روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

عنقه ، ويقال لها : جامعة أيضا ، وقال الرماني ، وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر ، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل ، ومن ذلك الغل للحقد ، والغليل لحرارة العطش ، والغلالة للشغار ، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد فقد حكى الواحدي عن الكلبي ، ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذ طلبا للغنيمة قالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم لكم» ولهذا نزلت الآية ، أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها ، والرواية الأولى أوفق بالمقام ، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، والرواية الثانية أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن ، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلول ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلائع فغنم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية ، فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية ، وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية ، أو تعظيما لشأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على حدّ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] خوطب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد النهي عنه ـ ولا يخفى بعده ـ والصيغة على الاحتمال الأول إخبار لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب ، وقد وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧](ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣](وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] وكذا للامتناع العقلي كقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] و (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب ـ أن يغل ـ على صيغة البناء للمفعول ، وفي توجيهها ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت :

وطائفة قد «أكفرتني» بحبكم

وطائفة قالت مسيء ومذنب

والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول ، وثانيها أن يكون من أغللته إذا وجدته غالا كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالا ، وثالثها أنه من غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أي يخونه ويسرق من غنيمته ، ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى كذا قيل ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بما ذكر بعد الالتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد.

ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية ، ولا يخفى أنه بعيد جدا ـ ولا أدري كيف سند هذه الرواية ـ ولا أظن الخبر إلا موضوعا ، ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهو جملة

٣٢١

شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، و ـ ما ـ موصولة والعائد محذوف أي بالذي غله ، وجوز أن تكون حالا ويكون التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول ، وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره ، فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك» والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على رءوس الأشهاد زيادة في عقوبته ، وإلى هذا ذهب الجبائي ، ولا مانع من ذلك عقلا.

والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديما فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له : أرأيت قول الله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها؟! قال : أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا ، وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار ، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لو كنت مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم ، وقيل : الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما احتمل من وباله وإثمه ـ واختاره البلخي ـ وقال : يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له وله صوت ، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل.

وقيل : إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقي القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك.

وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال : إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك ، وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل ، وجواب أبي هريرة لا يأباه ، وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون : إنه يلقى من غير تعذيب ، وبتقديره لا محذور أيضا فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] فيضعهم فيها ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على القول بإلقائه (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا ، ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه ، وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم

٣٢٢

القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة ، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى ، وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله ؛ وقيل : يحتمل أن يكون المراد ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة (ثُمَ) للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه ، أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس ، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك المتعال ، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر (ثُمَ) عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني ، أو التراخي الرتبي.

أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير.

وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد ، والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية (وَهُمْ) أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه (كَمَنْ باءَ) أي رجع (بِسَخَطٍ) أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر قياسي ، ويقال : بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله ، وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط. (مِنَ اللهِ) أي كائن منه تعالى.

وفي المراد من الآية أقوال : أحدها أن المعنى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) تعالى في العمل بالطاعة (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ) منه سبحانه في العمل بالمعصية ـ وهو المروي عن ابن إسحاق ـ ثانيها أن معناه (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) تعالى بفعل الغلول ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام ، ثالثها أن المراد (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) تعالى بالجهاد في سبيله (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ) منه جل جلاله في الفرار عنه ، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج ، قيل : وهو المطابق لما حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية ـ وفيه بعد ـ وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مصيره ذلك ، وفي الجملة احتمالان ، الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر ، وقيل : لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فافهم ، والثاني أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على (باءَ بِسَخَطٍ) عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية ، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إما تذييل ، أو اعتراض ، أو معطوف على الصلة بتقدير ، ويقال : في حقهم ذلك ، وأيّا ما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم ، و (الْمَصِيرُ) اسم مكان ، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا ، والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك : مرجع ابن آدم إلى التراب ، وأما قولهم مرجع

٣٢٣

العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما ملكوا (هُمْ) عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (دَرَجاتٌ) خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا للملزوم على اللازم ، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة ، وقيل : إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي (هُمْ) ذوو درجات أي منازل ، أو أحوال متفاوتة ، وهذا معنى قول مجاهد والسدي : لهم درجات ، وذهب بعضهم أن في الآية حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول ، والثاني للثاني (عِنْدَ اللهِ) أي في علمه وحكمه ، والظرف متعلق بدرجات على المعنى ، أو بمحذوف وقع صفة لها.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها ـ والبصير ـ كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان ، فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات انتهى ، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم ـ وهو الذي ذهب إليه الجمهور منا ، ومن المعتزلة والكرامية قالوا : لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين الحالتين بالبديهة ، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار.

وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات ، ومثل هذا الخلاف في السمع ، والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه ، وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم وتفضل ، وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الاعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها ، والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنس ـ وخير الثلاثة الوسط ـ وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها : فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة ـ والأول خير من الثالث ـ وأيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري : المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ) أي بينهم (رَسُولاً) عظيم القدر جليل الشأن (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا و (إِذْ) ظرف ـ لمن ـ وهو وإن كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم المحققين ، والجار إما متعلق ب «بعث» أو بمحذوف وقع صفة ـ لرسولا ـ والامتنان بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف نوع بني آدم ، وإما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتخصيص المؤمنين بالامتنان مع عموم نعمة البعثة كما يدل عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] لمزيد انتفاعهم على اختلاف الأقوال فيهم بها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وقرئ ـ «لمن منّ الله» ـ بمن الجارة ومنّ المشددة النون على أنه خبر لمبتدإ محذوف مثل منه أو بعثه وحذف لقيام الدلالة ، وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن منّ الله تعالى على المؤمنين وقت

٣٢٤

بعثه ، ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون (إِذْ) مبتدأ والجار والمجرور خبرا «وقد اعترض ذلك» بأنه لم يعلم أن أحدا من النحويين قال بوقوع (إِذْ) كذلك ، وما في المثال إذا لا إذ ، وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا ، وإنما جوزوا فيها وجهين : النصب على أن الخبر محذوف وهي سادّة مسدّه. والرفع على أنها هي الخبر ، وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب في حال القيام لا كونه ، وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه الأول هو المشهور ، وجوز الثاني عبد القاهر تمسكا بقول بعضهم : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ على إذا والمبتدأ على الخبر.

وانتصر بعضهم للزمخشري ، بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به ، وبدلا من المفعول وهذا في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها ، ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الإقدام عليها من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه ، نعم حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه ارتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناء على ما ذكرنا بلا خفاء وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد ثبوت المفعولية ولا على الابتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا إلا بورود سماع في ذلك ، ففي صحة كلام الزمخشري تردد بيّن لأن مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع (إِذْ) مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا يخفى ، وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن.

وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان ، ثم قال : فلو قال شخص : أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن ، أولا أدري هل هو من العرب أو العجم؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام ـ ولا أعلم في ذلك خلافا ـ فلو كان غبيا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى ، وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة؟ فيه تأمل ، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوفا متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية ، أو من خبائث الاعتقادات الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين ، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين ، أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراء ـ ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد تقدم الكلام في ذلك.

وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة

٣٢٥

للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٢٩] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن ـ بالآيات ـ تارة ـ وبالكتاب والحكمة ـ أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقد يقال : المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين ، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى ، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذل كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان ، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثة الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر (وَإِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة ، والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ.

وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وذكر مثله مكي إلا أنه قال : التقدير وأنهم كانوا من قبل فجعل اسمها ضميرا عائدا على المؤمنين ، قال أبو حيان : وكلا الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت. فمذهب البصريين فيها وجهان : أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة ـ إلا أنها لا تعمل في مضمر ، ومنع ذلك الكوفيون ـ وهم محجوبون بالسماع الثابت من لسان العرب ـ والوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر ، فتقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم ، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء ، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم.

وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب ، وقال عصام الملة : إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر ، ثم قال : وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى ، وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر ، وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل ـ أن ـ لا بعدها كما لا يخفى ، وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، والأكثرون على الحالية ، وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها ، وقوله تعالى :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ

٣٢٦

لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٧)

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر ، والهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ، و (لَمَّا) ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة في الشرط ـ كما ذهب إليه الفارسي ـ وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها (قُلْتُمْ) وهو الجزاء (قَدْ أَصَبْتُمْ) في محل الرفع على أنه صفة ـ لمصيبة ـ وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغنى عنه ، والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم ـ وبمثليها ـ ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين ، وجعل ذلك مثلين يجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضي الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة.

وقيل : المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا يوم أحد أول الأمر ، وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز ، و (أَنَّى هذا) جملة اسمية مقدمة الخبر ، والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول ، وقيل : (أَنَّى) منصوبة على الظرفية ـ لأصابنا ـ المقدر ، و (هذا) فاعل له ، والجملة مقول قلتم ، وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل ، والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك رجعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله تعالى وفينا رسوله ، وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قد وعدنا الله تعالى النصر؟ ـ وإليه ذهب الجبائي ـ وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم

٣٢٧

في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة ، أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم (أَنَّى هذا) وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها ، وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالا لا ينبغي أن يقولوها.

وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) [آل عمران : ١٥٢] إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيدا كما ادعاه أبو حيان ، والهمزة حينئذ متخللة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم (قُلْتُمْ أَنَّى هذا).

والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير ، والواو أصلها التقديم ، وهو مذهب سيبويه وغيره ، والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في البحر ، وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع ، وتذكير اسم الإشارة في (أَنَّى هذا) مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة ، وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل : جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة ، يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد ، لكن صرح بجواب آخر يبرئ العليل ويشفي الغليل وتطأطئ منه الرءوس فقال سبحانه : (قُلْ) يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد (هُوَ) أي هذا الذي أصابكم كائن (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك ـ قاله عكرمة ـ أو حيث إنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر ، وعزي هذا إلى الحسن ، ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي ، وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر ، أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره.

وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون : «إنا في جنة حصينة ـ يعني بذلك المدينة ـ فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار : إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له : أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له : إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا : يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال : سترونها» واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي

٣٢٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان بمن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ ، وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة؟ وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطا بما يعلم الله تعالى عدم حصوله ، وبأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلا إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن لبس لأمّته : «وإنه سيكون فيكم مصيبة» وقوله في جواب الاستفهام عنها : «خاصة أو عامة»؟ «سترونها» فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الاختيار نزول القضاء ، وبأن الخطاب في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ليس نصا في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة : أنتم قتلتم فلانا والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب ، ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الانحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال : إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سببا في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال.

هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) بالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم ، فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج ، وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة ، وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر ، وقيل : المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي إنه سبحانه قادر على نصرتكم بعد لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناء بشأن التطييب وإرشادا لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبيانا لبعض ما فيه من الحكم ورفعا لما عسى أن يتوهم من الجواب من استقلالهم في وقوع الحادثة رجع إلى خطابهم برفع الواسطة وجواب سؤالهم بأبسط عبارة فقال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ) أيها المؤمنون من النكبة بقتل من قتل منكم (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي جمعكم وجمع أعدائكم المشركين ، والمراد بذلك اليوم يوم أحد ، وقول بعضهم ـ لا يبعد أن يراد به يوم أحد ، ويوم بدر ـ بعيد جدا (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته ، وقيل : بتخليته ؛ (وَما) اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء ، وجملة (أَصابَكُمْ) صلته ـ وبإذن الله ـ خبره.

والمراد بإذن الله يكون ويحصل ، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط ، ووجه السببية ليس بظاهر إذ الإصابة ليست سببا للإرادة ولا للتخلية بل الأمر بالعكس فهو من قبيل (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] أي ذلك سبب للإخبار بكونه من الله لأن قيد الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطالب وكذا الإخبار ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، وادعى السمين أن في الكلام إضمارا أي فهو بإذن الله ، ودخول الفاء لما تقدم ثم قال : وهذا مشكل على ما قرره الجمهور لأنه لا يجوز عندهم دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط ، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط ، والشرط إنما يكون في الاستقبال لا في الماضي ، فلو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم لم يصح ، و (أَصابَكُمْ) هنا ماض معنى كما أنه ماض لفظا لأن القصة ماضية فكيف جاز دخول

٣٢٩

هذه الفاء وأجابوا عنه بأنه يحمل على التبين أي وما يتبين إصابته إياكم فهو بإذن الله كما تأولوا (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) [يوسف ٢٧] بذلك ، ثم قال : وإذا صح هذا التأويل فليجعل (ما) هنا شرطا صريحا وتكون الفاء داخلة وجوبا لكونها واقعة جوابا للشرط انتهى ، ولا يخفى ما فيه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على بإذن الله ـ من عطف السبب على المسبب ، والمراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) كعبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وهذا عطف على ما قبله من مثله ، وإعادة الفعل إما للاعتناء بهذه العلة ، أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق ، وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر ـ كما قال شيخ الإسلام ـ في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا مؤذن بأن ذلك كان نفاقا خاصا أظهروه في ذلك المقام.

وقيل : ابتداء كلام معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة ، ووجهه أنه جل شأنه لما ذكر أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم فيما تقدم من الآيات وبين أن الدائرة إنما كانت للابتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله تعالى من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة ، وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام ، والنفاق على هذا مطلق متعارف ، وجوز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الاعتراض للتنبيه على كيفية ظهور نفاقهم ، أو عدم ثباتهم على الإيمان.

وعلى كل تقدير القائل إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وإليه ذهب الأصم ـ وإما عبد الله بن عمرو ابن حرام من بني سلمة ـ وإليه ذهب الأكثر ـ ومقول القول قوله تعالى : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) قال السدي وابن جريج : (أَوِ ادْفَعُوا) عنا العدو بتكثير السواد ، وهو المروي عن ابن عباس ، وقيل : إنهم خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو لدفع الكفار عن أنفسهم وأموالهم أو بين الأول وبين دفع المؤمنين عن ذلك كأنه قيل : قاتلوا لله تعالى أو للنفاق الدافع عن أنفسكم وأموالكم ، وترك العاطف الفاء أو الواو بين (تَعالَوْا) و (قاتِلُوا) لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني ، وذكر الأول توطئة له وترغيبا فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون ، وقيل : ترك العاطف للإشارة إلى أن كل واحد من الجملتين مقصود بنفسه ، وقيل : الأمر الثاني حال ولا يخفى بعده (قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل فما صنعوا حين قيل لهم ذلك؟ فقيل قالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أي لو كنا نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن شهاب ، وقيل : أرادوا إنا لا نحسن القتال ولا نقدر عليه لأن العلم بالفعل الاختياري من لوازم القدرة عليه فعبر بنفيه عن نفيها ، ويحتمل أنهم جعلوا نفي علم القتال كناية عن أن ما هم فيه ليس قتالا بناء على نفي العلم بنفي المعلوم لأن القتال يستدعي التكافؤ من الجانبين مع رجاء مدافعة أو مغالبة ومتى لم يتحقق ذلك كان إلقاء الأنفس إلى التهلكة ، ومن الناس من جوز أن يكون المراد (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) في سبيل الله لاتبعناكم أو لو تعلم قتالا معنا لاتبعناكم لكن ليس للمخالف معنا مضادة ولا قصد له إلا معكم ، ولا يخفى أن هذا الكلام على جميع تقاديره يصلح وقوعه جوابا لما قيل لهم على جميع تقاديره ما عدا الأول ، وعلى الأول يصلح هذا جوابا له على جميع تقاديره ما عدا الثاني إذ عدم المعرفة بالقتال لا يكون عذرا في عدم تكثير السواد إلا على بعد ومن كلامهم :

إن لم تقاتل يا جبان فشجع

والمراد بالاتباع إما الذهاب للقتال ولم يعبروا به لأن ألسنتهم لكمال تثبط قلوبهم عنه لا تساعدهم على

٣٣٠

الإفصاح به ، وأما الذهاب مع المؤمنين مطلقا سواء كان للقتال أو للدفع وتكثير السواد وحمله على امتثال الأمر أي لو كنا نعلم قتالا لامتثلنا أمركم لا يخلو عن بعد.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم إذ قالوا (لَوْ نَعْلَمُ) إلخ أقرب للكفر منهم قبل ذلك لظهور أمارته عليهم بانخذالهم عن نصرة المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الدغل والاستهزاء.

والظروف كلها في المشهور عند المعربين متعلقة ـ بأقرب ـ ومن قواعدهم أنه لا يتعلق حرفا جر أو ظرفان بمعنى بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور : إحداها أن يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول ، وثانيتها أن يكون الثاني تابعا للأول ببدلية ونحوها ، وثالثتها أن يكون المتعلق أفعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول الذي يجعله بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق ، وما نحن فيه من هذا القبيل كأنه قيل قربهم من الكفر يزيد على قربهم من الإيمان ، واللام الجارة في الموضعين بمعنى إلى بناء على ما قيل : إن صلة القرب تكون من وإلى لا غير ، تقول : قرب منه وإليه ، ولا تقول له ، أو على حالها بناء على ما في الدر المصون أن القرب الذي هو ضد البعد يتعدى بثلاثة أحرف اللام وإلى ومن ، وقيل : إن (أَقْرَبُ) هنا من القرب بفتح الراء وهو طلب الماء ومنه القارب لسفينته ، وليلة القرب أي الورود ، والمعنى هم أطلب للكفر وحينئذ يتعدى باللام اتفاقا.

وزعم بعضهم أن اللام هنا للتعليل والتقدير هم لأجل كفرهم يومئذ (أَقْرَبُ) من الكافرين منهم من المؤمنين لأجل إيمانهم ، ولا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه لمزيد بعده وركاكة نظمه لو صرح بما حذف فيه.

وجوز أن يقدر في الكلام مضاف وهو أهل ، واللام متعلقة بتمييز محذوف وهو نصرة والمعنى هم لأهل الكفر (أَقْرَبُ) نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين ، وهذا كما تقول : أنا لزيد أشدّ ضربا مني لعمرو. وأنت تعلم أنه يمكن تعلق اللام بالتمييز عند عدم اعتبار حذف المضاف أيضا ، وادعى الواحدي أن في الآية دليلا على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم.

وقال الحسن : إذا قال الله تعالى (أَقْرَبُ) فهو لليقين بأنهم مشركون ولا يخفى أن الآية كالصريح في كفرهم لكنهم مع هذا لا يستحقون أن يعاملوا بذلك معاملة الكفار ولعله لأمر آخر (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت ، وقيل : حال من ضمير (أَقْرَبُ) وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي ، وإما تأكيد على حدّ (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون ؛ وقال شيخ الإسلام : إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن (ما) عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى ، فالمثبت والمنفي متحدان ذاتا وصفة وإن اختلفا مظهرا ، وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا ، وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال ، والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما ، أحدهما عدم العلم بالقتال ، والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد ، واختار بعضهم كون (ما) عبارة عن القول الملفوظ ، ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلا والحكم عام ؛ ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص التالي فقط ولا الأمران معا دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى.

٣٣١

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها ، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب ، والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات ، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق ، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم (الَّذِينَ قالُوا) مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل : والله أعلم بما يكتم الذين قالوا ، أو خبر لمبتدإ محذوف أي هم الذين ، وقيل : مبتدأ خبره قل فادرءوا بحذف العائد أي قل لهم إلخ ، أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا ، أو بدل منه ، أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم ، أو قلوبهم ، وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم ، ومنه قول الفرزدق :

على حالة لو أن في القوم حاتما

على جوده لضن بالماء حاتم

بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة ، والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا ، أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا ، والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله :

يا خير من يركب المطي ولا

يشرب كأسا من كف من بخلا

والقائل كما قال السدي وغيره : هو عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وقد قالوا ذلك في يوم أحد (لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم ، والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم (وَقَعَدُوا) حال من ضمير (قالُوا) وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال ، وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى : (لَوْ أَطاعُونا) أي في ترك القتال (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قالوا له : ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه : (الَّذِينَ قالُوا) إلخ ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به ـ ولا يخلو عن شيء ـ بل قال مولانا شيخ الإسلام : يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة (قُلْ) يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة (فَادْرَؤُا) عليه ، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر ، ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال ، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية ، وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء ، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم ، وقيل : متعلق الصدق ما صرح به من قولهم : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين ، وحينئذ يكون (فَادْرَؤُا) إلخ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت (فَادْرَؤُا) جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص ،

٣٣٢

وفي الكشاف روي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقا بعدد من قتل بأحد.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا» وفي لفظ «قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات».

وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : «يا جابر ما لي أراك منكسرا فقلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال: ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت : بلى قال : ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون قال : اي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية» ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع ، وأنزل الله تعالى الآية لهما والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد ، وفي رواية ابن المنذر عن إسحاق بن أبي طلحة قال : حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله ـ إلى أن قال ـ وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمانا ، فأنزل الله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَ) إلخ.

ومن هنا قيل : إن الآية نزلت فيهم ، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك ، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر ، وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط ، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم ، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا.

وقيل : من المنافقين الذين قالوا : «لو أطاعونا وقعدوا» وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به ، وقرئ ـ يحسبن ـ بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب ، وقيل : إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي ـ ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا.

واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا.

ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة ، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى ، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا على الصحيح بل اقتصارا ، وما هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله.

وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش ، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا ، والمراد لا يحسبن أنفسهم ، واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا ، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره وهو محصور في أماكن ليس هذا منها ، ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز لأنه مقدم معنى وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز ، وقد ظن

٣٣٣

السيرافي (١) وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين ، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض ، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة ، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء أن يتسلوا بذلك ، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه قاله شيخ الإسلام.

وقيل : هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك ، وإن قل ، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم ، وقرئ (وَلا تَحْسَبَنَ) بكسر السين ، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد لكثرة المقتولين (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك ، وقرئ بالنصب ، وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل أحسبهم أحياء ، ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان : إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم ، نعم قال السفاقسي : يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله ، وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف وإن كانت دلالة اللفظ أحسن ، وقال العلامة الثاني : لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] أمرا بالقياس وتحصيل الظن ، وقال بعضهم : المراد اليقين ويقدر أحسبهم للمشاكلة ولا يخفى أنه تعسف لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدإ المقدر ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في (أَحْياءٌ) وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده ، و (عِنْدَ) هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول : هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية ، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق أي إن حيلتهم متحققة لا شبهة فيها ولا يخفى أن المقام مقام مدح فتفسير العندية بالقرب أنسب به.

وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم (يُرْزَقُونَ) صفة لأحياء ، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف وفيه تأكيد لكونهم أحياء وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه ، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى ، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك (فَرِحِينَ) جوز أن يكون حالا من الضمير في (يُرْزَقُونَ) أو من الضمير في (أَحْياءٌ) أو من الضمير في الظرف ، وأن يكون نصبا على المدح ، أو الوصفية لأحياء في قراءة النصب ومعناه مسرورين (بِما آتاهُمُ اللهُ) بعد انتقالهم من الدنيا (مِنْ فَضْلِهِ) متعلق بآتاهم ، و (مِنْ) إما للسببية أو لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف العائد على الموصول ، و (مِنْ) للتبعيض والتقدير بما آتاهموه حال كونه كائنا بعض فضله.

والمراد بهذا المؤتى ضروب النعم التي ينالها الشهداء يوم القيامة أو بعد الشهادة أو نفس الفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي يسرون بالبشارة ، وأصل الاستبشار طلب البشارة وهو الخبر السار إلا أن المعنى

__________________

(١) قوله : (وقد ظن السيرافي) هكذا بخطه ولعله جرى ا ه مصححه.

٣٣٤

هنا على السرور استعمالا للفظ في لازم معناه وهو استئناف أو معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون.

وجوز أن يكون التقدير وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في (فَرِحِينَ) أو من ضمير المفعول في آتاهم وإنما احتيج إلى تقدير مبتدأ عند جعلها حالا لأن المضارع المثبت إذا كان حالا لا يقترن بالواو. (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله تعالى فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. ويجوز أن يكون حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد في الدنيا.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا ، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة ، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا ، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم إلخ ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال.

ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا ، فضمير ، (عَلَيْهِمْ) وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول ، وعلى الأول إلى الثاني ، ومن الناس من فسر ـ الذين لم يلحقوا ـ بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم ، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلا عظيما بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان ، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية ، والمعنى لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض ، أو لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة ، أو (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن يخاف ويحذر (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على المفارقة ، وقيل : إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة ، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها ، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها ، وهو وجه وجيه.

والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ؛ وقد تقدمت الإشارة إليه (يَسْتَبْشِرُونَ) مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) فحينئذ يكون بيانا وتفسيرا لقوله سبحانه : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء ، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدا ، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة ، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) من غير ضم ما بعده إليه ، وقيل : الاستبشار الأول بدفع المضار ولذا قدم ، والثاني بوجود المسار أو الأول لإخوانهم ، والثاني لهم أنفسهم ، ومن الناس من أعرب (يَسْتَبْشِرُونَ) بدلا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه ، و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة ـ لنعمة ـ مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وجمع ـ الفضل والنعمة ـ مع أنهما كثيرا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه

٣٣٥

ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة ، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك ، ونظيره قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وعطف وأن على «فضل» أو على «نعمة» وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به.

وقرأ الكسائي «وإن» بكسر الهمزة على أنه تذييل لمضمون ما قبله من الآيات السابقة ، أو اعتراض بين التابع والمتبوع بناء على أن الموصول الآتي تابع للذين لم يلحقوا ، والمراد من المؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بذلك للإعلام بسمو مرتبة الإيمان وكونه مناطا لما قالوه من السعادة ، وإما كافة المؤمنين ، وذكرت توفية أجورهم وعدت من جملة المستبشر به على ما اقتضاه العطف بحكم الأخوة في الدين ، واختار هذا الوجه كثير.

ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيدان أن هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء وقلّ ما ذكر الله تعالى فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر سبحانه ما أعطى الله تعالى المؤمنين من بعدهم ، وفي الآية إشعار بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) أي أطاعوا (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) بامتثال الأوامر (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي نالهم الجراح يوم أحد ، والموصول في موضع جر صفة للمؤمنين أو في موضع نصب بإضمار أعني ، أو في موضع رفع على إضمارهم ، أو مبتدأ أول وخبره جملة قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال الطبرسي وهو الأشبه : و (مِنْهُمْ) حال من الضمير في (أَحْسَنُوا) و (مِنْ) للتبعيض ـ وإليه ذهب بعضهم ـ وذهب غير واحد إلى أنها للبيان ، فالكلام حينئذ فيه تجريد جرد من الذين استجابوا لله والرسول المحسن المتقي ، والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون ، قال ابن إسحاق وغيره : لما كان يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف منه أذن مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهم فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إرهابا للعدو حتى انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم ، ثم ذهب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا أجل أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن عليهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط وهم يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قال : ويلك ما تقول؟ قال ما أرى والله أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال : فإني أنهاك عن ذلك وو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر قال : وما قلت؟ قال قلت :

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

ترمي بأسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا ميل معازيل

٣٣٦

فظلت عدوا كأن الأرض مائلة

لما سمعوا برئيس غير مخذول

وقلت : ويل ابن حرب من لقائهم

إذا تغطمطت البطحاء بالخيل

إني نذير لأهل النبل ضاحية

لكل آربة منهم ومعقول

من خيل أحمد لا وخشا تنابلة

وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

فثنى عند ذلك أبو سفيان ومن معه ومرّ به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة قال ولم؟ قالوا : نريد الميرة قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل هذه لكم غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموه؟ قالوا : نعم قال : إذا وافيتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرّ الركب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وأخرج ابن هشام أن أبا سفيان لما أراد الرجوع إلى حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم صفوان بن أمية بن خلف : لا تفعلوا فإن القوم قد جربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا إلى محالكم فرجعوا فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أنهم هموا بالرجعة قال : والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين فقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) بدل من (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) أو صفة ، والمراد من الناس الأول ركب عبد قيس ، ومن الثاني أبو سفيان ومن معه فأل فيهما للعهد والناس الثاني غير الأول.

وروي عن مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا : والخبر متداخل نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف : يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ، وقيل : بلغ عسفان فألقى الله تعالى عليه الرعب فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (١) وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق المدينة فتثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان ومن معه من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق يريدون أنكم لم تفعلوا شيئا سوى شرب السويق ولم يلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من المشركين فكر راجعا إلى المدينة ، وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة ، أو كعب بن مالك :

وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد

لميعاده صدقا وما كان وافيا

__________________

(١) قوله : نعيم بن مسعود أسلم رضي الله تعالى عنه عام الخندق ا ه منه.

٣٣٧

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا

لأبت دميما وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه

وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله أف لدينكم

وأمركم الشيء الذي كان غاويا

وإني وإن عنفتموني لقائل

فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره

شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

فعلى هذا المراد من الناس الأول نعيم ، وأطلق ذلك عليه كما يطلق الجمع واسم الجمع المحلى بال الجنسية على الواحد منه مجازا كما صرحوا به ، أو باعتبار أن المذيعين له كالقائلين لهم لكن في كون القائل نعيما مقال.

وقد ذكره ابن سعد في طبقاته ، وذكر بعضهم أن القائلين أناس من عبد قيس (فَزادَهُمْ إِيماناً) الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال : أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده ، أو لله تعالى ، وتعقب أبو حيان الأول بأنه ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيمانا إلا النطق به لا هو في نفسه ، وكذا الثالث بأنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال : مفارقة شابت باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقة شاب باعتبار مفرقه شاب ، وفي كلا التعقيبين نظر ، أما الأول فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان ، وأما الثاني فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناء على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى.

والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازدادوا طمأنينة وأظهروا حمية الإسلام.

واستدل بذلك من قال : إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والاعتقاد فقد قالوا في ذلك : إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب ، ويعضد ذلك أخبار كثيرة ، ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلا للزيادة والنقصان يؤول ما ورد في ذلك باعتبار المتعلق ، ومنهم من يقول : إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك ، وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم ، وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفي جدا لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلا ليقال : إن زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلق وكذا التزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد.

فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل ، وإن قلنا : إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظنا أو شكا ويخرج عن كونه إيمانا وتصديقا مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع.

نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقا ، وإلى هذا أشار بعض المحققين (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه ، والدليل على أن حسب بمعنى محسب اسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفا كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا ، ومنه يعلم أن المصدر المؤول باسم الفاعل له حكمة في الإضافة ، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى ، والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها ، والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول

٣٣٨

وقلنا : بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول (قالُوا) لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت.

وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقا ـ كما ذهب إليه الصفار ـ أو قلنا : بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ ـ كما أشار إلى ذلك العلامة الثاني ـ فالأمر أيضا ظاهر ، وإن قلنا : بعدم جواز ذلك ـ كما ذهب إليه الجمهور ـ فلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف ، والذاهبون إلى الأول قالوا : إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر ، والذاهبون إلى الثاني اختلفوا فمنهم من قدر قلنا أي ـ وقلنا نعم الوكيل.

واعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الأخبار بأن الله تعالى كافيهم والاخبار بأنهم قالوا ـ نعم الوكيل ـ مناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما ، ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفا على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخرا لتناسب المعطوف عليه فإن (حَسْبُنَا) خبر ، و (اللهُ) مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه ، وإما مقدما رعاية لقرب المرجع مع ما سبق.

واعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤول ـ نعم الوكيل ـ بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضا إنشائية إذ الجملة الاسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بين ـ نعم الرجل زيد ، وزيد نعم الرجل ـ في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب ، وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملة ـ نعم الوكيل ـ بل جملة متعلق خبرها ـ نعم الوكيل ـ والإشكال إنما هو في عطف ـ نعم الوكيل ـ إلا أن يقال يختار هذا ، ويقال : الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء ، وما هاهنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة ـ نعم الوكيل ـ فيعود الإشكال ، ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص ، وهو أنه مقول في حقه ـ نعم الوكيل ـ وأيضا مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه ـ بنعم الوكيل ـ فلا بد من تقدير مقول في حقه مرة أخرى ، ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤول الجمهور الإنشاء الواقع خبرا بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه‌الله تعالى ، وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطف ـ نعم الوكيل ـ على (حَسْبُنَا) باعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف (جَعَلَ) على (فالِقُ) في قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٦٩] على رأي فحينئذ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد ، وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الاخبار ـ وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليه ـ إلا أن أمر العطف على الخبر بناء على ما ذكره الشيخ الرضي من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره أي رجل جيد ـ أظهر كما لا يخفى ، ومن الناس من ادعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الاخبار فيما له محل من الإعراب بناء على أن الواو من الحكاية لا غير.

ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهدا على ما ذكر لجواز أن يكون (قالُوا) مقدرا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية ، على الجملة الفعلية الخبرية ، ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الاخبار ـ وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الاسمية ـ وفيه أيضا خلاف مشهور كعكسه ـ ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والاخبار يستخرج

٣٣٩

الجواب عن ذلك ، وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير ، ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار كما أخرجه البخاري في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الرزاق وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء ، وقال : حسبي الله ونعم الوكيل.

وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف» (فَانْقَلَبُوا) عطف على مقدر دل عليه السياق أي فخرجوا إليهم ورجعوا (بِنِعْمَةٍ) في موضع الحال من الضمير في ـ انقلبوا ـ وجوز أن يكون مفعولا به ، والباء على الأول للتعدية ، وعلى الثاني للمصاحبة ، والتنوين على التقديرين للتفخيم أي (بِنِعْمَةٍ) عظيمة لا يقدر قدرها (مِنَ اللهِ) صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها ، والمراد منها السلامة ـ كما قاله ابن عباس ـ أو الثبات على الإيمان وطاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قاله الزجاج ـ أو إذلالهم أعداء الله تعالى على بعد كما قيل ، أو مجموع هذه الأمور على ما نقول (وَفَضْلٍ) وهو الربح في التجارة ، فقد روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل.

وأخرج ابن جرير عن السدي قال : أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج في غزوة بدر الصغرى ببدر أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا تجارة وعن مجاهد الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي لم يصبهم قتل ـ وهو المروي عن السدي ـ أو لم يؤذهم أحد ـ وهو المروي عن الحبر ـ والجملة في موضع النصب على الحال من فاعل ـ انقلبوا ـ أو من المستكن في (بِنِعْمَةٍ) إذا كان حالا والمعنى (فَانْقَلَبُوا) منعمين مبرءين من السوء ، والجملة الحالية إذا كان فعلها مضارعا منفيا بلم ، وفيها ضمير ذي الحال جاز فيها دخول الواو وعدمه (وَاتَّبَعُوا) عطف على ـ انقلبوا ـ وقيل : حال من ضميره بتقدير قد أي وقد اتبعوا في كل حال ما أوتوا ، أو في الخروج إلى لقاء العدو (رِضْوانَ اللهِ) الذي هو مناط كل خير (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) حيث تفضل عليهم بما تفضل وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الاسم الكريم الجامع وإسناد (ذُو فَضْلٍ) إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمرا عظيما لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسرا ليس بعده (إِنَّما ذلِكُمُ) الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة ، والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ ، وقوله : (الشَّيْطانُ) بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ ، وقوله تعالى : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة مبينة لشيطنته ، أو حال كما في قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].

ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة على التشبيه أيضا ، ويحتمل أن يكون مجازا حيث جعله هو ويخوف هو الخبر ، وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بدّ حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان ، والمراد به إبليس أيضا ولا تجوز فيه على الصحيح ، وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله ، والمستكن في (يُخَوِّفُ) إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يخوف به ، والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه ، فالمفعول الأول ليخوف محذوف أي يخوفكم أولياءه بأن يعظمهم في قلوبكم ، ونظير ذلك قوله

٣٤٠