روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم الرجل الذي قيل له ادخل الجنة (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد قتله ، وقيل من بعد رفعه إلى السماء حيا (مِنْ جُنْدٍ) أي جندا فمن مزيدة لتأكيد النفي ، وقيل : يجوز أن تكون للتبعيض وهو خلاف الظاهر ، والجند العسكر لما فيه من الغلظة كأنه من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة والظاهر أن المراد بهذا الجند الملائكة أي ما أنزلنا لإهلاكهم ملائكة (مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) وما صح في حكمتنا أن ننزل الجند لإهلاكهم لما أنا قدرنا لكل شيء سببا حيث أهلكنا بعض من أهلكنا من الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالإغراق وجعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار لك من قومك وكفينا أمر هؤلاء بصيحة ملك صاح بهم فهلكوا كما قال سبحانه : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) وفي ذلك استحقار لهم ولإهلاكهم وإيماء إلى تفخيم شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفسر أبو حيان الجند بما يعم الملائكة فقال : كالحجارة والريح وغير ذلك والمتبادر ما تقدم ، وقيل : الجند ملائكة الوحي الذين ينزلون على الأنبياء عليهم‌السلام أي قطعنا عنهم الرسالة حين فعلوا ما فعلوا ولم نعبأ بهم وأهلكناهم ، وعن الحسن ومجاهد قالا قطع الله تعالى عنهم الرسالة حين قتلوا رسله ، وهذا التفسير بعيد جدا ، وقتل الرسل الثلاثة محكي في البحر بقيل وهو ظاهر هذا المروي لكن المعروف أنهم لم يقتلوا وإنما قتل حبيب فقط ، وذهبت فرقة إلى أن ما في قوله تعالى (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) موصولة معطوفة على (جُنْدٍ) والمراد ما أنزلنا على قومه من بعده جندا من السماء وما أنزلنا الذي كنا منزليه على الذين من قبلهم من حجارة وريح وغير ذلك.

٣

وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة (مِنْ) في المعرفة ، ومن هنا قيل الأولى جعلها نكرة موصوفة ، وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ولا يخفى أن هذا لا يدفع بعده ، ومن أبعد ما يكون قول أبي البقاء : يجوز أن تكون ما زائدة أي وقد كنا منزلين على غيرهم جندا من السماء بل هو ليس بشيء ، وإن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر و (صَيْحَةً) خبرها أي ما كانت هي أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة ، روي أن الله تعالى بعث عليهم جبريل عليه‌السلام حتى أخذ بعضادتي باب المدينة فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا

، وإذا فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة ، وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية والخمود تخييل ، وفي ذلك رمز إلى أن الحي كشعلة النار والميت كالرماد كما قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ويجوز أن تكون الاستعارة تصريحية تبعية في الخمود بمعنى البرودة والسكون لأن الروح لفزعها عند الصيحة تندفع إلى الباطن دفعة واحدة ثم تنحصر فتنطفئ الحرارة الغريزية لانحصارها ، ولعل في العدول عن هامدون إلى (خامِدُونَ) رمزا خفيا إلى البعث بعد الموت ، والظاهر أنه لم يؤمن منهم سوى حبيب وإنهم هلكوا عن آخرهم ، وفي بعض الآثار أنه آمن الملك وآمن قوم من حواشيه ومن لم يؤمن هلك بالصيحة ، وهذا بعيد فإنه كان الظاهر أن يظاهر أولئك المؤمنون الرسل كما فعل حبيب ولكان لهم في القرآن الجليل ذكر ما بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يقال : إنهم آمنوا خفية وكان لهم ما يعذرون به عن المظاهرة ، ومع هذا لا يخلو بعد عن بعد ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ بن الحارث القارئ «صيحة» بالرفع على أن كان تامة أي ما حدثت ووقعت إلا صيحة وينبغي أن لا تلحق الفعل تاء التأنيث في مثل هذا التركيب فلا يقال ما قامت إلا هند بل ما قام إلا هند لأن الكلام على معنى ما قام أحد إلا هند والفاعل فيه مذكر ، ولم يجوز كثير من النحويين الإلحاق إلا في الشعر كقول ذي الرمة :

طوى النحز والأجراز ما في غروضها

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقول الآخر :

ما برئت من ريبة وذم

في حربنا إلا بنات العم

ومن هنا أنكر الكثير كما قال أبو حاتم هذه القراءة ، ومنهم من أجاز ذلك في الكلام على قلة كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وقتادة وأبي حيوة وابن أبي عبلة وأبي بحرية «لا ترى إلّا مساكنهم» بالتاء الفوقية ، ووجهه مراعاة الفاعل المذكور ، وكأني بك تميل إلى هذا القول ، وقرأ ابن مسعود «إلا زقية» من زقى الطائر يزقو ويزقى زقوا وزقاء إذا صاح ، ومنه المثل أثقل من الزواقي وهي الديكة لأنهم كانوا يسمرون إلى أن تزقوا فإذا صاحت تفرقوا (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) الحسرة على ما قال الراغب الغم على ما فات والندم عليه كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو أدركه اعياء عن تدارك ما فرط منه ، وفي البحر هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرا ، والظاهر أن (يا) للنداء و (حَسْرَةً) هو المنادى ونداؤها مجاز بتنزيلها منزلة العقلاء كأنه قيل : يا حسرة احضري فهذه الحال من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليها قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أوليا ، وقيل : هم المراد وليس بذاك وبالحسرة المناداة حسرتهم والمستهزءون بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم حيث فوتوا عليها السعادة الأبدية وعوضوها العذاب المقيم ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن «يا حسرة العباد» بالإضافة ،

٤

وكون المراد حسرة غيرهم عليهم والاضافة لأدنى ملابسة خلاف الظاهر ؛ وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات «يا حسرة العباد على أنفسها ما يأتيهم» إلخ.

وجوز أن تكون حسرة الملائكة عليهم‌السلام والمؤمنين من الثقلين ، وعن الضحاك تخصيصها بحسرة الملائكةعليهم‌السلام وزعم أن المراد بالعباد الرسل الثلاثة وأبو العالية فسر (الْعِبادِ) بهذا أيضا لكنه حمل الحسرة على حسرة الكفار المهلكين قال : تحسروا حين رأوا عذاب الله تعالى وتلهفوا على ما فاتهم ، وقيل : المراد بالعباد المهلكون والمتحسر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة تحسر لما وثب القوم لقتله ، وقيل : المراد بالعباد أولئك والمتحسر الرسل حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ولم يؤمنوا ، ولا يخفى حال هذه الأقوال وكان مراد من قال : المتحسر الرجل ومن قال المتحسر الرسل عنى أن القول المذكور قول الرجل أو قول الرسل ، وفي كلام أبي حيان ما هو ظاهر في ذلك ، ومع هذا لا ينبغي أن يعول على شيء مما ذكر ، وجوز أن يكون التحسر منه سبحانه وتعالى مجازا على استعظام ما جنوه على أنفسهم ، وأيد بأنه قرئ «يا حسرتا على العباد» فإن الأصل عليها يا حسرتي فقلبت الياء ألفا ، ونحوها قراءة ابن عباس كما قال ابن خالويه «يا حسرة على العباد» بغير تنوين فإن الأصل أيضا يا حسرتي فقلبت الياء ألفا ثم حذفت الألف واكتفى عنها بالفتحة ، وقرأ أبو الزناد وابن هرمز وابن جندب «يا حسرة على العباد» بالهاء الساكنة ، قال في المنتقى : وقف «على حسره» وقفا طويلا تعظيما للأمر ثم قيل «على العباد».

وفي اللوامح وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه ، ثم وصلوه على تلك الحال.

وقال الطيبي : إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به أسرعت فيه ولم تأت على اللفظ المعبر عنه نحو قلت لها قفي قالت لنا قاف أي وقفت فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال وتثاقلا عن الإجابة ، ولا يخفى أن هذا لا يناسب المقام ، وينبغي على هذا القراءة أن لا يكون (عَلَى الْعِبادِ) متعلقا بحسرة أو صفة له إذ لا يحسن الوقف حينئذ بل يجعل متعلقا بمضمر يدل عليه (حَسْرَةً) نحو يتحسر أو أتحسر على العباد ، وتقدير انظروا ليس بذاك أو خبر مبتدأ محذوف لبيان المتحسر عليه أي الحسرة على العباد وتخريج قراءة «يا حسرتا» بالألف على هذا الطرز بأن يقال : قدر الوقف على المنصوب المنون فإنه يوقف عليه بالألف ككان الله على كل شيء قديرا ، وضرب زيد عمرا ليس بشيء ولو سلم أنه شيء لا ينافي التأييد ، وقيل (يا) للنداء والمنادى محذوف و (حَسْرَةً) مفعول مطلق لفعل مضمر و (عَلَى الْعِبادِ) متعلق بذلك الفعل أي يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد.

ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام أن المراد نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر ففيه من المبالغة ما فيه.

وقوله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ) إلخ استئناف لبيان ما يتحسر منه ، و (بِهِ) متعلق بيستهزءون. وقدم عليه للحصر الادعائي وجوز أن يكون لمراعاة الفواصل.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) الضمير لأهل مكة والاستفهام للتقرير وكم خبرية في موضع نصب باهلكنا و (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم ، وجوز بعض المتأخرين كون (كَمْ) مبتدأ والجملة بعده خبره وهو كلام من لا خبر عنده والجملة معمولة ليروا نافذ معناها فيها و (كَمْ) معلقة لها عن العمل في اللفظ لأنها وإن كانت خبرية لها صدر الكلام كالاستفهامية فلا يعمل فيها عامل متقدم على اللغة الفصيحة إلا إذا كان حرف جر أو اسما مضافا نحو على كم فقير تصدقت أرجو الثواب وابن كم رئيس صحبته.

٥

وحكى الأخفش على ما في البحر جواز تقدم عامل عليها غير ذلك عن بعضهم نحو ملكت كم غلام أي ملكت كثيرا من الغلمان عاملوها معاملة كثير ؛ والرؤية علمية لا بصرية خلافا لابن عطية لأنها لا تعلق على المشهور ولأن أهل مكة لم يحضروا إهلاك من قبلهم حتى يروه بل علموه بالأخبار ومشاهدة الآثار ، والقرون جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد كعاد وثمود وغيرهم (أَنَّهُمْ) الضمير عائد على معنى (كَمْ) وهي القرون أي إن القرون المهلكين (إِلَيْهِمْ) أي إلى أهل مكة (لا يَرْجِعُونَ) وأن وما بعدها في تأويل المفرد بدل من جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) على المعنى كما نقل عن سيبويه وتبعه الزجاج أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم وكونهم غير راجعين إليهم.

وقيل على المعنى لأن الكثرة المذكورة وعدم الرجوع ليس بينهما اتحاد بجزئية ولا كلية ولا ملابسة كما هو مقتضى البدلية لكن لما كان ذلك في معنى الذين أهلكناهم وأنهم لا يرجعون بمعنى غير راجعين اتضح فيه البدلية على أنه بدل اشتمال أو بدل كل من كل قاله الخفاجي : وأفاد صاحب الكشف على أنه من بدل الكل بجعل كونهم غير راجعين كثرة إهلاك تجوزا ، وعندي أن هذا الوجه وإن لم يكن فيه إبدال مفرد من جملة وتحقق فيه مصحح البدلية على ما سمعت ولا يخلو عن تكلف ، وسيبويه ليس بنبي النحو ليجب اتّباعه.

وقال السيرافي : يجوز أن يجعل (أَنَّهُمْ) إلخ صلة أهلكناهم أي أهلكناهم بأنهم لا يرجعون أي بهذا الضرب من الهلاك ، وجوز ابن هشام في المغني أن يكون إن وصلتها معمول (يَرَوْا) وجملة (كَمْ أَهْلَكْنا) معترضة بينهما وأن يكون معلقا عن (كَمْ أَهْلَكْنا) وأنهم إليهم لا يرجعون مفعولا لأجله ، قال الشمني : ليروا والمعنى أنهم علموا لأجل أنهم لا يرجعون إهلاكهم. ورد بأنه لا فائدة يعتد بها فيما ذكر من المعنى. وتعقبه الخفاجي بقوله : لا يخفى أن ما ذكر وارد على البدلية أيضا ، والظاهر أن المقصود من ذكره إما التهكم بهم وتحميقهم وإما إفادة ما يفيد تقديم (إِلَيْهِمْ) من الحصر أي إنهم لا يرجعون إليهم بل إلينا فيكون ما بعده مؤكدا له اه وهو كما ترى ، وقال الجلبي : لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى (كَمْ) وثانيهما للرسل وإن وصلتها مفعولا لأجله لأهلكناهم ، والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار (لا يَرْجِعُونَ) على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى. وهو على بعده ركيك معنى ، وأرك منه ما قيل الضمير أن على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول بمعنى (كَمْ) والثاني لمن نسبت إليه الرؤية وأن وصلتها علة لأهلكنا ، والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبروهم بما حل بهم من العذاب وجزاء الاستهزاء حق ينزجر هؤلاء فلذا أهلكناهم ، ونقل عن الفراء أنه يعمل (يَرَوْا) في (كَمْ أَهْلَكْنا) وفي (أَنَّهُمْ) إلخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك.

وزعم ابن عطية أن أن وصلتها بدل من (كَمْ) ولا يخفى أنه إذا جعلها معمول (أَهْلَكْنا) كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك أهلكنا أنهم لا يرجعون ولعله تسامح في ذلك ، والمراد بدل من (كَمْ أَهْلَكْنا) على المعنى كما حكي عن سيبويه ، وأما جعل (كَمْ) معمولة ليروا والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله ، وقال أبو حيان : الذي تقتضيه صناعة العربية أن (أَنَّهُمْ) إلخ مفعول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون والجملة حال من فاعل (أَهْلَكْنا) على ما قال الخفاجي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك.

وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به ، وجوز على بعض الأقوال أن يكون الضمير في (أَنَّهُمْ) عائدا على من أسند إليه يروا وفي (إِلَيْهِمْ) عائدا على المهلكين ، والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين

٦

بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم ، ويحسن هذا على الوجه المحكي عن السيرافي وقرأ ابن عباس والحسن «إنه» بكسر الهمزة على الاستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جهة الاعراب. وقرأ عبد الله «ألم يروا من أهلكنا فإنهم» إلخ على قراءة الفتح بدل اشتمال ، ورد بالآية على القائلين بالرجعة كما ذهب إليه الشيعة.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي إسحاق قال : قيل لابن عباس أن ناسا يزعمون أن عليا كرم الله تعالى وجهه مبعوث قبل يوم القيامة؟ فسكت ساعة ثم قال : بئس القوم نحن إن نكحنا نساءه واقتسمنا ميراثه أما تقرءون (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ).

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا و (إِنْ) نافية و (كُلٌ) مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، و (لَمَّا) بمعنى إلا ومجيئها بهذا المعنى ثابت في لسان العرب بنقل الثقات فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي : في كونها بهذا المعنى معنى مناسب وهو أنها كأنها حرفا نفي أكد أولهما بثانيهما وهما لم وما وكذلك إلا كأنها حرفا نفي وهما إن النافية ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر ، وهو عندي ضرب من الوساوس و (جَمِيعٌ) خبر المبتدأ وهو فعيل بمعنى مفعول فيفيد ما لا تفيده (كُلٌ) لأنها تفيد إحاطة الأفراد وهذا يفيد اجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض و (لَدَيْنا) ظرف له أو لمحضرون و (مُحْضَرُونَ) خبر ثان أو نعت وجمع على المعنى ، والمعنى ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء.

وقال ابن سلام : محضرون أي معذبون فكل عبارة عن الكفرة ، ويجوز أن يراد به هذا المعنى على الأول. وفي الآية تنبيه على أن المهلك لا يترك. وقرأ جمع من السبعة (لَمَّا) بالتخفيف على أن إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما مزيدة للتأكيد والمعنى أن الشأن كلهم مجموعون إلخ وهذا مذهب البصريين ، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام بمعنى إلا وما مزيدة والمعنى كما في قراءة التشديد (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) بالتخفيف وقرأ نافع بالتشديد ، و (آيَةٌ) خبر مقدم للاهتمام وتنكيرها للتفخيم و (لَهُمُ) إما متعلق بها لأنها بمعنى العلامة أو متعلق بمضمر هو صفة لها وضمير الجمع لكفار أهل مكة ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر ، و (الْأَرْضُ) مبتدأ و (الْمَيْتَةُ) صفتها ، وقوله تعالى (أَحْيَيْناها) استئناف مبين لكيفية كونها آية ، وقيل في موضع الحال والعامل فيها آية لما فيها من معنى الإعلام وهو تكلف ركيك ، وقيل (آيَةٌ) مبتدأ أول و (لَهُمُ) صفتها أو متعلق بها وكل من الأمرين مسوغ للابتداء بالنكرة و (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) مبتدأ ثان وصفة وجملة (أَحْيَيْناها) خبر المبتدأ الثاني وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ولكونها عين المبتدأ كخبر ضمير الشأن لم تحتج لرابط ، قال الخفاجي : وهذا حسن جدا إلا أن النحاة لم يصرحوا به في غير ضمير الشأن ، وقيل إنها مؤولة بمدلول هذا القول فلذا لم يحتج لذلك ولا يخفى بعده ، وقيل (آيَةٌ) مبتدأ و (الْأَرْضُ) خبره وجملة (أَحْيَيْناها) صفة الأرض لأنها لم يرد بها أرض معينة بل الجنس فلا يلزم توصيف المعرفة بالجملة التي هي في حكم النكرة ، ونظير ذلك قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وأنكر جواز ذلك أبو حيان مخالفا للزمخشري وابن مالك في التسهيل وجعل جملة يسبني حالا من اللئيم ، وأنت تعلم أن المعنى على استمرار مروره على من يسبه وإغماضه عنه ولهذا قال : أمر وعطف عليه فمضيت والتقييد بالحال لا يؤدي هذا المؤدى ، ثم إن مدار الخبرية إرادة الجنس فليس هناك أخبار بالمعرفة عن النكرة ليكون مخالفا للقواعد

٧

كما قيل نعم أرجح الأوجه ما قرر أولا وقد مر المراد بموت الأرض وإحيائها فتذكر.

(وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أي جنس الحب من الحنطة والشعير والأرز وغيرها ، والنكرة قد تعم كما إذا كانت في سياق الامتنان أو نحوه ، وفي ذكر الإخراج وكذا الجعل الآتي تنبيه على كمال الأحياء (فَمِنْهُ) أي من الحب بعد إخراجنا إياه ، والفاء داخلة على المسبب ومن ابتدائية أو تبعيضية والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى (يَأْكُلُونَ) والتقديم للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به لما في ذلك من إيهام الحصر للاهتمام به حتى كأنه لا مأكول غيره (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل كعبيد جمع عبد كما ذهب إليه أكثر الأئمة وصرح به في القاموس ، وقيل اسم جمع ، وقال الجوهري : النخل والنخيل بمعنى واحد وعلى الأول المعول (وَأَعْنابٍ) جمع عنب ويقال على الكرم نفسه وعلى ثمرته كما قال الراغب : ولعله مشترك فيهما ، وقيل حقيقة في الثمرة مجاز في الشجرة ، وأيا ما كان فالمراد الأول بقرينة العطف على النخيل ، وجمعا دون الحب قيل لتدل الجمعية على تعدد الأنواع أي من أنواع النخل وأنواع العنب وذلك لأن النخل والعنب اسمان لنوعين فكل منهما مقول على إفراد حقيقة واحدة فلا يدلان على اختلاف ما تحتهما وتعدد أنواعه إلا إذا عبر عنهما بلفظ الجمع بخلاف الحب فإنه اسم جنس وهو يشعر باختلاف ما تحته لأنه المقول على كثرة مختلفة الحقائق قولا ذاتيا فلا يحتاج في الدلالة على الاختلاف إلى الجمعية ، وقولهم جمع العالم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] وهو اسم جنس ليشمل ما تحته من الأجناس لا ينافي ذلك قيل لأن المراد ليشمل شمولا ظاهرا متعينا وإن حصل الإشعار بدونه ، وقيل جمعا للدلالة على مزيد النعمة ، وأما الحب ففيه قوام البدن وهو حاصل بالجنس.

وامتن عزوجل في معرض الاستدلال على أمر الحشر بجعل الجنات من النخيل والأعناب المراد بها الأشجار ولم يمتن سبحانه وتعالى بجعل ثمرات تلك الأشجار من التمر والعنب كما امتن جل جلاله بإخراج الحب إعظاما للمنة لتضمن ذلك الامتنان بالثمار وغيرها من منافع تلك الأشجار أنفسها بسائر أجزائها للإنسان نفسه بلا واسطة لا سيما النخيل ، ولا دلالة في الكلام على حصر ثمرة الجعل بأكل الثمرة ، وثمرة التنصيص على ذلك من بين المنافع ظاهرة وهذا بخلاف أشجار الحبوب فإنها ليست بهذه المثابة ولذا غير الأسلوب ولم يعامل ثمر ذلك معاملة الحبوب وكلام البيضاوي عليه الرحمة ظاهر في أن المراد بالأعناب الثمار المعروفة لا الكروم وعلل ذكر النخيل دون ثمارها مع أنه الأوفق بما قبل وما بعد باختصاصها بمزيد النفع وآثار الصنع وتفسير الأعناب بالثمار دون الكروم بعيد عندي لمكان العطف مع أن الجار والمجرور في موضع الصفة لجنات ، والمعروف كونها من أشجار لا من ثمار.

قال الراغب : الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض ، وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعلى ذلك حمل قوله :

من النواضح تسقي جنة سحقا

على أن في الآية بعد ما يؤيد إرادة الثمار فتدبر.

(وَفَجَّرْنا فِيها) أي شققنا في الأرض. وقرأ جناح بن حبيش «فجرنا» بالتخفيف والمعنى واحد بيد أن المشدد دال على المبالغة والتكثير (مِنَ الْعُيُونِ) أي شيئا من العيون على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لمحذوف ، ومن بيانية وجوز كونها تبعيضية وليس بذاك ، وقيل المفعول محذوف و (مِنَ الْعُيُونِ) متعلق بفجر ومن ابتدائية على معنى فجرنا من المنابع ما ينتفع به من الماء ، وذهب الأخفش إلى زيادة من وجعل العيون مفعول فجرنا لأنه يرى جواز زيادتها في الإثبات مع تعريف مجرورها (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون

٨

لأنه من مبادئ الثمر أي وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادئ ثمرها ليأكلوا ، وضمير ثمره عائد على المجعول وهو الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل من ثمرها أي الجنات أو من ثمرهما أي النخيل والأعناب ، ومثله ما قيل عائد على المذكور والضمير قد يجري مجرى اسم الاشارة كما في قول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق (١)

فإنه أراد كما قال لأبي عبيدة وقد سأله كأن ذاك ، وقيل عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو لكون الكلام على حذف مضاف أي ماء العيون ، وقيل على النخيل واكتفى به للعلم باشتراك الأعناب معه في ذلك ، وقيل على التفجير المفهوم من (فَجَّرْنا) والمراد بثمره فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح أو هو ظاهره والإضافة لأدنى ملابسة والكل كما ترى ، وجوز أن يكون الضمير له عزوجل وإضافة الثمر إليه تعالى لأنه سبحانه خالقه فكأنه قيل : ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر. وكان الظاهر من ثمرنا لضمير العظمة على قياس ما تقدم إلا أنه التفت من التكلم إلى الغيبة لأن الأكل والتعيش مما يشغل عن الله تعالى فيناسب الغيبة فالالتفات في موقعه.

وزعم بعضهم أن هذا ليس من مظانه لأنه أولى بضمير الواحد المطاع لأنه المقصود بالإحياء والجعل والتفجير وقد أسندت إليه. ورد بأن ما سبق أفخم لأنها أفعال عامة النفع ظاهرة في كمال القدرة والثمر أحط مرتبة من الحب ولذا لم يورد على سبيل الاختصاص فلا يستحق ذلك التفخيم كيف وقد جعل بعضهم الثمر خلق الله تعالى وكماله بفعل الآدمي ، وبما تقدم يستغنى عما ذكر. وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «من ثمره» بضمتين وهي لغة فيه أو هو جمع ثمار.

وقرأ الأعمش «من ثمره» بضم فسكون (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما) موصولة في محل جر عطف على (ثَمَرِهِ) وجعله في محل نصب عطفا على محل (مِنْ ثَمَرِهِ) خلاف الظاهر أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه بقواهم ، والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما ، وقال الزمخشري : أي من الذي عملته أيديهم بالغرس والسقي والآبار وليس بذاك ، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي ومن شيء عملته أيديهم والأول أظهر ، وقيل : ما نافية وضمير (عَمِلَتْهُ) راجع إلى الثمر والجملة في موضع الحال ، والمراد من نفي عمل أيديهم إياه أنه بخلق الله تعالى لا بفعلهم ولا تقول المشايخ بالتوليد ، وروي القول بأنها نافية عن ابن عباس والضحاك ، وظاهر كلام الحبر أن الضمير راجع إلى شيئا الموصوف المحذوف والجملة حال منه ، فقد روى سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه قال : وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها وفيه بعد. وأيد القول بالموصولية بقراءة طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبي بكر «وما عملت» بلا هاء ، ووجه التأييد أن الموصول مع الصلة كاسم واحد فيحسن معه لاستطالته ولاقتضائه إياه ودلالته عليه يكون كالمذكور ، وتقدير اسم ظاهر غير ظاهر ؛ وقال الطيبي : جعلها نافية أولى من جعلها موصولة لئلا يوهم استقلالهم بالعمل لأن ذكر الأيدي للتأكيد في هذا المقام كما في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] لأن التركيب من باب أخذته بيدي ورأيته بعيني وحينئذ لا يناسب أن يكون قوله تعالى (أَحْيَيْناها) إلخ تفسيرا لكون الأرض الميتة آية. وتعقبه في الكشف بأنه ليس بشيء لأن العمل من العباد بمعنى الكسب وقد جاء بما قدمت أيديكم وبما قدمت يداك فهذا التأكيد دافع للإيهام انتهى فلا تغفل.

وجوز على هذه القراءة كون ما مصدرية أي وعمل أيديهم ويراد بالمصدر اسم المفعول أي معمول أيديهم

__________________

(١) ظهور النقط البيض على الشيء اه منه.

٩

فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه (أَفَلا يَشْكُرُونَ) إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره عزوجل واستعظام ما ذكر في حين الصلة من بدائع آثار قدرته وأسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة لشكره تعالى وتخصيص العبادة به سبحانه والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه ، وقد تقدم الكلام في (سُبْحانَ). وفي الإرشاد هنا أنه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا بعد فيهما وأمعن وانتصابه على المصدرية أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه عز شأنه ، وفيه مبالغة عن جهة الاشتقاق وجهة العدول إلى التفعيل وجهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم وجهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ، وقيل : هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة اسناد التنزه إلى الذات المقدس فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تعالى تنزها خاصا به سبحانه ، فالجملة على هذا إخبار منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به مما فعلوه وما تركوه ؛ وعلى الأول حكم منه عزوجل بذلك وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا به.

وقدر بعضهم الفعل الناصب أمرا أي سبحوا سبحان ، والمراد بالأزواج الأنواع والأصناف ، وقال الراغب : الأزواج جمع زوج ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وكل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض.

(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) بيان للأزواج والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وخلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته بخصوصياته وإنما أطلعهم سبحانه على ذلك بطريق الإجمال على منهاج (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل ـ ٨] لما نيط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وجلالة سلطانه عزوجل ، ولعله لما كان العلم من أخص صفات الربوبية لم يثبت على وجه الكمال والإحاطة لأحد سواه سبحانه ولو كان بطريق الفيض منه تبارك وتعالى على أن ظرف الممكن يضيق عن الإحاطة فما يجهله كل أحد أكثر مما يعلمه بكثير ، وقد يقال على بعض الاعتبارات : إن ما يعلمه كل أحد متناه وما يجهله غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي أصلا فلا نسبة بين معلوم كل أحد ومجهوله ، وتأمل في هذا مع دعوى بعض الأكابر الوقوف على الأعيان الثابتة والاطلاع عليها وقل رب زدني علما (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) بيان لقدرته تعالى الباهرة في الزمان بعد ما بينها سبحانه في المكان ، و (آيَةٌ) خبر مقدم و (اللَّيْلُ) مبتدأ مؤخر وقوله تعالى (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) استئناف لبيان كونه آية ، وفي التركيب احتمالات أخر تعلم مما مر إلا أن الأرجح ما ذكر أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل وموضع إلقاء ظله وظلمته وهو الهواء فالنهار عبارة عن الضوء إما على التجوز أو على حذف المضاف ، وقوله تعالى (مِنْهُ) على حذف مضاف وذلك لأن النهار والليل عبارتان عن زمان كون الشمس فوق الأفق وتحته ولا معنى لكشف أحدهما عن الآخر وأصل السلخ كشط الجلد عن نحو الشاة فاستعير لكشف الضوء عن مكان الليل وملقى ظلمته وظله استعارة تبعية مصرحة والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر فإنه يترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل ، وجوز أن يكون في النهار استعارة مكنية وفي السلخ استعارة تخييلية والجمهور على ما ذكرنا ومن

١٠

ابتدائية ، وقيل : تبعيضية وجعلها سببية ليس بشيء ، وهذا التفسير محكي عن الفراء ونحوه تفسير السلخ بالنزع ، واستعمال الفاء في قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي داخلون في الظلام كما يفيده همزة الأفعال عليه ظاهر ، ووقع في عبارة الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي أن المستعار له في الآية ظهور النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلده وذلك على ما قال العلامة الطيبي والفاضل اليمني مأخوذ من قول الزجاج معنى نسلخ منه النهار نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه فالظهور في عبارتهما بمعنى الخروج وهو يتعدى بمن فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن.

وقد جاء بهذا المعنى كما في قول عمر لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنهما اظهر بمن معك من المسلمين إليها أي الأرض يعني أخرج إلى ظاهرها ، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من الحجرة أي لم يخرج إلى ظاهرها فسقط ما أورد عليه من أنه لو أريد الظهور لقيل «فإذا هم مبصرون» ولم يقل «فإذا هم مظلمون» لأن الواقع عقيب ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الإظلام من غير حاجة إلى حمل العبارة على القلب أي ظهور ظلمة الليل من النهار ، وبعضهم (١) رفع هذا الإيراد بأن النهار عبارة عن مجموع المدة من طلوع الفجر أو الشمس إلى الغروب لا عن بعضها فالواقع عقيب هذه المدة كلها الدخول في الظلام. وتعقبه السالكوتي بأن الدخول في الظلام مترتب على السلخ لا على انقضاء مدة النهار.

ولعل مراد البعض أن السلخ بمعنى ظهور النهار لا يتحقق إلا بظهور كل أجزائه ومتى ظهرت أجزاء النهار كلها انقضت مدته ، وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلخت الإهاب عن الشاة وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الإهاب والشاة مسلوخة فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول فاستعمال الفاء في (فَإِذا هُمْ) ظاهر على قول الغير وأما على قولهما فإنما يصح من جهة أنها موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ وهذا يختلف باختلاف الأمور والعادات فقد يطول الزمان والعادة في مثله تقتضي عدم اعتبار المهلة وقد يكون بالعكس كما في هذه الآية فإن زمان النهار وإن توسط بين إخراج النهار من الليل وبين دخول الظلام لكن لعظم دخول الظلام بعد إضاءة النهار وكونه مما ينبغي أن لا يحصل إلا في أضعاف ذلك الزمان عد الزمان قريبا وجعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة.

ثم لا يخفى أن إذ المفاجأة إنما تصح إذا جعل السلخ بمعنى الإخراج كما يقال : أخرج النهار من الليل ففاجأه دخول الليل فإنه مستقيم بخلاف ما إذا جعل بمعنى النزع فإنه لا يستقيم أن يقال : نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجأه الظلام كما لا يستقيم أن يقال كسرت الكوز ففاجأه الانكسار لأن دخولهم في الظلام عين حصول الظلام فيكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة الانكسار إلى الكسر فلهذا جعلا السلخ بمعنى الإخراج دون النزاع اه كلامه ، وقواه العلامة الثاني بأنه لا شك أن الشيء إنما يكون آية إذا اشتمل على نوع استغراب واستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب زوال ضوء النهار.

وقال السالكوتي : إن عدم استقامة المفاجأة فيما ذكر لأنها إنما تتصور فيما لا يكون مترقبا بل يحصل بغتة حينئذ يمكن أن يقال في الجواب : إن نزع الضوء عن الليل لكون ظهوره في غاية الكمال كان المترقب فيه أن يكون في مدة

__________________

(١) هو شيخ الإسلام في حواشيه على المطول اه منه.

١١

مديدة فحصول الظلام بعده في مدة قصيرة أمر غير مترقب ثم قال وبهذا ظهر الجواب عن التقوية ، وقيل إن الظلمة لكونها مما تنفر عنها الطباع وتكرهها النفوس يكون حصولها كأنه غير مترقب ويكفي نفس السلخ في الدلالة على الاقتدار ، والذي يقتضيه ما سبق عن الطيبي واليمني أن الشيخ والسكاكي أرادا إخراج النهار من الليل إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه كما قال الزجاج ، ومآله إزالة ضوء النهار من مكان الليل وموضع ظلمته كما قال الفراء ، وجاء في كلامهم الظهور بمعنى الزوال كما في قول أبي ذؤيب :

وعيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

وحكى الجوهري : يقال هذا أمر ظاهر عنك عاره أي زائل. وقال المرزوقي في قول الحماسي :

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أيضا كذلك فلا مانع من أن يكون في كلام الشيخين بهذا المعنى ويراد بالظهور الإظهار ، والتعبير به مساهلة لظهور أن نسلخ متعد فيرجع الأمر إلى الإزالة فيتحد كلامهما بما قاله الفراء وكذا على ما قيل المراد بالظهور الخروج على وجه المفارقة لظهور الزوال فيه حينئذ وأمر المساهلة على حاله ، وعلى القول بالاتحاد يجيء اعتراض العلامة والجواب هو الجواب فتأمل والله تعالى الهادي إلى الصواب.

وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طارئ عليها يسترها بضوئه وفي الحديث ما يشعر بذلك أيضا ، روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره اهتدى ومن أخطأه ضل».

(وَالشَّمْسُ) عطف على (اللَّيْلُ) أي وآية لهم الشمس.

وقوله تعالى (تَجْرِي) إلخ استئناف لبيان كونها آية ، وقيل (الشَّمْسُ) مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على (اللَّيْلُ نَسْلَخُ) وقيل غير ذلك فلا تغفل ، والجري المر السريع ، وأصله لمر الماء ولما يجري يجريه والمعنى تسير سريعا (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها ، وروي هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة ، والمستقر عليه اسم مكان واللام بمعنى إلى وقرئ بها بدل اللام ، وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه.

وروي هذا عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت ، ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيها لانتهاء الدورة بانتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الارتفاع وبلوغ أقصاها ومقنطرات الانخفاض كذلك والاستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب ، والمستقر عليه اسم مكان أيضا واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهاء فالمستقر (١) واللام على نظير ما تقدم. وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراءى ؛ قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر :

معروريا رمض الرضراض تركضه

والشمس حيرى لها بالجو تدويم (٢)

__________________

(١) وجوز كونه مصدرا فلا تغفل اه منه.

(٢) هو وقوف الطائر في الهواء اه منه.

١٢

أو لاستقرار لها ومكث في كل برج من البروج الاثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل ، وقيل تجري لبيتها وهو برج الأسد ، واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه ، وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام ، وقال قتادة. ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه ، قال الواحدي : وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي : في شرح صحيح مسلم ، ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال : تذهب لتسجد (١) فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عزوجل : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، الحديث وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرا جدا.

وأخرج أحمد والبخاري ، ومسلم وأبو داود والترمذي ، والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارا حقيقة ، قال النووي : قال جماعة بظاهر الحديث ، قال الواحدي : وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع ، ثم قال النووي : وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها.

وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش وتقول : يا رب إن قوما يعصونك فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر ، وفيها أيضا أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول إني إذا خرجت عبدت من دونك ، والسجود تحت العرش قد جاء أيضا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عزوجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله.

وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الأخبار قليل ، وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وما ذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته ، والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش سواء قيل منها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أم قيل : إنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وبين الليل والنهار

__________________

(١) أي في الرجوع كما جاء مصرحا به في حديث آخر رواه أحمد والترمذي وغيرهما فلا تغفل اه منه.

١٣

اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء ، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب ، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه ، والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره ، وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلا وكذا كونها تحت العرش دائما بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيرا من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل ، والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى الآتي (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) حيث جيء بالفعل مسندا إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روي عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الاستئذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال. وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصي كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جدا ، والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا : كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه‌السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في صحيح الأخبار حيث يشاء الله عزوجل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر:

لا تقل دارها بشرقي نجد

كل نجد للعامرية دار

وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلا منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند ، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روي عن إبراهيم بن أدهم قدس‌سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورئي ذلك اليوم بمكة ، ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقا إلا فيما يثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن ، وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة والسلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي ، وقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك ، وصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى موسى عليه‌السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ، وكونه عليه‌السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لم يقله أحد جزما والقول به احتمال بعيد ، وقد رأى

١٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه‌السلام في السماوات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفا ، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى بصيرته فيمكن أن يقال : إن للشمس نفسا مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحره لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كانا نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا ، ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولا ، وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكى أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة ، وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور والناس يشاهدونها في مكانها أحجارا مبنية.

وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره في الفتوحات كلاما طويلا ظاهرا في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وإنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي مفتي الإنس والجن عما يحكى أن الكعبة كانت تزور إلخ هل يجوز القول به فقال نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أر من خرج زيارتها على هذا الطرز ، وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه ، ففي عدة الفتاوى والولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها ، ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الإنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له باصطلاحاته ولو كان ذا فطانة : وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذرا بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتيا به إلا من ذلك القبيل ، وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقرأ عبد الله وابن عباس وزين العابدين وابنه الباقر وعكرمة وعطاء بن أبي رباح «لا مستقر لها» بلا النافية للجنس وبناء «مستقر» على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائما لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضا إلا أنه رفع «مستقر» ونونه على أعمالها أعمال ليس كما في قوله :

تعز فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر مما قضى الله واقيا

(ذلِكَ) إشارة إلى الجري المفهوم من (تَجْرِي) أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب بقدرته على كل مقدور (الْعَلِيمِ) المحيط علمه بكل معلوم ، وذكر بعضهم في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عالم الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير

١٥

واحد ، ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد فلك المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه وتمد فلك المريخ ، وليت شعري من أين استمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلا ولا نظن أنه مر بخيال ، وقال الشيخ الأكبر : قدس‌سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عزوجل.

وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله. وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) أي صيرنا مسيره أي محله الذي يسير فيه (مَنازِلَ) فقدر بمعنى صير الناصب لمفعولين والكلام على حذف مضاف والمضاف المحذوف مفعوله الأول و (مَنازِلَ) مفعوله الثاني واختار أبو حيان تقدير مصدر مضاف متعد إلى واحد و (مَنازِلَ) منصوب على الظرفية أي قدرنا سيره في منازل وقدر بعضهم نورا أي قدرنا نوره في منازل فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية لما أن نوره مستفاد من ضوء الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها وبهذا يتم الاستدلال والحق أنه لا قطع بذلك وليس هناك إلا غلبة الظن ، ويجوز أن يكون قدر متعديا لاثنين و (مَنازِلَ) بتقدير ذا منازل ، وأن يكون متعديا لواحد وهو (مَنازِلَ) والأصل قدرنا له منازل على الحذف والإيصال واختاره أبو السعود ، ونصب (الْقَمَرَ) بفعل يفسره المذكور أي وقدرنا القمر قدرناه وفي ذلك من الاعتناء بأمر التقدير ما فيه ، وكأنه لما أن شهرهم باعتباره ويعلم منه سر تغيير الأسلوب.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه «والقمر» بالرفع قال غير واحد ، على الابتداء وجملة (قَدَّرْناهُ) خبره ، ويجوز فيما أرى أن يجري في التركيب ما جرى في قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) من الإعراب تدبر ، والمنازل جمع منزل والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهي عند أهل الهند سبعة وعشرون لأن القمر يقطع فلك البروج في سبعة وعشرين يوما وثلث فحذفوا الثلث لأنه ناقص عن النصف كما هو مصطلح أهل التنجيم ، وعند العرب وساكني البدو ثمانية وعشرون لا لأنهم تمموا الثلث واحدا كما قال بعضهم بل لأنه لما كانت سنوهم باعتبار الأهلّة مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى وكذا أوقات تجارتهم وزمان أعيادهم احتاجوا إلى ضبط سنة الشمس لمعرفة فصول السنة حتى يشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل من الانتقال إلى المراعي وغيرها فاحتالوا في ضبطها فنظروا أولا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشمس في قريب من ثلاثين يوما ويختفي آخر الشهر لليلتين أو أقل أو أكثر فاسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات مستهلا أول الشهر وآخر رؤيته بالغدوات مستترا آخره فقسموا دور الفلك عليه فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبا وهو ستة أسباع درجة فنصيب كل برج منه منزلان وثلث ثم لما انضبط الدور بهذه القسمة احتالوا في ضبط سنة الشمس بكيفية قطعها لهذه المنازل فوجدوها تستر دائما ثلاثة منازل ما هي فيه بشعاعها وما قبلها بضياء الفجر وما بعدها بضياء الشمس ورصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين كل ظهوري منزلتين ثلاثة عشر يوما تقريبا فأيام جميع المنازل تكون ثلاثمائة وأربعة وستين لكن الشمس تقطع جميعها في ثلاثمائة وخمس وستين فزادوا يوما في أيام

١٦

منزل غفر وزادوه هاهنا اصطلاحا منهم أو لشرفه على ما تسمعه إن شاء الله تعالى وقد يحتاج إلى زيادة يومين ليكون انقضاء الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة ويرجع الأمر إلى النجم الأول ، واعلم أن العرب جعلت علامات الأقسام الثمانية والعشرين من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب طريقة القمر في ممره أو يحاذيه فيرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وأحوال كواكب المنازل مع المنازل كأحوال كواكب البروج مع البروج عند أهل الهيئة من أنها مسامتة للمنازل وهي في فلك الأفلاك وإذا أسرع القمر في سيره فقد يخلي منزلا في الوسط وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل أول الليلتين في أوله وآخرهما في آخره وقد يرى في بعض الليالي بين منزلتين ، وما يقال في الشهور إن الظاهر من المنازل في كل ليلة يكون أربعة عشر وكذا الخفي وأنه إذا طلع منزل غاب رقيبه وهو الخامس عشر من الطالع سمي به تشبيها له برقيب يرصده ليسقط في المغرب إذا ظهر ذلك في المشرق ظاهر الفساد لأنها ليست على نفس المنطقة ولا أبعاد ما بينها متساوية ولهذا قد يكون الظاهر ستة عشر وسبعة عشر وقد يكون الخفي ثلاثة عشر وهذه الكواكب المسماة بالمنازل المسامتة للمنازل الحقيقية على ما روي عن ابن عباس وغيره أولها الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين وهي العلامة وهما كوكبان نيران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب بينهما ثلاثة أشبار وبقرب الجنوبي منهما كوكب صغير سمت العرب الكل أشراطا لأنها بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمالي منهما كوكب نير هو الشرطان عند بعض ويقال للشرطين الناطح أيضا ثم البطين تصغير البطن وهو ثلاثة كواكب خفية من القدر الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح والقمر يجتاز بها أحيانا ثم الثريا (١) تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة ويسمى بالنجم وهي على المشهور عند المنجمين ستة كواكب مجتمعة كشكل مروحة مقبضها نحو المشرق وفيه انحناء في جانب الشمال ، وقيل هي شبيهة بعنقود عنب وعليه قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت :

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نورا

والمرصود منها أربعة كلها من القدر الخامس وموضعها سنام الثور ، وفي الكشف هي ألية الحمل وربما يكسفها القمر ثم الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم الهند ويسمى المجدح وموقعه عين الثور والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى والثلاثة الباقية وهي من الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم الثور وبعضهم يسمى الدبران بقلب الثور وقد يكسفه القمر ثم الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة وهي ثلاثة كواكب خفية مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض تكون في جنب الفرس الأيسر تسمى بذلك وتسمى الأثافي أيضا وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحاذيها ولا يقاربها ثم الهنعة بوزن الهقعة وثانية نون وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجلي التوأمين (٢) مما يلي الشمال وفي الكشف هي منكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما ثم الذراع وهما كوكبان أزهران من القدر الثاني على رأسي التوأمين يعنون بهما ذراع الأسد المبسوطة إذ المقبوضة هي الشعرى الشامية مع مرزمها والقمر يقارب المبسوطة ثم النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف

__________________

(١) رأيت منها بواسطة بعض الآلات ما يزيد على ثلاثين كوكب اه منه.

(٢) الجوزاء اه منه.

١٧

وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من الرابع بينهما قيد ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان ويقربها كوكبان يسميان بالحمارين واللطخة التي بينهما بالمعلف تشبها لها بالتبن وبمحطة الأسد أي موضع استتاره ويكسب القمر كلا منهما ثم الطرف وهما كوكبان صغيران من الرابع أحدهما على رأس الأسد قدام عينيه والآخر قدام يده المقدمة والقمر يحاذي أشملهما ويكسف أجنبهما ويعنون بالطرف عين الأسد ثم الجبهة ويعنون بها جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعويج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب يسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمر به وبالذي يليه ثم الزبرة بضم الزاي وسكون الباء وهما كوكبان نيران على أثر الجبهة بينهما أرجح من ذراع وهما على زبرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخره فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من الثالث وأشملهما من الثاني وتسمى ظهر الأسد والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب ثم الصرفة وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد ويسمى ذنب الأسد والقمر يحاذيه من جهة الجنوب وسمي بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ثم العواء يمد ويقصر والقصر أجود وهي خمسة كواكب من الثالث على هيئة لام في الخط العربي ثلاثة منها آخذة من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة ثم ينعطف اثنان على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ولذلك سميت العواء ، وقيل في ذلك كأنها تعوي في أثر البرد ولهذا سميت طاردة البرد ، وقيل هي من عوى الشيء عطفه فلما فيها من الانعطاف سميت بذلك.

وفي الكشف العواء سافلة الإنسان ويقال إنها ورك الأسد والقمر يخرقها ثم السماك الأعزل وهو كوكب نير من الأول على كتف العذراء اليسرى قريب من المنطقة والقمر يمر به ويكسفه ويقابل السماك الأعزل السماك الرامح وليس من المنازل وسمي رامحا لكوكب يقدمه كأنه رمحه وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع ثم الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ورجلها المؤخرة على سطر معوج حدبته إلى الشمال وقيل كوكبان والقمر يمر بجنوبيهما وقد يحاذي الشمالي وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ويقال : إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها وذكر بعضهم أنها من كواكب الميزان ثم الزبانا بالضم وآخره ألف وهما كوكبان نيران من الثاني متباعدان في الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان.

وقال غير واحد : هما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبيهما ثم الإكليل وهي ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلها شكل الغفر الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها ، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ولذا سميت به وأصل معناه التاج ثم القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر نير أوسط الثلاثة التي على بدن العقرب على استقامة من المغرب إلى المشرق وهو من الثاني واللذان قبله وبعده ويسميان نياطين من الثالث والقمر يمر به ويكسفه من المنطقة ثم الشولة بفتح الشين المعجمة واللام وتسمى ابرة العقرب عند الحجازيين كوكبان من الثاني أزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع الحمة والقمر يحاذيهما ثم النعائم أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة أي إلى المجرة والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف هي النعائم الصادرة أي من مجرة وكلها من صورة الرامي وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر ، ثم البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنسه بذنبه وتسمى أيضا بالمفازة والفرجة ، وقيل سميت بذلك تشبها بالفرجة التي تكون بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة وهي عصابة الرامي ثم

١٨

سعد الذابح كوكبان على قرني الجدي بينهما قدر باع جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ويقرب الشمالي كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال : إنه شاته التي يريد أن يذبحها ، وقيل : إنه في مذبحة ولهذا يسمى بالذابح ثم سعد بلع (١) كوكبان على كف ساكب الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ويقرب متقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه فلهذا سمي به ، وفي القاموس سعد بلع كزفر معرفة منزل للقمر طلع لما قال الله تعالى (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] وهو نجمان مستويان في المجرى أحدهما خفي والآخر مضيء يسمى بالعا كأنه بلع الآخر ، وقيل : لأنه ليس له ما لسعد الذابح فكأنه بلغ شاته والقمر يقارب أجنبهما ولا يكسفه ثم سعد السعود كوكبان ، وقيل : ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجنبهما والقمر يقرب منه من الخامس على طرف ذنب الجدي وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في القول الآخر من كواكب القوس والقمر يقارب أجنبهما وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ثم سعد الأخبية أربعة كواكب من الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا والرابع وسطه وهو السعد والثلاث خباؤه ولذا سمي بذلك ، وقيل : لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئا والقمر يقاربها من ناحية الجنوب ثم الفرغ المقدم ويقال الأعلى كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح اجنبهما على متن الفرس الأكبر المجنح (٢) وأشملهما على منكبه والقمر يمر بالبعد منهما ثم الفرغ المؤخر كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبهما على جناح الفرس وأشملهما مشترك بين سرته ورأس المسلسلة شبهت العرب الأربعة بفرغ الدلو وهو بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وغين معجمة مصب الماء منها لكثرة الأمطار في وقتها ثم بطن الحوت ويقال له : الرشاء بكسر الراء أي رشاء الدلو وقلب الحوت أيضا كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة يحاذيه القمر ولا يقاربه وإنما سمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها العرب من سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من المسلسلة وبعضها من إحدى سمكتي الحوت.

هذا واعلم أن هذه المنازل الثمانية والعشرين تسمي العرب الأربعة عشر الشمالية منها التي أولها الشرطان وآخرها السماك شامية والباقية منها التي أولها الغفر وآخرها بطن الحوت يمانية وأنها تسمى خروج المنزل من ضياء الفجر طلوعه وغروب رقيبه وقت الصبح سقوطه والمنازل التي يكون طلوعها في مواسم المطر الأنواء ورقباؤها إذا طلعت في غير مواسم المطر البوارح قاله القطب ، وقال الجوهري : النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى مضي ثلاثة عشر يوما ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما ، قال أبو عبيد : ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها ، وقال الأصمعي : إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء الثريا مثلا والجمع أنواء ونوآن مثل عبد وعبدان ، وذكر الطيبي عن المرزوقي أن نوء الشرطين ثلاثة أيام ونوء البطين ثلاث ليال ونوء الثريا خمس ليال ونوء الدبران ثلاث ليال ونوء الهقعة ست ليال ولا يذكرون نوأها إلا بنوء الجوزاء ونوء الهنعة لا يذكر أيضا وإنما يكون في أنواء الجوزاء والذراع لا نوء له ونوء النثرة سبع ليال ونوء الطرف ثلاث ليال ونوء الجبهة سبع والزبرة أربع والصرفة ثلاث والعواء ليلة والسماك أربع والغفر ثلاث وقيل ليلة والزبانا ثلاث والإكليل أربع والقلب ثلاث والشولة كذلك

__________________

(١) طلوعه لليلة تبقى من كانون الآخر وسقوطه لليلة تمضي من آب اه قاموس اه منه.

(٢) أي ذي الجناحين اه منه.

١٩

والنعائم ليلة والبلدة ثلاث ، وقيل : ليلة وسعد الذابح ليلة وبلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ثلاث والمؤخر أربع ولم يذكر في نسختي للرشاء نوءا. ثم إن قول الإنسان مطرنا بنوء كذا إن أراد به أن النوء نزل بالماء فهو كفر والقائل كافر حلال دمه إن لم يتب كما نص عليه الشافعي وغيره ، وفي الروضة من اعتقد أن النوء يمطر حقيقة كفر وصار مرتدا وإن أراد أن النوء سبب ينزل الله تعالى به الماء حسبما علم وقدر فهو ليس بكفر بل مباح لكن قال ابن عبد البر : هو وإن كان مباحا كفر بنعمة الله تعالى وجهل بلطيف حكمته. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أثر سماء : «هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» وظاهره أن الكفر مقابل الإيمان فيحمل على ما إذا أراد القائل ما سمعت أولا والله تعالى الحافظ من كل سوء لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. والقمر في العرف العام هو الكوكب المعروف في جميع ليالي الشهر ، والمشهور عند اللغويين أنه بعد الاجتماع مع الشمس ومفارقته إياها لا يسمى قمرا إلا من ثلاث ليال وست وعشرين ليلة وفيما عدا ذلك يسمى هلالا ولعل الأظهر في الآية حمله على المعنى الأول وهو الشائع إذا ذكر مع الشمس أي قدرنا هذا الجرم المعروف منازل ومسافات مخصوصة فسار فيها ونزلها منزلة منزلة (حَتَّى عادَ) أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس في رأي العين (كَالْعُرْجُونِ) هو عود عزق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته منها وروي ذلك عن الحسن وقتادة ، وعن ابن عباس أنه أصل العذق ، وقيل الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان العذق والكباسة ، والمشهور الأول ، ونونه على ما حكي عن الزجاج زائدة فوزنه فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف ، وذهب قوم واختاره الراغب والسمين وصاحب القاموس إلى أنها أصلية فوزنه فعلول ، وقرأ سليمان التيمي «كالعرجون» بكسر العين وسكون الراء وفتح الجيم وهي لغة فيه كالبزيون والبزيون وهو بساط رومي أو السندس (الْقَدِيمِ) أي العتيق الذي مر عليه زمان يبس فيه ووجه الشبه الاصفرار والدقة والاعوجاج ، وقيل : أقل مدة القدم حول فلو قال رجل كل مملوك لي قديم فهو حر عتق منهم من مضى له حول وأكثر ، وقيل : ستة أشهر وحكاه بعض الإمامية عن أبي الحسن الرضا رضي الله عنه.

(لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا

٢٠