روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

عنه ، ويؤيد الاستدلال بالآية على ما ذكر ما أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيهم عبد الله بن مسعود فقال : إن كعبا يقرئكم السلام ويبشركم أن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ ليست فيكم ، فقال له عبد الله : وأنت فأقرئه السلام إنها نزلت وهو يهودي وأراد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن كعبا لم يعرف ما أشارت اليه وإن نزلت في أهل الكتاب (لا تَحْسَبَنَ) خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب أي لا تظنن.

(الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي بما فعلوا ، وبه قرأ أبي ، وقرئ «بما آتوا» و «بما أتوا» وروي الثاني عن علي كرم الله تعالى وجهه (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي أن يحمدهم الناس ، وقيل : المسلمون ، وقيل : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم من طريق العوفي : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وحرفوا الكلام عن مواضعه وفرحوا بذلك وأحبوا (أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الصلاة والصيام ، وفي رواية البخاري وغيره عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا (بِما أَتَوْا) من كتمان ما سألهم عنه» ، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنهم (يَفْرَحُونَ) بكتمانهم صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي نطق بها كتابهم (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) بأنهم متبعون دين إبراهيم عليه‌السلام ، فعلى هذا يكون الموصول عبارة عن المذكورين سابقا الذين أخذ ميثاقكم ، وقد وضع موضع ضميرهم ، وسيقت الجملة لبيان ما يستتبع أعمالهم المحكية من العذاب إثر بيان قباحتها ، وفي ذلك من التسلية أيضا ما لا يخفى ، وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وفضائحهم وهو إصرارهم على القبيح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وأخرج سبحانه ذلك مخرج المعلوم إيذانا بشهرة اتصافهم به ، وقيل : إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم ، وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا (أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) فنزلت هذه الآية ، وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت. وغيرهما ، وقيل : المراد بهؤلاء المنافقون كافة ، وقد كان أكثرهم من اليهود.

وادعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل ، وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة ، ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده ، ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجزاء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليا على أنه قد اعترض بأن انتظام المعهودين مطلقا فضلا عن كونه أوليا غير مسلم إلا إذا عمم ما في (بِما أَتَوْا) بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها. أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الانتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى ، ولعل الأمر في هذا سهل ، نعم يزيده بعدا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل

٣٦١

معذبا لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ، ثم تلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى آخر الآيتين فإنه لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأزال الإشكال بتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآية كما قيل وهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلا ليكون ذلك قولا بعدم الحرمة ، كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر؟! فليفهم وأيّا ما كان فالموصول مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد له والعرب كما قال الزجاج إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول وتوكيد له ، فتقول : لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا ، والفاء زائدة كما في قوله :

فإذا هلكت «فعند» ذلك فاجزعي

والمفعول الثاني في قوله سبحانه : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي متلبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز ، والتاء ليست للوحدة لبناء المصدر عليه ، و (مِنَ الْعَذابِ) متعلق به ، وجوز أن تكون المفازة اسم مكان أي محل فوز ونجاة ، وأن يستعار من المفازة للقفر وحينئذ يكون من العذاب صفة له لأن اسم المكان لا يعمل ولا بد من تقدير المتعلق خاصا أي منجية (مِنَ الْعَذابِ) وتقديره عاما ـ أي بمفازة كائنة من العذاب ـ غير صحيح لأن المفازة ليست من العذاب ، واعترض بأن تقديره خاصا مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه ، وقرئ بضم الباء الموحدة في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا ، وبياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل من يأتي منه الحسبان ومفعولاه في القراءتين كما ذكر من قبل.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالياء وفتح الباء في الفعل الأول ، وبالياء وضم الباء في الفعل الثاني على أن فاعل «لا يحسبن الذين» بعده ومفعولاه محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكده وفاعل مؤكده ضمير الموصول ومفعولاه ضميرهم ، وبمفازة أي «لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا» فلا «يحسبن» أنفسهم (بِمَفازَةٍ).

ويجوز أن يكون المفعول الأول ـ للا يحسبن ـ محذوفا والمفعول الثاني مذكورا أي أعني (بِمَفازَةٍ) أن «لا يحسبن الذين يفرحون» أنفسهم فائزين ، وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) مؤكد والفاء زائدة كما مر وأن يكون كلا مفعولي «لا يحسبن» مذكورا ، الأول ضميرهم المتصل بالفعل الثاني ، والثاني «بمفازة» وهو مبني على جعل التأكيد هو الفعل والفاعل فقط على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور سابقا سواهما. ورد بأن فيه اتصال ضمير المفعول بغير عامله أو فاعله المتصل بعامله ولم يقل به أحد من النحاة وإن كان فيه تحاش عن الحذف في هذا الباب ، وفيه نظر إذ قد صرح كثير بجواز ذلك ، وقد أفردت هذه المسألة بالتدوين ، وجوز أيضا أن يكون الفعل الأول مسندا إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل حاسب والمفعول الأول الموصول ، والمفعول الثاني محذوفا لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسندا إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه الصلاة والسلام أو عدم حسبان كل حاسب ومفعولاه الضمير المنصوب و (بِمَفازَةٍ) تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من

٣٦٢

عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم ، وأما نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الاسمية والتنكير التفخيمي والوصف.

وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادا وإعداما إحياء وإماتة ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير ، وقيل : مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وضعف بالبعد ـ ولو قيل ـ وفيه ردّ لهان الأمر.

هذا (ومن باب الإشارة في الآيات) (وَلا يَحْزُنْكَ) لتوقع الضرر ، أو لشدة الغيرة (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال ، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع (يُرِيدُ اللهُ) إظهارا لصفة قهره (أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) «لكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) ونزيد في مددهم (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ينتفعون به في القرب إلينا (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) بسبب ذلك لازديادهم حجابا على حجاب وبعدا على بعد (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لفرط بعدهم عن منبع العز (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى (مِنَ الطَّيِّبِ) وهو صفات القلب كالاخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدة الروح ومناغاة السر ومسامراته وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة (وَتَتَّقُوا) الحجب والموانع (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) من كشف الحقيقة ، وقد يقال : إن لله تعالى غيوبا غيب الظاهر وغيب الباطن وغيب الغيب وسر الغيب وغيب السر ، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة ، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار ، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال ، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة ، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والاطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم ، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلا فإن الأزلية منزهة عن

٣٦٣

الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المال أو العلم أو القدرة أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين ، أو المستعدين ، أو الأنبياء والصديقين في الذب عنهم ، أو في الفناء في الله تعالى (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) لاحتجابهم به (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقد ذكر بعض العارفين أن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال : إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين ، والسخاء بالنفس وصف المحبين ، وبالروح وصف العارفين.

وقال ابن عطاء : السخاء النفس والسر والروح والكل ، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي معه ، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية ، ومن هنا تقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قيل : إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم ، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عزوجل فتأكلها نار المحبة (قُلْ) يا وارد الحق (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) أي واردات الحق (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الباهرة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو جعل الدنيا وما فيها قربانا (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) خطاب للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) للعوام (وَالزُّبُرِ) للمتوسطين (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) للخواص ، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني إلى توحيد الصفات ، والثالث إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير ، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) على اختلافها يوم القيامة (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة ، أو الجنة بالمعنى الأعم (فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولذاتها الفانية (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي (لَتُبْلَوُنَ) لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها.

وقال بعض العارفين : إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك

٣٦٤

من الأموال ابتلاء وامتحانا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه‌السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل : أنا الحق ، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله كحال سليمان عليه‌السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة ، ومن نظر إلى نفسه من حيث إنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس ، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم أهل مقام الجمع (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم أهل الكثرة (أَذىً كَثِيراً) لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على مجاهدة أنفسكم (وَتَتَّقُوا) النظر إلى الأغيار (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) آنفا ومن حمله عليه تكلف جدا فلعله باق على ظاهره ، أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقا وضمير (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) إلخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين عند الله (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب الحرمان والحجاب.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ

٣٦٥

إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأكيد لما قبله وإقامة دليل عليه ولذا لم يعطف ، وأتى بكلمة إن اعتناء بتحقق مضمون الجملة أي إن في إيجادهما وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب والبدائع (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبها ومجيء كل منهما خلف الآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لسباحتها في بحر قدرته سبحانه حسب إرادته ، وخبر الخرزتين خارج عن سلك القبول وبفرض نظمه فيه مؤول ، وثقب التأويل واسع وكون ذلك تابعا لحركة السموات وسكون الأرض ـ كما قاله مولانا شيخ الإسلام ـ مخالف لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من المحدثين وغيرهم من سكون السموات وتحرك النجوم أنفسها بتقدير الله تعالى العليم ، وما ذهب إليه هو مذهب الحكماء المشهور بين الناس ، وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره ما يخالفه أيضا حيث قال : إن الله سبحانه جعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما تسبح بها وجعل لها في سباحتها حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها تسير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية وجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبا ممكنا في حكم العقل وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح الجسم وكل ما قالوه يعطيه ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه ، ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ونحوه ، وقالوا : إن السموات كالأكر وإن الأرض في جوفها وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان غيره وهم مصيبون في الأوزان مخطئون في أن الأمر كما رتبوه فليس الأمر إلا على ما ذكرناه شهودا انتهى.

ويؤيد دعوى أنه يجوز في الإمكان غيره ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين بزعمهم وبنوا عليه الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك فهذا يشعر بأنه لا قطع فيما ذهب اليه أصحاب الهيئة ، ويحتمل أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة ، أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من قطب الشمال أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها ، وإما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا ، وفي مقابله نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك ، وهذا مما لا شبهة فيه عند كثير من الناس ، وذكره شيخ الإسلام أيضا ـ وليس بالبعيد ـ بل اختلاف الأوقات في الأماكن مشاهد محسوس لا يختلف فيه اثنان إلا أن في كرية الأرض اختلافا ، فقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره أن الله تعالى بعد أن خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس خلق الأرض سبع طبقات وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء فلما تم خلقها

٣٦٦

وقدر فيها أقواتها واكتسى الهواء صورة البخار الذي هو الدخان فتق ذلك الدخان سبع سماوات طباقا وأجساما شفافة وجعلها على الأرضين كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة وكرة الأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها وجعل في كل سماء من هذه واحدة من الجواري على الترتيب المعروف انتهى ، والقلب يميل إلى الكرية والله لا يستحي من الحق ، وما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس‌سره أمر شهودي وفيه الموافق والمخالف لما ذهب إليه معظم المحدثين. وأكثر علماء الدين.

والذي قطع به بعض المحققين أنه لم يجىء في الأحاديث الصحيحة المرفوعة ما يفصل أمر السموات والأرض أتم تفصيل إذ ليست المسألة من المهمات في نظر الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم والمهم في نظره منها واضح لا مرية فيه ، وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء ، والليل واحد بمعنى جمع وواحدة ليلة مثل تمرة وتمر وقد جمع على ليال فزادوا فيها الياء على غير قياس ، ونظيره أهل وأهال ، ويقال : كان الأصل فيها ليلات فحذفت لأن تصغيرها لييلة كذا في الصحاح ، وصحح غير واحد أنه مفرد ولا يحفظ له جمع ، وأن القول بأنه جمع والليالي جمع جمع غير مرضي فافهم ، وقد تقدم الكلام مستوفى في الليل والنهار ، ووجه تقديم الأول على الثاني.

(لَآياتٍ) أي دلالات على وحدة الله تعالى وكمال علمه وقدرته ، وهو اسم إن وقد دخله اللام لتأخره عن خبرها والتنوين فيه للتفخيم كما وكيفا أي آيات كثيرة عظيمة ، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة ، قيل : وفي ذلك رمز إلى أن الآيات الظاهرة وإن كانت كثيرة في نفسها إلا أنها قليلة في جنب ما خفي منها في خزائن العلم ومكامن الغيب ولم يظهر بعد (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الحسّ والوهم ، ومنه خبر «أن الله تعالى منع مني بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في ألباب الإبل» أي خالص إبلهم وكرائمها ، ويقال : لبّ يلب كعض يعض إذا صار لبيبا وهي لغة أهل الحجاز وأهل نجد يقولون : لب يلب كفر يفر ويقال : لبب الرجل بالكسر يلب الفتح إذا صار ذا لب ، وحكي لبب بالضم وهو نادر لا نظير له في المضاعف.

ووجه دلالة المذكورات على وحدته تعالى أنها تدل على وجود الصانع لتغيرها المستلزم لحدوثها واستنادها إلى مؤثر قديم ومتى دلت على ذلك لزم منه الوحدة ، ووجه دلالتها على ما بعد أنها في غاية الإتقان ونهاية الإحكام لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى ، وللمتكلمين في الاستدلال على وجود الصانع بمثل هذه المذكورات طريقان : أحدهما طريق التغير ، والثاني طريق الإمكان ، والأكثرون على ترجيح الثاني ، والبحث مفصل في موضعه.

وإنما اقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما ، فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض ، وإلى الثالثة باختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض ، أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم وقال ناصر الدين : لعل ذلك لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار ، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها ، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها ، واعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولى والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه ، ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لما ذكر في تلك السورة من أن المقصود هاهنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة ، والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فاكتفي بها ، وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية

٣٦٧

بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته.

ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وأخرج ابن حبان في صحيحه وابن عساكر وغيرهما عن عطاء قال : قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا!؟ إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سألت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله سبحانه : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) الآية.

وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : بتّ عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في موضع جرّ على أنه نعت (لِأُولِي) ويجوز أن يكون في موضع رفع على المدح ، وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون «ربنا آمنا» بعيد لما فيه من تفكيك النظم ، ويزيده بعدا ما أخرجه الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب؟ قالوا : أي أولي الألباب تريد؟ قال : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) إلخ عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم ادخلوها خالدين» والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل ، وإليه ذهب كثير ، وعد ابن جريج قراءة القرآن ذكرا فلا تكره للمضطجع القادر ، نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم وقال بعض المحققين : المراد به ذكره تعالى مطلقا كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال ، وسواء قارنه ذكر اللسان أو لا ، والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته ، وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لاضطجعوا وذكروا أيضا ليتم التفسير وتحقيق المصداق.

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في الآية أنه قال : إنما هذا في

٣٦٨

الصلاة إذا لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب ، وكذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمران بن حصين ، وكانت به بواسير. كما أخرجه البخاري عنه وبهذا الخبر أحج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقادم بدنه ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وجعل الآية حجة على ذلك بناء على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل ، وتخصيص ابن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه.

والقيام والقعود جمع قائم وقاعد ـ كنيام ورقود ـ جمع نائم وراقد ، وانتصابهما على الحالية من ضمير الفاعل في (يَذْكُرُونَ) ويحتمل أن يكونا مصدرين مؤولين بقائمين وقاعدين لتتأتى الحالية ، وقوله تعالى : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) متعلق بمحذوف معطوف على الحال أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين ، وجوز أن يقدر المتعلق المعطوف خاصا أي ومضطجعين على جنوبهم ، والمراد من ذكر هذه الأحوال الإشارة إلى الدوام وانفهامه منها عرفا مما لا شبهة فيه وليس المراد الدوام الحقيقي لاستحالته بل في غالب أحوالهم ، وبعضهم يأخذ الدوام من المضارع الدال على الاستمرار وكيفما كان فالمراد يذكرون الله تعالى كثيرا (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف على (يَذْكُرُونَ) وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الاعتراف بالعبودية ، والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر ، وفي الأول إشارة إلى عبودية الثاني ، وفي الثاني إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح ، وفي بيان العبودية بعد الفراغ من آيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف ، وقيل : قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق ، ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني ، وصرح مولانا شيخ الإسلام بأن هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى ، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق ، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعزّ سلطانه ، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث ، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق»

وعن عمرو بن مرة قال : «مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال : «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى» ، وعن ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى ـ إلى غير ذلك ـ ففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر ، وقيل : قدم الذكر على الدوام على التفكير للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له ، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال ، و ـ الخلق ـ إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما ، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض ، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال ، ويجرّهم

٣٦٩

ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء ، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات ، وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله ، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم إن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له ، وأخرج ابن المنذر عن عون قال : سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت : التفكر والاعتبار. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال : سمعت غير واحد ـ لا اثنين ولا ثلاثة ـ من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ـ أو نور الإيمان ـ التفكر ، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف ـ وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل ، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة ـ إما للايذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير اليه ، وإما للاشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب.

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق ، أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق ، وقيل : إليهما باعتبار المتفكر فيه وعلى كل فأمر الأفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتني بكمال تمييزها استعظاما لها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة ، وقيل : الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة ، وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا ، أو حال من المفعول.

والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق ، أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها ، ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك.

والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون «ربنا» إلخ ، وجملة القول حال من المستكن في (يَتَفَكَّرُونَ) أي يتفكرون في ذلك قائلين (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ، وإلى هذا ذهب عامة المفسرين.

واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن «ما» في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادئ الحكم الذي أجري على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ، ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل ، فاللائق أن تكون جملة القول استئنافا مبينا لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئا مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص

٣٧٠

الآيات المنصوبة في خلق العالم ـ بأولي الألباب ـ ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في مجال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل : فما ذا يكون عند تفكرهم في ذلك وما يترتب عليه من نتيجة؟ فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدي إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وهذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا ، (لِأُولِي) وأما على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا فتأتي الحالية من ذلك إذ لا اشتباه في أن قولهم هذا من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم ويكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تردد وتلعثم في ذلك انتهى ، وهو كلام تلوح عليه أمارات التحقيق ومخايل التدقيق.

والقول بأن الحالية تجتمع مع كون القول المذكور من النتائج لا يخفى ما فيه ، ثم كون هذا القول من نتائج التفكر مما لا يكاد ينكره ذو فكر ، وتوضيح ذلك ـ على رأي ـ أن القوم لما تفكروا في مخلوقاته سبحانه ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم والأرض وما عليها من البحار والجبال والمعادن عرفوا أن لها ربا وصانعا فقالوا : (رَبَّنا) ثم لما اعترفوا في أن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيل الأفكار قالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ثم لما تأملوا وقاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها رأوا أنه لا بدّ وأن يكون الصانع منزها عن مشابهة شيء منها ، فإذن هو ليس بجسم ولا عرض ولا في حيز ولا بمفتقر «ولا ، ولا ...» فقالوا : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك مما لا يليق بك ، ثم لما استغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر ، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقابلية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ، ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي هي جزاء من عصاك ، و (سُبْحانَكَ) مصدر منصوب بفعل محذوف ، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه.

وبعضهم قال بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض ، وجعل ما بعد الفاء مترتبا على التنزيه المدلول عليه «بسبحانك» وادعى أنه أظهر لاندراج تنزهه تعالى عن ردّ سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين ، وقيل : إنه جواب شرط مقدر وإن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا ، واستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه خلقا وإيجادا ـ وفيه نظر ـ لأن الأشياء كلها سواء من حيث إنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا باعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها ، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقا ، أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد

٣٧١

قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد ، وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك إنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى ـ أن هذه الأشياء كلها باطلة ـ كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال ، واستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث ، وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة ، واحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص ، وناقشها المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها.

وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه ، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر ، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر «من قال : أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب» ، ومن قال : أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب فليحفظ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مبالغة في استدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه ، وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الإحسان كما يشعر به لفظ الرب ، وعن ابن عباس أنه كان يقول : اسم الله تعالى الأكبر رب رب ، والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة ، والإيذان بشدّة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل ، وذكر الإدخال في مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاء ـ كما قال الواحدي ـ جاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال : أخزى الله تعالى العدو أي أبعده ، وقيل : أهانه ، وقيل : فضحه ، وقيل : أهلكه ، ونقل هذا عن المفضل ، وقيل : أحله محلا وأوقفه موقفا يستحى منه.

وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، والمراد فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه ، ومن القواعد المقررة أنه إذا جعل الجزاء أمرا ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، أو بالاستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة ، ولهذا قيد الخزي بما قيد ، واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناء على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار ، وجعل الثاني شرطا والأول جزاء ، والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكس ـ كما قال الإمام الرازي ـ وأيضا المفهوم من قوله تعالى : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) طلب الوقاية منه ، وقوله سبحانه : (رَبَّنا) إلخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منه ـ كما قاله بعض المحققين ـ واحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى النار

٣٧٢

فقد أخزاه والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخزيا أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك ، وأيضا الآية ليست عامة لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧١] فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار ، وهو المروي عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جرير.

وأيضا يمكن أن يقال : إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج ، وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي) إلخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفي الخزي المخلد ، وأيضا يحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني ، وحينئذ لا يلزم التنافي ، واحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] وقوله سبحانه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) إلخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية ، وأجيب بمنع المقدمات بأسرها أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبل مؤمنا ، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ليس لكل منهم ناصر ينصره مما هو فيه ، والجملة تذييل لإظهار فظاعة حالهم ، وفيه تأكيد للاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، وتمسكت المعتزلة بنفي الأنصار على نفي الشفاعة لسائر المدخلين ، وأجيب بأن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله تعالى: (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] ، وقيل : نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة والشفاعة تخليص بخضوع وتضرع وله وجه ، والقول : بأن العرف لا يساعده غير متجه.

وقال في الكشف : الظاهر من الآية أن من دخل النار لا ناصر له من دخولها أما إنه لا ناصر له من الخروج بعد الدخول فلا ، وذلك لأنه عام في نفي الأفراد مهمل بحسب الأوقات ، والظاهر التقييد بما يطلب النصر أولا لأجله كمن أخذ يعاقب فقلت : ما له من ناصر لم يفهم منه أن العقاب لا ينتهي بنفسه وأنه بعد العقاب لم يشفع بل فهم منه لم يمنعه أحد مما حل به ، ثم إن سلم التساوي لم يدل على النفي وأجاب غير واحد على تقدير عموم الظالم ، وعدم الفرق بين النصر والشفاعة بأن الأدلة الدالة على الشفاعة ـ وهي أكثر من أن تحصى ـ مخصصة للعموم ، وقد تقدم ما ينفعك هنا (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) على معنى القول أيضا وهو كما قال شيخ الإسلام : حكاية لدعاء آخر مبني على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبني على تفكرهم في الأدلة القطعية ، ولا يخفى أن ذلك التفكر مستدع في الجملة لهذا القول ، وفي تصدير مقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى معوّد الإحسان والإفضال ، وفي التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط ، والمراد بالمنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن جريج ـ واختاره الجبائي وغيره.

وقيل : المراد به القرآن ، وهو المحكي عن محمد بن كعب القرظي وقتادة ، واختاره الطبري معللا ذلك بأنه ليس يسمع كل واحد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يراه ، والقرآن ظاهر باق على ممر الأيام والدهور يسمعه من أدرك عصر نزوله ومن لم يدرك ، ولأهل القول الأول أن يقولوا : من بلغه بعثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته جاز له أن يقول : (سَمِعْنا مُنادِياً) وإن كان فيه ضرب من التجوز ، وأيضا المراد بالنداء الدعاء ونسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أشهر وأظهر ، فقد قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل : ١٢٥](أَدْعُوا إِلَى اللهِ) [يوسف : ١٠٨](وَداعِياً

٣٧٣

إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٦] وهي إليه عليه الصلاة والسلام حقيقة ، وإلى القرآن على حد قوله :

تناديك أجداث وهن صموت

وسكانها تحت التراب سكوت

والتنوين في المنادى للتفخيم وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت ، وقد كان شأنه الرفيع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخطب ذلك الرفع حقيقة ، ففي الخبر كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم. ولما كان النداء مخصوصا بما يؤدي له ومنتهيا إليه تعدي باللام وإلى تارة ، وتارة فاللام في للإيمان على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى أو الباء ، ولا إلى جعلها بمعنى العلة ـ كما ذهب إليه البعض ـ وجملة (يُنادِي) في موضع المفعول الثاني ـ لسمع ـ على ما ذهب إليه الأخفش وكثير من النحاة من تعدي ـ سمع ـ هذه إلى مفعولين ولا حذف في الكلام ، وذهب الجمهور إلى أنها لا تتعدى إلا إلى واحد ، واختاره ابن الحاجب قال في أماليه : وقد يتوهم أن السماع متعد إلى مفعولين من جهة المعنى والاستعمال ، أما المعنى فلتوقفه على مسموع ، وأما الاستعمال فلقولهم : سمعت زيدا يقول ذلك وسمعته قائلا ، قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] ولا وجه له لأنه يكفي في تعلقه المسموع دون المسموع منه ، وإنما المسموع منه كالمشموم منه فكما أن الشم لا يتعدى إلا إلى واحد فكذلك السماع فهو مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للعلم به ويذكر بعده حال تبينه ويقدر في «يسمعونكم إذ تدعون» يسمعون أصواتكم انتهى ، والزمخشري جعل المسموع صفة بعد النكرة وحالا بعد المعرفة وهو الظاهر ، وادعى بعض المحققين أن الأوفق فيما جعله حالا أو وصفا أن يجعل بدلا بتأويل الفعل بالمصدر على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا أوثرت الوصفية أو الحالية.

وزعم بعضهم أن السماع إذا وقع على غير الصوت فلا بدّ أن يذكر بعده فعل مضارع يدل على الصوت ولا يجوز غيره ـ وهو غير صحيح ـ لوقوع الظرف واسم الفاعل كما سمعته ، وفي تعليق السماع بالذات مبالغة في تحقيقه ، والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم ، وفي إطلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه : (مُنادِياً) ولم يذكر ما دعى له ، ثم قوله عزّ شأنه بعد : (يُنادِي لِلْإِيمانِ) ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادى له ، ولو قيل من أول الأمر (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) لم يكن بهذه المثابة ، وحذف المفعول الصريح ـ لينادي ـ إيذانا بالعموم أي ينادي كل واحد (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي أن آمنوا به على أن (أَنْ) تفسيرية ، أو بأن آمنوا ـ على أنها مصدرية ، وعلى الأول فآمنوا تفسير لينادي لأن نداءه عين قوله : (آمِنُوا) والتقدير (يُنادِي لِلْإِيمانِ) أي يقول : (آمِنُوا) وليس تفسيرا للإيمان كما توهم ، وعلى الثاني يكون ـ بأن آمنوا ـ متعلقا ب (يُنادِي) لأنه المنادى به وليس بدلا من الإيمان ـ كما زعمه البعض ـ ومن المحققين من اقتصر على احتمال المصدرية لما أن كثيرا من النحاة يأبى التفسيرية لما فيها من التكلف ، ومن اختارها قال : إن المصدرية تستدعي التأويل بالمصدر وهو مفوّت لمعنى الطلب المقصود من الكلام. وأجيب بأنه يقدر الطلب في التأويل إذا كانت داخلة على الأمر وكذا يقدر ما يناسب الماضي والمستقبل إذا كانت داخلة عليهما ، ولا ينبغي أن يجعل الحاصل من الكل بمجرد معنى المصدر لئلا يفوت المقصود من الأمر وأخويه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشارة إلى بعض الأدلة عليه سبحانه وتعالى ورمز إلى نعمته جل وعلا على المخاطبين ليذكروها فيسارعوا إلى امتثال الأمر ، وفي إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه (فَآمَنَّا) عطف على (سَمِعْنا) والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة ، والمعنى فآمنا بربنا لما دعينا إلى ذلك ، قال أبو منصور : فيه دليل على بطلان الاستثناء في الإيمان ولا يخفى بعده (رَبَّنا) تكرير ـ كما قيل ـ

٣٧٤

للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به (فَاغْفِرْ لَنا) مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فاستر لنا (ذُنُوبَنا) أي كبائرنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي صغائرنا ، وقيل : المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ، ومن السيئات ما تأخر منها ، وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، والثاني ما أتى به من الجهل بذلك ، والأول هو التفسير المأثور عن ابن عباس.

وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل ، فاستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم ، ولذلك تسمى تبعة اعتبارا بما يتبعها من العقاب كما صرح به الراغب ، وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف ، وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى والتكفير قد يستعمل في فعل العبد ـ كما يقال : كفر عن يمينه ـ وهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه إنما يقتضي مجرد الأخفية ، وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث ، فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى ، ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد.

وقيل : في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة ، وقيل : إنه كثيرا ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك ، وفي ذكر (لَنا) و (عَنَّا) في الآية مع أنه لو قيل : فاغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين ، وادعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للاجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتكفير الصغائر ، وأنت تعلم أن المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة. وأن بعضهم احتج بهذه الآية على ذلك حيث إنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل ، وسيأتي تحقيق ما فيه فتدبر (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي مخصوصين بالانخراط في سلكهم والعدّ من زمرتهم ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل ، ومن يموت بعد ، وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه.

والأبرار جمع برّ كأرباب جمع رب ، وقيل : جمع بارّ كأصحاب جمع صاحب ، وضعف بأن فاعلا لا يجمع على أفعال ، وأصحاب جمع صحب بالسكون ، أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف.

وبعض أهل العربية أثبته وجعله نادرا ، ونكتة قولهم مع (الْأَبْرارِ) دون أبرار التذلل ، وأن المراد لسنا بأبرار فاسلكنا معهم واجعلنا من أتباعهم ، وفي الكشف إن في ذلك هضما للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب ـ هو من العلماء ـ بدل عالم (رَبَّنا وَآتِنا) أي بعد التوفي (ما وَعَدْتَنا) أي به أو إياه ، والمراد بذلك الثواب (عَلى رُسُلِكَ) إما متعلق بالوعد ، أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول ، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال ـ وعد الله تعالى الجنة على الطاعة ، وعلى الثاني وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك ، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضا فتخف مئونة الحذف وتعلقه ـ بآتنا ـ كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر.

وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من (ما) أي منزلا أو محمولا (عَلى رُسُلِكَ).

واعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونا مقيدا لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا ، وأيضا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد ، وأجيب بمنع انحصار

٣٧٥

التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد ، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب ، وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه.

وزعم بعضهم جواز كون (عَلى) بمعنى مع ، وأنه متعلق ـ بآتنا ـ ولا حذف لشيء أصلا والمراد ـ آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا ـ فإن الدال على الخير كفاعله ، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلتهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه بل ولا كلام أحد من فصحاء العرب ، وتكرير النداء لما مرّ غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادي هو واحد الآحاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لما أن دعوته ولا سيما على منبر التوحيد ، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديق لهم عليهم‌السلام ، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد ، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجار الموعود بناء على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناء على ما ذكرنا في تفسير الموصول ، ويكاد يكون مقطوعا به ظاهرا لأن الأمر أخروي.

وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء ـ كما قيل ـ فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية ، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها والثاني ليس كذلك ـ كما لا يخفى ـ فيكون دونه فلهذا أخر عنه ، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول (لا تُخْزِنا) في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا : لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة ، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما ، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابا كاملا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيوم ، وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك لموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة ، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى ، وأيضا يحتمل أن يقال : إنهم طلبوا الثواب أولا باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني ، ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناء على أن الخزي الإهانة والتخجيل ، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا : ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشدّ منه وهو العذاب الروحاني ، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول : إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعاءين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح ـ والله تعالى يحب الملحين في الدعاء ـ فهو أقرب إلى الإجابة ، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ، ومن الناس من يؤول هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء ، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكا لأن المطلوب فيه أمر عظيم ، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظا ويجب ذلك قطعا إن كان الكلام مؤولا ، أو كان الموصول عبارة عن النصر ، ويترجح ـ بل يكاد يجب أيضا ـ إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه (آتِنا وَلا تُخْزِنا) على ذلك التقدير هو كما ترى (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء ، وقيل : متعلق بما قبل الأخير اللازم له ، وإليه يشير كلام الأجهوري ، و (الْمِيعادَ) مصدر ميمي بمعنى

٣٧٦

الوعد ، وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة. وهو الظاهر ، وأما تفسيره بالبعث بعد الموت ـ كما روي عن ابن عباس ـ فصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء ، وقد يرجع إلى الأول وترك العطف في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها ، وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الاسم ، وفي بعض الآثار أن موسى عليه‌السلام قال مرة : يا رب فأجابه الله تعالى لبيك يا موسى فعجب موسى عليه‌السلام من ذلك فقال : يا رب أهذا لي خاصة؟ فقال : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من أحزنه أمر فقال : ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد ـ وقرأ هذه الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : «ما من عبد يقول يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه. فذكر للحسن فقال : أما تقرأ القرآن (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) إلخ «فإن قلت» إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة؟ «قلت» أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم ، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود ، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام ، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى ، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه : (ادْعُونِي) [غافر : ٦٠] فلا يضر كونه متعلقا بواجب الوقوع ، وما يستحيل خلافه ، ومن ذلك (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] وقيل : إن الموعود به هو النصر لا غير ، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر ، فالموعود غير مسئول والمسئول غير موعود ، فلا إشكال ـ وإلى هذا ذهب الطبري ـ وقال : إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستبطئوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا : لا صبر لنا على أناتك وحلمك ، وقوي بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضا وفيه كلام يعلم مما قدمنا ، وقيل: ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرّج مخرج المسألة ـ والمراد منه الخبر ـ ولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق ، ويزيده وهنا على وهن قوله سبحانه (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) الاستجابة الإجابة ، ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد ، والاستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب ، والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع ، وقد تتعدى بنفسها كما في قوله :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وهذا كما قال الشهاب وغيره : في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل استجاب الله تعالى دعاءه ، ولهذا قيل : إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستحب دعاءه ، والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الاستئناف المقدر في قوله سبحانه : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء ، وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الاستجابة وتقررها ، ويجوز أن يكون معطوفا على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلخ ، وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على (يَتَفَكَّرُونَ) باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله سبحانه : (رَبَّنا) إلخ ، فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم ، وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة واستحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على كون الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقا. وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام. والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن ، وفي ذكر الرب هنا مضافا ما لا يخفى من اللطف. وأخرج الترمذي

٣٧٧

والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قال : قلت : يا رسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلى آخر الآية ، فقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا. ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها.

وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت : آخر آية نزلت هذه الآية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي بأني ، وهكذا قرأ أبي ، واختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) بسبب أنه (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ) منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في (أَنِّي) والخطاب في (مِنْكُمْ) من باب الالتفات ، النكتة الخاصة فيه إظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الاستجابة ، والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء.

وقال بعض المحققين : إنها صلة لمحذوف وقع حالا إما من فاعل (فَاسْتَجابَ) أو من الضمير المجرور في (لَهُمْ) والتقدير مخاطبا لهم بأني ، أو مخاطبين بأني إلخ ، وقيل : إنها متعلقة باستجاب لأن فيها معنى القول ـ وهو مذهب الكوفيين ـ ويؤيد القولين أنه قرئ «إني» بكسر الهمزة وفيها يتعين إرادة القول وموقعه الحال أي قائلا إني أو مقولا لهم «إني» إلخ ، وتوافق القراءتين خير من تخالفهما ، وهذا التوافق ظاهر على ما ذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن اختلف فيهما شدة وضعفا ، وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى ، وقرئ «لا أضيّع» بالتشديد ، وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لا سيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيدا لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالى ـ كذا قيل ـ والمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال : ضاع يضيع ضيعة وضياعا بالفتح إذ هلك ، واستعملت هنا بمعنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لعامل ، وتأكيد لعمومه إما على معنى شخص عامل أو على التغليب.

وجوّز أن يكون بدلا من منكم بدل الشيء من الشيء إذ هما لعين واحدة ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، و (مِنْ) إما ابتدائية بتقدير مضاف أي من أصل بعض ، أو بدونه لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، وإما اتصالية والاتصال إما بحسب اتحاد الأصل ، أو المراد به الاتصال في الاختلاط ، أو التعاون ، أو الاتحاد في الدين حتى كأن كل واحد من الآخر لما بينهما من أخوة الإسلام ، والجملة مستأنفة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الدخول مع الرجال في الوعد.

وجوز أن تكون حالا أو صفة ، وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم.

وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقا. أو للدين على ما هو الشائع في استعمال الشرع ، والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر واضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى اضطروا إلى الخروج ، ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذ يكون (وَأُخْرِجُوا) إلخ تأسيسا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى ، والمراد

٣٧٨

من الإيذاء هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين (وَقاتَلُوا) أي الكفار في سبيل الله تعالى (وَقُتِلُوا) استشهدوا في القتال.

وقرأ حمزة والكسائي بالعكس ، ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيبا ، وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد ، أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فاعتبار الترتيب فيها أيضا لا يضر ، وصحح هذه الإرادة أن المعنى ليس على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة ، أو باثنين منها ، أو بأكثر فحينئذ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا ، أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين ـ كما هو رأي الكوفيين ـ أي والذين قتلوا والذين قاتلوا ، ويؤيد كون المعنى على اتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك ، والقول ـ بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة ، والجملة حالية ـ مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكلام الجليل.

وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتلوا» بالتشديد للتكثير (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن ، والجملة القسمية خبر للمبتدإ الذي هو الموصول. وزعم ثعلب أن الجملة لا تقع خبرا ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل له ـ وهو الثاني ـ فإما أن يقال : إن له محلا من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية. أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه. ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر ، أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتكفير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولاقتضائه بقاء الشيء المستور ـ وهو ليس بمراد ـ فسره هنا بعض المحققين بالمحو ، والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب ، أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات ـ كما نقله ابن عبد البر عن العلماء ـ لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة ، واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر». وقالت المعتزلة : إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] ، وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير ، فإذا كان مجرد اجتناب الكبائر مكفرا فما الحاجة لمقاساة هذا الصوم مثلا؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [النور : ٣١] ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص.

وقال ابن الصلاح في فتاويه قد يكفر بعض القربات ـ كالصلاة ـ مثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة ، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها ، وقال بعضهم : إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة ، واستدل عليه بقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أتبع السيئات الحسنة تمحها» وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة.

٣٧٩

ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذ تشمل حقوق العباد ، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة ، وأيضا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة. فقد روى الشيخان عن ابن مسعود «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل : هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال : بل للناس عامة» ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى ، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به ، وقال بعض أهل السنة : إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا. مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه لها خلافا للمعتزلة ، وقيل : والواجب الإتيان بالتوبة أو بالتوبة أو بمكفرها من الحسنة ـ وفي المسألة كلام طويل ..

ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه ، وهذا وربما يقال : إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناء على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله ، وحينئذ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعد ما وعد ذلك بالعموم ، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجبّ ما قبله مطلقا وفيه خلاف ، فقد قال الزركشي : إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير ، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي ، واستدل عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم ، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) على أحد القولين ، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) على قول الآخر (ثَواباً) مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابا موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسما لما يثاب به كالعطاء لما يعطى ، وقيل : إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها ، أو من ضمير المفعول أي مثابا أو مثابين ، وقيل : إنه بدل من جنات ، وقال الكسائي : إنه منصوب على القطع ، وقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) صفة لثوابا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه ، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدا ، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدا.

وقيل : إنه متعلق ـ بثوابا ـ باعتبار تأويله باسم المفعول ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، والاسم الجليل مبتدأ خبره (عِنْدَهُ) و (حُسْنُ الثَّوابِ) مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره ، ولجملة خبر المبتدأ الأول ، والكلام مخرّج مخرج قول الرجل : عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له ، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده (حُسْنُ الثَّوابِ) أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده ، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره ، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل (حُسْنُ الثَّوابِ) مبتدأ مؤخرا كان الاختصاص بحاله ، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم.

٣٨٠