روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله ، و (بَعْضاً) على هذا منصوب بنزع الخافض ـ كما قيل ـ (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء (أَمانَتَهُ) أي دينه ، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه ، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به.

وقرئ ـ «الذيتمن» ـ بقلب الهمزة ياء ، وعن عاصم أنه قرأ ـ «الذتمن» ـ بإدغام الياء في الستار ، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم ، ورد بأنه مسموع في كلام العرب ، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال : إنه مقصور على السماع ، ومنه قراءة ابن محيصن ـ «اتمن» ـ ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين ، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم ، ففي البخاري عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطئ مخطئ (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة وإنكار الحق ، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى ، وقد أمر سبحانه ـ بالتقوى ـ عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة ، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح ، وقرئ يكتموا على الغيبة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) الضمير في أنه راجع إلى (مَنْ) وهو الظاهر ، وقيل : إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له ، و (آثِمٌ) خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري. والكوفي يجيز ذلك ، وقيل : إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون ـ لمن ـ وقيل : (آثِمٌ) خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير ـ إنه ـ وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل ، وقيل : (آثِمٌ) مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين ، والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل : (فَإِنَّهُ آثِمٌ) لتم المعنى مع الاختصار ، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها ، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح ، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب ، وقيل : أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه ، وقيل : للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه» ، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله ، فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول به.

و (آثِمٌ) صفة مشبهة ، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل ، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء ، وقرأ ابن أبي عبلة (آثِمٌ قَلْبُهُ) أي جعله آثما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك (عَلِيمٌ) فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

٦١

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت ، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها (وَإِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا للناس (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن لا تظهروه.

(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يجازيكم به يوم القيامة ، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان ، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها ، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا : إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] لأنا نقول : المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله :

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

فالآية على ما قررنا محكمة ، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه أحمد ، ومسلم عن أبي هريرة قال : «لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (و (١) إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] إلخ ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحسبه ابن عمر (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه ، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.

ومن هنا قال الطبرسي : وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة ، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد ، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا ، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره ؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة : ١٠٩] كأنه قيل : كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم

٦٢

التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى ، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال : «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبت بعضها وأخطأت بعضها» ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما ، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى ، وقيل : معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء ، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه ، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام ، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك ـ يحاسبكم به الله ـ وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال : نزلت في الشهادة ، وقيل : الآية على ظاهرها ، و «ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة ، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم ، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر ، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.

وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) [آل عمران : ٢٩] فلما قيل : إن المعلق ـ بما في أنفسهم ـ هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية ، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية (فَيَغْفِرُ) بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من عباده (وَيُعَذِّبُ) بعدله. (مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه من عباده ، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه ، وقرأ غير ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار ـ أن ـ وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق ، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب ، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك :

والفعل من بعد الجزاء إن يقترن

بالفاء أو الواو بتثليث قمن

وقرأ ابن مسعود ـ «يغفر» ، و «يعذب» ـ بالجزم بغير فاء ـ ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر ـ وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من (يُحاسِبْكُمْ) بدل البعض من الكل أو الاشتمال ، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه ـ بيحاسبكم ـ ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل ، وقيل : إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال ـ كأحب زيدا علمه ـ وإن

٦٣

أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض ـ كضربت زيدا رأسه ـ وقيل : غير ذلك ، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال : ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد ، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله:

متى تأتنا ـ تلمم ـ بنا في ديارنا

تجد خير نار عندها خير موقد

فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف ، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام ، وطعن الزمخشري ـ على عادته في الطعن ـ في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي ، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له ـ وممن روي ذلك عنه ـ أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات ، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين ، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا ، منهم الكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرواسي ، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب ، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر (آمَنَ الرَّسُولُ) قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى عزوجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة ، الزكاة ، والطلاق ، والحيض والإيلاء ، والجهاد ، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدين ، والربا ، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل ، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.

أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال : «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (آمَنَ الرَّسُولُ) قال عليه الصلاة والسلام : وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة ـ وهي شاهد لحديث أنس ـ «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن» (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا ، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة

٦٤

والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه ، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه ، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ـ وآمن المؤمنون ـ وعليه يكون قوله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ) جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ ، و (كُلٌ) مبتدأ ثان ، و (آمَنَ) خبره ، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون (كُلٌ) تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها ـ ورجح الوجه الأول ـ بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك ، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة ، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ؛ ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير ، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك ، وتوحيد الضمير في (آمَنَ) مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله ـ آمن ـ (بِاللهِ) أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك (وَمَلائِكَتِهِ) من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى : (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وكتابه ـ بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع ـ على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري ـ وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد ـ وهذا المبحث من معضلات علم المعاني ـ وقد فرغ من تحقيقه هناك.

٦٥

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير (كُلٌ) مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ـ ولعله أولى ـ والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير (آمَنَ) أو مرفوعة على أنها خبر آخر ـ لكل ـ أي يقولون ، أو يقول : لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها ، ومن اعتبر إدراج الرسول في (كُلٌ) واستبعد هذا قال : بالتغليب هاهنا ، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب ، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٣٦] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر ، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات ، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه ـ لا يفرق ـ بالياء على لفظ (كُلٌ) وقرئ لا يفرقون حملا على معناه ، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا ، والكلام على (أَحَدٍ) وإدخال (بَيْنَ) عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)(وَقالُوا) عطف على (آمَنَ) والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم (سَمِعْنا) أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع (وَأَطَعْنا) وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي ، وقيل : (سَمِعْنا) ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته ، و (أَطَعْنا) ما فيه من الأمر والنهي (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك ، أو نسألك غفرانك ذلك ، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ـ ولعل الأول أولى ـ لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص ، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول ، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي ، والجملة قيل : معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء ـ والتكليف ـ إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، و ـ الوسع ـ ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه ـ لا يكلف نفسا ـ من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.

٦٦

وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» ـ بفتح السين (١) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فبطريق الأولى ، وقيل : إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.

(لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته ـ قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس‌سره ـ وهو الذي ذهب إليه الكثير ، وقيل : يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ـ ولا يخفى أنه بعيد ـ من جهة ـ قريب من أخرى ـ والضمير في (لَها) للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر ، ومبين (ما) الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه ، ومبين (ما) الثانية الشر لدلالة ـ على ـ الدالة على الضر عليه : وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال ، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف ، وقيل : استيفاء لحكاية الأقوال ، وفي البحر ـ وهو المروي عن الحسن ـ أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم ، ولذلك قيل وقد تقدم :

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه

من فيض جودك ما علمتني الطلبا

والمؤاخذة : المعاقبة ، وفاعل هنا بمعنى فعل ، وقيل : المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف ، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه ، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا

والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطإ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل : ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات ، الثاني أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال

__________________

(١) قوله : بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن الواو مثلث كما في القاموس ا ه مصححه.

٦٧

إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير ، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر ، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه.

ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني ، وقال النووي حديث حسن : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.

والمراد به التكاليف الشاقة ، وقيل : الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه ، وقرئ آصارا على الجمع ، وقرأ أبيّ ـ ولا تحمّل ـ بالتشديد للمبالغة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا ، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا ـ وهو ما كلفه بنو إسرائيل ـ من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها ، وقيل : من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه ، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة ، وقيل : هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي ، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير (وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة.

(وَاغْفِرْ لَنا) بستر القبيح وإظهار الجميل (وَارْحَمْنا) وتعطف علينا بما يوجب المزيد ، وقيل : (اعْفُ عَنَّا) من الأفعال (وَاغْفِرْ لَنا) من الأقوال (وَارْحَمْنا) بثقل الميزان ، وقيل : (وَاعْفُ عَنَّا) في سكرات الموت (وَاغْفِرْ لَنا) في ظلمة القبور (وَارْحَمْنا) في أهوال يوم النشور ، قال أبو حيان : ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ (رَبَّنا) لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء ـ فاعف عنا ـ مقابلا لقوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا) لقوله سبحانه : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا) لقوله عز شأنه : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب (أَنْتَ مَوْلانا) أي مالكنا وسيدنا ، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال : مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء :

وإن صخرا ـ لمولانا وسيدنا ـ

وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار

وخطئوا من قال : سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى ـ كما قاله ابن أبيك ـ ولي فيه تردد قيل : والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق

٦٨

الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.

(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه (وَما فِي الْأَرْضِ) أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) يشهده بأسمائه وظواهره (يُحاسِبْكُمْ بِهِ) وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لفساد اعتقاده ووجود شكه ، أو رسوخ سيئاته في نفسه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب (آمَنَ الرَّسُولُ) الكامل الأكمل (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق (وَقالُوا سَمِعْنا) أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بالفناء فيك (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات (لَها ما كَسَبَتْ) من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وتوجهت إليه بالقصد من السوء (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة (أَوْ أَخْطَأْنا) بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك (وَاعْفُ عَنَّا) سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر (وَارْحَمْنا) بالوجود الموهوب بعد الفناء (أَنْتَ مَوْلانا) أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم ، هذا وقد أخرج مسلم ، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت ، واخرج أبو سعيد ، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها ، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين ، وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل» وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن

٦٩

الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء» وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن ، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه ، والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال : ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.

والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب ، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب ، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه ، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم ، وكنزك المطلسم ، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك ، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.

٧٠

سورة آل عمران

«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة ، واسمها في التوراة ـ كما روى سعيد بن منصور ـ طيبة ، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين ـ وتسمى الأمان ، والكنز ، والمعنية ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار ، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم ، وتكررت آية (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ) [البقرة : ١٣٦] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له ، فذكر هناك خلق الناس ، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام ، وذكر هناك مبدأ خلق آدم ، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده ؛ وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم ، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى ، ولذلك ضرب له المثل بآدم ، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق ، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها ، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم ـ والسورة التي هي فيها ـ جديرة بالتقديم.

وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا ، وقال في آخر هذه : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٣٠ ، ٢٢٠] وافتتحت الأولى بقولهسبحانه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] وختمت آل عمران بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) [آل عمران : ١٩٩] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة : ٢٤٥ ، الحديد : ١١] الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وهذا مما يقوي التلازم أيضا ، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] الآية وهنا (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] الآية إلى غير ذلك.

٧١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قرأ أبو جعفر ، والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة ـ كص ـ ولا موازنة المفرد ـ كحم ـ حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء ، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا ، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم ، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل : وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله : واحد ، اثنان لا لالتقاء الساكنين ـ كما قال سيبويه ـ فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام ـ وإلى ذلك ذهب الفراء ـ وفي البحر إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته ـ كما قاله أبو علي وقولهم : إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب ، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١ ، الأعلى : ١٤ ، الشمس : ٩] إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال «قد» بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا ، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ـ ولم يحك الكسر ـ لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما

٧٢

زعموا ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم : اثنان فالتقى ساكنان دال واحد ، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل ، وأما قولهم : إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام ، فجوابه إن الذي قال : إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من ـ الم ـ في الوقف بل أراد الميم الأخير من ـ الم ـ ولام التعريف فهو كالتقاء نون من ، ولام الرجل ـ إذا قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض ، ولذا قال الجاربردي : الوجه ما قاله سيبويه ، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل ، واختار ذلك ابن الحاجب ـ وادعى أن في مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة.

وقال غير واحد : لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف ، والقول : بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة ـ كثلاثة أربعة ـ وهاهنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح ، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها ، و (الم) رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر ـ وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي الكشاف اختار مذهب الفراء ، وفي المفصل اختار مذهب سيبويه ، ولعل الأول مبني على الاجتهاد ، والثاني على التقليد والنقل لما في الكتاب ـ لأن المفصل مختصره فتدبر.

وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره ، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده ، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير ، و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدإ محذوف أي هو (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لا غير ، وقيل : هو صفة للمبتدإ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الكريم ، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك وأيّا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه ، وقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه. وقال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت في البقرة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وفي آل عمران (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي طه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١].

وقرأ عمر ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلقمة ـ «الحي القيام» وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسىعليه‌السلام كان ربا ، فقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : «قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ، والأيهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون : هو الله تعالى ، ويقولون : هو ولد الله تعالى ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية.

٧٣

وهم يحتجون لقولهم يقولون : هو الله تعالى فإنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله تعالى : بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة : إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم ، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما ـ العاقب ، والسيد ـ كما في رواية الكلبي ، والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أسلما قالا : قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير؟ قالا : فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه ، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي ليس معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه‌السلام في قولهم : (الْقَيُّومُ) القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى ، وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال : «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له : من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا : بلى. قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا : بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا : بلى قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم التوراة والإنجيل ، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب ، وإيثار ـ على ـ على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ؛ والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر ، وما قبل كله اعتراض أو حال ، (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) صفة أو بدل ، وقرأ الأعمش (نَزَّلَ) بالتخفيف ، ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها ، وقيل : متعلقة به بتقدير من عنده (بِالْحَقِ) أي بالصدق في أخباره أو بالعدل ـ كما نص عليه الراغب ـ أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو محقا ، وفي البحر يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق (مُصَدِّقاً) حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السالفة والظرف مفعول مصدقا واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ذكرهما تعيينا لما بين يديه وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا

٧٤

عليه والتعبير ـ بأنزل ـ فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين ، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزول من ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه : نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل : إن ـ نزل ـ يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] حيث قرن ـ نزل ـ بكونه جملة ، وقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) [النساء : ١٤٠] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل ، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة ـ نزل ـ تدل عليه ، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم ، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه ، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.

واختلف في اشتقاق التوراة والإنجيل فقيل : اشتقاق الأول من ورى الزناد إذ قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل : من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة ، ووزنها عند الخليل. وسيبويه فوعلة كصومعة ، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت ـ توراة ـ وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت ، وقال الفراء : وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة ، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها ، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا ، وقيل : اشتقاق الثاني من ـ النجل ـ بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض ، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد ـ كما قاله الزجاج ـ وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة ، وقيل : من النجل وهو التوسعة ، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها ، وقيل : مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه ـ كذا قيل ـ ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر ، وأما على تقدير ـ أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر ـ فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته ، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل. والاستدلال ـ على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الإعلام العجمية محل نظر ـ محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف ـ كما في الإسكندرية ـ فإن أبا زكريا التبريزي قال : إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية الإنجيل ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة ، وأفعيل ليس من أبنية العرب (مِنْ قَبْلُ) متعلق ـ بأنزل ـ أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، وقيل : من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم ، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه : (هُدىً لِلنَّاسِ) أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه حين يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير ، والقول بأنه يهتدي بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ـ ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف ، ويجوز أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس

٧٥

الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى ، وجعله حالا من الكتاب مما لا ينبغي أن يرتكب فيه (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته ، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه ، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه‌السلام وغيره ، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه‌السلام وعليه يكون المراد ـ بالفرقان ـ بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناء به ، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة ، وقيل : المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر ، وقيل : نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، وقيل : المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر ، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام ، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به ، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به ، وقيل : المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل ، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أن أطلق الفاعل مبالغة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب ، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا أوليا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (ذُو انْتِقامٍ) افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، ومجرده ـ نقم ـ بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم ، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه‌السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية ، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره ، وجعله الكثير مجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، ومن قال : إنه لا يصح في «كل» كل وجزء بناء على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازا ، وتقديم الأرض على السماء إظهارا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل : ولذا وسط حرف النفي بينهما ، والجملة

٧٦

المنفية خبر لأن ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة ـ في ـ متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية ، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم ، وجوز أبو البقاء تعلق الظرف ـ بيخفى ..

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل وجودها ، و ـ التصوير ـ جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف ، و (الْأَرْحامِ) جمع رحم وهي معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم بها ويتعاطف ، وكلمة (فِي) متعلقة ـ بيصور ـ وجوز أن يكون حالا من المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ ، و (كَيْفَ) في موضع نصب ـ بيشاء ـ وهو حال ، والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم ، وقيل : (كَيْفَ) ظرف ـ ليشاء ـ والجملة في موضع الحال أي (يُصَوِّرُكُمْ) على مشيئته أي مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين على مشيئته تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا ـ ثم ، وثم ـ وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك ، وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه‌السلام مع تقلبه في الأطوار ودوره في فلك هذه الأدوار حسبما شاءه الملك القهار وركاكة عقولهم ما لا يخفى ، وقرأ طاوس ـ تصوركم ـ على صيغة الماضي من التفعل أي اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب أي اتخذه وسادة فما قيل : كانه من تصورت الشيء بمعنى توهمت صورته فالتصديق أنه توهم محض (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه‌السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه‌السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه.

قيل : إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟ قال : بلى قالوا : فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه ـ كذا قيل ـ ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها ، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها ، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد ، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في الدر المنثور عن أبي حاتم ، وابن جرير عن الربيع ، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود ، وذلك حين «مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال : أتعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه (الم ذلِكَ الْكِتابُ) فقال : أنت سمعته؟ قال : نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك (الم ذلِكَ الْكِتابُ)؟ فقال : بلى فقال : لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال : نعم (المص) [الأعراف : ١] قال : هذه أثقل وأطول : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع

٧٧

هذا غيره؟ قال : نعم (الر) [يونس : ١] قال : هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال : بلى (المر) [الرعد : ١] قال : هذه أثقل وأطول ثم قال : لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه : وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره».

وقد أخرج ذلك البخاري في التاريخ ، وابن جرير ، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية «إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية» وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاء كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف ، وقوله سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ) الظرف فيه خبر مقدم ، و (آياتٌ) مبتدأ مؤخر أو بالعكس ، ورجح الأول بأنه الأوفق بقواعد الصناعة ، والثاني بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب ، والجملة إما مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال (آياتٌ) مرتفع به على الفاعلية (مُحْكَماتٌ) صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعا ـ أمّا ـ والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد ـ الأم ـ مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة (و (١) أُخَرُ) نعت لمحذوف معطوف على (آياتٌ) أي ـ وآيات أخر ـ وهي كما قال الرضى جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى ـ جاءني زيد ، ورجل آخر ـ جاءني زيد ، ورجل أشد تأخرا منه في معنى من المعاني ، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى ، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني ـ من ـ والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران ، ورجال آخرون ، وامرأة أخرى ، وامرأتان أخريان ، ونسوة أخر ، وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا : لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام ـ كالكبر والصغر ـ فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا ما لا يعطي غيره إلا مقرونا ، وقيل : الدليل على عدل (أُخَرُ) أنه لو كان مع من المقدرة كما في ـ الله أكبر ـ للزم أن يقال بنسوة أخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده ، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف ، أو مع سادّ مسد المضاف إليه ، أو مع دلالة ما أضيف اليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام ، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى ، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبني ، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف ، ولما لم يقصد في (أُخَرُ) إرادة الألف واللام أعرب ، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه.

وقال ابن جني : إنه معدول عن آخر من ، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبي حيان اختياره ـ واستدلوا

٧٨

عليه بما لا يخلو عن نظر ـ ووصف آخر بقوله سبحانه (مُتَشابِهاتٌ) وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق ، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال ، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل : إن واحد (مُتَشابِهاتٌ) متشابهة ، وواحد (أُخَرُ) أخرى ، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال : أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا ـ وليس المعنى على ذلك ـ وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) [القصص : ١٥] إذ الرجل لا يقتتل ، وقيل : إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في إشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة عليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس ـ وعليه الشافعية ..

وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناء على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد ، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناء بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في ـ كما في واحد العشرة ـ فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه ، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه ـ وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين ـ بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف ، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول ، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء ـ أما ـ لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك ، وبعض فضلاء العصر ـ المعاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر ـ جوز كون الإضافية ـ لامية ـ و (الْكِتابَ) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء ـ أما ـ لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن ـ أمومته ـ لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له ـ وأمومته ـ لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه ، ولا يخفى عليك أن ـ الأم ـ إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين ، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز ، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى جزئياته فأل في ـ الكتاب ـ للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم ، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض

٧٩

الأفراد وهو المتشابه ، ويجوز أن يراد من الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق ، قيل : وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك ، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر.

وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور ؛ وقيل : المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال ـ المحكمات ـ ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ، و ـ المتشابهات ـ ما يؤمن به ولا يعمل به ، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال ـ المحكمات ـ ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه ، وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال ـ المحكمات ـ ما لم ينسخ ـ والمتشابهات ـ ما قد نسخ ، وقال الماوردي : المحكم ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان ، وقيل : المحكم ما لم يتكرر ألفاظه ، المتشابه ما يقابله ، وقيل : غير ذلك ، وهذا الخلاف في ـ المحكم ، والمتشابه ـ هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم ، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] وقوله سبحانه : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣](فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء.

وقال الراغب : الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ـ وزاغ. وزال. ومال ـ متقاربة لكن زاغ لا يقال : إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا ، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود ـ وإليه ذهب ابن عباس ـ وقيل : منكر والبعث ، وقيل : المنافقون ، وأخرج الإمام أحمد. وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم الخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص ، وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ـ كما نقل عن الواقدي ـ وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهونه ، فالإضافة في (تَأْوِيلِهِ) للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهي ، والتأويل التفسير ـ كما قاله غير واحد ـ وقال الراغب : إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ـ ومنه الموئل ـ للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا ، ومن الأول ما ذكر هنا ، ومن الثاني قوله : وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] قيل : أحسن ترجمة ومعنى ، وقيل : أحسن ثوابا في الآخرة انتهى.

وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) طلبة بعض وابتغاء التأويل حسب التشهي طلبة آخرين ، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد

٨٠