روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم ، وقرأ يعقوب ـ يؤتى ـ على البناء للفاعل وجعل (مَنْ) الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف ، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن ـ يؤته الحكمة ـ (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً) عظيما (كَثِيراً) إذ قد جمع له خير الدارين.

أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» وأخرج البخاري ، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس ، وديمقراطيس ، وأفلاطون ، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية «يكفيكم كتاب الله تعالى» ووجه الاستدلال أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا ، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر ، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.

ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة ، الأول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال ، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] إلخ ، والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى ، وإليه أشار بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة ، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة ، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض ، والثالث الانفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة ، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف ؛ وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى ، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم

٤١

الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر ـ وهو حال له بالنسبة إليه تعالى ـ وكونه مزيلا لرذائل البخل ـ وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه ـ وكونه نافعا مريحا ـ وهو حال له بالنسبة إلى المستحق ـ فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل ، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية ، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل : وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب :

هم (ينذرون دمي) وأن

ذر إن لقيت بأن أشدا

وفعله كضرب ونصر ، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب : نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم ، والفاء داخلة في الجواب إن كانت (ما) شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين ، وقال ابن عطية : إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان ـ بأو دونهما ، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث ، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى ، نعم جوز إرجاع الضمير إلى (ما) لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ) أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى ، والمتحرين للخبيث في الإنفاق ، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق ، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله ، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ؛ ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى (مِنْ أَنْصارٍ) أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير ـ كحبيب ، وأحباب ـ أو ناصر ـ كشاهد وأشهاد ـ والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد.

والقول ـ بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت (مِنْ) زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله ، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر ، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه ،

٤٢

واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء ، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ، ويكره ما يكفر اليمين» وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أي تظهروا إعطاءها ، قال الكلبي : لما نزلت (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية قالوا : يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت ، فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما ، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع ، وقيل : الصدقات المفروضة ، وقيل : العموم (فَنِعِمَّا هِيَ) ـ الفاء ـ جواب للشرط ، ـ ونعم ـ فعل ماض ، وما كما قال ابن جني : نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف ، والجملة خبر عن هي ، والرابط العموم ، وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل : ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم ، وقرأ أبو عمرو ، وقالون : وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وروي عنهم الإسكان أيضا ـ واختاره أبو عبيدة ـ وحكاه لغة ، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة ، وممن أنكره المبرد ، والزجاج ، والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدة (وَإِنْ تُخْفُوها) أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب ـ عندي درهم ونصفه ـ أي نصف درهم آخر ، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى : (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل : ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس ، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم ، وقيل : إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم ، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط ـ ودون إثبات ذلك الموت الأحمر ـ وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فالإخفاء (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإبداء ، و (خَيْرٌ لَكُمْ) من جملة الخيور ، والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى.

أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال : يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل؟ قال : «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية» ، وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب».

وأخرج البخاري «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي والله يكفر أو الإخفاء ، والإسناد مجازي ، و (مِنْ) تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات ،

٤٣

وقيل : مزيدة على رأي الأخفش ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية ابن عياش ، ويعقوب ـ «نكفّر» ـ بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر ، وقيل : لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط ، وقرأ حمزة. والكسائي ـ نكفر ـ بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد ، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء ، وما دخلت عليه في محل جزم ، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر ، وقرئ ـ وتكفر ـ بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء (خَبِيرٌ) عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله ، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية ، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء ـ إن أنت إلا بشير ونذير ، وما عليه إلا البلاغ المبين ـ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا (مَنْ يَشاءُ) هدايته منهم ، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي ، وهو مبني على رجوع ضمير (هُداهُمْ) إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة ، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية» وأخرج ابن جرير عنه قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط ، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر ، وجعلها مرتبطة ـ بقوله سبحانه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩] إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها ـ ليس بشيء (وَما تُنْفِقُوا) في وجوه البر (مِنْ خَيْرٍ) أي مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى ورئاء الناس ، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي ، و (ما) شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ، (مَنْ) تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب ، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) فإنما يكون لكم لا عليكم

٤٤

إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى ، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مراءين ولا متيممين الخبيث ، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم ، وقيل : إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا ، وأيضا قول القائل : فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال : فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا ، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧ ، ٢٦٥ ، النساء : ١١٤] تعالى والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق ، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل : كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما لو عوض وزيادة ، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل ، وقيل : إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا» والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى (ما) مجازي وحقيقته ما سمعت ، والآية بناء على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر ، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز ، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف ، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه ، وظاهر قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان : ٨] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.

(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم ، والجملة حال من ضمير (إِلَيْكُمْ) والعامل يوف (لِلْفُقَراءِ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء ، والجملة استئناف مبني على السؤال ، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا) ، وقوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) اعتراض أي وما تنفقوا للفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم بذلك (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم ، قاله ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي ـ وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ؛ ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين (يَحْسَبُهُمُ) أي يظنهم (الْجاهِلُ) الذي لا خبرة له بحالهم.

(أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي من أجل تعففهم على المسألة ـ فمن ـ للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشيء

٤٥

والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه ، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه ، وحال هذه الجملة كحال سابقتها (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.

أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال : «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين».

وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم ، ووزن ـ سيما ـ عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده ، وقيل : سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين ، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وإليه ذهب الفراء ، والزجاج ، وأكثر أرباب المعاني ـ وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى :

لا يغمز الساق من ـ أين ومن وصب ـ

ولا يغص على ـ شرسوفه الصغر

واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه ، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا ، وأيضا (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان ـ بالسيما ـ وقيل : المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء ، أخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ، واقرءوا إن شئتم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة ، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال ، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار ، وانتصاب (سِرًّا وَعَلانِيَةً) على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين ومعلنين ، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه ، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا ، والباء بمعنى في ، واختلف فيمن نزلت ، فأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما ، وسرا درهما وعلانية درهما ، وفي رواية الكلبي ، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملني أن استوجب على الله تعالى الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ألا إن ذلك لك».

وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والواحدي من طريق حسن بن عبد الله الصنعاني أنه سمع ابن

٤٦

عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) إلخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى ـ وهو قول أبي أمامة ، وأبي الدرداء ، ومكحول ، والأوزاعي ، ورباح بن يزيد ـ ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية ، وتعقبه الإمام السيوطي ـ بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وخبر أنّ الآية نزلت فيه ـ لم أقف عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة ، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) المخبوء لهم في خزائن الفضل (عِنْدَ رَبِّهِمْ) والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها ، وقيل : للعطف والخبر محذوف أي ـ ومنهم الذين ـ إلخ ، ولذلك جوز الوقف على علانية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به ، والربا في الأصل الزيادة من قولهم : ربا الشيء يربو إذا زاد ، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا ـ وإن كان أحد العوضين أزيد ـ وقيل : الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما ، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع ، وقال الفراء : إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم ـ ربوا ـ بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين ، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله ، قال أبو البقاء : وهو خطأ عندنا (لا يَقُومُونَ) أي يوم القيامة ـ وبه قرئ كما في الدر المنثور.

(إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا ـ و ـ التخبط ـ تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة ، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود ، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياك الذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له ، ويشهد لذلك ـ أن هذه الأمة ـ يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ـ وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ـ واختاره الزجاج ـ وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ، وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات (مِنَ الْمَسِ) أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن

٤٧

الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون ، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب ـ وما تشير إليه الآية سبب بعيد ـ وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي ، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا ، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها ، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها ، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا ، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.

وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية : إن كون الصرع والجنون من الشيطان ـ باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) [إبراهيم : ٢٢] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة ـ وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته» ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران : ٣٦] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين» وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال : «فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه» إلى غير ذلك من الآثار ، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها ، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك ، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل ، وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن» صريح في ذلك ، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال : إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا ، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه ، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات ـ ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد ، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب ـ وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس ـ لأحد سوانا فليحفظ.

والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء ـ على أن ما قبل (إِلَّا) يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب ـ أكلهم الربا ـ أو ـ بيقوم ـ أو ـ يتخبطه ـ

٤٨

(ذلِكَ) إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأن (لون أرضه سماؤه)

وقيل : يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم ، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا ، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب ، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال ، وقيل : الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها ، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية ، وفيها ـ قد ـ مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان ، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله ، و «من» شرطية أو موصولة ، (مَوْعِظَةٌ) فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير ، وقرأ أبيّ ، والحسن : جاءته بإلحاق التاء (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده و (مِنَ) لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف (فَانْتَهى) عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه ، وهذا هو المروي عن الباقر ، وسعيد بن جبير ، وقيل : المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل ، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر ، و (ما) في موضع الرفع بالظرف إن جعلت (مِنَ) موصولة ، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد ، وكون المرفوع اسم حدث ، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف (وَأَمْرُهُ) أي المنتهى بعد التحريم (إِلَى اللهِ) إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل ، وقيل : المراد أنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.

ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما (سَلَفَ) أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر (وَمَنْ عادَ) أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع (فَأُولئِكَ) إشارة إلى ـ من عاد ـ والجمع باعتبار المعنى (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون أبدا لكفرهم ، والجملة مقررة لما قبلها ؛ وجعل الزمخشري متعلق ـ عاد ـ الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا ـ وهو التفسير المأثور ـ لا يبقى للاستدلال بها مساغ ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك

٤٩

جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود ، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره ، وقال بعض المحققين في الجواب : إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا ، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.

وأما قوله سبحانه : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد ، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ، أخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن جريج ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».

وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال : سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق ، ولعل هذا مخرج الغالب ، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.

أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ـ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي ، وأحمد مثل ذلك. والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان ـ كذا قيل ـ وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا.

(وَاللهُ لا يُحِبُ) لا يرتضي (كُلَّ كَفَّارٍ) متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له (أَثِيمٍ) منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد ، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله ، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى من ذلك.

فقد أخرج الطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال : «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» وخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه».

وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال : «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام». وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه».

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ

٥٠

وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بعضكم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بما وجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) على الوجه الذي أمروا به (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما ، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) الموعود لهم حال كونه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لوفور حظهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الظاهر (اتَّقُوا اللهَ) أي قوا أنفسكم عقابه (وَذَرُوا) أي اتركوا (ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) لكم عند الناس (إِنْ كُنْتُمْ

٥١

مُؤْمِنِينَ) عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله ، و (مِنَ) تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي ، وقيل : متعلقة ـ يبقي ؛ وقرأ الحسن ؛ بقي ؛ بقلب الياء ألفا على لغة طيئ ، والآية كما قال السدي : نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو ، وربيعة بن عمرو ، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون ، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة : والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل ـ ويقال ـ عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رءوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله وذلك قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف (فَأْذَنُوا) أي فأيقنوا ـ وبذلك قرأ الحسن ـ وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني ، وقيل : لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف ـ وجمهور المفسرين على الأول ـ وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم ، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير ـ حرب ـ للتعظيم ، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة ، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. (وَإِنْ تُبْتُمْ) عما يوجب الحرب (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها لا غير (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل ، وقرأ المفضل عن عاصم ـ لا تظلمون ـ الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى ، والجملة إما مستأنفة ـ وهو الظاهر ـ وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا ـ وهو رأي الأخفش ـ ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه ، وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم ، قال المولى أبو السعود. وغيره : واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي إن وقع المطلوب ـ ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على ـ إن ـ كان تامة ، وجوز بعض الكوفيين ـ إن ـ تكون ناقصة ،

٥٢

و (ذُو) اسمها والخبر محذوف أي ـ وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.

وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ ـ ومن كان ذا عسرة ـ وعلى القراءتين (كانَ) ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم ، وإن لم يذكر ، والآية نزلت ـ كما قال الكلبي : حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير : نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم (فَنَظِرَةٌ) الفاء جواب الشرط ـ ونظرة ـ مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي ـ فالأمر ، أو فالواجب نظرة ، والنظرة كالنظرة ـ بسكون الظاء الانتظار ، والمراد به الإمهال والتأخير ، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير (ذُو عُسْرَةٍ) أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق ـ لابن ، وتامر ـ وعنه أيضا ـ فناظره ـ أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة (إِلى مَيْسَرَةٍ) أي إلى وقت أو وجود يسار ، وقرأ حمزة ، ونافع ـ ميسرة ـ بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة ، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل ، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة ـ كما قيل في مكرم ـ جمع مكرمة ، وقيل : أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برءوس أموالكم كلا أو بعضا (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أكثر ثوابا من الإنظار ، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.

أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة ، وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لما أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة» وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه : (خَيْرٌ لَكُمْ) لا يليق بالواجب بل بالمندوب ، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، والحسن ، والضحاك ، وأئمة أهل البيت ، وذهب شريح ، وإبراهيم النخعي ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جواب «إن» محذوف ـ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه ـ وفيه تحريض على الفعل (وَاتَّقُوا يَوْماً). وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا (تُرْجَعُونَ فِيهِ) على البناء للمفعول من الرجع ، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل : في التهويل ، وقرئ ـ يرجعون ـ على طريق الالتفات ، وقرأ أبيّ ـ تصيرون ـ وعبد الله ـ تردون. (إِلَى اللهِ) أي حكمه وفصله (ثُمَّ تُوَفَّى) أي تعطى كملا (كُلُّ نَفْسٍ) كسبت خيرا أو شرا (ما كَسَبَتْ) أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار ، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى ، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن ، ولك أن تقول : إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.

أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية (وَاتَّقُوا يَوْماً) إلخ آخر ما نزل من القرآن ، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل : تسع ليال ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات ،

٥٣

وقيل : أحدا وعشرين يوما ، وقيل : أحدا وثمانين يوما ثم مات ـ بنفسي هو ـ حيا وميتا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وفي رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «جاءني جبرائيل فقال : اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة» ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا ، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب ـ كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي ـ أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا ، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد ، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى وبما جاء منه (إِذا تَدايَنْتُمْ) أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا (بِدَيْنٍ) فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن (تَدايَنْتُمْ) يجيء بمعنى تعاملتم بدين ، وبمعنى تجازيتم ، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن ، وقيل : ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام ، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) [المائدة : ٨] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس ، وقيل : ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل ، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك (إِلى أَجَلٍ) أي وقت وهو متعلق بتداينتم ، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل (مُسَمًّى) بالأيام أو الأشهر ، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض (فَاكْتُبُوهُ) أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق ؛ والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك ، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه ـ ثم قرأ الآية ـ واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا ، ومفعول ـ يكتب ـ محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة ، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب ـ أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص ـ ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ـ بكاتب ـ أو بفعله ، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم ، فالكلام ـ كما قال الطيبي ـ مسوق لمعنى ، ومدمج فيه آخر بإشارة النص ـ وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها ـ ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون ، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين.

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر (أَنْ يَكْتُبَ) بين المتداينين كتاب الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق ـ بيكتب ـ والكلام على حد ـ وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك ـ أي ـ لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه

٥٤

وميزه ـ ويجوز أن يتعلق الكاف ـ بأن يكتب ـ على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه : (بِالْعَدْلِ) وجوز أن يتعلق بقوله تعالى : (فَلْيَكْتُبْ) والفاء غير مانعة كما في (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] لأنها صلة في المعنى ، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد ، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة ، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل ، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا ، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى ، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد ، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد ، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟!

و «ما» قيل : إما مصدرية أو كافة ـ وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ـ وعليهما فالضمير لها ، وعلى الأولين للكاتب ، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم (وَلْيُمْلِلِ) من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت ، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال : إملاء فهو والإملال بمعنى أي ، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى (وَلْيَتَّقِ) أي الذي عليه الحق (اللهَ رَبَّهُ) جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص (مِنْهُ) أي من الحق الذي يمليه على الكاتب (شَيْئاً) وإن كان حقيرا ، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير ، وقيل : يجوز أن يرجع ضمير ـ يتق ـ للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة ، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما ، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل ، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل ، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن ، وفي (مِنْهُ) وجهان : أحدهما أن يكون متعلقا ببخس و ـ من ـ لابتداء الغاية ، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. و (شَيْئاً) إما مفعول به وإما مصدر (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره ، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل ، وجوز أن يكون (عَلَيْهِ) خبرا مقدما ، (الْحَقُ) مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية ، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (سَفِيهاً) أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد ، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد ، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي (أَوْ ضَعِيفاً) أي صبيا ، أو شيخا خرفا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي ـ أو غير مستطيع

٥٥

للاملاء بنفسه لخرس ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة ، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في ـ أن يمل ـ وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، وقيل : إن الضمير فاعل ـ ليمل ـ وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي ، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم ، ومثله الفك في قوله تعالى : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم ، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه (بِالْعَدْلِ) بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس ، واستدل بعضهم ـ بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس ـ وليس بشيء كما لا يخفى.

ومن الناس من استدل بقوله سبحانه : (فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ) على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي ، والجبائي ، والرماني إلا أنهم قالوا : إنها واجبة على الكفاية ـ وإليه يميل كلام الحسن ـ وقال مجاهد ، والضحاك : واجب عليه أن يكتب إذا أمر ، وقيل : هي مندوبة ، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما ، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا ، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك ، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق باستشهدوا ـ و (مِنْ) لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين ، و (مِنْ) تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية ، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين ، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم ، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله ، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة ، وإلى ذلك ذهب شريح ، وابن سيرين ، وأبو ثور ، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ـ فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي الشهيدان (رَجُلَيْنِ) أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان ، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون ، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان ، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا ، وإن جعلت ـ يكن ـ تامة استغنى عن تقدير شهود ، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا ، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح ، وقال مالك : لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص ، ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق ، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية ، وقرئ ـ «وامرأتان» ـ بهمزة ساكنة ، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به

٥٦

فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين ، وقيل : هو صفة لشهيدين ـ وضعف بالفصل الواقع بينهما ، وقيل : بدل من ـ رجالكم ـ بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا ، واختار أبو حيان تعلقه ـ باستشهدوا ـ ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله ـ وهو كما ترى ـ والخطاب للمؤمنين وقيل : للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر (مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن ، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك ، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد ، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار ، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا ، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ) قيل : والنكتة في إيثار (أَنْ تَضِلَ) إلخ على ـ أن تذكر إن ضلت ـ الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه ، و (إِحْداهُما) الثانية يجوز أن تكون فاعل ـ تذكر ـ وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية ، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر ـ والأخرى ـ فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى ـ كما وهم ـ حتى يتعين الأول بل من قبيل ـ أرضعت الصغرى الكبرى ـ لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا ـ كما قيل ـ عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي ، وذكر غير واحد أن العدول عن ـ فتذكرها ـ الأخرى ـ وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش ـ إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال ـ بإحداهما ـ بعينها والتذكير بالأخرى ، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير (إِحْداهُما) الأولى راجعا إلى الشهادتين ، وضمير (إِحْداهُما) الأخرى إلى المرأتين فالمعنى ـ أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما ـ وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال : ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه : (ضَلُّوا عَنَّا) [الأعراف : ٣٧] أي ضاعوا منا ، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام ، وما ذكر في التأييد ينبئ عن قلة الاطلاع على اللغة.

ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي ، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وغيرهم ، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل : إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى (فَتُذَكِّرَ) إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى

٥٧

واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن ، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه ـ وبعد التجوز ليس على ظاهره ـ لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما ، وقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا ـ والتزام توجيه مثل ذلك ، وعرضه في سوق القبول ـ لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول ، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار ـ إحدى ـ معرضا بما ذكره المغربي فقال :

يا رأس أهل العلوم السادة البررة

ومن نداه على كل الورى نشره

ما سر تكرار ـ إحدى ـ دون تذكرها

في آية لذوي الاشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على

تكرار (إِحْداهُما) لو أنه ذكره

وحمل الاحدى على نفس الشهادة في

أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة

فغص بفكرك لاستخراج جوهره

من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

«فأجاب القاضي» :

يا من فوائده بالعلم منتشره

ومن فضائله في الكون مشتهره

يا من تفرد في كشف العلوم لقد

وافى سؤالك والأسرار مستتره

(تضل إحداهما) فالقول محتمل

كليهما فهي للاظهار مفتقره

ولو أتى بضمير كان مقتضيا

تعيين واحدة للحكم معتبره

ومن رددتم عليه الحل فهو كما

أشرتم ليس مرضيا لمن سبره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به

والله أعلم في الفحوى بما ذكره

وقرئ «أن تضلّ» بالبناء للمفعول والتأنيث ، وقرئ ـ «فتذاكر» ـ وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، والحسن ـ «فتذكر» ـ بسكون الذال وكسر الكاف ، وحمزة (أَنْ تَضِلَ) على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين ، والفاء في الجزاء قيل : لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة ، وقيل : لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه ، وقيل : الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير ـ الذاكرة ـ و (إِحْداهُما) بدل عنه أو عن الضمير في (فَتُذَكِّرَ) وقال بعض المحققين : الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما ـ تذكر إحداهما الأخرى ـ وعليه كلام كثير من المعربين ، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة أو لتحملها ـ وهو المروي عن ابن عباس ، والحسن رضي الله تعالى عنهم ـ وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة ، و (ما) صلة وهي قاعدة مطردة بعد (إِذا وَلا تَسْئَمُوا) أي تملوا أو تضجروا ، ومنه قول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

٥٨

(أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي الدين ، أو الحق ـ أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به ـ لتسأموا ـ ويتعدى بنفسه ، وقيل : يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به ، وقيل : المراد من ـ السأم ـ الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء : ١٤٢] ولذا وقع في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت» وقرئ ـ و «لا يسأموا» ـ «أن يكتبوه» بالياء فيهما (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا ، وقيل : منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى (إِلى أَجَلِهِ) حال من الهاء في ـ تكتبوه ـ أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير (ذلِكُمْ) أي الكتب ـ وهو الأقرب ـ أو الإشهاد ـ وهو الأبعد ـ أو جميع ما ذكر ـ وهو الأحسن ـ والخطاب للمؤمنين (أَقْسَطُ) أي أعدل (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه سبحانه. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ ، وقيل : من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وقال أبو حيان : قسط يكون بمعنى جار وعدل ، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع ـ وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط ـ وقيل : هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل ، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك ، قيل : وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا ـ وهو إلى كما سمعت ـ وقيل : مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا ـ وهو إلى كما سمعت ـ وقيل : اللام ، وقيل : من ، وقيل في ، ولكل وجهة (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد ـ كذا قيل.

وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة ، وقيل : إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة ؛ وقيل : غير ذلك ـ ولعل الأول أولى ـ ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة ـ كما قال الفراء ـ وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام ، وقال بعضهم : يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام ، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين ، ورفعها الباقون على أنها اسم (تَكُونَ) والخبر جملة (تُدِيرُونَها) ويجوز أن تكون (تَكُونَ) تامة فجملة (تُدِيرُونَها) صفة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان ، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهي عن المضارة ـ والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول ـ والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه ـ ولا يضار ـ بالفك والكسر ، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح ـ والمعنى على الأول ـ نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان ، وعلى الثاني النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطى

٥٩

الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مئونة المجيء من بلد ، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال : لما نزلت هذه الآية (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي فيقول : إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك ، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى ، وقرأ الحسن ـ ولا يضار ـ بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم (فَإِنَّهُ) أي ذلك الفعل (فُسُوقٌ بِكُمْ) أي خروج عن طاعة متلبس بكم ، وجوز كون الباء للظرفية ، قيل : وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله : فما للنوى جذ النوى قطع النوى* حتى قيل : سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح ، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير ، وما في البيت من القسم الثاني لأن ـ جذ النوى قطع النوى ـ فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن (اتَّقُوا اللهَ) حث على تقوى الله تعالى (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وعد بإنعامه سبحانه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعظيم لشأنه عز شأنه ، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء ، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل (اتَّقُوا) أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم ، ويجوز أن تكون حالا مقدرة ، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم حسبما بين قبل ، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال.

وقرأ أبو العالية كتبا ، والحسن ، وابن عباس ـ كتابا جمع كاتب (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم ، أو فليؤخذ ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول ـ وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري ـ بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها ، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب ، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا ، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن ، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي :

فالخبز واللحم لهن راهن

وقهوة راووقها ساكب

وفي التعبير ـ بمقبوضة ـ دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ ـ فرهن ـ كسقف وهو جمع رهن أيضا ، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن ، وقرأ أبي ـ فإن أو من ـ أي أمنه

٦٠