْلَوُنَ) جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن ، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر ، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء ، والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد ، وقد يقال : أتي به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد ، وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم ، وقيل : إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء ، وإنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها (مَتاعُ الْغُرُورِ) ، ولعل الأول أولى كما لا يخفى ، والواو المضمومة ضمير الرفع ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية ، وإنما حركت هذه الواو دفعا للثقل الحاصل من التقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ولم تقلب الواو ألفا مع تحركها وانفتاح ما قبلها لعروض ذلك (فِي أَمْوالِكُمْ) بالفرائض فيها والجوائح ، واقتصر بعض على الثاني مدعيا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى ، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الإتلاف ، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه ، وعن الحسن الاقتصار على الأول. والأولى القول بالعموم وفي (أَنْفُسِكُمْ) بالقتل والجراح ، والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف. أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى. والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب. وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم. وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه. وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل : والتصريح بالقليلة إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم كفار العرب (أَذىً كَثِيراً) كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على تلك الشدائد عند ورودها (وَتَتَّقُوا) أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه (فَإِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى. وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحا على ما قيل ، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما.

وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناء بشأن المخاطب به ، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير خصوصية أحوال المخاطبين (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل

٣٥٨

أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده ، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر ـ كما نقله الراغب ـ والأشهر عزمت على الأمر ، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ «فإذا عزمت» بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب ، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها : نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة ، وقولهم : عزمات الله تعالى ـ كما نقله الأزهري ـ ومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة ، والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل : «وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم» أو فقد أحسنتم ، أو نحوهما (فَإِنَّ ذلِكَ) إلخ ، وجوز أن يكون (ذلِكَ) إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط ، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك ، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال ، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه ، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله ابن أبيّ ـ وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، وقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبيّ ـ قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى الآية.

وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى (وَلَتَسْمَعُنَ) الآية.

وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصة ـ وإليه ذهب ابن جبير ـ وهو المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة وإما ما يشملهم وأحبار النصارى ـ وهو المروي عنه من طريق علقمة ـ وإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب

٣٥٩

مبالغة في تقبيح حالهم ، وقيل : رمزا إلى أن أخذ الميثاق كان في كتابهم الذي أوتوه ، وروى سعيد بن جبير ان أصحاب عبد الله يقرءون وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم ـ (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) جواب ميثاق لتضمنه معنى القسم ، والضمير للكتاب أي بالله لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوة محمد صلى الله تعالى عليه ولم وهو المقصود بالحكاية ، وظاهر كلام السدي وابن جبير أن الضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يصرح باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ليبيننه بياء الغيبة ، وقد قرر علماء العربية أنك إذا أخبرت عن يمين حلف بها فلك في ذلك ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون بلفظ الغائب كأنك تخبر عن شيء كأن تقول : استحلفته ليقومنّ ، الثاني أن تأتي بلفظ الحاضر تريد اللفظ الذي قيل له فتقول : استحلفته لتقومن كأنك قلت : قلت له : لتقومن ، الثالث أن تأتي بلفظ المتكلم فتقول : استحلفته لأقومنّ ، ومنه قوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] بالنون والياء والتاء ، ولو كان تقاسموا أمرا لم يجىء فيه الياء التحتية لأنه ليس بغائب قاله بعض المحققين (وَلا تَكْتُمُونَهُ) عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا ، وقال أبو البقاء : اكتفاء بالتوكيد في الفعل الأول.

وجوز أن يكون حالا من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وإما على رأي من يجوز دخول الواو على المضارع المنفي عند وقوعه حالا أي لتظهرنه غير كاتمين ، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان للمبالغة في إيجاب المأمور به ـ كما ذهب اليه غير واحد ـ أو لأن المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالكتمان المنهي عنه إلغاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة كما قيل.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه كان يفسر (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) بقوله لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل ، وأمر النهي بعد الأمر على هذا ظاهر أيضا ، ولعل الكلام عليه أفيد.

وقرأ ابن كثير ومن معه ولا يكتمونه بالياء كما في سابقه (فَنَبَذُوهُ) أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ولم يراعوه ولم يلتفتوا اليه أصلا فإن النبذ وراء الظهر تمثيل واستعارة لترك الاعتداد وعدم الالتفات وعكسه جعل الشيء نصب العين ومقابلها (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه ، وقيل : الضمير للعهد والأول أولى ، والمعنى أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا الفانية وأغراضها الفاسدة (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فيما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس وجملة يشترونه صفته ، والمخصوص بالذم محذوف ، وقيل : (ما) مصدرية فاعل بئس والمخصوص محذوف أي بئس شراؤهم هذا الشراء لاستحقاقهم به العذاب الأليم ، واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم واستجذاب لمبارهم ونحو ذلك ، وفي الخبر «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» ، وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني؟ فقال : أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت : إما أن تحدثني ، وإما أن أحدثك؟ فقال : حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن نجم الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول : ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ، قال : فحدثني أربعين حديثا ، وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة لو لا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية.

وأخرج ابن سعد عن الحسن لو لا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون

٣٦٠