روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

كما يلزم على التقادير الباقية كذا قالوا ، والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فإن كلا من (قائِمٌ) و (يُصَلِّي) يصح أن يتسلط على (فِي الْمِحْرابِ) على أي وجه تقدم من وجوه الاعراب.

ثم اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة ـ وإلى ذلك ذهب علي كرم الله وجهه ، وإبراهيم رحمه‌الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة ـ وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول ، فعن أبي موسى الجهني قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» وعن عبد الله بن أبي الجعد قال : «كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : «إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «اتقوا هذه المذابح»يعني المحاريب ، والروايات في ذلك كثيرة ، وللإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بأن الله ، وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في ـ أن وإن ـ يجوز في المنسبك اعتبار النصب واعتبار الجر ، والأول مذهب سيبويه ، والثاني مذهب الخليل ، وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين ، أو على إجراء النداء مجرى القول لأنه نوع منه ـ وهو مذهب الكوفيين ـ وقرأ حمزة ، والكسائي «يبشرك» من الإبشار ، وقرأ «يبشرك» من الثلاثي.

أخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال : من قرأ يبشر مثقلة فإنه من البشارة ، ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فإنه من السرور ـ ويحيى ـ اسم أعجمي على الصحيح ، وقيل : عربي منقول من الفعل والمانع له من الصرف على الأول العلمية والعجمة ، وعلى الثاني العلمية ووزن الفعل ، والقول ـ بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال أن يكون مبنيا يجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله : نبئت أخوالي بني يزيد ـ ليس بشيء لما في ذلك الاحتمال من التكلف المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع ، والقائلون بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومنهم من وجه ذلك بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، وروي عن قتادة ، وقيل : سمي (بِيَحْيى) لأنه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وقيل : لأنه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما ، وقيل : لأنه الله يحيي به الناس بالهدى ، قال القرطبي : كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، ورأيت في إنجيل متى أنه عليه‌السلام كان يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما يحكيه كتب النصارى ، وجمع ـ يحيى ـ يحيون رفعا ، ويحيين جرا ونصبا ، وتثنيته كذلك يحييان ويحيين ، ويقال في النسب إليه : يحي بحذف الألف ، ويحيوي ـ بقلبها واوا ـ ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية ، وفي تصغيره ـ يحيي ـ بوزن فعيعل قال مولانا شيخ الإسلام : وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارة من الله عزوجل على منهاج (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الآية كما يلوح به مراجعته عليه‌السلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك ، والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في ـ سورة مريم ـ للجري على سنن الكبرياء ـ كما في قول الخلفاء : أمير المؤمنين يرسم لك كذا ـ وللإيذان بأن ما حكي هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات ـ كما هو المتبادر ـ وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى ، وكان الداعي إلى اعتبار ما هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى ، وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لو لا ذلك ، والملوح غير موجب كما لا يخفى ـ ولا بد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذا التبشير لا يتعلق بالأعيان ، ويؤول في المعنى إلى ما

١٤١

هناك أي ـ إن الله يبشرك بولادة علام اسمه يحيى (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) نصب على الحال المقدرة من يحيى: والمراد بالكلمة عيسى عليه‌السلام ـ وهو المروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ـ وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه‌السلام بذلك لأنه وجد بكلمة ـ كن ـ من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر ، و (مِنَ) لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة ـ أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه‌السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور.

أخرج أحمد عن مجاهد قال : «قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك». وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : «كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك» فلذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره ، وقيل : بثلاث سنين ، قيل : وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين ، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه‌السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاثة عشرة ، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه‌السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا ، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادى الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه وفي الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه‌السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها ، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا ، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما‌السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم ، ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمّد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وحكي عن أبي عبيدة أن معنى (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) بكتاب منه ، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم ـ كلمة الحويدرة ـ للعينية المعروفة بالبلاغة (وَسَيِّداً) عطف على مصدقا ، وفسره ابن عباس بالكريم ، وقتادة بالحليم ، والضحاك بالحسن الخلق ، وسالم بالتقى ، وابن زيد بالشريف ، وابن المسيب بالفقيه العالم ، وأحمد بن عاصم بالراضي بقضاء الله تعالى ، والخليل بالمطاع الفائق أقرانه ، وأبو بكر الوراق بالمتوكل ، والترمذي بالعظيم الهمة ، والثوري بمن لا يحسد ، وأبو إسحاق بمن يفوق بالخير قومه ، وبعض أهل اللغة بالمالك الذي تجب طاعته ، إلى غير ذلك من الأقوال وكل ما فيها من الأوصاف مما يصلح ليحيى عليه‌السلام لأنها صفات كمال ، وأحق الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد من يسود قومه ويكون له أتباع ثم أطلق على كل فائق في دين أو دنيا ، ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث إنه عليه‌السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد ذلك من طرق عديدة.

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن أبي هريرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا» وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فإنه عليه‌السلام كان سيد قومه وله أتباع منهم. غاية الأمر أن تلك رئاسة شرعية والإتيان به إثر قوله تعالى : (مُصَدِّقاً) للإشارة إلى أنه نبي ـ كعيسى عليه‌السلام ـ وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) منه.

(وَحَصُوراً) عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ـ قاله ابن عباس في إحدى

١٤٢

الروايات عنه ـ وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل ، وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه عليه‌السلام كان كالأنملة ، وفي بعض الروايات كالقذاة ، وفي أخرى كالنواة. وفي بعض كهدبة الثوب ، قيل : والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء ، وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح ، والكلام مخرج مخرج المدح ، وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال : إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه‌السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.

ومن هنا قيل : إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليه‌السلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة ، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء ، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال ، والذي يضل الأعمى ، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا» وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا» ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليه‌السلام أيضا كذلك.

أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا. وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليه‌السلام مرّ في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت (وَنَبِيًّا) عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم ـ فمن ـ على الأول للابتداء ، وعلى الثاني للتبعيض قيل : ومعناه على الأول ذو نسب ، وعلى الثاني معصوم ، وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد ـ نبيا ـ وقد يقال : المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه‌السلام (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ولعله أولى مما قبل.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال زكريا عليه‌السلام حينئذ؟ فقيل : (قالَ رَبِ) إلخ ، وخاطب عليه‌السلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل ، و (أَنَّى) بمعنى كيف ، أو من أين ، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها (غُلامٌ) و (أَنَّى) واللام تعلقان بها ، ويجوز أن تكون ناقصة ، و (لِي) متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة ، وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما (أَنَّى) لأنها بمعنى كيف ، أو من أين ، والثاني أن الخبر الجار ، و (أَنَّى) منصوب على الظرفية ، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧](وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر فيّ ، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب.

روي عن ابن عباس أنه كان له عليه‌السلام ـ حين بشر بالولد ـ مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، وقيل : كان له من العمر تسع وتسعون سنة ، وقيل : اثنتان وتسعون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل: خمس وسبعون ، وقيل سبعون ، وقيل : ستون (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) جملة حالية أيضا إما من ياء (لِي) أو ياء (بَلَغَنِيَ) و ـ العاقر ـ العقيم التي لا تلد من العقر ـ وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد ، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ـ قاله أبو البقاء ـ وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما (وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها ، وإنما قال ذلك عليه‌السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه‌السلام الشواهد

١٤٣

السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال ـ قاله الحسن ـ وقيل : اشتبه عليه الأمر أيعطى الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال ، وقيل : قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للانسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره : كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجب من جوده ، وقيل : إن الملائكة لما بشرته (بِيَحْيى) لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني ؛ أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال ، وقيل : إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد بإعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه‌السلام هذا من هذا الباب ، وقيل : قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناء على ما قيل : إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو ستين سنة ـ كما حكي عن سفيان بن عيينة ـ وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد ، وأبعد منها ما نقل عن السدي ـ أن زكريا عليه‌السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال : إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه فقال : رب أنى يكون لي ولد ـ وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان ، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال : «أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال : هل تدري من ناداك؟ قال : نعم ناداني ملائكة ربي قال : بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك قال : رب أنى يكون لي ـ إلخ ، واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم‌السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه ، وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا ـ والولد أشبه شيء بها ـ فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز ، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال ، وأنت تعلم أن الاعتراض ـ ذكر ـ والجواب ـ أنثى ـ ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] الآية.

وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه‌السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر عن قتادة أنه قال : إن الملائكة شافهته عليه‌السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى (قالَ) أي الرب ، والجملة استئناف على طرز ما مر (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هم خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة ، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، والإشارة لذلك المصدر ، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره ، ويحتمل الكلام أوجها أخر : الأول أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك ، الثاني أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم ، و (اللهُ) مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى ، وتكون جملة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا لذلك الشأن المبهم ، الثالث أن يكون (كَذلِكَ) في موضع الخبر لمبتدإ محذوف أي الأمر (كَذلِكَ) وتكون جملة (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا أيضا ، الرابع أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه‌السلام كأنه قال : رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له : كما أنت

١٤٤

يكون الغلام لك ، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا ، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد ، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة تدلني على العلوق ، وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن ، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا ، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه‌السلام ، وقول السدي : إنه سأل الآية ـ ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ـ ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا ، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما (آيَةً) ، وثانيهما (لِي) والتقديملأنه المسوغ لكون (آيَةً) مبتدأ عند الانحلال ، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو (آيَةً) و (لِي) حينئذ في محل نصب على الحال من (آيَةً) لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها ، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها ـ كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة ـ ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام ، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح ، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري ، وقال أبو مسلم بأنه اختياري ، والمعنى ـ آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ـ ولا يخفى بعده هنا ، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا ـ وإلى ذلك ذهب عطاء ـ وهو خلاف الظاهر ، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف ، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي متوالية ، وقال بعضهم والمراد ثلاثة أيام ولياليها ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم : (ثَلاثَ لَيالٍ) [مريم : ١٠] والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) منها وأخرى على (ثلاث ليال) وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر ، قيل : وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه ، واعترض بأن ـ آية الليالي ـ متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها ـ آية الأيام ـ مدنية ، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.

فالبحث محتاج إلى تحرير بعد ، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء حق النعمة كأنه قيل له : آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها ، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام : لم تقول ما لا نفهم؟ فقال : لم لا تفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه‌السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر ، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه‌السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب ـ حسنات الأبرار سيئات المقربين ـ ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول ، ومذهب قتادة ـ لا آمن على الأقدام الضعيفة ـ قتادة (إِلَّا رَمْزاً) أي إيماء وأصله التحرك يقال : ارتمز أي تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال : الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول الشاعر :

ما في السماء من الرحمن «مرتمز»

إلا إليه وما في الأرض من وزر

١٤٥

وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين ، وقيل : الكتابة على الأرض ، وقيل : الإشارة بالمسبحة ، وقيل : الصوت الخفي ، وقيل : كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو استثناء منقطع بناء على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون كلام ـ وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه ـ وجوز أن يكون متصلا بناء على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل ، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل به ، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقا وادعى أن (رَمْزاً) مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض ، والأصل أن لا تكلم الناس إلا برمز ، فالعامل الذي قبل (أَلَّا) مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت (أَلَّا) وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو ـ ما لقيت إلا زيدا ـ لقيت زيدا ، وفي ـ ما خرج إلا زيد ـ خرج زيد ، وكذا لو قلت ـ آيتك أن تكلم الناس رمزا ـ استقام. وليس كذلك الاستثناء ، فلو قلت : ليس القوم في الدار إلا زيدا أو إلا زيد ـ ثم حذفت النفي وإلا ـ فقلت : القوم في الدار زيدا ، أو زيد لم يستقم ، فكذا المنقطع نحو ـ ما خرج القوم إلا حمارا ـ لو قلت : خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي ، وقرأ يحيى بن وثاب «إلا رمزا» بضمتين جمع رموز كرسول ورسل. وقرئ «ورمزا» بفتحتين جمع رامز ـ كخادم وخدم ـ وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين. ومثله قول عنترة :

متى ما تلقني «فردين» ترجف

روانف أليتيك وتستطارا

وجوز أبو البقاء أن يكون (رَمْزاً) على قراءة الضم مصدرا ، وجعله مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر ، وعليه لا يختلف إعرابه فافهم (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي في أيام الحبسة شكرا لتلك النعمة كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية ، وقيل : يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك الأيام ، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه ، والمنساق إلى الذهن هو الأول ، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها ، واستشكل العطف من وجهين : الأول عطف الإنشاء على الإخبار ، والثاني عطف المؤكد على المؤكد ، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر ، وقيل : لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفا على لا تكلم فيكون في تقدير (أَلَّا تُكَلِّمَ) وتذكر ربك ، ولا يخفى ما فيه (كَثِيراً) صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) وهو من الزوال إلى الغروب ـ قاله مجاهد ـ وقيل : من العصر إلى ذهاب صدر الليل (وَالْإِبْكارِ) أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى ، وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة كذا قيل : وهو مبني على أن (بِالْعَشِيِ) ـ جمع عشية ـ الوقت المخصوص ، وإليه ذهب أبو البقاء ، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضا على فعيل لا جمع.

وإليه يشير كلام الجوهري فافهم ؛ وقرئ (وَالْإِبْكارِ) بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى ـ وهو نادر الاستعمال ـ قيل : والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] وقبل : الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي ، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر ، و ـ أل ـ في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها ، والجار والمجرور متعلق بما عنده ، وليس من باب التنازع في المشهور ، وجوزه بعضهم فيكون الأمر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا ، وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار ، وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار.

١٤٦

وهذا «ومن باب البطون» في الآيات أن زكريا عليه‌السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة عن إراداتها مقدسة من شهواتها (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ) على ساق الخدمة (يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) وهو محل المراقبة ومحاربة النفس (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة ، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة (وَسَيِّداً) وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق ، وقال الصادق : هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا ؛ وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه ، وقال ابن عطاء : هو المتحقق بحقيقة الحق ، وقال ابن منصور : هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلي بنعوت الربوبية ، وقال محمد بن علي : هو من استوت أحواله عند المنع والإعطاء والرد والقبول (وَحَصُوراً) وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية ، وقال الاسكندراني : هو المنزه عن الأكوان وما فيها (وَنَبِيًّا) أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) والحال (قَدْ (١) بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وهو أحد الموانع العادية (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وهو مانع آخر (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) حسبما تقتضيه الحكمة (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به (إِلَّا رَمْزاً) تدفع به ضيق القلب عند الحاجة ، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات (وَسَبِّحْ) أي نزه ربك عن الشركة في الوجود (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) بالفناء والبقاء.

وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا) الاستعداد (رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ممن صدق في الطلب (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) القوى الروحانية (وَهُوَ قائِمٌ) منتهض لتكميل النشأة (يُصَلِّي) ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق (وَسَيِّداً) لم تملكه الشهوات النفسانية (وَحَصُوراً) أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية (وَنَبِيًّا) بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء (قالَ) رب (أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وضعف القوى الطبيعية (وَامْرَأَتِي) وهي النفس الحيوانية (عاقِرٌ) عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية (قالَ كَذلِكَ اللهُ) في غرابة الشأن (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات ، وبقي أسيرا في سجن العادات (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات (إِلَّا رَمْزاً) أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية (كَثِيراً) حيث منّ عليك بخير كثير (وَسَبِّحْ) أي نزه

١٤٧

ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي وقتي الصحو والمحو.

وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الإجرام (وَسَيِّداً) لجميع أصناف القوى (وَحَصُوراً) عن مباشرة الطبيعة (وَنَبِيًّا) بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) ذلك (وَقَدْ بَلَغَنِيَ) كبر منتهى الطور (وَامْرَأَتِي) وهي طبيعة الروح النفسانية (عاقِرٌ) بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له : علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين (أَلَّا) بالإشارة الخفية ، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سنن التمييز أربعون سنة انتهى ـ وهو قريب مما ذكرته ـ ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه ، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران ، ووقعت قصة زكريا. ويحيى عليهما‌السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء ، (وَإِذْ) في المشهور منصوب بذكر ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت ، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه‌السلام والكلام هنا كالكلام فيما تقدم ، وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى ، والمراد اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم‌السلام (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية ، والتأكيد اعتناء بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر ، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أنه قال : كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفذ ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه‌السلام قال : إن لابنة عمران لشأنا. وقيل : إن الملائكة عليهم‌السلام ألهموها ذلك ، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا ، وعلى القول الأول يكون التكليم من باب الكرامة التي يمنّ بها الله سبحانه على خواص عباده ، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه‌السلام أو معجزة لزكريا عليه‌السلام ، وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كاظلال الغمام لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتكلم الحجر معه ، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه ، ويمكن أن يدفع بالعناية ؛ وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه‌السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له ، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها ، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي

١٤٨

أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه ولم يقل أحد بنبوته ، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب.

ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) [الأنبياء : ٧] ولا يخفى ما فيه ، أما أولا فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة ـ كحواء ، وآسية ، وأم موسى ، وسارة ، وهاجر ، ومريم ـ موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها شهير ، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات ، وابن السيد إلى ترجيحه ، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك.

وأما ثانيا فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم (وَطَهَّرَكِ) أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد ـ قاله الزجاج ـ وروي عن الحسن ، وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية ، وقيل : نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة ، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه‌السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء ، وجعلها وإياه آية للعالمين ، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن ، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه‌السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير وله نظائر قد مر بعضها ، وعلى الثاني لإشكال في الترتيب ، وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة ـ على البشارة ـ الإشارة إلى كونها عليها‌السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر ، ولعل الأول أولى ـ كما قال الإمام ـ لما أن التأسيس خير من التأكيد «والمراد من نساء العالمين» قيل : جميع النساء في سائر الأعصار ، واستدل به على أفضليتها على فاطمة ، وخديجة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهن ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون» وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول ، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا» وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت : «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول».

وقيل : المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «أربع نسوة سادات عالمهن : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفضلهن عالما فاطمة» وما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها» وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت ـ والذي أميل إليه ـ أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا ، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها غليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات ـ وبه يجمع بين الآثار ـ وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء* وأين الثريا يد

١٤٩

المتناول* ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» وقوله عليه الصلاة والسلام : «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله تعالى وجهه ، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه.

وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء ، وأما أولا فلأن قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين ، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام ، ولعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك ، ولو علم لربما قال : خذوا كل دينكم عن الزهراء ، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام : «إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض» يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة ـ كما لا يخفى ـ كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟!

وأما ثانيا فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها ، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال : «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد : إن ـ أل ـ في النساء فيه للعهد ؛ والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الاخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث.

وأما ثالثا فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.

وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة. ثم أمها ، ثم عائشة. بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا ، وعندي بين مريم. وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة ، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه ، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل. ثم أمها. ثم عائشة ـ ووافقه في ذلك البلقيني ـ وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت : قد رزقك الله تعالى خيرا منها ، فقال لها : لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس. وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جبريل ، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها ، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها ـ وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الاستروشني منا ـ وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم.

وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد ، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضا

١٥٠

وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة ، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له.

والقنوت إطالة القيام في الصلاة ـ قاله مجاهد ـ أو إدامة الطاعة ـ قاله قتادة ـ وإليه ذهب الراغب ، أو الإخلاص في العبادة ـ قاله سعيد بن جبير ـ أو أصل القيام في الصلاة ـ قاله بعضهم ـ والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا ليس في الإجمال ، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم ، وقيل : لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ، وفي الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن (ارْكَعِي) ـ بالراكعين ـ للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين ، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة ، أما أولا فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي ، وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة ، وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين؟ وكأن وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع ، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع ، وقيل : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَاسْجُدِي) يحصل ذلك المقصود ، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك ، وقيل : المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٤٠] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة ، والاحتمال الأول هو الظاهر ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال : «كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها» وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال : «كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها» والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) الإرشاد إلى صلاة الجماعة ، وإليه ذهب الجبائي ، وذكر بعض المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون ـ واسجدي مع الساجدين ـ الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة ، وعورض بأنه لو قيل : ـ واسجدي مع الساجدين ـ لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة ، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام ، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع ، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين ، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب الكشاف ، وزعم بعضهم أن (مَعَ) مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع ـ أي افعلي كفعل (الرَّاكِعِينَ) وإن لم توقعي الصلاة معهم ـ قال : لأنها كانت تصلي في محرابها ، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة ، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع ، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعى ، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعى أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب ، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا ، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة ، وقلنا : بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا ، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها ، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب ،

١٥١

ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة ، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن قلنا : إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال ، وجاء (مَعَ الرَّاكِعِينَ) دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة رءوس الآي ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا : إنها مأمورة بصلاة الجماعة.

وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها‌السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاء بالتقييد من أول وهلة ، وقال شيخ الإسلام : إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك ، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها ، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت ، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ واركعي واسجدي في الساجدين (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وقوله تعالى : (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) جملة مستقلة مبينة للأولى ، و ـ الإيحاء ـ إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء ، وبمعنى الإلهام ، والضمير في (نُوحِيهِ) عائد إلى ذلك في المشهور ، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى ، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها ، (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) إما متعلق ـ بنوحيه ـ أو حال من مفعوله أي (نُوحِيهِ) حال كونه بعض (أَنْباءِ الْغَيْبِ) وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض ، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير الأمر (ذلِكَ) فيكون (ذلِكَ) خبرا لمبتدإ محذوف والجار والمجرور حال منه ، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل.

وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى ، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الإخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل : إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب ، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه‌السلام أيضا لما أن «تلك» هي المقصودة بالأخبار أولا ، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة ، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها ، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها‌السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، ومع هذا هو أولى مما قيل : إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه‌السلام ، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية ، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع ، و ـ الأقلام ـ جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة واختاروها تبركا بها ، وقيل : هي السهام من النشاب وهي القداح ، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع ، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي ـ وفي عدة الأقلام خلاف ـ وعن الباقر أنها كانت ستة ، والظرف معمول للاستقرار العامل في (لَدَيْهِمْ) وجعله ظرفا لكان ـ كما قال أبو البقاء ـ ليس بشيء

١٥٢

(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) من تتمة الكلام الأول ، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى ، ولما لم يصلح (يُلْقُونَ) للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه :

«أحدها» أن يقدر ينظرون (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية ـ كما صرح به ابن الحاجب. وابن مالك في التسهيل ـ وثانيها أن يقدر ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له ، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد ، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام ، وثالثها أن يقدر يقولون ، أو ليقولوا (أَيُّهُمْ) واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع (أَيُّهُمْ) وأجيب بأنه مفيد ، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين ، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له ، وأجيب بتأويله كما أول في سابقة ، وقيل : يؤول بالحكم أي ليقولوا وليحكموا (أَيُّهُمْ) إلخ ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون لعلموا ، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر ، أو العلم يغني عن الآخر ، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل (أَيُّهُمْ) بدلا عن ضمير الجمع ـ أي يلقى كل من يقصد الكفالة ـ وتتأتى منه ، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي ، وقبله في آخر ، وتكرير (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) مع تحقق المقصود بعطف (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على (إِذْ يُلْقُونَ) للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء ، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك ـ قاله شيخ الإسلام.

واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاحّ على قولين : أحدهما وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل ، وثانيهما أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه‌السلام عن تربيتها ، وهو قول مرجوح ، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر ، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق ، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلا خرج سهم المحق ، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه ، أليس الله تعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] وقال الباقر رضي الله تعالى عنه : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع في قصة عيسى عليه‌السلام ، والمراد بالملائكة جبريل عليه‌السلام على المشهور ، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة ، و (إِذْ) المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل ، وقيل : بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا : وترك العطف بناء على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان ، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا ، وأن يكون ظرفا ـ ليختصمون ـ وقيل : إنه بدل من (إِذْ) المضافة إليه ، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة ـ فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط ـ غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام ، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال : إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها ، قيل : ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناء

١٥٣

على ما روي عن الحسن أنها عليها‌السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك ، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.

(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) كلمة ـ من ـ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة ـ لكلمة ـ وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهروا وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا : محض الجود ـ وعلى ذلك أكثر المفسرين ـ وأيدوا ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، وقيل : أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ، ففي التوراة ـ في الفصل العشرين من السفر الخامس ـ أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران ـ وسينا ـ جبل التجلي لموسى ـ وساعير ـ جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه ـ وفاران ـ جبل مكة ، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به : قد جاء كلامي ، وقيل : لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته.

ومن الناس من زعم أن ـ الكلمة ـ بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك ، وفي (يُبَشِّرُكِ) هنا من القراءات مثل ما فيها فيما تقدم (اسْمُهُ) الضمير راجع إلى ـ الكلمة ـ وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره (الْمَسِيحُ) وقوله تعالى : (عِيسَى) يحتمل أن يكون بدلا ، أو عطف بيان ، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري ، أو خبرا آخر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا ، وحذف المبتدأ والفعل قيل : على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب ، وقوله تعالى: (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في الحقيقة (عِيسَى) و (الْمَسِيحُ) لقب ؛ و (ابْنُ) صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق ، وإن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب ، وقيل : المراد بالاسم معناه اللغوي ـ وهو السمة والعلامة المميزة ـ لا العلم.

ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا ـ كما في الانتصاف ـ خلاص من إشكال يوردونه فيقولون : (الْمَسِيحُ) في الآية إن أريد به التسمية ـ وهو الظاهر ـ فما موقع (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والتسمية لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه : (اسْمُهُ) ووجه الخلاص ظاهر ، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى : (اسْمُهُ) والمراد التسمية ، وأما (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو ، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن (الْمَسِيحُ) والمشهور أن (الْمَسِيحُ) لقبه عليه‌السلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق ، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك ، وعن إبراهيم النخعي الصديق ، وعن ابن عمرو بن العلاء الملك ، و (عِيسَى) معرب أيشوع ، ومعناه السيد ، وعن كثير من السلف أن (الْمَسِيحُ) مشتق من المسح ، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه

١٥٤

السلام فقيل : لأنه مسح بالبركة واليمن ، وروي ذلك عن الحسن ، وابن جبير ، وقيل : لأنه كان يمسح عين الأكمه فيبصر ، وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برىء ، ورواه عطاء. والضحاك عن ابن عباس ، وقال الجبائي : لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء تتمسح به ، وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم ، وقيل : لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه‌السلام فاستخرج من ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح «وقيل : وقيل :» وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري ، وكثير من المحققين على الثاني ، واختاره أبو عبيدة ، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية ، وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف لهعليه‌السلام ـ كالخليل ـ لإبراهيم ، وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر.

ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن ـ التوراة ، والإنجيل ، والإسكندر ـ لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية ، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا ، نعم قيل في عيسى : إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه‌السلام لأنه كان في لونه عيسى أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر «كأنما خرج من ديماس» إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له ، وأن القائل به كالراقم على الماء.

وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة وفرق النخعي بين لقب روح الله. وعدوه بأن الأول يفتح الميم والتخفيف. والثاني بكسر الميم وتشديد السين ـ كشرير ـ وأنكره غيره ـ وهو المعروف ـ ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاء أما إذا كان أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك.

والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول للثاني ، وفي المفصل تعينها ، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك ، ومن جوز التبعية استدل بقولهم : هذا يحيى ـ عينان ـ إذ لو أضيف لقيل عينين ، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال ، وكذا لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذ أن يكون اللقب مجرورا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناء على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي. وأما أنه يثبت الاطراد فلا ، ولعل المانع إنما يمنع ذلك ، ويدعي أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت ـ أل ـ الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال : الحرث ـ كرز ـ بالإضافة ، وكذا إذ كان اللقب وصفا في الأصل نحو إبراهيم الخليل ـ على ما نص عليه ابن الحاجب في شرح المفصل ـ لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور.

ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل ، وهو مبني على مذهب من يقول : إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في كتبنا النحوية فليفهم ، وإنما قيل : (ابْنُ مَرْيَمَ) مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه ، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا ، وقيل : إن في ذلك ردا للنصارى ، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه‌السلام لأن الكلام حينئذ في قوة ابن عبادة ، هذا واعلم أن لفظ (ابْنُ) في الآية يكتب بغير همزة بناء على وقوعه صفة بين

١٥٥

علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم ـ كزيد ابن السلطان ـ أو تقدمه غير علم ، وأضيف إلى علم ـ كالسلطان ابن زيد ـ أو وقع بين ما ليسا علمين ـ كزيد العاقل ابن الأمير عمرو ـ كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور ، والكتاب كثيرا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع ، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة. وغيره.

ومن هنا قيل : إن الرسم يرجح التبعية ، نعم في كون ذلك مطردا فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف ، والذي أختاره الحذف أيضا إذا كان ذلك مشهورا (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الوجيه ذو الجاه. والشرف. والقدر. وقيل : الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد ، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته ، وقيل : وجاهته في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وقيل : بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه ، وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال : كيف كان ـ وجيها ـ في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على المتأمل ، ونصب (وَجِيهاً) على أنه حال مقدرة من كلمة وسوغ مجيء الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى ـ كما أشير إليه ـ وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة.

ومن الناس من جعل الحال من (عِيسَى) وقال أبو البقاء : لا يجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من (الْمَسِيحُ) أو من (ابْنُ مَرْيَمَ) لأنها أخبار ، والعامل فيها الابتداء ، أو المبتدأ أو هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال ، وكذا لا يجوز أيضا أن يكون حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال ، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة ، وقيل : هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة ، وقيل : من المقربين من الناس بالقبول ، والإجابة وهو معطوف على (وَجِيهاً) أي ومقربا من جملة المقربين (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع ـ وهو في القرآن كثير ـ والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته لعطف (وَكَهْلاً) عليه ، والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا ، والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة ، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه‌السلام وليس فيه غرابة ، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال ، وقيل : إن كلا منهما حال ، والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره ، و (الْمَهْدِ) مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه (فِي الْمَهْدِ) ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أو إن الكلام قاله ابن عباس ، وقيل : كان يتكلم دائما وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد وعليه يكون قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠] إخبارا عما يؤول إليه ، وقال الجبائي : إنه سبحانه أكمل عقله عليه‌السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة ، وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها ، والقول : بأنه معجزة لها بعيد ـ وإن قلنا بنبوتها ـ وزعمت النصارى أنه عليه‌السلام لم يتكلم (فِي الْمَهْدِ) ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار ـ وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه‌السلام ـ وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية ، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب

١٥٦

الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته ، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر ، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا ، وبقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن به ، وهذا قريب على قول ابن عباس : إنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار ـ وعلى القول الآخر ـ وهو أنه بقي يتكلم يقال : إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عن الغيوب ، والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن أظهره القرآن.

وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد ، وظاهر الأخبار ، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك ، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه. وقوى إيقانه ، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع ، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢] والكهل ما بين الشاب والشيخ ، ومنه اكتهل النبت إذا طال وقوى ، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين ، فإذا ولد فهو وليد ؛ ثم ما دام يرضع فهو رضيع ، ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم ، ثم إذا دب ونما فهو دارج ، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور ، فإذا نبتت أسنانه فهو ـ مثغر بالتاء والثاء ـ كما قال أبو عمرو ـ فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ ، فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق ، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور ، واسمه في جميع هذه الأحوال غلام فإذا اخضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل : قد بقل وجهه ، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين.

ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب ، ثم يقال شاب ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر ، ثم هرم ، ثم دلف ، ثم خرف ، ثم اهتر ، ومحا ظله ـ إذا مات ـ وهذا الترتيب إنما هو في الذكور ـ وأما في الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة : طفلة ، ثم وليدة إذا تحركت ، ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد ، ثم معصر إذا أدركت ، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الاعصار ، ثم خود إذا توسطت الشباب ، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين ، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز ، ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر ـ وفيها بقية وجلد ـ ثم شهربة إذا عجزت ـ وفيها تماسك ـ ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل ، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدّها وسقطت أسنانها.

وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه‌السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناء على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، وغيرهما «أنه عليه‌السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة» كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على الأحوال السابقة (قالَتْ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك؟ فقيل : قالت (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي ، ويحتمل أن يكون حقيقيا على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره ، وقيل : يحتمل أن يكون استفهاما عن أنه من أي شخص يكون ، وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه‌السلام (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) جملة حالية محققة لما مر ومقوية له ، والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ،

١٥٧

والتنكير للعموم ، والمراد عموم النفي لا نفي العموم ، وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه (قالَ) استئناف كسابقه ، والفاعل ضمير الرب ، والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

إما بلا تغيير فيكون فيه التفات ، وإما بتغيير ، وقيل : إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك ، والأول مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : القائل جبريل عليه‌السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم‌السلام قبله ، وحمل (رَبِ) فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد ، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا ـ بيخلق ـ وهناك ـ بيفعل ـ لاختلاف القصتين في الغرابة فإن الثانية أغرب فالخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه : (إِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا ـ فالأمر ـ واحد الأمور ، والقضاء في الأصل الأحكام ، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لا لإيجابها ما تعقلت به البتة ويطلق على الأمر ، ومنه (وَقَضى رَبُّكَ) [الإسراء : ٢٣](فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي فهو ـ يكون : أي يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع لمأمور به مطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.

وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه ، وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر. والحيات عن الشعر المتعفن. والعقارب عن البادروج. والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد. وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم ، وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته ، والقول : بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد أو لا مني أصلا فكيف يمكن الخلق ـ ليس بشيء أما على مذهبنا فلان الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر ، وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة ، وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال هذه المقامات ، ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المني مقام المني ، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة يكون ذلك الغير خارج الرحم ، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه.

ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات ـ فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد انتهى ـ وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول. وإنها لتنزه ساحتها عن

١٥٨

مثل هذا التخيل كما لا يخفى ، وفي جواب هذه الظاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه ، فقد أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن وهب أنه قال : لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا ، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف ، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها : هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت : نعم قال : وكيف يكون ذلك قال : إن الله تعالى خلق البذر أول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر ، ولعلك تقول : لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول : لو لا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم ، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت : ألم تعلم أن للبذر. والماء. والمطر. والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول لو لا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت : بشرني الله تعالى (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إلى قوله تعالى : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) عطف على (يُبَشِّرُكِ) أي إن الله (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة (الْكِتابَ) ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله ، أو على ـ يخلق ـ أي كذلك الله يخلق ما يشاء (وَيُعَلِّمُهُ) أو على ـ يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير ـ يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب ـ أو على (وَجِيهاً) وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم‌السلام ، و ـ الواو ـ تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة ـ كما قال الشهاب ـ إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي (وَإِذْ قالَتِ) إلخ ولا إلى مقدرة ، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير ، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان ، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية ، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه ، و (الْكِتابَ)

١٥٩

مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد ـ قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج ، وروي عنه أنه قال : أعطى الله تعالى عيسى عليه‌السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا ، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم‌السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره ، وذهب كثيرون إلى أن ـ أل ـ فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول ، والقول ـ بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل ، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان ـ من الهذيان بمكان.

وقرأ أهل المدينة ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل ـ ويعلمه ـ بالياء ، والباقون بالنون قيل : وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله ـ يبشرك بعيسى ـ ويقول : (يُعَلِّمُهُ) أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه وعلم الحلال والحرام ـ قال ابن عباس ـ وقيل : جميع ما علمه من أمور الدين ، وقيل : سنن الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : الصواب في القول والعمل ، وقيل : إتقان العلوم العقلية ، وقد تقدم الكلام على ذلك (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما ، وتعليمه ذلك قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم ، وقد صح أنه عليه‌السلام لما رعرع ـ وفي رواية الضحاك عن ابن عباس ـ لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة ، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية ، وذكر ـ الإنجيل ـ لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا ـ وهو الذي اختاره أبو حيان ـ وقيل : إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على ـ يعلمه ـ أي ويقول عيسى أرسلت رسولا ، ولا يخفى أن عطف هذا القول على (يُعَلِّمُهُ) إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس ، وأما على تقدير عطفه على (يُبَشِّرُكِ) أو (يَخْلُقُ) فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير ـ إن الله يبشرك ـ أو إن الله يخلق ما يشاء ـ ويقول عيسى كذا ، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم ، وفي البحر : إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه ـ وجيها ـ (وَرَسُولاً) ناطقا بكذا ، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور ، وفعول هنا بمعنى مفعل ، واحتمال ـ أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر : أبلغ أبا سلمى (رَسُولاً) تروعه ويجعل معطوفا فاعلي (الْكِتابَ) أي ويعلمه رسالة ـ بعيد لفظا ومعنى ، أما الأول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية ، وأما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم ، والظرف إما متعلق ـ برسولا ـ أو بمحذوف وقع صفة له أي ـ رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم ، قيل : وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته ، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم.

ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد ـ وليس ذلك في الكتب المشهورة ـ والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان : فرقة ترميه ـ وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها ـ وهم أكثر اليهود ، وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون : إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها ، وإنه من المستجيبين لموسى عليه‌السلام ، ومن بني إسرائيل المتعبدين

١٦٠