روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما ادعاه ، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى ـ ودليلا ، وفي تعليل الاتباع ـ بابتغاء تأويله ـ دون نفس (تَأْوِيلِهِ) وتجريد ـ التأويل ـ عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل ـ في عير ولا نفير ، ولا قبيل ولا دبير ـ وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في موضع الحال من ضمير ـ يتبعون ـ باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الإفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين ، وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال : «سمعت أنس بن مالك يقول : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال : من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه ، والمراد بالعلم العلم الشرعي المقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون».

(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل ، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما ـ أي هم يقولون ـ وقد قيل : إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر ، وجوز أن يكون حالا من الراسخين ـ والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن ماله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين ، ثم هذا القول وإن لم يخص ـ الراسخين ـ لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم ـ أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما ، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه ، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا ، وقد قالوا : إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب ، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) عطف على جملة (يَقُولُونَ) سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق ، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على (الرَّاسِخُونَ) وهو الذي ذهب إليه الشافعية ، وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه ، وأما على تقدير أن يكون الوقف على (إِلَّا اللهُ) وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة (يَقُولُونَ) خبر عنه ، ورجح الأول بوجوه : أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون ، وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم ، وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر

٨١

العبارة حيث لم يقل ـ ومنه متشابهات ـ لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشابها بالمعنى المذكور وهو كثير جدا ، وأما رابعا فلأن المحكم حينئذ لا يكون ـ أم الكتاب ـ بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا ، وأما خامسا فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى ، وأما سادسا فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول : أنا ممن يعلم تأويله ، وأما سابعا فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك ، وأما ثامنا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ، والقول : بأن ـ أما ـ للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت ـ أما ـ والفاء ، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه : (أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) والتقسيم في قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) والتفريق في قوله عزّ شأنه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) إلخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) إلخ مجاب عنه بأن كون ـ أما ـ للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم.

ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني (يَقُولُونَ) إلخ كاف في ذلك ، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة ، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره ـ ويد الله تعالى مع الجماعة ـ ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة ، الأول ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ ـ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ـ فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه ، وحكى الفراء أن في قراءة أبيّ بن كعب أيضا ـ ويقول الراسخون في العلم.

وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود ـ وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ـ الثاني ما أخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى».

«الحديث الثالث» ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به».

الرابع ما أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا».

وأخرج البيهقي في الشعب نحوه عن أبي هريرة ، الخامس ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا «أنزل

٨٢

القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب» إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز ـ ولكل منهما وجه وجيه ـ وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه ، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومن جهة المعنى ، ومن جهتهما معا. فالأول ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون ، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] وضرب لبسطه نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] لأنه لو قيل : ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١] إذ تقديره ـ أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ـ والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه ، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]. والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها الآية نحو (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩](إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه ، والخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح ، ثم قال : وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ؛ ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك ، وقسم للانسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة ، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

وإذا عرفت هذا ظهر جواز الأمرين الوقف على (إِلَّا اللهُ) والوقف على (الرَّاسِخُونَ) وقال بعض أئمة التحقيق : الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على (إِلَّا اللهُ) وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف ، ويجوز الوقف أيضا لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى ، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان : فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه ، ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده. والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه ، فعن الأول بأنه أريد ببيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل ـ وأما الراسخون ـ مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] حيث لم يقل ـ والطاغوت أولياء الذين كفروا ، ولا الذين آمنوا وليهم الله ـ تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين ،

٨٣

وعن الثاني بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى.

وعن الثالث بأنه يلتزم القول بعدم الحصر ، وفي الإتقان أن بعضا قال : إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولو لا ذلك لأشكل قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: ٤٤] لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وعن الرابع بالتزام أن إضافة ـ أم ـ إلى (الْكِتابَ) على معنى في ، والمحكم ـ أم ـ في (الْكِتابَ) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو ـ أم ـ وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار ، وعن الخامس بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره.

وعن السادس بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار ، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال : مراده رضي الله تعالى عنه ـ أنا ممن يعلم تأويله ـ أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا وإن قيل : إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد ، وعن السابع بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل ، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] وعن الثامن بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها ، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل ، وكسر سورة الفكر ، وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر ، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع ، ولعل القائل يكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة ـ كعلم الله تعالى ـ وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر

٨٤

الكلام خرط القتاد ، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.

ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال : أخبرني شيخنا علي الخواص قدس‌سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما وكان يقول : لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة ، وقال في الكشف في نحو (ق) [ق : ١] ، (ص) [ص : ١](حم) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١](طس) [النمل : ١] : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد ، ففيض الباري عم نواله غير محصور ، واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور ، ومن لم يصدق إجمالا ـ بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو أطوارا حظ العقل منها حظ الحسّ من المعقولات ـ فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطا في هذا التيه ، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فهذا ما يجب أن يعتقد كيلا يلحد.

ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه ، ومذهب السلف والأشعري رحمه‌الله تعالى من أعيانهم ـ كما أبانت عن حاله الإبانة (١) ـ أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل ، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون : الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء والغلبة ، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي ـ وليته سكت ـ أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا ، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب ، وذكر الشعراني في الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر :

قد ـ استوى ـ بشر على العراق

من غير حرب ودم مهراق

وأين استواء ـ بشر على العراق ـ من استواء الرحمن على العرش ، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مئونة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه ، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها ـ وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها ـ وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه ، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع : قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت؟ فقال : أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك

__________________

(١) الإبانة اسم كتاب للإمام الأشعري ألفه في آخر عمره فجنح فيه لمذهب السلف ومذهب السلف هو الأعلم والأسلم فعليك به ا ه إدارة.

٨٥

العراجين فضربه حتى أدمى رأسه ـ وفي رواية ـ فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين «لا يقال» إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا : إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول : نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفس الظاهر من غير تعيين للمراد ، أحدهما ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له ، وثانيهما بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال : بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله ، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بيّن الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول ، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا. نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون : إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة ، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة ـ وأين التراب من رب الأرباب ـ وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل ، و (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل. والكلبي عن ابن عباس في «استوى» أنه بمعنى استقر ، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] إنها قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.

وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا : إن هذه المتشابهات تجري على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق ، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.

وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر ، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات أيضا لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان : قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة ، ولا يقال : فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا ـ لا دواة ولا قلما ـ وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للانسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان ، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جليلة الحال ، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : «من عرف الله تعالى كل لسانه» وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح ، ولعل إدراكها عند أهلها

٨٦

كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه ، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول. نعم لو قيل : إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا ، وجمعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال : لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك ، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين ، والمحكم (أُمُ) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما فرعه الإيماني. والثاني فرعه الإيقاني ، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل ، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه فقال : إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين ، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم ـ أي قولوا (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين ، أو التأويل الصحيح ، ويؤول المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال ، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى ـ على مذهب أهل السنة في أفعال العباد ـ ظاهرة ، والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ بسببها قلوبنا ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا ، وإنما دعوا بذلك أو أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب ، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال : ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

وأخرج الحكيم الترمذي من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه» والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطرو الشك مثلا والعياذ بالله تعالى ، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول : أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له : أو تخاف؟ قال : آمنت بمحرف القلوب ثلاثا ، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال : اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال : يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنت قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا. وعن أبي أيوب الأنصاري : ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان.

وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال

٨٧

والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك ، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر ، و (بَعْدَ) منصوب على الظرفية والعامل فيه (تُزِغْ) ، و (إِذْ) مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحويين ، وأما القول بأنها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة ، والمعنى ـ بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفي في إعراب القرآن ولم ير لغيره ، والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤول مع ما بعدها بالمصدر نحو (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كما ترى ، وقرئ ـ «لا تزغ» ـ بالياء والتاء ورفع القلوب (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق ـ بهب ـ وتقديم الأول اعتناء به وتشويقا إلى الثاني ، ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك ، و (مِنْ) لابتداء الغاية المجازية ، و ـ لدن ـ ظرف ، وهي لأول غاية زمان ، أو مكان ، أو غيرهما من الذوات نحو ـ من لدن زيد ـ وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها بحال ، فتارة تضاف إلى المفرد ، وتارة إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن (مِنْ) ، وفيها لغتان ، الإعراب ـ وهي لغة قيس ـ والبناء وهي اللغة المشهورة ـ وسببه شبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف ـ عند ، ولديّ ـ فانهما لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضلة ، وعمدة ، وغاية ، وغير غاية ، قيل : ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان ـ بلدن ـ المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون ، وأما بقية لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم ـ ولدن ولدن ـ بفتح الدال وكسرها ـ ولدن ، ولدن ـ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال ـ ولدن ـ بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاء ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون (رَحْمَةً) مفعول ـ لهب ـ وتنوينه للتفخيم ، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقا ، وقيل : الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق ، وفي سؤال ذلك بلفظ لأنه إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول الصريح للتشويق (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للسؤال أو لاعطاء المسئول ، و (أَنْتَ) إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم ـ إن ـ وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم : فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل : لمناسبة رءوس الآي (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) المكلفين وغيرهم (لِيَوْمٍ) أي لحساب يوم ، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلا لما يقع فيه ، وقيل : اللام بمعنى إلى أي جامعهم في القبور إلى يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء. وقيل : الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم ، فالجملة على الأول صفة ليوم ، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا ـ كما قال غير واحد ـ عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم ، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة. وقرئ (جامِعُ النَّاسِ) بالتنوين (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب ، وقيل : تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للاشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل ، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف ؛ وهذا بخلاف ما في آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الانعام ، وقال الكرخي : الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالا لفظيا فقط وما في الآخر متصل اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد ، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ ، قال السفاقسي : وهو الظاهر ، و (الْمِيعادَ) مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية ـ

٨٨

يخلف ـ وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها ، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى وإلا يلزم الخلف ، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا ، وقيل : هو إنشاء فلا يلزم محذور في تخلفه ، وقيل : ما في الآية ليس محلا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] واعترض أيضا بأن كون ـ الخلف في الإيعاد ـ مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين ، وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (الم) تقدم الكلام عليه ، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن أإشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق ، ول إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى ، وم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو آخر الوجود ، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم. وقال بعضهم : إن ل ركبت من ألفين أي وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها فهو اسم من أسمائه تعالى ، وأما م فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن أالتي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن (الم) الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطئوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه ، ولهذا أردفه سبحانه بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله (الْحَيُ) أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسا بالحق وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) إلى معالم التوحيد (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا بآيات الله تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في البعد والحرمان عن حظائر العرفان (وَاللهُ عَزِيزٌ) قاهر (ذُو انْتِقامٍ) شديد بمقتضى صفاته الجلالية (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) في أرحام الوجود (كَيْفَ يَشاءُ) لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلى لذاته (لا إِلهَ) في الوجود (إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدا (الْحَكِيمُ) الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) متنوعا في الظهور (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) والأصل (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) تحتمل معنيين

٨٩

فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ) لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الذي يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم ـ الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية ، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على (إِلَّا اللهُ) والوقف على (الرَّاسِخُونَ وَما يَذَّكَّرُ) بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي للقوابل حسب القابليات (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) على اختلاف مراتبهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء ، هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف ، وقيل : وفد نجران ، أو اليهود من قريظة والنضير ، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو مشركو العرب (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لن تنفعهم ، وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين (أَمْوالُهُمْ) التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح (وَلا أَوْلادُهُمْ) الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي ـ كما قال الشيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب (مِنَ اللهِ) أي من عذابه تعالى ـ فمن ـ لابتداء الغاية كما قال المبرد ، وقوله تعالى : (شَيْئاً) نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء ، وجوز أن يكون مفعولا به لما في «أغنى» من معنى الدفع و (مِنَ) للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا ، وأن يكون مفعولا ثانيا بناء على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه ، وقال أبو عبيدة : (مِنَ) هنا بمعنى عند وهو ضعيف ، وقال غير واحد : هي بدلية مثلها في قوله :

فليت لنا «من» ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان

ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ) [الزخرف : ٦٠] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى ، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.

وقريب من ذلك قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ : ٣٧] واعترض بأن أكثر النحاة ـ كما في البحر ـ ينكرون إثبات البدلية ـ لمن ـ مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وكذا بما بعد ، و ـ الوقود ـ بفتح الواو ـ وهي قراءة الجمهور ـ

٩٠

الحطب ـ أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون عن عز الحضور ـ حطب النار التي تسعر به لكفرهم ، وقيل : الوقود بالفتح لغة في الوقود بالضم ـ وبه قرأ الحسن ـ مصدر بمعنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاف أي أهل وقودها ـ والأول هو الصحيح ـ وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره ، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم ، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرا لأن ، و (هُمْ) يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب العادة والشأن ، وأصله من دأب في الشيء دأبا ودءوبا إذا اجتهد فيه وبالغ ـ أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدإ محذوف والجملة منفصلة عما قبلها مستأنفة استئنافا بيانيا بتقدير ـ ما سبب هذا ـ على ما قاله بعض المحققين.

ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر ـ تغنى ـ أي إغناء كائنا كعدم إغناء أو بوقود أي توقد بهم كما توقد بأولئك ـ ولا يخفى ما في الوجهين ـ أما الأول فقد قال فيه أبو حيان : إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي ، و (أُولئِكَ) إلخ إذا قدرت معطوفة فإن قدرت استئنافية وهو بعيد جاز. وأما الثاني فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له «فإن قيل» إنه مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون (مِنْ) بدلية ـ ولا ـ لإيقاد النار (١) فليفهم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون ، وقيل : للذين كفروا ، والمراد بالموصول معاصر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم الذي فعلوا على سبيل الاستئناف البياني ، والمراد «بالآيات» إما المتلوة في كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تفسير ـ لدأبهم ـ الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا ، وقيل : إن جملة (كَذَّبُوا) إلخ في حيز النصب على الحال من (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بإضمار قد ، ويجوز على بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولا في آياتنا للجري على سنن الكبرياء ، وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة.

(بِذُنُوبِهِمْ) أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين ، والمراد من الذنوب ـ على الأول ـ التكذيب بالآيات المتعددة ، وجيء بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء ، وعلى الثاني سائر الذنوب ، وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر ، وأصل الذنب التلو والتابع ، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو ـ أي يتبع ـ عقابها فاعلها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن كفر بآياته ، والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوا وقالوا : لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف إلى ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا :

__________________

(١) هكذا الأصل تدبر ا ه ادارة.

٩١

لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما أصاب قريشا فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا» فأنزل الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله سبحانه : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] فالمراد من الموصول اليهود ، والسين لقرب الوقوع أي تغلبون عن قريب وأريد منه في الدنيا ، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقتل ـ كما قيل ـ من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم ـ وهذا من أوضح شواهد النبوة ـ (وَتُحْشَرُونَ) عطف على (سَتُغْلَبُونَ) والمراد في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ) وهي غاية حشرهم ومنتهاه ـ فإلى ـ على معناها المتبادر ، وقيل : بمعنى ـ في ـ والمعنى أنهم يجمعون فيها ، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد ، والحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودا لها ، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ـ سيغلبون ويحشرون ـ بالياء ، والباقون بالتاء ، وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه ، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما أخبر الله تعالى به من الحكم بأنهم ـ سيغلبون ـ بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى ، وقوله سبحانه : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها ، ومهاد ـ كفراش لفظا ومعنى ، والمخصوص بالذّم مقدر وهو جهنم ، أو ما مهدوه لأنفسهم.

(قَدْ كانَ لَكُمْ) من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا ـ واختاره شيخ الإسلام ـ وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم (آيَةٌ) أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ـ ستغلبون ـ (فِي فِئَتَيْنِ) أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها (الْتَقَتا) يوم بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم ، وقرئ ـ يقاتل ـ على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق (وَأُخْرى كافِرَةٌ) بالله تعالى فهي أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة والوجل ، و (كانَ) ناقصة ـ وعليه جمهور المعربين و (آيَةٌ) اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل بمعنى ، وفي الخبر وجهان : أحدهما (لَكُمْ) و (فِي فِئَتَيْنِ) نعت ـ لآية ـ والثاني أن الخبر هو هذا النعت و (لَكُمْ) متعلق ب (كانَ) على رأي من يرى ذلك ، وجوز أن يكون (لَكُمْ) في موضع نصب على الحال ـ وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا و (الْتَقَتا) في حيز الجر نعت ـ لفئتين ـ وفئة خبر لمحذوف أي إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي ـ وفئة أخرى ـ والجملة مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية ، وقيل : فئة وما عطف عليها بدل من الضمير في (الْتَقَتا) وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضمير أي فئة منهما تقاتل إلخ ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل إلخ ، وفئة أخرى كافرة ، وقيل : كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة إلخ ، وقرئ ـ فئة

٩٢

وأخرى كافرة ـ بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثانية ، وقيل : على الاختصاص ، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة ، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا ـ كما قاله الحلبي ـ وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل : (الْتَقَتا) مؤمنة وكافرة ، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال ، وقرئ بالجر فيهما على البدلية من (فِئَتَيْنِ) بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما في قوله :

وكنت كذي رجلين ـ رجل صحيحة

ورجل رماها صائب الحدثان

وقوله سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية.

والمراد كما قال السدي : ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثلي عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن مسعود كانوا ألفا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل ، وأبو سفيان ، وغيرهما ، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس ، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال : أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة ـ وهو المراد من (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت : عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم ، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام ، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين علي الكرار كرم الله تعالى وجهه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا ، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة ، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ـ وقد مرت إليه الإشارة ـ وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترءوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب ، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية : والأول هو أولى لأن رؤية المثلين غير معينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال : ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر ـ كما في الأنفال ـ لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل

٩٣

بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى.

ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل : يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل.

«لا يقال» : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول : نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ولا إلى القول بأن ضمير (مِثْلَيْهِمْ) راجع إلى ـ الفئة ـ الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبا من ألفين ـ وإن ذهب إلى ذلك البعض ـ ويرد أيضا على قوله : على أن إبانة إلخ بعد تسليم أن الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف ـ يخيل إليه أن أشجار البيداء شجعان شاكية ، وأسد ضارية ـ وإثبات كل من هذه الأمور صعب على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تلك الواقعة : لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ـ ما يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدّقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا ، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد إلخ ، فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين فعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن في العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام ـ وهنا قد كان ذلك ـ لا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى ، وقرأ نافع ، ويعقوب ترونهم بالتاء ـ واستشكلت ـ على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضا مثلي أنفسهم ولا مثلي المؤمنين ، وأجيب بأنه يصح أن يقال : إنهم رأوا المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم ، وكذا يصح أن يقال : إنهم

٩٤

رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين ، وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى.

ولما في هذين الجوابين ـ كيفما كان ـ التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه : (قَدْ كانَ لَكُمْ) خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الأمر بناء على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها ، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء ، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به ، وقيل : إنه لجميع الكفرة ، وقال بعض أئمة التحقيق : القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) إلخ موقع المسك في الختام ، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها ، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.

وقرأ ابن مصرف ـ يرونهم ـ على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته (رَأْيَ الْعَيْنِ) مصدر مؤكد ـ ليرونهم ـ على تقدير جعلها بصرية ـ فمثليهم ـ حينئذ حال ، ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية ـ أي رأيا مثل رأي العين ـ فمثليهم حينئذ مفعول ثان ، وقيل : إن ـ رأى ـ منصوب على الظرفية أي في رأي العين (وَاللهُ) المتصف بصفات الجمال والجلال (يُؤَيِّدُ) أي يقوي (بِنَصْرِهِ) أي بعونه ، وقيل : بحجته وليس بالقوى (مَنْ يَشاءُ) أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من النصر ، وقيل : من تلك الرؤية (لَعِبْرَةً) أي اتعاظا ودلالة ، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز ، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة ، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه ، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

٩٥

إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٦)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك ، والمراد من الناس الجنس (حُبُّ الشَّهَواتِ) أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهي؟ فقال : أشتهي أن أشتهي ، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى ، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وروي عن الحسن ـ الشيطان ـ والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها. وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو ، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها ، وكلام الحسن رحمه‌الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم ، ومن قال : الظاهر أنه من قبيل ـ أقدمني بلدك حق لي عليك ـ إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة ، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف ، ومن قال : المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به.

والقائل : بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته ، وقرأ مجاهد ـ زين ـ بالبناء للفاعل ونصب (حُبُ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى ، وقيل : (مِنَ) لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في

٩٦

معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان ، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ويقال : فيهن ، فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن ، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «الولد مبخلة مجبنة» ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال ، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن ، وقيل : إن البنين تشملهن على سبيل التغليب (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك.

وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» وأخرج الحاكم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : «القنطار ألف أوقية».

وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار ، وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار» وعن معاذ ألف ومائتا أوقية ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار ، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبا ، وعن مجاهد سبعون ألف دينار ، وعن ابن المسيب ثمانون ألفا ، وعن أبي صالح مائة رطل ، وعن قتادة قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق ، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطا ، وقيل : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقيل : ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك ، ولعل الأولى كما قيل : ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص ، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات ، واختلف في وزنه فقيل : فعلال ، وقيل : فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة ، ولفظ (الْمُقَنْطَرَةِ) مأخوذ منه ، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة ـ كظل ظليل ـ وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول ك (حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢ و ٥٣] و (نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] وقيل : المقنطرة المضعفة ، وخصها بعضهم بتسعة قناطير ، وقيل : المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته ، وقيل : المضروبة دنانير أو دراهم ، وقيل : المنضدة التي بعضها فوق بعض ، وقيل : المدفونة المكنوزة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها ، والذهب مؤنث يقال : هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة ، وقال الفراء : وربما ذكر ، ويقال في جمعه : أذهاب وذهوب وذهبان ، وقيل : إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب ، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق (وَالْخَيْلِ) عطف على (النِّساءِ) أو (الْقَناطِيرِ) لا على (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لأنها لا تسمى قنطارا وواحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير ، وقال قوم : لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل (الْمُسَوَّمَةِ) أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى ، أو المطهمة الحسان ـ قاله مجاهد ـ فهي من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل ـ قاله عكرمة ـ فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة (وَالْأَنْعامِ) أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه ، والنعم مختصة بالإبل (وَالْحَرْثِ) مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا (ذلِكَ) أي ما زين لهم من المذكور ـ ولهذا ذكر ـ وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يئوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.

٩٧

أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : (حُسْنُ الْمَآبِ) حسن المنقلب وهي الجنة ، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذّ الدنيا السريعة الزوال ، ومن غريب ما استنبط من الآية ـ كما قال أبو حيان ـ وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، والثاني النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا ، والمراد من الإنباء الإخبار (ذلِكُمْ) إشارة إلى المذكور من النساء وما معه ، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة والثاني مضمومة كما هنا وكما في سورة ص (أَأُنْزِلَ) [ص : ٨] وسورة القمر (أَأُلْقِيَ) [القمر : ٢٥] على خمس مراتب : إحداها مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية مرتبة ورش ، وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة مرتبة الكوفيين. وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه : الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه ؛ والظرف الأول متعلق بالفعل قبله. والثاني متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة ـ كما قال أبو البقاء ـ لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها ، وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن الذين خبر مقدم ، و (جَنَّاتٌ) مبتدأ مؤخر ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يحتمل وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالا منها ، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم ، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه ـ كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية ـ وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه. وجوز أن تكون اللام متعلقة ـ بخبر ـ أيضا أو بمحذوف صفة له ، و ـ جنات ـ حينئذ خبر لمحذوف ـ أي ـ هي جنات ـ والجملة مبينة ـ لخير ـ و ـ عند ربهم ـ حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص ، وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ ، واعترض بأنه يقال : عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة ، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره ـ وفي النفس منه شيء ـ وقرئ ـ جنات ـ بكسر التاء وفيه وجهان : أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ ـ خير ـ وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل ـ بخير ـ (تَجْرِي) في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة ـ لجنات ـ على القراءتين (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم ما فيه (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من المستكن في ـ للذين ـ والعامل ما فيه من معنى الاستقرار ، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في ـ تحتها ـ أو من الضمير في ـ اتقوا ـ ولا يخفى ما فيه (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا ، والعطف على ـ جنات ـ على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بدّ من تقدير ـ لهم ـ في الكلام (وَرِضْوانٌ) أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين ، وقرأه عاصم ـ بضم الراء ـ وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى : (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) [المائدة : ١٦] فإنه بالكسر بالاتفاق ، وقيل : المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له (مِنَ اللهِ) صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا ، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ ، فالعباد على الأول عام ؛

٩٨

وعلى الثاني خاص ، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر ـ المقرّ ـ وهو الجنات ، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة ، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا اللهعزوجل.

«وفي الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل : من أولئك المتقون؟ فقيل : هم الذين إلخ ، وأن يكون في موضع نصب على المدح ، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع ـ للذين اتقوا ـ نعتا أو بدلا ، أو العباد كذلك ، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد ، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم ، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا ـ بخير ـ لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع ، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل ، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل ، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال : إنه لدفع توهم الأخبار ، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية ، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط ، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى :

(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات ، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر (الصَّابِرِينَ) يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة ـ للذين ـ إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح.

والمراد بالصبر ـ الصبر على طاعة الله تعالى ، والصبر عن محارمه ـ قاله قتادة ، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس (وَالصَّادِقِينَ) في نياتهم وأقوالهم سرا ـ وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا (وَالْقانِتِينَ) أي المطيعين ـ قاله ابن جبير ـ أو المداومين على الطاعة والعبادة ـ قاله الزجاج ـ أو القائمين بالواجبات ـ قاله القاضي ـ (وَالْمُنْفِقِينَ) من أموالهم في حق الله تعالى ـ قاله ابن جبير ـ أيضا (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) قال مجاهد والكلبي. وغيرهما : أي المصلين بالأسحار.

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح ، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع أسحرنا؟ فيقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قال : نعم قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح ، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة» وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية» والباء في ـ بالأسحار ـ بمعنى في ، وهي جمع ـ سحر ـ بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء ـ كالسحر ـ للشيء الخفي. وقال بعضهم : السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.

وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع

٩٩

أجمع ، وفي الصحيح «أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر».

وأخرج ابن جرير. وأحمد عن سعيد الجريري قال : «بلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه‌السلام فقال : يا جبريل أيّ الليل أفضل قال : يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر» وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها ، وقول أبي حيان : لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم.

هذا «ومن باب الاشارة في الآيات» (قَدْ كانَ لَكُمْ) يا معشر السالكين إلى مقصد الكل (آيَةٌ) دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) للحرب (فِئَةٌ) منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) وطريق الوصول إليه (وَأُخْرى) منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان (كافِرَةٌ) ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها (مِثْلَيْهِمْ) عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين ، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية ، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة (وَاللهُ) تعالى (يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) تأييده لقبول استعداده لذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ) التأييد لعبرة أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية (مِنَ النِّساءِ) وهي النفوس (وَالْبَنِينَ) وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة ، أو الأصول والفروع (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو (وَالْأَنْعامِ) وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية (وَالْحَرْثِ) وهو زرع الحرص وطول الأمل (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم.

ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار (جَنَّاتٌ) جنة يقين. وجنة مكاشفة. وجنة مشاهدة. وجنة رضا. وجنة لا أقولها ـ وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عزوجل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب (خالِدِينَ فِيها) ببقائهم بعد فنائهم (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات الإلهية (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) لا يقدر قدره (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ) نار الحرمان ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على مضض المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه فيه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات ، ويقال : (الصَّابِرِينَ) الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى (وَالصَّادِقِينَ) الذين صدقوا في الطلب فوردوا ، ثم صدقوا فشهدوا ، ثم صدقوا فوجدوا ، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد. ثم ورود. ثم شهود. ثم وجود.

١٠٠