روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما أوقعوا فيهم وحطموا رءوس رؤسائهم يوم بدر ، وإلى الثاني ذهب عكرمة ـ وهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد.

وذهب ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير إلى تفسيره بالسفر أي ويأتوكم من سفرهم هذا ، قيل : وهو مبني أيضا على ما بني عليه سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم حيث لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم ، ثم قال : إن صبرتم على الجهاد واتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا أمدكم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم فدسوا نعيما الأشجعي حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة ، ثم إن تفسير الفور بالسفر مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور بمعنى الحال التي لا بطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى ، وذهب الحسن والربيع والسدي وقتادة وغيرهم أن من (فَوْرِهِمْ) بمعنى وجههم وليس بنص فيما ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها المسافر ، ويحتمل أن يكون من وجه الدهر بمعنى أوله اللهم إلا أن يقال : إنه وإن لم يكن نصا لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور كذلك في حيز المنع واحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يرجع إلى ما قالوا فتدبر.

واعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجا فكان أولا بألف ، ثم صاروا ألفين ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير ؛ فمعنى يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف ، وإليه ذهب الحسن ، وقال غيره : كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة آلاف أخر (مُسَوِّمِينَ) من التسويم وهو إظهار علامة الشيء ، والمراد معلمين أنفسهم أو خيلهم ، وقد اختلفت الروايات في ذلك ، فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر ، وأخرج ابن إسحاق. والطبراني عن ابن عباس أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمر ، وفي رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر.

وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر ، وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها فيها الصوف والعهن ، وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين أنفسهم وخيولهم أيضا وذا على قراءة ابن كثير : وأبي عمرو وعاصم (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو ، وأما على قراءة الباقين (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو على أنه اسم مفعول فقيل : المراد به معلمين من جهة الله تعالى ، وقيل مرسلين مطلقين ، ومنه قولهم : ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى ، وإليه ذهب السدي ، والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم ، وأما أنها كانت لخيلهم فغير ظاهر (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل : فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) وقيل : الضمير للوعد بالإمداد ، وقيل : للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره ، وقيل : للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين ، والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، والبشرى إما

٢٦١

مفعول له ، و ـ جعل ـ متعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لاثنين ، وعلى الأول الاستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون ، وعلى الثاني مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ).

والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى ، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه ، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بأنهم هم المحتاجون لما ذكر ، وأما رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا إما معطوف على (بُشْرى) باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها ، وقيل : للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به ، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء ، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول.

(وَمَا النَّصْرُ) أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولا أوليا (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو (وَمَا النَّصْرُ) المعهود (إِلَّا مِنْ) عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى. والآية على هذا لا تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر ، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين ، وبكل قال بعض.

والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر ، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول ، فعن ابن إسحاق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به. وقال له : ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق ، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف ، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة ، وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه‌السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وأيضا أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين ، وأيضا إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم ، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا ، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة ولم يقل بذلك أحد ، وهو أيضا خلاف قوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل البتة ، وعلى الثاني يلزم حز الرءوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دل على أنه لم يكن ،

٢٦٢

وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى.

ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد ، ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه ، وقد روى عبد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر ، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين : إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب ، وكذا وهو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتداء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى ، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه ، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها ، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجرى الأمر فيها كما أجرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب ، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية.

وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير انقلاب العين وتبدل الماهية ـ كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبي ـ ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم : أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ، ومن سلم هذا ـ ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم ـ لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليها حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى البعض ، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم ، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى (الْعَزِيزِ) أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به ، وقيل : القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه (الْحَكِيمِ) أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة ، وفي الإتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه ، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل (إِذْ تَقُولُ) ظرفا ـ لنصركم ـ لا بدلا من (إِذْ غَدَوْتَ) لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد.

والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه ، وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله

٢٦٣

سبحانه : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده ، وقيل : هو متعلق بنفس الصبر ، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى ، وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر المعهود كما في الثاني على ذلك ، والقول بأنه متعلق بمحذوف والتقدير فعل ذلك التدبير ، أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن القبول ، والقطع الإهلاك ، والمراد من ـ الطرف ـ طائفة منهم قيل : ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته ، وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وقيل : للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ، ففي الأساس هو من أطراف العرب أي أشرافها ، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير ، ومن ذلك قالوا : الأطراف منازل الأشراف لا يرد أن الوسط أيضا يشعر بالشرف ، فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بقتل وأسر ، وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة ، فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون ، واعتبار ذلك في أحد حيث قتل فيه ثمانية عشر رجلا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد استعبدوه كما أشرنا إليه (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي يخزيهم قاله قتادة والربيع: ومنه قول ذي الرمة :

لم أنس من شجن لم أنس موقفنا

في حيرة بين مسرور ومكبوت

وقال الجبائي والكلبي : أي يردهم منهزمين ، وقال السدي : أي يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر ، وقيل : صرع الشيء على وجهه ، وقيل : إن كبته يكون بمعنى كبده أي أصاب كبده كرآه بمعنى أصاب رئته ، ومنه قول المتنبي :

لأكبت حاسدا وأرى عدوا

كأنهما وداعك الرحيل

والآية محمولة على ذلك ، ويؤيد هذا القول أنه قرئ أو يكبدهم ، وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة انقطاع الأمل ، وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل واليأس يكون بعده وقبله ، ونقيض الخيبة الظفر ، ونقيض اليأس الرجاء (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أخرج غير واحد «أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلخ فتيب عليهم كلهم ، وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية ، وقال محمد بن إسحاق. والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا : لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية.

٢٦٤

وهذا الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين.

وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين وقيل : سبعين رجلا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك ، والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف إما على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم ، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة.

وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى ، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام ـ كما قال العلامة الثاني ـ لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة (أَوْ) نظر ، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن ـ ولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب ـ فليس هناك عطف الخاص على العام ، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف ، والحمل على الشأن أرفع شأنا.

ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن (أَوْ) بمعنى إلا أن ، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح ، أو يعذبهم فتشتفي بهم وأيا ما كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه ، وقيل : إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه ، وقيل : إن قوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ) إلخ عطف على ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم ، أو عطف على (يَكْبِتَهُمْ) و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة ، والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم.

والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق كذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب وأكثر ما

٢٦٥

يعلل به التعذيب الأخروي ، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه ، واستشكلت هذه الآية بناء على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] ، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناء على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاد المأذون به.

وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن وأيّا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له ؛ وتقديم الخبر للقصر ، (وَما) عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين ، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة (مَنْ) في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه.

وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لا ثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم ، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح ـ وهو مذهب الجماعة ـ وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا ، وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة ، الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة ، وقالوا : إن المراد (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بقوله جل شأنه : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر (لِمَنْ يَشاءُ) وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين ، وبما روي عن عطاء (يَغْفِرُ لِمَنْ) يتوب عليه (وَيُعَذِّبُ مَنْ) لقيه ظالما ؛ والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات ، وأجابوا عن متمسك المخالف ، أما عن الأول فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب ، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد ، وأما عن الثاني فبأن مجرد

٢٦٦

جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن الجزم به ، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرا وإغراء على الذنب مع هذا الزاجر.

وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال : إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه ، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بقوله عزوجل : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرا (لِمَنْ يَشاءُ) وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا في الجملة ، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلا ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين ، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع.

فإن قال الخصم : نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا : يكون رجوعا إلى الاستدلال بالمعقول ، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها. وهو مطلوبنا هنا ـ على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات ، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مع زيادة ، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام ، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة.

هذا «ومن باب الإشارة» (لَيْسُوا سَواءً) من حيث الاستعداد وظهور الحق فيهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الإلهي الأزلي (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) بالله تعالى له (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار (آناءَ اللَّيْلِ) أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الأنانية إنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالمبدإ والمعاد (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) حسبما اقتضاه الشرع ولكون ما تقدم نظرا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار ، وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) من تكميل أنفسهم وغيرهم (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) القائمين بحقوق الحق والخلق (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) يقربكم إلى الله تعالى (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) فقد جاء «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب

٢٦٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) واحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار (أَشْرَكُوا بِاللهِ) تعالى ما لا وجود له في عير ولا نفير (لَنْ تُغْنِيَ) لن تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي عذابه (شَيْئاً) من الدفاع لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوا (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) وهي الحجاب والبعد عن الحضرة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاك حرثهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لسوء استعدادهم الغير المقبول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أي خاصة تطلعونه على أسراركم (مِنْ دُونِكُمْ) كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور على الأغراض ؛ ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف ، وأنى يتجانس النور والظلمة ، وكيف يتوافق مشرق ومغرب؟!

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني

ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقية وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما ، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لامتناع إخفاء الوصف الذاتي (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) وتفهمون من فحوى الكلام (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) بمقتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرا لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وابتلي بالقدر ، وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفا عند التأمل (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بمقتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) أي جنسه (كُلِّهِ) لما أنتم عليه من التوحيد المقتضي لذلك (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك للاحتجاب بما هم عليه (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) الكامن في صدورهم (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) كآثار تجلي الجمال (تَسُؤْهُمْ) ويحزنوا لها (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال (يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد (وَتَتَّقُوا) الاستعانة بالسوى (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى ، والمخذول من استعان بغيره وقصده سواه كما قيل :

من استعان بغير الله في طلب

فإن (ناصره عجز وخذلان)

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من المكايد (مُحِيطٌ) فيبطلها ويطفئ نارها (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذلك وبالشكر تزاد النعم (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) لما رأيت من حالهم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم ، أو (مُنْزَلِينَ) على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا) على صدمات تجليه سبحانه

٢٦٨

(وَتَتَّقُوا) من سواه (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أي بلا بطء (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة ، أو (مُسَوِّمِينَ) على صيغة المفعول بعمائم بيض ، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة عليهم ، وتخصيص ـ الخمسة آلاف ـ بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الإمداد الكامل حيث إنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداء ـ وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ـ لا يكون إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب مثلا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية.

وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة ، (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيتحقق الفيض بقدر التصفية (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة وبالحق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه (الْعَزِيزِ) فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء (الْحَكِيمِ) الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة (لِيَقْطَعَ) أي يهلك (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أعداء الله تعالى (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم ويذلهم (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا (لَيْسَ لَكَ) من حيث أنت (مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وكله لك من حيثية أخرى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) لأجلك فتشتفي بهم من حيث أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون بتلك المخالفة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) من عالم الأرواح (وَما فِي الْأَرْضِ) من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ابتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد ، ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه ، وقدمه على الأمر اعتناء به وليجيء ذلك الأمر بعد سدّ ما يخدشه ، وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الاقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضا ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم ، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم ، وقيل : إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب ـ وهو الربا ـ وخصه بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا بشدة الحظر.

والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة

٢٦٩

التشنيع ، وقد تقدم الكلام في الربا (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) حال من الربا ـ والأضعاف ـ جمع ضعف وضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافه أمثاله ، وقال بعض المحققين : الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثني اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف ـ على ما نقله الراغب ـ بمعنى ضعفته ، وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ، ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل : هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار ، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناء على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله ، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور.

وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال ـ وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي ـ كما قال الأزهري.

ومن هنا ظهر أنه لو قال : له الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان ، ثم قال والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأنه المتيقن ، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف ، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع ، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية ، وقرئ ـ «مضعفة» ـ بلا ألف مع تشديد العين.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح ، فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى (١) حضائر القدس (وَاتَّقُوا النَّارَ) أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطى ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار (الَّتِي أُعِدَّتْ) أي هيئت (لِلْكافِرِينَ) وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها دون ذلك ، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة ، ويحتمل أن يقال : إن النار مطلقا مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات ، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص ، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء ، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول : إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص (وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر بالتقوى السابق (وَالرَّسُولَ) أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أو راجين رحمته ، وعقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة ، قال محمد بن إسحاق : هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز (وَسارِعُوا) عطف على أطيعوا أو اتقوا.

__________________

(١) قوله : (حضائر) هو في خط المؤلف رحمه‌الله بالضاد الساقطة كتبه مصححه.

٢٧٠

وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام ، والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا ، وقرئ بالأخير (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أي أسبابهما من الأعمال الصالحة ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض ، وعن ابن عباس إلى الإسلام ، وعن أبي العالية إلى الهجرة ، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى ، وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات ، وعن يمان إلى الصلوات الخمس ؛ وعن الضحاك إلى الجهاد ، وعن عكرمة إلى التوبة ، والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع ، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية ، وقيل : لأنها كالسبب لدخول الجنة ، و (مِنْ) متعلقة بمحذوف وقع نعتا ـ لمغفرة ـ والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح «أن المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة داره اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم» والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف ، وكذا في (جَنَّةٍ) ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) والمراد كعرض السموات فهو على حد قوله :

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ويب غيرك بالعناق

فإنه أراد كصوت عناق ، والعرض أقصر الامتدادين ، وفي ذكره دون ذكر الطول مبالغة ، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصور السامعين ، والعرب كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة ، ومنه قولهم : أعرض في المكارم إذا توسع فيها ، والمراد من (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) السموات السبع والأرضون السبع ، فعن ابن عباس من طريق السدي أنه قال : تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها ببعض فذاك عرض الجنة ، والأكثرون على أنها فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروي عن أنس بن مالك ، وقيل : إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة ، وقيل : إنها خارجة عن هذا العالم حيث شاء الله تعالى ، ومعنى كونها في السماء أنها في جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال السموات والأرض بأضعاف مضاعفة. ولا ينافي هذا خبر أنها في السماء الرابعة إن صح ، ولا ما حكي عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك : في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فإنه لا ينافي خروج البستان عنها ، وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر أيضا كون عرض الجنة (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من (السَّماواتُ) السموات السبع كما قيل به.

ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها ما يزيد.

وحكي ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل : وبذلك يدفع السؤال بأنه إذا كان عرض الجنة «كعرض السماء والأرض» فأين تكون النار ، ووجه الدفع أن ذلك يوم القيامة ، وأما الآن فهي دون ذلك بكثير ، ويوم يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض المشبه بعرضهما عرضها ، ولا يخفى أن القول بالزيادة في السعة يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل ، والسؤال المذكور أجاب عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير ذلك.

٢٧١

فقد أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال : «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب هرقل ، وفيه : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء ، وإلى ذلك يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرض هاهنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك عرضت المتاع للبيع ، والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض ، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم ، فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع وربما يستغني على هذا عن تقدير ذلك المضاف ، ولا يخفى أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن المراد وصفها بأنها واسعة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت للمطيعين لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع ، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى.

وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع ، ولعلها الفردوس المصرح بها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس» وفيه تأمل ، والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه الفعل الماضي ، وجعله من باب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ٩٩ ، يس : ٥١ ، الزمر : ٦٨ ، ق : ٢٠] خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين في محله ، ومثل ذلك (أُعِدَّتْ) السابق في حق النار ، وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناء على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم.

والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة ، وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت ، وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور : أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه ، والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة ، والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) في محل الجرّ على أنه نعت للمتقين مادح لهم ، وقيل : مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول (يُنْفِقُونَ) محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم : فلان يعطي.

(فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس ؛ وقيل : في حال السرور والاغتمام ، وقيل : في الحياة وبعد الموت بأن يوصي ، وقيل : فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء ، وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم ، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر ، والمتبادر ما قاله الحبر ، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي إنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب ، وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة ، وفي الخبر «اتقوا النار ولو بشق تمرة ، وردوا السائل ولو بظلف محرق» ؛ (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أصل الكظم شدّ رأس القربة عند امتلائها ، ويقال : فلان كظيم أي ممتلئ حزنا ، و (الْغَيْظَ) هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر ، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل : إن الغضب يتبعه إرادة الانتقام البتة ، ولا كذلك الغيظ ، وقيل :

٢٧٢

الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار والغيظ ليس كذلك وقيل : هما متلازمان إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك.

والمراد والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنقاذ والانتقام وهذا هو الممدوح ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا».

وأخرج أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء» وفي الأول جزاء من جنس العمل ، وفي الثاني ما هو من توابعه ، وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا للدلالة على الاستمرار ، وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي المتجاوزين عن عقوبة من استحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك إخلال بالدين ، وقيل : عن المملوكين إذا أساءوا ، والعموم أولى.

أخرج ابن جرير عن الحسن «أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ليقم من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا» ، وأخرج الطبراني عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه».

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك في الآية «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله تعالى وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» والاستثناء منقطع إن كانت القلة على ظاهرها ومتصل إن كانت بمعنى العدم ، وكون بعض الخصائص كثيرا في الأمم السابقة لا يقتضي تفضيلهم على هذه الأمة من كل الوجوه ومن ظن ذلك تكلف في توجيه الحديث بأن المراد أن الكاظمين الغيظ في أمتي قليل إلا بعصمة الله تعالى لغلبه الغيظ عليهم ، وقد كانوا كثيرا في الأمم السالفة لقلة حميتهم ولذا كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر فيما بينهم قليلا ولما تمرنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى والتزموا الاجتناب عن المداهنة صار إنفاذ الغيظ عادتهم فلا يكظمون إذا ابتلوا إلا بعصمة الله تعالى ، فالقليل في الخبر هم الذين يكظمون لقلة الحمية وهم الكثيرون في الأمم السالفة فلا اختصاص لهم بمزية ليتوهم تفضيلهم على هذه الأمة ولو من بعض الوجوه ، ولا يخفى أن هذا التوجيه مما تأباه الإشارة والعبارة ، وأحسن منه بل لا نسبة أن الكثرة نظرا إلى مجموع الأمم لا بالنسبة إلى كل أمة أمة ولا يضر قلة وجود الموصوفين بتلك الصفة فينا بالنظر إلى مجموع الخلائق من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن هذه الأمة بأسرها قليلة بالنظر إلى مجموع الأمم فضلا عن خيارها فتدبر ، وفي ذكر هذين الوصفين كما قال بعض المحققين : إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وندب له عليه الصلاة والسلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله تعالى عنه حتى قال : «حين رآه مثل به لأمثلن بسبعين مكانك» ولعل التعبير هنا بصيغة الفاعل أيضا دون الفعل لأن العفو أشبه بالكظم منه بالإنفاق (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل لمضمون ما قبله ـ وال ـ إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل : إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ـ ويمكن أن يقال : الإحسان

٢٧٣

هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح ، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط.

ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت : إن الله تعالى يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال : قد عفا الله تعالى عنك قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) من تتمة ما نزل حين قال المسلمون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا» إلخ على ما أشرنا إليه فيما تقدم ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية.

وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا لا يفترقان فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف الأنصاري في أهله وحاجته فكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحيا فأدبر راجعا فقالت : سبحان الله تعالى خنت أمانتك وعصيت ركب ولم تصل إلى حاجتك قال : وندم على صنيعته فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول : رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له : قم يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه‌السلام بتوبته فتلا (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) إلى قوله سبحانه وتعالى (وَنِعْمَ (١) أَجْرُ الْعامِلِينَ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : بل للناس عامة».

وفي رواية عطاء عن ابن عباس أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.

وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول وأيا ما كان فبإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الرماة انتظاما أوليا ، وأخرج الترمذي عن عطاف بن خالد أنه قال : بلغني أنها لما نزلت صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا : ما لك يا سيدنا قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب قالوا : وما هي؟ فأخبرهم قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك ، والموصول إما مفصول عما قبله على أنه مبتدأ ، وقيل : إنه معطوف على ما قبله من صفات المتقين ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أوفى ، أو على المتقين فيكون التفاوت أظهر وأكثر ، ـ والفاحشة ـ الكبائر ، وظلم النفس الصغائر قاله القاضي عبد الجبار الهمداني ، وقيل : الفاحشة المعصية الفعلية ، وظلم النفس المعصية القولية ، وقيل : الفاحشة ما يتعدى ، ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب اجتراء الناس عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك ، وقيل : الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال ، وكثيرا ما ترد بمعنى

٢٧٤

الزنا ، وأصل الفحش مجاوزة الحدّ في السوء ومنه قول طرفة عقيلة مال الفاحش المتشدد يعني الذي جاوز الحد في البخل فلعل المراد منها هنا المعصية البالغة في القبح ، والظلم الذنب مطلقا وذكره بعدها من ذكر العام بعد الخاص ، وأو على الوجوه للتنويع ولا يرد أنه على بعض الوجوه الترديد بين الخاص والعام وقد توقف في قبوله لأنهم قالوا : إن هذا ترديد بين فرقتين من يستغفر للفاحشة ومن يستغفر لأي ذنب صدر عنه وكم بينهما ، وجواب (إِذا) قوله تعالى شأنه : (ذَكَرُوا اللهَ) أي تذكروا حقه العظيم ووعيده ، أو ذكروا العرض عليه ، أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة أو نهيه أو غفرانه وقيل : (ذَكَرُوا) جماله فاستحيوا وجلاله فهابوا ، وقيل : (ذَكَرُوا) ذاته المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له بالتطهير من الذمائم ، وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد ذكر اسمه عز اسمه (فَاسْتَغْفَرُوا) أي طلبوا المغفرة منه تعالى (لِذُنُوبِهِمْ) كيفما كانت ومفعول (فَاسْتَغْفَرُوا) محذوف لفهم المعنى أي استغفروه ، وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب جل شأنه ، ومن هنا قالت رابعة العدوية : استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) اعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها ، والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد.

أما الأول فعلى وجوه : أحدها دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء ، وثانيها تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقرّه لأنه اعتراض بين المبتدأ وهو (الَّذِينَ) والخبر الآتي ، ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف الغفران ، وثالثها الإتيان بالجمع المحلى باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له ، ورابعها دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله ، وذلك أن من وسعت رحمته كل شىء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا ، وخامسها إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول ، أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة. وأما الثاني ففيه وجوه أيضا :

الأول إن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس ، والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها ، والثالث أن في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] بقوله جل شأنه : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر ، والخامس أن الاسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه.

وقد التزم بعضهم كون ـ أل ـ في (الذُّنُوبَ) للجنس لتفيد الآية امتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى ، وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل (الذُّنُوبَ) وحينئذ يزداد أمر المبالغة ، وأما جعل الجملة حالية

٢٧٥

بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى ، و (مَنْ) مبتدأ و (يَغْفِرُ) خبره والاسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) عطف على (فَاسْتَغْفَرُوا) أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم ، وأصل الإصرار الشد من الصر ، وقيل : الثبات على الشيء ، ومنه قول الحطيئة يصف الخيل :

عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا

غلالتها بالمحصدات (أصرت)

ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة ، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا المعنى هنا لئلا يتكرر ما في المفهوم مع ما في المنطوق ، فلعله فيه بمعنى الإقامة ، وإذا حمل الاستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الاستغفار لأنه دال عليها في الظاهر ، وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الاعتناء به كما قالوا في ذكر الخاص بعد العام ، أخرج البيهقي عن ابن عباس موقوفا «كل ذنب أصر عليه العبد كبير وليس بكبير ما تاب منه العبد» وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر مرفوعا ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين» (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قيل : الجملة حال من ضمير ـ استغفروا ـ وفيه بعد لفظي ، والمشهور أنها حال من ضمير ـ أصروا ـ ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف أي يعلمون قبح فعلهم ، وقد ذكر أن الحال بعد الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء مشتغلا بذلك ، وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك راكبا ، ولهذا معنيان : أحدهما و ـ هو الأكثر ـ أن يكون النفي راجعا إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب ، وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى انتفاء كل من الأمرين بالمعنى في المثال لا مجيء ولا ركوب ، وقد يكون النفي متوجها للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته.

قيل : وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم (يَعْلَمُونَ) قيدا للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم ، وكذا لا يصح توجهه إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم ، والظاهر أن المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته ، والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق البتة.

ولك أن تقول : لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن الحال قد يجيء في معرض التعليل.

وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجعل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر؟ مجاب عنه بأنه ليس المقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب فيكون مدح لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح ، وادعى بعض المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفي وأن النفي راجع إلى القيد ، والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتنامى لم تخطر بباله ، ولا يخفى ما في قوله : «وغير المصر» إلخ ، وقوله : «لأن الجزاء» إلخ

٢٧٦

من النظر ، وكأن من جعله حالا من ضمير ـ استغفروا ـ أراد الفرار من هذه الدغدغة ، وأنا أقول : إن الحال قيد للنفي ومتعلق العلم وليس هو القبح بل إنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب ، وهو المروي عن مجاهد كما أخرجه جماعة عنه ، وحكي عن الضحاك أيضا. والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ، وهو إيذان بأنهم لا ييأسون من روح الله سبحانه ولا يرد على هذا دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولعل مدحهم بأنهم يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل ، وربما يقال : إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) لما سيقت له ، وأما جعلها معطوفة على جملة ـ لم يصروا ـ ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا فليس بالذي تميل النفس إليه (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين أخيرا باعتبار اتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة ، والبعد للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل ، وإلى هذا ذهب المعظم ، وقيل : هو إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (جَزاؤُهُمْ) بدل اشتمال منه أو مبتدأ ثان ، وقوله تعالى : (مَغْفِرَةٌ) خبر (أُولئِكَ) أو خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر الأول ، وهذه الجملة خبر (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) إلخ على الوجه الأول ، وادعى مولانا شيخ الإسلام أنه الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين (أُولئِكَ) إلخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف الأولين ما في شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لهما المفرة ، وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع اشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر انتهى.

والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه قرأ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) الآية ثم قرأ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار إليهما بل الأول منهما ، وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل ، وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في مطلع الجزاء (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم مع التشريف (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عطف على (مَغْفِرَةٌ) والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر سبحانه أن عرضها (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وليس جنات وراءها على ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا تنصيصا على وصفها باشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار الجالية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم ، وهذا فوق الإخبار بالأعداد أو مؤكد له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه ، وادعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة ، وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه وفيه تردد (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير المجرور في (جَزاؤُهُمْ) لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة ، وعلى ذلك اقتصر مقاتل ، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات.

وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات : أحدها أنها كالتذييل للكلام السابق

٢٧٧

فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد ، وثانيها في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل (وَنِعْمَ) هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطا للعامل ، وثالثها في تعميم العاملين وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني.

ولمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام الذي في شأن التائبين ، أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي ذكرناه آنفا ، ومن ذهب إلى الأول قال : وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها واجتنبوا المعاصي برمتها ، والمستغفرون لذنوبهم بعد ما أذنبوا وارتكبوا الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى ، وفصل آية الآخرين بقوله جلا وعلا : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم ، وأين هذا من ذاك وبعيد ما بين السمك والسماك ، ولا يخفى أنه على تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكي عن الحسن يمكن أن يقال : إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي مانع من الاخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى منجز ما وعدهم به ولا بدّ ، وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الانعام على الغير فظاهر ، وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق ـ أو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ـ كما صرح به في الصحيح فلأن ذلك لو نافى لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم واستغفر سيد الاستغفار ؛ ولا أظن أحدا يقول بذلك فتدبر.

ثم إن في هذه الآيات ـ على ما ذهب إليه المعظم ـ دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات ، متقين وتائبين ومصرين ، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة ، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض ودال على المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا ـ ويا له من فضيحة ـ وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر ؛ وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا ، وهذا على أصل المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوبا وعدم وجوب ، وأما على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان : قسم مترتب على العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجرا وجزءا وقسم لا يترتب على العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كما أو كيفا كما وعده من الأضعاف وغير ذلك ، ومنه ما هو محض التفضل حقيقة واسما كالعفو عن أصحاب الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى قاله بعض المحققين ، وذكر العلامة الطيبي أن قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وردت خطابا لآكلي الربا من المؤمنين وردعا لهم عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين وتحريضا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من المتقين والتائبين ، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر ولا ترهيب فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثا لهم على الانخراط في سلكهم ولا بدّ من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفا لهؤلاء وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) تدخل في المعنى ، فعلم من هذا أن دلالة (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) مهجورة لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين ، والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا منتف فلا يصح

٢٧٨

الاحتجاج بذلك للمعتزلة أصلا (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته ، وقال المفضل : إن المراد بها الأمم ، وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم ، ومنه قوله :

ما عاين الناس من فضل كفضلكم

ولا رأوا مثلكم في سالف السنن

وقال عطاء : المراد بها الشرائع والأديان ، فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق ـ كما قيل ـ وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي ، وذكر مضي الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك ، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتا للمؤمنين على دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود إن دين موسىعليه‌السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضا لليهود وحثا على قبول دين الإسلام وإنذارا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين ، نعم إطلاق السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة ، ومنه قولهم : سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من (سُنَنٌ) أي سنن كائنة من قبلكم (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي بأقدامكم أو بأفهامكم (فَانْظُروا) أي تأملوا.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم ، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما ، وقيل : المعنى على الشرط أي إن شككتم (فَسِيرُوا) إلخ ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين ، وقال النقاش : للكفار ـ وفيه بعد ـ و (كَيْفَ) خبر مقدم ـ لكان ـ معلق لفعل النظر ، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث.

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا

٢٧٩

وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٥٣)

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الإشارة إما إلى القرآن ـ وهو المروي عن الحسن وقتادة ـ وخدش بأنه بعيد عن السياق. وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين ، وقوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ) الآية اعتراض للحث على الإيمان والتقوى والتوبة ـ كما قيل ـ ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص ، واعترض عليه بأنه تعسف. وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ) إلخ ، وهو المروي عن أبي إسحاق ، واختاره الطبري والبلخي ، وكثير من المتأخرين ـ وأل ـ في الناس للعهد ، والمراد بهم المكذبون ، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر السابق وإن كان خاصا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك ، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة ، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي ، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين.

والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناء على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم ، وقدم بيان كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم ، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع

٢٨٠