روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ

٣

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي بالمعاتبة والمعاقبة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف (وَهُمْ أَغْنِياءُ) واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك (رَضُوا) استئناف بياني كأنه قيل : لم استأذنوا أو لم استحقوا ما استحقوا؟ فأجيب بأنهم رضوا (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) تقدم معناه (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) خذلهم فغفلوا عن سوء العاقبة (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يَعْلَمُونَ) أبدا وخامة ما رضوا به وما يستتبعه عاجلا كما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) بيان لما يتصدون له عند الرجوع إليهم ، والخطاب قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجمع للتعظيم ، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف (إِذا رَجَعْتُمْ) من الغزو منتهين (إِلَيْهِمْ) وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها (قُلْ) خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام (لا تَعْتَذِرُوا) أي لا تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) استئناف لبيان موجب النهي ، وقوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) استئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل : لم نهيتمونا عن الاعتذار؟ فقيل : لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثا فقيل : لم لن تصدقونا؟ فقيل : لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد. ونبأ عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني (مِنْ أَخْبارِكُمْ) إما لأنه صفة المفعول الثاني ، والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم ، وليست (مِنْ) زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب.

وقال بعضهم : إنها متعدية لثلاثة و (مِنْ أَخْبارِكُمْ) ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعا مثلا ، وتعقب بأن السد المذكور بعيد ، وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف ، ومعنى (نَبَّأَنَا) على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا ، وقيل : معناه خبرنا ، و (مِنْ) بمعنى عن وليس بشيء ، وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماع المنافقين المعتذرين رأسا ببيان عدم رواح اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام أيضا وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية (نُؤْمِنَ) باللام مر بيانها : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ). أي سيعلمه سبحانه علما يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية ، والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه

٤

من النفاق أم تثبتون عليه ، وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس استتابة وإمهال للتوبة ، وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه : (وَرَسُولُهُ). للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عزوجل بأعمالهم : (ثُمَّ تُرَدُّونَ) يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم ، وتقديم الغيب على الشهادة قيل : لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده ، كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى.

ولا يخفى عليك أن هذا قول يكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريا لا حصوليا. وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم في كيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة ، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علما له تعالى كذا قيل وفيه نظر ، وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الأعلام أقدام ، ولعل النوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك (فَيُنَبِّئُكُمْ) عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن «ما» موصولة أو بعملكم المستمر على أن «ما» مصدرية ، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه ، وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) إلخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة وترويجا لها.

والسين للتأكيد على ما مر ، والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام وهو ما اعتذر به من الأكاذيب ، والجملة بدل من يعتذرون أو بيان له (إِذَا انْقَلَبْتُمْ) من سفركم (إِلَيْهِمْ) والانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء ، وفائدة تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذان بأنه ليس لرفع ما خاطبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا) إلخ بل هو أمر مبتدأ (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قوله تعالى : (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) لكن لا إعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب ومقت كما ينبئ عنه التعليل بقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) فإنه صريح في أن المراد بالإعراض إما الاجتناب عنهم لما يفهم من القذارة الروحانية وإما ترك استصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها التطهير بالحمل على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير ، وقيل : إن (لِتُعْرِضُوا) بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن الإعراض فيه إعراض مقت أيضا ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه ، وقوله تعالى : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتابا على حد ـ عتابه السيف ووعظه الصفع ـ فلا تتكلفوا أنتم بذلك (جَزاءً) نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى المجازاة كأنه قيل : مجزيون جزاء (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما يكسبونه على سبيل الاستمرار من فنون السيئات في الدنيا أو بكسبهم المستمر لذلك.

وجوز أن يكون مفعولا له وحالا من الخبر عند من يرى ذلك : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) بدل مما سبق ، والمحلوف

٥

عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به تعالى على ما اعتذروا (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) حسبما طلبوا (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فرضاكم لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر لرضا أحد مع سخطه تعالى ، وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن التلبيس أي إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم فلا يهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر ، ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل بهم ، والمراد من الآية نهي المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن ، والآية نزلت على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في جد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا ، وعن مقاتل أنها نزلت في عبد الله ابن أبي حلف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى فلم يفعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الْأَعْرابُ) هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على ما روي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد ، فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقا والأعراب سكان البادية منهم ، ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي ، وقيل : العرب سكان المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم فهما متباينان ، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما يقال الواحد : مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال المجوس واليهود ، أي أصحاب البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم استماع الكتاب والسنة وهم أشبه شيء بالبهائم ، وفي الحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن» وجاء «ثلاثة من الكبائر» وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا ، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد ، وكان ذلك لغلبة الشر في أهل البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخير وإنه ليفضي إلى شر كثير ، والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧] إذ ليس كلهم كما ذكر ، ويدل عليه قوله تعالى الآتي : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ) إلخ ، وكان ابن سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول : إذا تلا أحدكم هذه الآية فليتل الآية الأخرى يعني بها ما أشرنا إليه ، والآية المذكورة كما روي عن الكلبي نزلت في أسد ، وغطفان ، والعبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب (وَأَجْدَرُ) أي أحق وأخلق ، وهو على ما قال الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه ويتعدى بالباء فقوله تعالى : (أَلَّا يَعْلَمُوا) بتقدير بأن لا يعلموا (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) وهي كما أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد ، وأدرج بعضهم السنن في الحدود ، والمشهور أنها تخص الفرائض ، أو الأوامر والنواهي لقوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] و (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة : ١٨٧] ، ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر أن لا يعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه ، وقيل : المراد منها بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد ، وقيل : مقادير التكاليف (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم أحوال كل من أهل الوبر والمدر (حَكِيمٌ) بما سيصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ) أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده. وقيل : من الفريق المذكور (مَنْ يَتَّخِذُ)

٦

أي بعد (ما يُنْفِقُ) أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام (مَغْرَماً) أي غرامة وخسرانا من الغرام بمعنى الهلاك ، وقيل : من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية ، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم ، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة ، وما في صيغة اتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به ، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) [المائدة : ٦٤] إلخ ، وجوز أن تكون الجملة إخبارا عن وقوع ما يتربصون به عليهم ، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقد تقدم تمام الكلام عليها ، و (السَّوْءِ) في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك : رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه ، وعلى ذلك قوله تعالى : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] وقيل : معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا : شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو «السّوء» هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فرق الفراء بينهما : وقال أبو البقاء : السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال : سؤته سوءا وسماءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة ، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه ، وقال مكي : المفتوح معناه الفساد والمضموم معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان (وَاللهُ سَمِيعٌ) بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق (عَلِيمٌ) بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر ، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَمِنَ الْأَعْرابِ) أي من جنسهم على الإطلاق (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على الوجه المأمور به (وَيَتَّخِذُ) على وجه الاصطفاء والاختيار (ما يُنْفِقُ) في سبيل الله تعالى (قُرُباتٍ) جمع قربة بمعنى التقرب ، وهو مفعول ثان ليتخذ ، والمراد اتخاذ ذلك سببا للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير ، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به والأول اختيار الجمهور ، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد ، وقوله سبحانه : (عِنْدَ اللهِ) صفة (قُرُباتٍ) أو ظرف ليتخذ.

وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لقربات على معنى مقربات عند الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) عطف على (قُرُباتٍ) أي وسببا لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عنه أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه ، فقد قالوا : لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا لما في ذلك من تعظيم المتبوع ، واختلف هل هي مكروهة تحريما أو تنزيها أو خلاف الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني ، لكن في خطبة شرح الأشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح. وما رواه الستة غير الترمذي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى» لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداء وليس الغير كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام فلا يقال : عليّ عليه‌السلام بل يقال : رضي الله تعالى عنه ، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر

٧

فيقال : السلام أو سلام عليك أو عليكم ، وهذا مجمع عليه انتهى. أقول : ولعل من الحاضر «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» و «سلام عليكم دار قوم مؤمنين» وإلا فهو مشكل ، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم‌السلام كما أن قولنا : عزوجل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عزوجل وإن كان عزيزا جليلا صلى الله تعالى عليه وسلم ، ثم قال اللقاني : وقال القاضي عياض : الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك ، وسفيان ، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩ ، التوبة : ١٠٠ ، المجادلة : ٢٢ ، البينة : ٨] (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الحشر : ١٠] وأيضا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهي عنه فتجب مخالفتهم انتهى ، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام استقلالا عملا بظاهر الحديث السابق ، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فافهم. ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه سببا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بأيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر ، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحا.

وجوز عطف (وَصَلَواتِ) على (ما يُنْفِقُ) وعليه اقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم ، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو ـ لما ـ التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر. وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول ، وتنوين (قُرْبَةٌ) للتفخيم المغني عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها ، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى.

والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرئ «قربة» بضم الراء للاتباع (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك «في» الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وفيه تفسير للقربة أيضا ، والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقرير لما تقدم كالدليل عليه ، والآية كما أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال الكلبي : في أسلم ، وغفار ، وجهينة وقيل : نزلت التي قبلها في أسد ، وغطفان ، وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزني رضي الله تعالى عنه.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم ، والمراد بهم كما روي عن سعيد ، وقتادة ، وابن سيرين ، وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين ، وقال عطاء بن رباح : هم أهل بدر ، وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان وكانت بالحديبية ، وقيل : هم الذين أسلموا قبل الهجرة (وَالْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البيعة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية

٨

وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي متلبسين به ، والمراد كل خصلة حسنة ، وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن (مِنَ) تبعيضية أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين وكثير من الناس ذهب إلى هذا. روي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا قلت : وما ذلك الشرط؟ قال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال : هو أن يتبعوهم بإحسان في القول وأن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه ، قال حميد بن زياد : فكأني ما قرأت هذه الآية قط ، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول.

واعترض القطب على التفاسير للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار. وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من عداهم من ذلك القبيل. واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده ، واستدل عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ما ذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ ، وأيضا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثنى الله تعالى على كل من كان سابقا إليهما وأثبت لهما ما أثبت ، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوي قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنة حسنة ؛ وفي الخبر «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى أنه حسن.

ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة ، وأيا ما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما نالوه من النعم الجليلة الشأن. وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر (الْأَوَّلُونَ) أو (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) وأن يكون (السَّابِقُونَ) معطوفا على (مَنْ يُؤْمِنُ) أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ (وَالْأَنْصارِ) بالرفع على أنه معطوف على السابقون.

وأخرج أبو عبيدة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بإسقاط الواو من «والذين اتبعوهم» فيكون الموصول صفة الأنصار حتى قال له زيد : إنه بالواو فقال : ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال : هي بالواو فتابعه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي

٩

قالا : مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ «والذين» بالواو فقال : من أقرأك هذه؟ فقال : أبي فأخذ به إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي : صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه‌السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر.

وفي رواية أخرجها أبو الشيخ أيضا عن محمد بن كعب أن أبيّا رضي الله تعالى عنه : تصديق هذه الآية في أول (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) [الجمعة : ٣٠] وفي أوسط (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] وفي آخر (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) [الأنفال : ٧٥] إلخ ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار ، وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق بالمهاجرين ، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي تدل عليه قصة السقيفة ، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان. وغيرهما عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :» آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار».

وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال : «يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال : يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟ فقالوا : رضينا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوني فيما قلت. قالوا : يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور ، وجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك ، وجدتنا ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ، فقال عليه الصلاة والسلام : لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت : صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك لصدقتم ، قالوا : بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا» فانظر كيف قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيف أجابوه رضي الله تعالى عنهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) أي هيأ لهم ذلك في الآخرة. وقرأ ابن كثير من تحتها وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) من غير انتهاء (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الذي لا فوز وراءه ، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب ، ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره» من باب المبالغة.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) شروع في بيان منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي وممن حول بلدكم (مُنافِقُونَ) والمراد بالموصول كما أخرج ابن المنذر عن عكرمة : جهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار ، وكانت منازلهم حول المدينة ، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي ،

١٠

والواحدي ، وابن الجوزي ، وغيرهم. واستشكل ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها. فقد أخرج الشيخان ، وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «قريش ، والأنصار ، وجهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره» وجاء عنه أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى». وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ) فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن ـ المنافقون ـ كأنه قيل : المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة ، وهو من عطف مفرد على مفرد ويكون قوله سبحانه : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون ، واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها ، وجوز أن يكون (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا ، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى مقدم عليه مقيس شائع نحو ـ منا أقام ومنا ظعن. وفي غير ذلك ضرورة أو نادر ، ومنه قول سحيم :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

على أحد التأويلات فيه ، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد ، والأمرد الذي لا شعر على وجهه ، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا ، وقال ابن عرفة : أصله الظهور ومنه قولهم : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها ، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.

وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك ، وقيل : إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين ؛ ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) بأهل الحضر ، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء.

وقوله تعالى : (لا تَعْلَمُهُمْ) بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم ، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم ، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفعولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين ، وقيل : المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا ، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة ، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير.

والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوزة فيهم إلا ما لا تخفى عليه

١١

خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص ، وأمر تعليق العلم هنا كأمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون : فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي ، قال نوح عليه‌السلام : و (ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١٢] وقال شعيبعليه‌السلام: (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤ ، هود : ٨٦] وقال الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل على الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا (سَنُعَذِّبُهُمْ) ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة (مَرَّتَيْنِ) أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم جمعة خطيبا فقال قم يا فلان فاخرج فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرف فقال له رجل : أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر». وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل ، ولعل المراد به خوفه وتوقعه ، وقيل : هو فرضي إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنهم أنهم عذبوا بالجوع مرتين ، وعن الحسن أن العذاب الأول أخذ الزكاة والثاني عذاب القبر ، وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر ، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق المؤكد بالتمرد فيه.

وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] لقوله سبحانه : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ١٢٦] (ثُمَّ يُرَدُّونَ) يوم القيامة الكبرى (إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وهو عذاب النار ، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب إسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالا وأن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله سبحانه وتعالى ؛ والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم ، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط. وقد يقال : إن في بناء «يردون» لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم (وَآخَرُونَ) بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل : هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم. قيل : وهو مبتدأ خبره جملة (خَلَطُوا) وهي حال بتقدير ـ قد ـ والخبر جملة (عَسَى اللهُ) إلخ ، والمحققون على أنه معطوف على (مُنافِقُونَ) أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون (اعْتَرَفُوا) أي أقروا عن معرفة (بِذُنُوبِهِمْ) التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالإيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة

١٢

تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم.

وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية ، وروي أنهم كانوا خمسة ، والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآخَرَ سَيِّئاً) تخلفا عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا عن الحسن ، والسدي ، وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الإثم ، وقيل : العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيّئ ما كان ضده ، والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطا به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض ، والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم : بعت الشاء شاة ودرهما ، وهو من باب الاستعارة لأن الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد ، ونقل شارح اللباب عن ابن الحاجب أن أصل المثال بعت الشاء شاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم : كل رجل وضيعته ، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء واللبن بالماء ، وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما اقتضى مخلوطا به فهو أما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل : خلطت هذا وذاك على أن كلّا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان.

واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق ، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق ، وفيه تسليم حديث الاستلزام ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط ، والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن مثلا معناه أن يقصد الماء أولا أو يجعل مخلوطا باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه ، فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيئ أنهم أتوا أولا بالصالح ثم استعقبوه سيئا ومعنى خلط السيّئ بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيئ ثم أردفوه بالصالح ، وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح أي تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح والسيّئ في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر ، وكلام الزمخشري ظاهر في اتحادهما وفيه ما فيه ، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة ، وادعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ وخلطوا آخر سيئا بعمل صالح هو خلاف الظاهر.

واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل : عملوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وأنا أختار أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح

١٣

الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما معه ومن السيّئ تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولا بالضم هو الاعتراف ، والتعبير عن ذلك بالخلط للإشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها ، وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيّئ الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله ، ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيّئ ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا ، ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير ففي الخبر «أتبع السيئة بالحسنة تمحها» ، وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها ، وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال : لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوما حبيب ابن مسلمة فقال : يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال : بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائدة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ولكنك كما قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضا ، وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه ، ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال : إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجّدا وقياما أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٢ ، ٤٣] إلى قوله سبحانه : (نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٦] فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) إلخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم ، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ) إلخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) مطلقا وإلا فهي وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى إلخ.

وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا ، وقال الشهاب : لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود ، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث ، وكلمة (عَسَى) للأطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لما أفادته من وجوب القبول ، وليس هو الوجوب الذي يقوله المعتزلة كما لا يخفى أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما انطلقوا أطلقوا فجاءوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها الثلث كما جاء في بعض الروايات ، فليس المراد من الصدقة الصدقة المفروضة أعني الزكاة لكونها مأمورا بها وإنما هي على ما قيل كفارة لذنوبهم حسبما ينبئ عنه قوله عزوجل : (تُطَهِّرُهُمْ) أي عما تلطخوا به من أوضار التخلف. وعن الجبائي أن

١٤

المراد بها الزكاة وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم تكن تقبل منه كما علمت وأمر التطهير سهل ، وأيا ما كان فضمير أموالهم لهؤلاء المعترفين ، وقيل : إنه على الثاني راجع لأرباب الأموال مطلقا ، وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر أجناس المال ، والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من (صَدَقَةً) والتاء في (تُطَهِّرُهُمْ) للخطاب. وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل (خُذْ) أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه أو مستأنفة كما قال أبو البقاء ، وجوز على احتمال الوصفية أن تكون التاء للغيبة وضمير المؤنث للصدقة فلا حاجة بنا إلى بها. وقرئ تطهرهم من أطهره بمعنى طهره (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) بإثبات الياء وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه وقيل استئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم ، وكون المراد ترفع منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين ظاهر في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه ، هذا على قراءة الجزم في (تُطَهِّرُهُمْ) وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه ، وظاهر ما في الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله سبحانه : (بِها) والحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن فصاحة التنزيل. وقرأ مسلمة ابن محارب «تزكهم» بدون الياء (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم واستغفر ، وعدي الفعل بعلى لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين ، وإرادة المعنى اللغوي هنا هو المتبادر ، والحمل على صلاة الميت بعيد وإن روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ولذا استدل بالآية على استحباب الدعاء لمن يتصدق ، واستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم : يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ ، وقيل : يجب في صدقة الفرض ويستجب في صدقة التطوع ، وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير وألحق الاستحباب مطلقا (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) تعليل للأمر بالصلاة ، والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن ، والاطمئنان مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاته عليه الصلاة والسلام في الالتجاء إليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه سبحانه قبلهم.

وقرأ غير واحد من السبعة «صلواتك» بالجمع مراعاة لتعدد المدعو لهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء (عَلِيمٌ) بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة ، والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين وحقق لما فيهما (أَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم والاعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.

وقرئ تعلموا بالتاء وهو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير قل ، وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود التمكين والتحضيض لا غير ، واختار بعضهم كونه للغير لا غير لما روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم فنزلت ، ويشعر صنيع الجمهور باختيار الأول وهو الذي يقتضيه سياق الآية ، والخبر لم نقف على سند له يعول عليه أي ألم يعلم هؤلاء التائبون (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) الصحيحة الخالصة (عَنْ عِبادِهِ) المخلصين فيها ، وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم التي تابوا عنها ، وقيل : عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى أن الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي أنه تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير

١٥

الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه ، وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة والسلام لأن كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك ، والمراد بالعباد إما أولئك التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية ما يشير إليه القبول وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله فالأخذ هنا استعارة للقبول ، وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى الله تعالى مجازا مرسلا ، وقيل : نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله سبحانه : (خُذْ) ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيما لشأن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى الحقيقة ما لا يخفى ، والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات الاعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعا حسنا ، وفي التعبير به ما لا يخفى من الترغيب. وقد أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وأن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله تعالى حتى تكون مثل أحد. وأخرج الدارقطني في الافراد عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فيقع في يد الله عزوجل قبل أن يقع في يد السائل ثم تلا هذه الآية». وفي بعض الروايات ما يدل على أنه ليس هناك أخذ حقيقة ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم».

وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة الآية. و «أل» في الصدقات يحتمل أن تكون عوضا عن المضاف إليه أي صدقاتهم وأن تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم اندراجا أوليا وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه المختص المتأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وذلك شأن من شئونه وعادة من عوائده المستمرة ، وقيل غير ذلك ، والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد مفعولية (وَقُلِ اعْمَلُوا) ما تشاءون من الأعمال (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) خيرا كان أو شرا ، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الاسم الجليل ، والتأخير عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت ، والمراد من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علما جليا ، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه إما بالوحي أو بغيره.

وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في الإخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنا ما كان» وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم ، وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء ، ومثله بل أدهى وأمرّ ما زعمه بعض الإمامية أنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون ذلك خاصا بالدنيوي من إظهار المدح

١٦

والإعزاز مثلا وليس بالرديء ، وقيل : يجوز إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها ، وتعقب بأن فيه التزام القول برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد ، وأنت تعلم أن من الأعمال ما يرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الالتزام المذكور على أن ذلك الالتزام في جانب المعطوف لا يخفى ما فيه.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) أي فسيظهره (وَسَتُرَدُّونَ) أي بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ومنه ما سترونه من الأعمال (وَالشَّهادَةِ) ومنها ما تظهرونه ، وفي ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى. (فَيُنَبِّئُكُمْ) بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قبل ذلك في الدنيا والإنباء مجاز عن المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ففي الآية وعد ووعيد. (وَآخَرُونَ) عطف على آخرون قبله أي ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين (مُرْجَوْنَ) أي مؤخرون وموقوف أمرهم (لِأَمْرِ اللهِ) أي إلى أن يظهر أمر الله تعالى في شأنهم.

وقرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي (مُرْجَوْنَ) بغير همز والباقون «مرجئون» بالهمز وهما لغتان يقال : أرجأته وأرجيته كأعطيته ، ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة كقولهم : قرأت وقريت وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير ، وعلى كونه لغة أصلية هو يائي ، وقيل : إنه واوي ، ومن هذه المادة المرجئة إحدى فرق أهل القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه ، وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية عن الاعتبار في استحقاق العذاب حيث قالوا : لا عذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر ، وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد ، أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم : لا يضر مع الإيمان معصية انتهى.

وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه ، وأما على الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم ، والمراد بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهو المروي عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١١٧] إلخ ، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله تعالى فاعل بهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين وأما متوبا عليهم. وقيل : خبر (آخَرُونَ) على أنه مبتدأ و (مُرْجَوْنَ) صفته ، والأول أظهر ، وإما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين ، وقيل : للترديد بالنظر للفساد ؛ والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف ، والمقصود تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته إذ لا يجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب وإنما شدد عليهم مع إخلاصهم ، والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الآنف وارتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا ترى قول راجزهم في الخندق :

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

وهؤلاء من أجلّتهم فكان تخلفهم كبيرة ، وروي عن الحسن أن هذه الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من علمت بل يراد به آخرون منافقون ، وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من قال في (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) أي

١٧

إن أصروا على النفاق. وقد علمت أن ذلك خلاف ما في الصحيحين. وحمل النفاق في كلام القائل على ما يشبهه بعيد ودعوى بلا دليل (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) فيما فعل بهم من الإرجاء وفي قراءة عبد الله «غفور رحيم» (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على ما سبق أي ومنهم الذين ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره (أَفَمَنْ أَسَّسَ) والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا ، وأن يكون منصوبا بمقدار كأذم وأعني.

وقرأ نافع وابن عامر بغير واو ، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف ، وأن يكون بدلا من «آخرون» على التفسير المرجوح ، وقوله سبحانه : (ضِراراً) مفعول له وكذا ما بعده وقيل : مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لاتخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا ، والضرار طلب الضرر ومحاولته ، أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت. وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم ابن عدي أحد بلعجان فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه : أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون له اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد. وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا وثعلبة بن حاطب ، ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع ، وزيد ، ونبيل بن الحارث ، ونجاد بن عثمان ، وبجدح من بني ضبيعة. وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي ـ كما قال العراقي ـ بدون سند «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقي فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارا (وَكُفْراً) أي وليكفروا فيه ، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه ، وقيل عليه : إن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير. واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقولة لما اشتمل عليه فتأمل (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم كما قال السدي أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم (وَإِرْصاداً) أي ترقبا وانتظارا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله تعالى عنه ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه‌السلام قال : فأنا عليها فقال له عليه الصلاة والسلام : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا فأمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب وسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك

١٨

إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم.

(مِنْ قَبْلُ) متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت ، والمراد المبالغة في الذم (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) أي ما أردنا ببناء هذا المسجد (إِلَّا الْحُسْنى) أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين ، فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به لأردنا ، وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما حلفوا عليه (لا تَقُمْ) أي للصلاة (فِيهِ) أي في ذلك المسجد (أَبَداً) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير (لا تَقُمْ) بلا تصل على أن القيام مجاز عن الصلاة كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له» (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ) أي بني أساسه (عَلَى التَّقْوى) أي تقوى الله تعالى وطاعته ، و (عَلَى) على ما يتبادر منها ، ولا يخفى ما في جعل التقوى وهي ـ هي ـ أساسا من المبالغة ، وقيل : إنها بمعنى مع ، وقيل : للتعليل لاعتباره فيما تقدم من الاتخاذ ، واللام إما للابتداء أو للقسم أي والله لمسجد. وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ والجملة بعده صفته ، وقوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) متعلق بأسس و (مِنْ) لابتداء الزمان على ما هو الظاهر ، وفي ذلك دليل للكوفيين في أنها تكون للابتداء مطلقا ولا تتقيد بالمكان ، وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم. وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون ـ من ـ لابتداء الغاية فيه. وأجيب بأن مرادهم من التأويل الفرار من كونها لابتداء الغاية في الزمان وقد حصل بذلك التقدير ، وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان ، وقال الرضي : لا أرى في الآية ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور ـ من ـ منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد (مِنْ) وهذا معنى في ، و (مِنْ) في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلا لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين ، والحق أن كثيرا من الآيات ، وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه ، وقوله تعالى : (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) خبر المبتدأ و (أَحَقُ) أفعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم ، وقيل : إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه ، واختلف في المراد منه. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك أنه مسجد قباء وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه. فأخرج ابن أبي شيبة والترمذي. والحاكم وصححه وابن ماجة عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي : لا نعرف لأسيد هذا شيئا يصح غير هذا الحديث ، وفي معناه ما أخرجه أحمد والنسائي عن سهل بن حنيف. وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستدلوا بما أخرجه مسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان في المسجد الذي أسس

١٩

على التقوى. فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد لمسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء. وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : هو مسجدي هذا ، وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة ، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال : كل من المسجدين مراد لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه ، والسر في إجابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذلك ، ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه ، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه : (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يستدعي المداومة ، ويعضده توكيد النهي بقوله تعالى : (أَبَداً) ومداومة الرسول عليه الصلاة والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام.

وأما ما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب ، وجابر ، وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال : فهل مع ذلك غير؟ قالوا : لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال عليه الصلاة والسلام : هو ذاك فعليكموه» فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار ، وأنا أقول : قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء. فقد أخرج أحمد ، وابن خزيمة ، والطبراني ، وابن مردويه. والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فذكروا أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط».

وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، والبغوي في معجمه وابن جرير والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه نحو ذلك ، وأخرج عبد الرزاق والطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل قباء : ما هذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)؟ قالوا : يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته».

وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن عبد الله بن الحارث بن نوفل نحوه إلى غير ذلك ، وروي القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابة وغيرهم كابن عمر ، وسهل الأنصاري ، وعطاء ، وغيرهم وأما الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكثيرة أيضا وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضا ، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر ، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفا فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى. وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثا بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقا ضرورة. نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء : إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة.

قال السهيلي : ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله

٢٠