روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

١
٢

سورة الأنبياء

نزلت بمكة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف وأطلق ذلك فيها ، واستثنى منها في الإتقان قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) [الأنبياء : ٤٤] الآية وهي مائة واثنتا عشرة آية في عد الكوفي وإحدى عشرة في عد الباقين كما قاله الطبرسي والداني ، ووجه اتصالها بما قبلها غني عن البيان ، وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة ؛ فقد أخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ) [الأنبياء : ١] إلى آخره.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ)(١٣)

٣

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) روي عن ابن عباس كما قال الإمام ، والقرطبي ، والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين ، وقال بعض الأجلة : إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس ، ووجه حسنه هاهنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعا وعرفا. ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيما بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق ، وقال بعضهم : إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست إلا على تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به ، ويمكن أن يحمل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جدا ، واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهي بمعنى إلى أو بمعنى من فإن اقترب افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بإلى وبمن ، واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدى القرب بهما ، وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلا من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذاأوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى إنهاء الغاية كالتي في قوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه ، وفي الكشف المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب اقترب من الناس لأن معنى الاختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى ، وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الاقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملاءمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من يجيء لذلك ، قال الشمني : وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقربت منه فإنه مساو لتقربت إليه ، ومما يشهد لذلك أن فعل الاقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى ، وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون الصلتان بمعنى فتحمل من على إلى في كون المراد بها الانتهاء وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملا على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدى بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة ؛ والمشهور أن (اقْتَرَبَ) بمعنى قرب كارتقب بمعنى رقب ، وحكي في البحر أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة ، ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أن يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الاقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى أن وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلاء إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء ، وأن الذي يرخي في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضا غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه هاهنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحا عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد.

وجوّز أن يكون الكلام مع المشركين السائلين عن زمانه الساعة المستعجلين لها استهزاء كما في قوله تعالى (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] فحينئذ يكون الإخبار عن الاقتراب على مقتضى الظاهر ، وإيثار بيان اقتراب الحساب على بيان اقتراب سائر وقوع مستتبعات البعث كفنون

٤

العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادي العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والاستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال.

وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة أن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه ، ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الاقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الاقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكما حتى أنه لو كان كل منهما متوجها إلى الآخر يصح إلى كل منهما ، وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه ، وقد صرح به أجلة المفسرين ، وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار الوجه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والاستقبال فكان الجدير أن يسند الاقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنوا إليهم.

وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى ، وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير والألمعي الخبير ، والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس‌سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة ، واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردي الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق معناه. نعم قد يفهم منه عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى هذا التوجيه وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الانصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له إذ الاقتراب بالمعنى المذكور أمر حدث بمضي الأكثر من مدة الدنيا وإن أراد أنه لا تعلق له بالمضي المستفاد منها فلا وجه له أيضا إذ الدلائل دلت على حصول هذا الاقتراب حين مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية.

ثم قال : فليت شعري ما معنى عدم تعلقه بما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الاقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الاستمرار والدوام ، ثم لا يخفى على أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر!. فتدبر ، وقيل المراد اقتراب ذلك عند الله تعالى ، وتعقب بأنه لا عند الله عزوجل إذ لا نسبة للكائنات إليه عزوجل بالقرب والبعد.

ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره ولا الدنو والاقتراب المعروف ، وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره.

وقال بعض الأفاضل : ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عزوجل مدنوا منه ومقربا إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى ، وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريبا من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال ، وعلى هذا يحمل قوله تعالى : (يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته

٥

واستكثاره فمن التسويلات الشيطانية وأن اللائق بأصحاب البصيرة أن يعدوا تلك المدة قصيرة فيشمروا الذيل ليوم يكشف فيه عن ساق ويكون إلى الله تعالى شأنه المساق ، وقول شيخ الإسلام في الاعتراض على ما قيل إنه لا سبيل أي اعتباره هاهنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث مبني على حمل القرب عنده تعالى على القرب إليه تعالى بمعنى حضور ذلك في علمه الأزلي فإنه الذي لا يجري فيه التفاوت حتما وأما قرب الأشياء بعضها إلى بعض زمانا أو مكانا فلا ريب أنه يتجدد تعلقات علمه سبحانه بذلك فيعلمه على ما هو عليه مع كون صفة العلم نفسها قديمة على ما تقرر في موضعه ا ه. واختار بعضهم أن المراد بالعندية ما سمعته أولا وهو معنى شائع في الاستعمال وجعل التجدد باعتبار التعلق كما قيل بذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ) [الكهف : ١٢] الآية ، وقيل المراد من اقترابه تحقق وقوعه لا محالة فإن كل آت قريب والبعيد ما وقع ومضى ولذا قيل :

فلا زال ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

ولا بد أن يراد من تحقق وقوعه تحققه في نفسه لا تحققه في العلم الأزلي ليغاير القول السابق. وبعض الأفاضل قال : إنه على هذا الوجه عدم تعلقه بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي إلا أن يصار إلى القول بتجرد الصيغة عن الدلالة على الحدوث كما في قولهم : سبحان من تقدس عن الأنداد وتنزه عن الأضداد فتأمل ولا تغفل.

وتقديم الجار والمجرور على الفاعل كما صرح به شيخ الإسلام للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب إلى المشركين من أول الأمر يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب ، واعترض بأن هؤلاء المشركين لا يحصل لهم الترويع والانزعاج لما ستسمع من غفلتهم وإعراضهم وعدم اعتدادهم بالآيات النازلة عليهم فكيف يتأتى تعجيل المساءة ، وأجيب بأن ذلك لا يقتضي أن لا يزعجهم الإنذار والتذكير ولا يروعهم التخويف والتحذير لجواز أن يختلج في ذهنهم احتمال الصدق ولو مرجوحا فيحصل لهم الخوف والاشقاق.

وأيد بما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) فاشفقوا فانظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به انتهى.

وقال بعضهم في بيان ذلك : إن الاقتراب منبئ عن التوجه والإقبال نحو شيء فإذا قيل اقترب أشعر أن هناك أمرا مقبلا على شيء طالبا له من غير دلالة على خصوصية المقترب منه فإذا قيل بعد ذلك (لِلنَّاسِ) دل على أن ذلك الأمر طالب لهم مقبل عليهم وهم هاربون منه فأفاد أن المقترب بما يسوؤهم فيحصل لهم الخوف والاضطراب قبل ذكر الحساب بخلاف ما إذا قيل اقترب الحساب للناس فإن كون إقبال الحساب نحوهم لا يفهم على ذلك التقدير إلا بعد ذكر للناس فتحقق فائدة التعجيل في التقديم مما لا شبهة فيه بل فيه فائدة زائدة وهي ذهاب الوهم في تعيين ذلك الأمر الهائل إلى كل مذهب إلى أن يذكر الفاعل ، ويمكن أيضا أن يقال في وجه تعجيل التهويل : إن جريان عادته الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنذار المشركين وتحذيرهم وبيان ما يزعجهم يدل على أن ما بين اقترابه منهم شيء سيئ هائل فإذا قدم الجار يحصل التخويف حيث يعلم من أول الأمر أن الكلام في حق المشركين الجاري عادته الكريمة عليه الصلاة والسلام على تحذيرهم بخلاف ما إذا قدم الفاعل حيث لا يعلم المقترب منه إلى أن يذكر الجار والمجرور والقرينة المذكورة لا تدل على تعيين المقترب كما تدل على تعيين المقترب إذ من المعلوم من عادته الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا تكلم في شأنهم يتكلم غالبا بما يسوؤهم لا أنه عليه الصلاة والسلام يتكلم في غالب أحواله بما يسوؤهم وفرق بين العادتين ، ولا يقدح

٦

في تمامية المرام توقف تحقق نكتة التقديم على ضم ضميمة العادة إذ يتم المراد بأن يكون للتقديم مدخل في حصول تلك النكتة بحيث لو فات التقديم لفاتت النكتة ، وقد عرفت أن الأمر كذلك وليس في كلام الشيخ قدس‌سره ما يدل على أن المسارعة المذكورة حاصلة من التقديم وحده كذا قيل. ولك أن تقول : التقديم لتعجيل التخويف ولا ينافي ذلك عدم حصوله كما لا ينافي عدم حصول التخويف كون إنزال الآيات للتخويف فافهم ، وجوز الزمخشري كون اللام تأكيدا لإضافة الحساب إليهم قال في الكشف : فالأصل اقترب حساب الناس لأن المقترب منه معلوم ثم اقترب للناس الحساب على أنه ظرف مستقر مقدم لا أنه يحتاج إلى مضاف مقدر حذف لأن المتأخر مفسر أي اقترب الحساب للناس الحساب كما زعم الطيبي وفي التقديم والتصريح باللام وتعريف الحساب مبالغات ليست في الأصل ثم اقترب للناس حسابهم فصارت اللام مؤكدة لمعنى الاختصاص الإضافي لا لمجرد التأكيد كما في لا أبا له وما ثني فيه الظرف من نحو فيك زيد راغب فيك انتهى.

وادّعى الزمخشري أن هذا الوجه أغرب بناء على أن فيه مبالغات ونكتا ليست في الوجه الأول وادّعى شيخ الإسلام أنه مع كونه تعسفا تاما بمعزل عما يقتضيه المقام ، وبحث فيه أيضا أبو حيان وغيره ومن الناس من انتصر له وذب عنه ، وبالجملة للعلماء في ذلك مناظرة عظمى ومعركة كبرى ، والأولى بعد كل حساب جعل اللام صلة الاقتراب هذا ، واستدل بالآية على ثبوت الحساب ، وذكر البيضاوي في تفسير قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أن المعتزلة والخوارج ينكرونه ويعضده ما ذكره الإمام النسفي في بعض مؤلفاته حيث قال : قالت المعتزلة لا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا حوض ولا شفاعة وكل موضع ذكر الله تعالى فيه الميزان أو الحساب أراد سبحانه به العدل انتهى. لكن المذكور في عامة المعتبرات الكلامية أن أكثرهم ينفي الصراط وجميعهم ينفي الميزان ولم يتعرض فيه لنفيهم الحساب ، والحق أن الحساب بمعنى المجازاة مما لا ينكره إلا المشركون (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي في غفلة عظيمة وجهالة فخيمة عنه ، وقيل الأولى التعميم أي في غفلة تامة وجهالة عامة من توحيده تعالى والإيمان بكتبه ورسله عليهم‌السلام ووقوع الحساب ووجود الثواب والعقاب وسائر ما جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم ، وذكر غفلتهم عن ذلك عقيب بيان اقتراب الحساب لا يقتضي قصر الغفلة عليه فإن وقوع تأسفهم وندامتهم وظهور أثر جهلهم وحماقتهم لما كان مما يقع في يوم الحساب كان سببا للتعقيب المذكور انتهى.

وقد يقال : إن ظاهر التعقيب يقتضي ذلك ، ومن غفل عن مجازاة الله تعالى له المراد من الحساب صدر منه كل ضلالة وركب متن كل جهالة والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا. لهم. وقوله سبحانه : (مُعْرِضُونَ) أي عن الآيات والنذر الناطقة بذلك الداعية إلى الإيمان به المنجي من المهالك خبر بعد خبر ، واجتماع الغفلة والإعراض على ما أشرنا إليه مما لا غبار عليه ، وللإشارة إلى تمكنهم في الغفلة التي هي منشأ الإعراض المستمر جيء بالكلام على ما سمعت ، والجملة في موضع الحال من الناس ، وقال الزمخشري : وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء ولذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا إلى آخر ما قال.

وحاصله يتضمن دفع التنافي بين الغفلة التي هي عدم التنبه والإعراض الذي يكون من المتنبه بأن الغفلة عن الحساب في أول أمرهم والإعراض بعد قرع عصا الإنذار أو بأن الغفلة عن الحساب والإعراض عن التفكر في عاقبتهم وأمر خاتمتهم ، وفي الكشف أراد أن حالهم المستمرة الغفلة عن مقتضى الأدلة العقلية ثم إذا عاضدتها الأدلة السمعية

٧

وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا ، وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفا منتقلا دالا على نوع تجدد ، ومنه يظهر ضعف الحمل على أن الظرفية حال من الضمير المستكن في (مُعْرِضُونَ) قدمت عليه انتهى.

ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بدّ من الجزاء لا يتسنى إلا على القول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار ، وقال بعض الأفاضل : يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله:

عطاء فتى تمكن في المعالي

وأعرض في المعالي واستطالا

وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها.

ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [سورة المؤمنون : ١٧] فلا تنافي بين الوصفين. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر ، و (مِنْ) سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية ، والقول بأنها تبعيضية بعيد ، (مِنْ) في قوله تعالى : و (مِنْ رَبِّهِمْ) لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر ، وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به ، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع (مُحْدَثٍ) بالجر صفة لذكر.

وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضا على المحل ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناء على وصفه بقوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) وقوله سبحانه : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول (يَأْتِيهِمْ) بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل ، وقال نجم الأئمة الرضي : إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكر ما فصار كالمضارع المثبت.

وجوّز أن يكون حالا من المفعول لأنه حامل لضميره أيضا والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر ، وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر ، وكلمة (إِلَّا) وإن كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) وقوله سبحانه : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو (يَلْعَبُونَ) فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزءين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه.

وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى «لاهية» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم ، والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى ، و (لاهِيَةً) من لهى عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذ سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح ، وفي الكشاف هي من لهى عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمفعول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفلة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوفقوا للإيمان وبقوا في غيابه الخزي والخذلان.

وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ

٨

عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢] وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهى الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح ، وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب (يَلْعَبُونَ) بذلك حينئذ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل ، والمراد بالحدوث الذي يستدعيه محدث التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم ، ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتباره نفسه وإن صح ذلك بناء على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعرة من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارا لا يزيدهم ذلك إلا فرارا ، وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقا كذلك ؛ والمراد من الحدوث التجدد ويقال : إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة ، والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم ، وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سمي ذكرا في قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق : ١٠ ، ١١] ويدل عليه هنا (هَلْ هذا) إلخ الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وفيه نظر ، وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم ، و (النَّجْوَى) اسم من التناجي ولا تكون إلا سرا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها ، ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم ، وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعا ، وقال أبو عبيدة : الإسرار من الأضداد ، ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق :

فلما رأى الحجاج جرد سيفه

أسر الحروري الذي كان أضمرا

وأنت تعلم أن الشائع في الاستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من ضمير (أَسَرُّوا) كما قال المبرد ، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه ، وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به ، وقال أبو عبيدة. والأخفش ، وغيرهما : هو فاعل (أَسَرُّوا) والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزد شنوءة قال شاعرهم : يلومونني في اشتراء النخيل أهلي وكلهم ألوم.

وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم ، وقال الكسائي : هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماما به ، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على ما فعلهم بكونه ظلما ، وقيل هو مبتدأ محذوف أي هم الذين ، وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرا ما يضمر ، واختاره النحاس ، وهو على هذه الأقوال في محل الرفع.

وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم ، وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتا (لِلنَّاسِ) كما قال أبو البقاء أو بدلا منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى ، وقوله تعالى : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته

٩

هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ما ذا قالوا في نجواهم؟ فقيل قالوا هذا إلخ أو بدل من (أَسَرُّوا) أو معطوف عليه ، وقيل حال أي قائلين هل هذا إلخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس ، وقيل مفعول للنجوى نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل ، وسيبويه ، وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث ، و (هَلْ) بمعنى النفي وليست للاستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان ، والهمزة في قوله تعالى : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وقوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للاستبعاد ، وأرادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر ، وعنوا بالسحر هاهنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أنّى يؤفكون ، وإنما أسروا ذلك لأنه على طريق توثيق العهد وترتيب مبادئ الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه؟ ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولا في قوله سبحانه : (أَفَتَأْتُونَ) السحر (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) حكاية من جهته تعالى لما قال عليه الصلاة والسلام بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ففاعل (قالَ) ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجملة بعده مفعوله ، وهذه القراءة قراءة حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير ، وقرأ باقي السبعة «قل» على الأمر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «القول» عام يشمل السر والجهر فإيثاره على السر لإثبات علمه سبحانه به على النهج البرهاني مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعا كما في علوم الحق.

وفي الكشف أن بين السر والقول عموما وخصوصا من وجه والمناسب في هذا المقام تعميم القول ليشمل جهره وسره والأخفى فيكون كأنه قيل يعلم هذا الضرب وما هو أعلى من ذلك وأدنى منه وفي ذلك من المبالغة في إحاطة علمه تعالى المناسبة لما حكى عنهم من المبالغة في الإخفاء ما فيه ؛ وإيثار السر على القول في بعض الآيات لنكتة تقتضيه هناك ولكل مقام مقال ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائنا في السماء والأرض ، وقوله سبحانه : (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي بجميع المسموعات (الْعَلِيمُ) أي بجميع المعلومات ، وقيل أي المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ويدخل في ذلك أقوالهم وأفعالهم دخولا أوليا اعتراض تذييلي مقدر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد بمجازاتهم على ما صدر منهم ، ويفهم من كلام البحر أن ما قبل متضمن ذلك أيضا (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب باطل أي لم يقتصروا على القول في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هذا إلا بشر مثلكم وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا هو أي القرآن تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا (بَلِ افْتَراهُ) من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم أضربوا فقالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، وهذا الاضطراب شأن المبطل المحجوج فإنه لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد ؛ فبل الأولى كما نرى من كلامه عزوجل وهي انتقالية والمنتقل منه ما تقدم باعتبار خصوصه والأخيرتان من كلامهم المحكي وهما ابطاليتان لترددهم وتحيرهم في تزويرهم وجملة المقول داخلة في النجوى.

١٠

ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر عن خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى ، وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل ، وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكي ولا مانع منه.

وجوز أن تكون الأولى من كلامهم وهي إبطالية أيضا متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه بأ فتأتون السحر ، ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل إلخ ليفيد حكاية إضرابهم ، وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه ، وقد أجيب أيضا بأنه إضراب في قولهم المحكي بالقول المقدر قبل قوله تعالى : (هَلْ هذا) إلخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضا وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عزوجل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث ، ويطلق على نحو هذا الإضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى أن الترقي في القبح تنزيل في الحقيقة ، ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال : إن من البيان لسحرا لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لا شبه لها بوجه بالنظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق ، ثم ادعاء أنها مع كونها تخاليط مفتريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة والسلام علم عندهم في الأمانة والصدق ، والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعا وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلا عن ذلك وبين محسنات الشعر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها ، ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الأجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الأشراف فأظهر وأظهر ، هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وإن أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة ا ه.

وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من الشعر لحكمة» لأنه باعتبار الندرة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه ، وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب : إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع ، وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة ، وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب ، وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فأثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ووهم ابن مالك في شرح الكافية فنفاه ، والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء ، وربما يقال : مراد ابن مالك بالمنفي الضرب الثاني ، ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر.

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من الله عزوجل كما يقول فليأتنا بآية (أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية : إنهم أنكروا أولا كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة وما كل خارق لها معجز فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندّعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده سلمنا أنه كلام فصيح لكنه لا يتجاوز فصاحة

١١

الشعر وإذا كان حال هذا المعجز هكذا فليأتنا بآية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كما أرسل الأولون انتهى وهو كما ترى.

وما موصولة في محل الجر بالكاف والجملة بعدها صلة والعائد محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لآية أي فليأتنا بآية التي أرسل بها الأولون ، ولا يضر فقد بعض شروط جواز حذف العائد المجرور بالحرف إذ لا اتفاق على اشتراط ذلك ، ومن اشترط اعتبر العائد المحذوف هنا منصوبا من باب الحذف والإيصال ، وهو مهيع واسع ، وأرادوا بالآية المشبه بها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الناقة والعصا ونحوهما ، وكان الظاهر أن يقال فليأتنا بما أتى به الأولون أو بمثل ما أتى به الأولون إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لدلالته على ما دل عليه مع زيادة كونه مرسلا به من الله عزوجل ، وفي التعبير في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإتيان والعدول عن الظاهر فيما بعده إيماء إلى أن ما أتى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنده وما أتى به الأولون من الله تبارك وتعالى ففيه تعريض مناسب لما قبله من الافتراء قاله الخفاجي وذكر أن ما قيل إن العدول عن كما أتى به الأولون لأن مرادهم اقتراح آية مثل آية موسى وآية عيسى عليهما‌السلام لا غيرهما مما أتى به سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن العلامة البيضاوي أشار إلى ذلك مما لا وجه له ، وجوز أن تكون ما مصدرية والكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث إن المراد مثل إتيان الأولين بها لأن إرسال الرسل عليهم‌السلام متضمن الإتيان المذكور كما في الكشاف ، وفي الكشف أنه يدل على أن قوله تعالى : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) كناية في هذا المقام ، وفائدة العدول بعد حسن الكناية تحقيق كونها آية مسلمة بمثلها تثبت الرسالة لا تنازع فيها ويترتب المقصود عليها ، والقول بأن الإرسال المشبه به مصدر المجهول ومعناه كونه مرسلا من الله تعالى بالآيات لا يسمن ولا يغني في توجيه التشبيه لأن ذلك مغاير للإتيان أيضا وإن لم ينفك عنه ، وقيل يجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال ، وفي جانب المشبه به ذكر الإتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر ، ولا يخفى بعده ، ثم إن الظاهر أن إقرارهم بإرسال الأولين ليس عن صميم الفؤاد بل هو امر اقتضاه اضطرابهم وتحيرهم ، وذكر بعض الأجلة أنّ مما يرجح الحمل على أن ما تقدم حكاية أقوالهم المضطربة هذه الحكاية لأنهم منعوا أولا أن يكون الرسول بشرا وبتوا القول به وبنوا ما بنوا ثم سلموا أن الأولين كانوا ذوي آيات وطالبوه عليه الصلاة والسلام بالإتيان بنحو ما أتوا به منها ، وعلى وجه التنزيل لأقوالهم على درج الفساد يحمل هذا على أنه تنزل منهم ، والعدول إلى الكناية لتحقيق تنزله عن شأوهم انتهى فتأمل ولا تغفل.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما ينبئ عنه خاتمة مقالهم من الوعد الضمني بالإيمان عند إتيان الآية المقترحة وبيان أنهم في اقتراح ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه وإن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوه مع عدم إيمانهم قطعا لاستئصلوا لجريان سنة الله تعالى شأنه في الأمم السالفة على استئصال المقترحين منهم إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا وقد سبقت كلمته سبحانه أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، وهذا أولى مما قيل إنهم لما طعنوا في القرآن وأنه معجزة وبالغوا في ذلك حتى أخذوا من قوله تعالى : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) إلى أن انتهوا إلى قوله سبحانه : (فَلْيَأْتِنا) إلخ جيء بقوله عزوجل : (ما آمَنَتْ) إلخ تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن الإنذار لا يجدي فيهم.

وأيّا ما كان فقوله سبحانه : (مِنْ قَرْيَةٍ) على حذف المضاف أي من أهل قرية ، ومن مزيدة لتأكيد العموم وما

١٢

بعدها في محل الرافع على الفاعلية ، وقوله سبحانه : (أَهْلَكْناها) في محل جر أو رفع صفة قرية ، والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات ، وقيل القرية مجاز عن أهلها فلا حاجة إلى تقدير المضاف.

واعترض بأن (أَهْلَكْناها) يأباه والاستخدام وإن كثر في الكلام خلاف الظاهر ، وقال بعضهم : لك أن تقول إن هلاكها كناية عن إهلاك أهلها وما ذكر أولا أولى ، والهمزة في قوله سبحانه : (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لإنكار الوقوع والفاء للعطف أما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم يؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات هم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوه أي مع أنهم أعتى وأطغى كما يفهم بمعونة السياق والعدول عن فهم لا يؤمنون أيضا وأما على (ما آمَنَتْ) على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الاعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة ، وقوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) جواب لما زعموه من أن الرسول لا يكون إلا ملكا المشار إليه بقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم الذي بنوا عليه ما بنوا فهو متعلق بذلك وقدم عليه جواب قولهم : (فَلْيَأْتِنا) لأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم ، وقوله تعالى : (نُوحِي إِلَيْهِمْ) استئناف مبين لكيفية الإرسال ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه ، والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا لا ملائكة نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقيقة مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وإن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم فيقولون ما يقولون ، وقال بعض الأفاضل : إن الجملة في محل النصب صفة مادحة لرجالا وهو الذي يقتضيه النظم الجليل ، وقرأ الجمهور «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل ، وقوله تعالى :

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة ، وأما الوقوف عليها بالسؤال من الغير فهو من وظائف العوام وأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسؤال في بعض الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسئول عنه لأمر آخر ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وأهل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما ، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم. أمروا بذلك لأن أخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة والسلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى ، وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن ، ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم ، ويرد ذلك على ما زعمته الإمامية من أنهم آله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم الكلام في ذلك.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) بيان لكون الرسل عليهم‌السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك ، وقال الراغب : هو كالجسم إلا أنه أخص منه ، قال الخليل : لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ، وأيضا فإن الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون

١٣

كالهواء والماء (١) ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) إلخ يشهد لما قاله الخليل انتهى ، وقيل : هو جسم ذو تركيب وظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به ؛ وقال بعضهم : هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أي التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصق بعضها ببعض ، ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلا غاية ما يدعي أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلك فلا تغفل ، ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل ، والمراد تصييره كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ، وأما حال من الضمير والجعل إبداعي وأفراده لإعادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره ، وقيل : لإرادة الاستغراق الأفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم ؛ وقيل : هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد ، وفي التسهيل أنه يستغني بتثنية المضاف وجمعه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الإعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس.

وقوله تعالى (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) صفة (جَسَداً) أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الغذاء بل محتاجا إليه (وَما كانُوا خالِدِينَ) أي باقين أبدا ، وجوّز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد ، واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشرا لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد ، والظاهر هم يعتقدون أيضا في الملائكة عليهم‌السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولا مجردة ، وحاصل المعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون ، وقيل : الجملة رد على قوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] إلخ والأول أولى ، نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك. وفي إيثار (وَما كانُوا) على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) إلخ لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمرا غريبا وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل :

ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى

وعرج على الباقي وسائله لم بقي

بل لا يبعد أن تكون الممكنات مطلقا كذلك فقد قالوا : إن الممكن إذا خلي وذاته يكون معدوما إذا العدم لا يحتاج إلى علة وتأثير بخلاف الوجود ؛ ولا يلزم على هذا أن يكون العدم مقتضى الذات حتى يصير ممتنعا إذ مرجع ذلك إلى أولوية العدم وأليقيته بالنسبة إلى الذات ، ويشير إلى ذلك ما قيل قول أبي علي في الهيئات الشفاء للمعلول في نفسه أن يكون ليس وله عن علته أن يكون آيسا ، وقولهم باستواء طرفي الممكن بالنظر إلى ذاته معناه استواؤه في عدم وجوب واحد منهما بالنظر إلى ذاته ، وقولهم علة العدم علة الوجود بمعنى أن العدم لا يحتاج إلى تأثير وجعل بل يكفيه انعدام العلة لا أن عدم العلة مؤثرة في عدم المعلول ولعل في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن إشارة إلى هذا فتدبر ، وقوله تعالى : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) قيل : عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الاستمرار التجددي كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم ، وقيل : على (نُوحِي) السابق بمعنى أوحينا ، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتماما بإلزامهم والرد عليهم ؛ وقال الخفاجي : هو عطف على قوله تعالى : (أَرْسَلْنا) وثم للتراخي الذكري أي أرسلنا رسلا من البشر

__________________

(١) قال الرازي : له لون ولا يحجب ما وراءه اه منه.

١٤

وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى ، وفيه تأمل ، ونصب (الْوَعْدَ) على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره ، وقيل : على أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلا.

(فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي من المؤمنين بهم كما عليه جماعة من المفسرين ، وقيل منهم ومن غيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية الذين كذبوه وآذوهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من عذاب الاستئصال ، ورجح ما عليه الجماعة بالمقابلة بقوله تعالى : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وذلك لحمل التعريف على الاستغراق والمسرفين على الكفار مطلقا لقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٤٣] بناء على أن المراد بأصحاب النار ملازموها والمخلدون فيها ولا يخلد فيها عندنا إلا الكفار ، ومن عمم أولا قال : المراد بالمسرفين من عدا أولئك المنجين ، والتعبير بمن نشاء دون من آمن أو من معهم مثلا ظاهر في أن المراد بذلك المؤمنون وآخرون معهم ولا يظهر على التخصيص وجه العدول عما ذكر إلى ما في النظم الكريم والتعبير بنشاء مع أن الظاهر شئنا لحكاية الحال الماضية ، وقوله سبحانه : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقيقة القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به واضطرابهم في أمره وبيان علو مرتبته إثر تحقيق رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير والخطاب لقريش.

وجوّز أن يكون لجميع العرب وتنوين كتابا للتعظيم والتفخيم أي كتابا عظيم الشأن نير البرهان ، وقوله عزوجل : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل القدر بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة والمراد بالذكر كما أخرج البيهقي في شعب الإيمان وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس الصيت والشرف مجاز أي فيه ما يوجب الشرف لكم لأنه بلسانكم ومنزل على نبي منكم تتشرفون بشرفه وتشتهرون بشهرته لأنكم حملته والمرجع في حل معاقده وجعل ذلك فيه مبالغة في سببيته له ، وعن سفيان أنه مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أي فيه ما يحصل به الذكر أي الثناء الحسن وحسن الأحدوثة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال إطلاقا لاسم المسبب على السبب فهو مجاز عن ذلك أيضا.

وأخرج غير واحد عن الحسن أن المراد فيه ما تحتاجون إليه في أمور دينكم ، وزاد بعض ودنياكم ، وقيل الذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول ، والمعنى فيه موعظتكم ، ورجح ذلك بأنه الأنسب بسياق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتدبر فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة.

وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر قبائحكم ومثالبكم وما عاملتم به أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام من التكذيب والعناد. وقوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إنكار عليهم في عدم تفكرهم مؤد إلى التنبه عن سنة الغفلة انتهى ، وفيه بعد ، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر ، وقوله عزوجل: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وبيان لكيفية إهلاكهم وتنبيه على كثرتهم فكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول ل (قَصَمْنا) ومن (قَرْيَةٍ) تمييز ، وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها بالكلية كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة

١٥

السخط ما لا يخفى ، وقوله تعالى : (كانَتْ ظالِمَةً) صفة (قَرْيَةٍ) وكان الأصل على ما قيل أهل قرية ينبئ عنه الضمير الآتي إن شاء الله تعالى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فوصف بما هو من صفات المضاف أعني الظلم فكأنه قيل وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها مثلكم.

وفي الكشاف المراد بالقرية أهلها ولذلك وصفت بالظلم فيكون التجور في الطرف ، وقال بعضهم : لك أن تقول وصفها بذلك على الإسناد المجازي وقوله : (قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) كناية عن قصم أهلها للزوم إهلاكها إهلاكهم فلا مجاز ولا حذف ، وأيا ما كان فليسر المراد قرية معينة ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن الكلبي أنها حضور قرية باليمن ، وأخرج ابن مردويه من طريقه عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال بعث الله تعالى نبيا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء وفيهم أنزل الله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا) إلخ ؛ وفي البحر أن هؤلاء كانوا بحضور وأن الله تعالى بعث إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشا فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم وقتلهم ، وعن بعضهم أنه كان اسم هذا النبي موسى بن ميشا ، وعن ابن وهب أن الآية في قريتين باليمن إحداهما حضور والأخرى قلابة بطر أهلهما فأهلكهم الله تعالى على يد بختنصر ، ولا يخفى أنه مما يأباه ظاهر الآية والقول بأنها من قبيل قولك كم أخذت من دارهم زيد على أن الجار متعلق بأخذت والتمييز محذوف أي كم درهم أخذت من دراهم زيد ، ويقال هنا إنها بتقدير كم ساكن قصمنا من ساكني قرية أو نحو ذلك مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إلا بالرد عليه ، فلعل ما في الروايات محمول على سبيل التمثيل ، ومثل ذلك غير قليل ، وفي قوله سبحانه : (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) أي بعد هلاك أهلها لا بعد تلك الفعلة كما توهم (قَوْماً آخَرِينَ) أي ليسوا منهم في شيء تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادي إهلاك أولئك بقوله سبحانه : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) فضمير الجمع للأهل لا لقوم آخرين إذ لا ذنب لهم يقتضي ما تضمنه هذا الكلام ، والإحساس الإدراك بالحاسة أي فلما أدركوا بحاستهم عذابنا الشديد ، ولعل ذلك العذاب كان مما يدرك بإحدى الحواس الظاهرة. وجوز أن يكون في البأس استعارة مكنية ويكون الإحساس تخييلا وأن يكون الإحساس مجازا عن مطلق الإدراك أي فلما أدركوا ذلك (إِذا هُمْ مِنْها) أي من القرية فمن ابتدائية أو من البأس والتأنيث لأنه في معنى النقمة والبأساء فمن تعليلية وهي على الاحتمالين متعلقة بقوله تعالى : (يَرْكُضُونَ) وإذا فجائية ، والجملة جواب لما ، وركض من باب قتل بمعنى ضرب الدابة برجله وهو متعد ، وقد يراد لازما كركض الفرس بمعنى جرى كما قاله أبو زيد ولا عبرة بمن أنكره ، والركض هنا كناية عن الهرب أي فإذا هم يهربون مسرعين راكضين دوابهم.

وجوّز أن يكون المعنى مشبهين بمن يركض الدواب على أن هناك استعارة تبعية ولا مانع من حمل الكلام على حقيقته على ما قيل (لا تَرْكُضُوا) أي قيل لهم ذلك ، والقائل يحتمل أن يكون ملائكة العذاب أو من كان ثمة من المؤمنين قالوا على سبيل الهزء بهم ، وقال ابن عطية : يحتمل على الرواية السالفة أن يكون القائل من جيش بختنصر وأراد بذلك خدعهم والاستهزاء بهم ، وقيل يحتمل أن يكون المراد يجعلون خلقا ، بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل على معنى أنهم بلغوا في الركض والفرار من العذاب بعد الإتراف والتنعيم بحيث من رآهم قال لا تركضوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من النعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة وفي ظرفية ، وجوز كونها سببية (وَمَساكِنِكُمْ) التي كنتم تفتخرون بها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل أو تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومنازلكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة أو يسألكم حشمكم وعبيدكم فيقولوا لكم بم تأمرون ما ذا

١٦

ترسمون وكيف نأتي ونذر كما كنتم من قبل أو يسألكم الوافدون نوالكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالكم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم ، وقيل على الرواية المتقدمة المعنى لعلكم تسألون صلحا أو جزية أو أمرا تتفقون مع الملك عليه ، وقيل المراد بمساكنهم النار فيكون المراد بارجعوا إلى مساكنكم ادخلوا النار تهكما ، والمراد بالسؤال عن الأعمال أو المراد به العذاب على سبيل المجاز المرسل بذكر السبب وإرادة المسبب أي ادخلوا النار كي تسألوا أو تعذبوا على ظلمكم وتكذيبكم بآيات الله تعالى وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٤)

(قالُوا) لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا استيلاء العذاب (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بآيات الله تعالى مستوجبين للعذاب ، وهذا اعتراف منهم بالظلم واستتباعه للعذاب وندم عليه حين لا ينفعهم ذلك ، وقيل على الرواية السالفة إن هذا الندم والاعتراف كان منهم حين أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة ، وتسميتها دعوى بمعنى الدعوة فإنه يقال دعا دعوى ودعوة لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلا يا ويل تعال فهذا أوانك.

وجوّز الحوفي والزمخشري وأبو البقاء كون (تِلْكَ) اسم زال و (دَعْواهُمْ) خبرها والعكس ، قال أبو حيان : وقد قال ذلك قبلهم الزجاج وأما أصحابنا المتأخرون فعلى أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول فكما لا يجوز في الفاعل والمفعول التقدم والتأخر إذا أوقع ذلك في اللبس لعدم ظهور الإعراب لا يجوز في باب كان ولم ينازع فيه أحد إلا أبو العباس أحمد بن الحاج من نبهاء تلاميذ الشلوبين اه.

وقال الفاضل الخفاجي : إن ما ذكره ابن الحاج في كتاب المدخل أنه ليس فيه التباس وأنه من عدم الفرق بين الالتباس وهو أن يفهم منه خلاف المراد والإجمال وهو أن لا يتعين فيه أحد الجانبين. ولأجل هذا جوزه ، وما ذكره محل كلام وتدبر.

وفي حواشي الفاضل البهلوان على تفسير البيضاوي إن هذا في الفاعل والمفعول وفي المبتدأ والخبر إذا انتفى الإعراب ، والقرينة مسلم مصرح به ، وأما في باب كان وأخواتها فغير مسلم ا ه.

والظاهر أنه لا فرق بين باب كان وغيرها مما ذكر وإن سلم عدم التصريح لاشتراك ما ذكروه علة للمنع ثم إن ذلك إلى الالتباس أقرب منه إلى الإجمال لا سيما في الآية في رأي فافهم (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي إلى

١٧

أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في شرح المفتاح (١) ثم قال في ذلك استعارتان بالكناية بلفظ واحد وهو ضمير (جَعَلْناهُمْ) حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاء بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو خواص النار ، ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع (خامِدِينَ) جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلا فإنه يجعل بمنزلة هم كقوم صم وكذا يعتبر (حَصِيداً) بمعنى محصودين على استواء الجمع الواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلائم (خامِدِينَ) نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى ، وكذا في شرح المفتاح للسيد السند بيد أنه جوّز أن يجعل (حَصِيداً) فقط من باب التشبيه بناء على ما في الكشاف أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد ، وجعل غير واحد أفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلا لكونه مصدرا في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى ، واعترض على قول الشارحين : إذ ليس لنا إلخ بأن فيه بحثا مع أن مدار ما ذكراه من كون (خامِدُونَ) لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيها ، وقد صرح به الشريف في حواشيه لكنه محل تردد لأنه لما صح الحمل في التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولولاه لما صحت الاستعارة أيضا وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك و (خامِدُونَ) مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلوا حامضا ، والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد والخامد أو لمماثلة الحصيد الخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يراد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل هنا وهو مما ينصب مفعولين أو حال من الضمير المنصوب في (جَعَلْناهُمْ) أو من المستكن في (حَصِيداً) أو هو صفة لحصيدا وهو متعدد معنى ، واعترض بعضهم بأن كونه صفة له. مع كونه تشبيها أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب كما تسوي الجبابرة سقوفهم فرشهم وسائر زخارفهم للهو واللعب وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية كأن تكون سببا للاعتبار ودليلا للمعرفة مع منافع لا تحصى وحكم لا تستقصى ، وحاصله ما خلقنا ذلك خاليا عن الحكم والمصالح إلا أنه عبر عن ذلك باللعب وهو كما قال الراغب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه ، وهذا الكلام على ما قيل إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكي من العذاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه مع التخلص إلى وعيد المخاطبين ، وفي الكشف أن الآيات لإثبات أمر النبوة ونفي تلك المطاعن السابقة على ما ذكره الإمام وهو الحق لأنه قد تكرر في الكتاب العزيز أن الحكمة في خلق السماء والأرض وما بينهما العبادة والمعرفة وجزاء من قام بهما ومن لم يقم ولن يتم ذلك إلا بإنزال الكتاب وإرسال الرسل عليهم‌السلام ، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعبا تعالى خالقهما

__________________

(١) إلا أنه جعل ذلك في أهل حضور ا ه.

١٨

وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علوا كبيرا ، ومنكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وفساد تلك المطاعن كلها.

وقوله سبحانه : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما ، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنا بالغا انتهى ، وقال الزمخشري : (مِنْ لَدُنَّا) أي من جهة قدرتنا ، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه ، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين ، وقد فسره به أيضا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة ، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعا ذاتيا والممتنع لا يصلح متعلقا للقدرة ، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافى أن يفعل فعلا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيا به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى.

والحق عندي أن العبث لكونه نقصا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عزوجل ، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي : إن مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع إنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فلذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه ولا واجب عليه عزوجل ، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم كالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فلذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى.

ومن أنكر أن كون العبث نقصا كالكذب فقد كابر عقله ، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب الوجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة ، ولعله حينئذ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناء على استلزامه محالا بعد صدور موجبه اختيارا لا مطلقا ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلا ، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم.

وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى.

ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة ، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تبادرا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى ، وقال الإمام الواحدي : اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه ، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولدا ذا لهو

١٩

لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الزمر : ٤] وقال المفسرون : أي من الحور العين ، ولهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه‌السلام ولدا وكونها صاحبة ، ومعنى (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى.

وتفسير اللهو هنا بالولد مروي عن ابن عباس والسدي ، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت ، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه ، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع وأنشد قول امرئ القيس :

الا زعمت بسباسة اليوم أنني

كبرت وان لا يحسن اللهو أمثالي

والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولا لقوله تعالى : (وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ولأن نفي الولد سيجيء مصرحا إن شاء الله تعالى ، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا ، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قيل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن وقتادة وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجيء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل ، وقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو ، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شئونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد ، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان ، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره ، والعموم هو الأولى ، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل.

(فَيَدْمَغُهُ) أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة ، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق.

وجوّز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه ، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان ، وجوز أيضا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجيء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل ، ولعل القول بالتمثيل أمثل ، وقرأ عيسى بن عمر «فيدمغه» بالنصب ، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فاستريحا

على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف ، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقبل وهو يشبه التمني في الترقب ، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل ، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء ، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به.

وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنا وماء باردا صح ، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل القذف فالدمغ ، وقرئ «فيدمغه» بضم الميم والغين (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة

٢٠