روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً)(٣٥)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) إلخ شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر حكاية إبطال أباطيلهم السابقة وذكر ما يتعلق بذلك ، والجملة المعطوفة على قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) [الفرقان : ٧] إلى آخره ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكى عنهم في الشناعة بحيث لا يصدر عمن يرجو لقاء الله عزوجل ، والرجاء في المشهور الأمل وقد فسر أحدهما بالآخر أكثر

٣

اللغويين ، وفي فروق ابن هلال الأمل رجاء يستمر ولذا قيل للنظر في الشيء إذا استمر وطال تأمل ، وقيل : الأمل يكون في الممكن والمستحيل والرجاء يخص الممكن. وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي يخاف أن لا يحصل مأموله ولذا استعمل بمعنى الطمع انتهى ، وفسره أبو عبيدة وقوم بالخوف ، وقال الفراء : هذه الكلمة تهامية وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون : فلان لا يرجو ربه سبحانه يريدون لا يخاف ربه سبحانه ، ومن ذلك (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] أي لا تخافون لله تعالى عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف ، وقال الشاعر :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عواسل

وقال آخر :

لا يرتجي حين يلاقي الذائدا

أسبعة لاقت له أو واحدا

انتهى ، وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجاز لأن الراجي لأمر يخاف فواته ، وأصل اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته وهو مراد من قال : الوصول إلى الشيء لا المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي ، ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف ؛ والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لا يأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث ، وعلى التفسير الآخر وقال الذين لا يخافون لقاء جزائنا بالشر والعقاب على المعصية لتكذيبهم بالبعث كذا قيل. وقيل : المراد به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه بمعنى الأمل دون الخوف إذ لا معنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك ، وقد يقال : نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن إنكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغا لا ينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الإشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى ، وتزداد القوة إذا اعتبر في (عَلَيْنَا) معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع ، ويشير أيضا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في (أَوْ نَرى رَبَّنا) كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى وإخباره سبحانه بصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارا بذلك ، ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في «لو لا» التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعا يؤول به ، ولعل عدولهم إلى الماضي في جانب إنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) [الفرقان : ٧] فتذكر فما في العهد من قدم.

وقيل : المعنى لو لا أنزل علينا الملائكة فيبلغون أمر الله تعالى ونهيه بدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة والسلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نسلم أن (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) يتكرر عليه مع (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) السابق لظهور الفرق بين المطلوبين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لا يضر كما لا يخفى. وانتصر للأخير بأن المقام ليس إلا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم. وقد عد فيما

٤

سبق بعضا منها متضمنا تعنتهم في طلب مصدق له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار. ولعل قوله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أنسب بما ذكر. ومعنى (اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن ، وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله :

يجرح في عراقيبها نصلي

والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لغتا ، واللام واقعة في جواب القسم أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوز الحد في الظلم والطغيان تجاوزا كبيرا بالغا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى إليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا بمعجزاته القاهرة وآياته الباهرة فطلبوا ما لا يكاد ترنو إليه أحداق الأمم وراموا ما لا يحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم. وقد فسر (اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) بأضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له. وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضا. وفي تعقب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية إيذان بغاية قبح ما هم عليه وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية : فعلت كذا وكذا استعظاما وتعجبا منه ؛ ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل :

وجارة جساس أبأنا بنابها

كليبا غلت ناب (١) كليب بواؤها

والطيبي قوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الكهف : ٥] ، وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظا أو تقديرا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة ؛ وذكر الإمام مختار القول الأول في تفسير (لَوْ لا أُنْزِلَ) إلخ أن هذه الجملة جواب لقولهم : «لو لا أنزل» إلخ من عدة أوجه ، أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح هذه الآيات إلا محض استكبار. وثانيها أن نزول الملائكة عليهم‌السلام لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجز إذ لا فرق بين أن يقول النبي : اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه عزوجل وبين أن يقول : إن كنت صادقا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد ، ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي ، وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداهما واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم ، وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة عليهم‌السلام على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه ما لا يخلو عن بحث.

واستدلت الأشاعرة بقوله تعالى : «لا يرجون لقاءنا» على أن رؤية الله تعالى ممكنة واستدلت المعتزلة بقوله

__________________

(١) الناب الناقة المسنة ا ه منه.

٥

سبحانه : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) و (عَتَوْا) على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم‌السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة. وإنما قيل : يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة إيذانا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم «ويوم» منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) فإنه في معنى لا يبشر يومئذ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لا يبشرون يوم يرون الملائكة ، وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب ، وقدر بعضهم لا بشرى قبل يوم وجعله ظرفا لذلك ، وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرا لدلالة (لا بُشْرى) إلخ عليه وكونه معمولا لا ذكر مقدرا قال : أبو حيان وهو أقرب.

وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون منصوبا بينزل مضمرا لقولهم : لو لا أنزل علينا الملائكة كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم ، ولا يقال : كيف يكون وقت الرؤية وقتا للإنزال لأنا نقول : الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لا مزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلامان لأن قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ) إلخ نشر لقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (وَقَدِمْنا) نشر لقوله عزوجل (أَوْ نَرى رَبَّنا) ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرا وهو لا يعمل متأخرا وكونه منفيا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها و (يَوْمَئِذٍ) تأكيد للأول أو بدل منه أو خبر و (لِلْمُجْرِمِينَ) تبيين متعلق بمحذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب.

وفي البحر احتمل بشرى أن يكون مبنيا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيا مع لا احتمل أن يكون الخبر (يَوْمَئِذٍ) وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر ، وأن يكون (يَوْمَئِذٍ) صفة لبشرى والخبر (لِلْمُجْرِمِينَ) ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدإ الذي هو مجموع لا وما بني معها. وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) معمولا لبشرى وأن يكون صفة والخبر «للمجرمين» ، وجاز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) خبرا و (لِلْمُجْرِمِينَ) صفة ، وجاز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) خبرا و (لِلْمُجْرِمِينَ) خبرا بعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا للأنفسها بالإجماع.

وقال الزمخشري : يومئذ تكرير ولا يجوز ذلك سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن «يوم» منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى. ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها. وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بأن الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالا من الملائكة التي هي معمول ليرون و (يَرَوْنَ) معمول ليوم فلا وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنه معمولا لبعض ما في حيزه ومثله لا يعد محذورا مع أن كون لا لها الصدر مطلقا أو إذا بني معها اسمها ليس بمسلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة دورها خرجت عن الصدارة فتأمل ، هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في إعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل.

وقال بعض العصريين : يجوز تعلق (يَوْمَ) بكبير أو تقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ)

٦

استئنافا لبيان ذلك وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالمراد بذلك اليوم على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوم الموت ، وقال أبو حيان : الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا) إلخ وفيه نظر.

ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ٣٢] كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذرى لهم على أبلغ وجه ، والمراد بالمجرمين أولئك الذين لا يرجون لقاءه تعالى ، ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر والعناد وإيذانا بعلة الحكم ، ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى إفادة الآية عدم تحقق الحكم في غيرهم ، وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا) [فصلت: ٣٠] إلخ على حصول البشرى لهم ، وقيل : المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لا يرجون لقاءه تعالى ، ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الإجرام ولا إجرام أعظم من إجرام الذين لا يرجون لقاءه عزوجل ويقولون ما يقولون فهم أولى به. ويتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر.

وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها اسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي إرادة نفي استمرار البشرى للمجرمين بمعنى أن البشرى تكون لهم لكن لا تستمر مما لا يظن أن أحدا يذهب إليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] فحينئذ لا يتسنى قوله : إنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات ، فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم (وَيَقُولُونَ) عطف على لا يبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل (يَوْمَ).

وجوز أن يكون عطفا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل : يشاهدون أهوال القيامة ويقولون ، وأن يكون عطفا على (يَرَوْنَ) وجملة (لا بُشْرى) حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به ، وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد وابن جريج للذين لا يرجون أي ويقول أولئك الكفرة (حِجْراً مَحْجُوراً) وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا.

وقال الخليل : كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشرّ ، وقال أبو عبيدة : هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة ، وقال أبو علي الفارسي : مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرا محجورا ، وهذا كان عندهم لمعنيين ، أحدهما أن يقال عند الحرمان إذا سئل الإنسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه ، ومنه قول المتلمس :

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام ألا تلك الدهاريس (١)

والمعنى الآخر الاستعاذة كان الإنسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي انتهى. وذكر سيبويه «حجرا» من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب إضمار ناصبها ، وقال: ويقول الرجل

__________________

(١) أي الدواهي ا ه منه.

٧

للرجل أتفعل كذا فيقول : حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والأصل فيه فتح الحاء ، وقرئ به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضا وهي قراءة أبي رجاء والحسن والضحاك ويقال فيه حجرى بألف التأنيث أيضا ؛ ومثله في التغيير عن أصله قعدك الله تعالى بسكون العين وفتح القاف ، وحكى كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية ، والمراد رقيبك وحفيظك الله تعالى ثم نقل إلى القسم قعدك أو قعيدك الله تعالى لا تفعل ، وأصله بإقعاد الله تعالى أي إدامته سبحانه لك وكذا عمرك الله بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم ، وأصله بتعميرك الله تعالى أي بإقرارك له بالبقاء ، وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الإضمار اعترض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري :

قالت وفيها حيدة وذعر

عوذ بربي منكم وحجر

فإنه وقع فيه مرفوعا ، ووصفه بمحجورا للتأكيد كشعر شاعر وموت مائت وليل أليل ، وذكر أن مفعولا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك ، وقيل : إنه على الإسناد المجازي وليس بذاك ، والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم‌السلام وهم إذ رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا ، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس فظيع ، وقيل : ضمير يقولون للملائكة وروى ذلك عن أبي سعيد الخدري والضحاك وقتادة وعطية ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا : إن الملائكة يقولون للكفار حجرا محجورا أي حراما محرما عليكم البشرى أي جعلها الله تعالى حراما عليكم.

وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم‌السلام فيقولون ذلك لهم ؛ وقال بعضهم : يعنون حراما محرما عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : الغفران ، وفي جعل (حِجْراً) نصبا على المفعولية لجعل مقدرا كما أشير إليه بحث ، والظاهر على ما ذكر أن إيراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول من المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي (وَيَقُولُونَ) على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بأن ضميره للكفرة ، وقيل : معطوف على جملة يقولون المقدرة قبل (لا بُشْرى) الواقعة حالا.

وقال الطيبي : هو حال من (الْمَلائِكَةَ) بتقدير وهم يقولون نظير قولهم : قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على (يَرَوْنَ وَقَدِمْنا) أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (إِلى ما عَمِلُوا) في الدنيا (مِنْ عَمَلٍ) فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضعيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها ، والجار والمجرور بيان لما وصحة البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] لكن التنكير هاهنا للتفخيم كما أشرنا إليه.

وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان ، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً) مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى ، وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي حاتم عن علي كرّم الله تعالى وجهه وهج الغبار يسطع ثم يذهب.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت ، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق. وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد.

٨

وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين ، قال الراغب : الهباء دقاق التراب وما انبثّ في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال : هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع ، ووصف بقوله تعالى : (مَنْثُوراً) مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلا ، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال ، ومنه قول الخنساء :

أغر أبلج تأتمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار ، وقيل : وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل ، وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال : مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، ونظير ذلك قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥ ، الأعراف : ١٦٦] أي جامعين للمسخ والخسء ، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر إن وقياس قوله : أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث ، ومع هذا الظاهر الوصفية ، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر ، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال ـ قدم ـ بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس ، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته ، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة ، فلا إشكال على ما قيل ، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله. وجعل بعضهم القدوم في حقه عزوجل عبارة عن حكمه ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا ، وأسند ذلك إليه عزوجل لأنه عن أمره سبحانه ، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] وقوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة ، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية ، ولعله من هنا قيل : إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات ، والقلب إلى التأويل فيها أميل.

وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه ، ولا يأبى ذلك السلف (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الفرقان : ١٥] (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا ، أو من هذا وعدم التبشير ، وقولهم : حجرا محجورا (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) المقيل المكان الذي يؤوي إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن ، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا ، وقيل : هو في الأصل مكان القيلولة ـ وهي النوم نصف النهار ـ ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة ، وقيل : أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل ، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلا.

٩

وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ، ثم قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) وقرأ «إن مقيلهم لإلى الجحيم» وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب ، وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه ، ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون إليها وقت القيلولة ، وقيل : المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة ، أو المستقر فيها والمقيل فيه.

فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب ، وذلك قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به من حسن الصور وغيره من التحاسين. فإن حسن المنزل إن لم يكن باعتبار ما يرجع لصاحبه لم تتم المسرة به ، والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم ، هذا وتفسير المستقر والمقيل بالمكانين حسبما سمعت هو المشهور وهو أحد احتمالات تسعة. وذلك أنهم جوزوا أن يكون كلاهما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم مكان والثاني اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم زمان والثاني اسم مكان أو مصدرا وأن يكون الأول مصدرا والثاني اسم مكان أو اسم زمان ، وما شئت تخيل في خيرية زمان أصحاب الجنة وأحسنيته وكذا في خيرية استقرارهم وأحسنية استراحتهم يومئذ (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) العامل في (يَوْمَ) إما اذكر أو ينفرد الله تعالى بالملك الدال عليه قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) وقيل : العامل ذاك بمعناه المذكور. وقيل : إنه معطوف على (يَوْمَئِذٍ) أو (يَوْمَ يَرَوْنَ) و (تَشَقَّقُ) تتفتح والتعبير به دونه للتهويل ، وأصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في (تَلَظَّى) [الليل : ١٤] وقرأ الحرميان وابن عامر بإدغام التاء في الشين لما بينهما من المقاربة ؛ والظاهر أن المراد بالسماء المظلة لنا وبالغمام السحاب المعروف والباء الداخلة عليه باء السبب. أي تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها. ولا مانع من أن تشقق به كما يشق السنام بالشفرة والله تعالى على كل شيء قدير ، وحديث امتناع الخرق على السماء حديث خرافة.

وقيل : باء الحال وهي باء الملابسة. واستظهره بعضهم أي تشقق متغيمة ، وقيل : بمعنى عن وإليه ذهب الفراء. والفرق بين قولك انشقت الأرض بالنبات وانشقت عنه أن معنى الأول أن الله تعالى شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى الثاني أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه ، وقيل : المراد بالغمام غمام أبيض رفيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه الغمام الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة المذكور في قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قال ابن جريج : وهو غمام زعموا أنه في الجنة ، وعن مقاتل أن المراد بالسماء ما يعم السماوات كلها وتشقق سماء سماء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) أي تنزيلا عجيبا غير معهود فقال : يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بجميعهم فتقول أهل الأرض : أفيكم ربنا؟ فيقولون : لا ، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن

١٠

والإنس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والدنيا وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق ، ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل الثالثة والثانية والأولى وأهل الأرض ، ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر ممن تقدم ، ثم أهل السماء السادسة كذلك. ثم أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السماوات وأهل الأرض ، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن وجميع الخلق لهم قرون ككعوب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام ، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك خمسمائة عام ، ونزول الرب جل وعلا من المتشابه ، وكذا قوله : «وحوله الكروبيون» وأهل التأويل يقولون : المراد بذلك نزول الحكم والقضاء ، فكأنه قيل : ثم ينزل حكم الرب وحوله الكروبيون أي معه ، وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وعظم أجسامهم فلا يمنع عنه ما يشاهد من صغر الأرض لأن الأرض يومئذ تمتد بحيث تسع أهلها وأهل السماوات أجمعين ، وسبحان من لا يعجزه شيء ، ثم الخبر ظاهر في أن الملائكة عليهم‌السلام لا ينزلون في الغمام ، وذكر بعضهم في الآية أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال ، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «ونزل» ماضيا مبنيا للفاعل مشددا ، وعنه أيضا «وأنزل» مبنيا للفاعل وجاء مصدره تنزيلا وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر :

حتى تطويت انطواء الخصب

كأنه قال : حتى انطويت ، وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية «وأنزل» ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول ، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو «ونزل» ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو «ونزل» بضم النون وشد الزاي وكسرها ونصب «الملائكة» وخرجها ابن جني بعد أن نسبها إلى ابن كثير وأهل مكة على أن الأصل «ننزل» كما وجد في بعض المصاحف فحذفت النون التي هي فاء الفعل تخفيفا لالتقاء النونين ، وقرأ أبي «ونزّلت» ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث ، وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو «ونزّل» مخففا مبنيا للمفعول و «الملائكة» بالرفع فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والتقدير ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى الملائكة بمعنى نزل نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ا ه ، وقال الطيبي : قال ابن جني : نزل بالبناء للمفعول غير معروف لأن نزل لا يتعدى إلى مفعول به ولا يقاس بجن حيث إنه مما لا يتعدى إلى المفعول فلا يقال جنه الله تعالى بل أجنه الله تعالى ، وقد بني للمفعول لأنه شاذ والقياس عليه مرود فإما أن يكون ذلك لغة نادرة وإما أن يكون من حذف المضاف أي نزل نزول الملائكة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال العجاج :

حتى إذا اصطفوا له حذارا

فحذارا منصوب مصدرا لا مفعولا به يريد اصطفوا له اصطفافا حذارا ونزل نزول الملائكة على حد قولك : هذا نزول منزول وصعود مصعود وضرب مضروب وقريب منه ، وقد قيل قول وقد خيف منه خوف فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة اه. وهو أحسن من كلام صاحب اللوامح. وعن أبي عمرو أيضا أنه قرأ «وتنزلت الملائكة» فهذه مع قراءة الجمهور وما في بعض المصاحف عشرة قراءات وما كان منها بصيغة المضارع وجهه ظاهر ، وأما ما كان بصيغة الماضي فوجهه على ما قيل الإشارة إلى سرعة الفعل.

١١

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لا زوال له ثابت للرحمن يوم إذ تشقق السماء وتنزل للملائكة ، فالملك مبتدأ و (الْحَقُ) صفته و (لِلرَّحْمنِ) خبره و (يَوْمَئِذٍ) ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ ، وفائدة التقييد أن ثبوت الملك له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من أيام الدنيا فيكون لغيره عزوجل أيضا تصرف صوري في الجملة واختار هذا بعض المحققين ، ولعل أمر الفصل بين الصفة والموصوف بالظرف المذكور سهل ، وقيل : (الْمُلْكُ) مبتدأ و (يَوْمَئِذٍ) متعلق به وهو بمعنى المالكية و (الْحَقُ) خبره و (لِلرَّحْمنِ) متعلق بالحق. وتعقب بأنه لا يظهر حينئذ نكتة إيراد المسند معرفا فإن الظاهر عليه أن يقال : الملك يومئذ حق للرحمن ، وأجيب بأن في تعلقه بما ذكر تأكيدا لما يفيد تعريف الطرفين ، وقيل : هو متعلق بمحذوف على التبيين كما في سقيا لك والمبين من له الملك ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة للحق وهو كما ترى ، وقيل (يَوْمَئِذٍ) هو الخبر و (الْحَقُ) نعت للملك و (لِلرَّحْمنِ) متعلق به ، وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر فلا تغفل.

ومنعوا تعلق (يَوْمَئِذٍ) فيما إذا لم يكن خبرا بالحق وعللوا ذلك بأنه مصدر والمصدر لا تتقدم عليه صلته ولو ظرفا وفيه بحث ، والجملة على أكثر الاحتمالات السابقة في عامل يوم استئناف مسوق لبيان أحوال ذلك اليوم وأهواله ، وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه عزوجل بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة المشار إليه بقوله تعالى : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه لله تعالى المبالغ في الرحمة بعباده شديدا على الكافرين ، والمراد شدة ما فيه من الأهوال ، وفسر الراغب العسير بما لا يتيسر فيه أمر ؛ والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وفيها إشارة إلى كون ذلك اليوم يسيرا للمؤمنين وفي الحديث : «إنه يهون على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا».

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) قال الطبرسي : العامل في (يَوْمَ) اذكر محذوفا ؛ ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ، والظاهر أن أل في الظالم للجنس فيعم كل ظالم وحكي ذلك أبو حيان عن مجاهد وأبي رجاء ، وذكر أن المراد بفلان فيما بعد الشيطان ، وقيل : لتعريف العهد ، والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه الله تعالى وبفلان أبي بن خلف ، فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى طعامه فقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال : اطعم يا ابن أخي فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال : أصبوت يا عقبة وكان خليله فقال : والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا وذكر فعلا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة (١) فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، وفي رواية إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : اخرج معنا قال : قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي

__________________

(١) قال الضحاك لما بزق عقبة رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى ولم يصل حيث أراد فأحرق خديه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار ا ه منه.

١٢

صبرا فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض فأخذ أسيرا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر عليا كرّم الله تعالى وجهه.

وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح بأن يضرب عنقه فقال أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال : نعم قال : بم؟ قال : بكفرك وفجورك وعتوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه. وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال : والله لأقتلن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : بل أقتله إن شاء الله تعالى فأفزعه ذلك وقال لمن أخبره : أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه فلما رأى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : خلوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فخر يخور كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور فقالوا : ما هذا فو الله ما بك إلا خدش فقال : والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال : أنا أقتله ، والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف وفلان عقبة ، وعض اليدين إما على ظاهره ، وروي ذلك عن الضحاك. وجماعة قالوا : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وإما كناية عن فرط الحسرة والندامة ، وكذا عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأسنان والأدم ونحوها لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف ، وفي المثل يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما ، وقال الشاعر :

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

والفعل عض على وزن فعل مكسور العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح العين.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) الجملة مع موضع الحال من الظالم أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها و (يا لَيْتَنِي) إلخ مقول القول ، ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني ، وأل في (الرَّسُولِ) إما للجنس فيعم كل رسول وإما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد ، وتنكير (سَبِيلاً) إما للشيوع أو للوحدة وعدم تعريفه لادعاء تعينه أي يا ليتني اتخذت طريقا إلى النجاة أي طريق كان أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.

(يا وَيْلَتى) بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى ، وقرأ الحسن وابن قطيب يا ويلتي بكسر التاء والياء على الأصل ، وقرأت فرقة بالإمالة ، قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن لأن الأصل في هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا ، وأيا ما كان فالمعنى يا هلكتي تعالي واحضري فهذا أوانك (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) أراد بفلان الشيطان أو من أضله في الدنيا كائنا من كان أو أبيا إن كان الظالم عقبة أو عقبة إن كان الظالم أبيا ، وهو كناية عن علم مذكر وفلانة عن علم مؤنث ، واشترط ابن الحاجب في فلان أن يكون محكيا بالقول كما هنا ، ورده في شرح التسهيل بأنه سمع خلافه كثيرا كقوله :

وإذا فلان مات عن أكرومة

دفعوا معاوز فقره بفلان

١٣

وتقدير القول فيه غير ظاهر ، والفلان والفلانة كناية عن غير العاقل من الحيوانات كما قال الراغب ، وفل وفلة كناية عن نكرة من يعقل فالأول بمعنى رجل والثاني بمعنى امرأة ، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط كما في البحر في قولهم : فل كناية عن العلم كفلان ويختص بالنداء إلا ضرورة كما في قوله :

في لجة أمسك فلان عن فل

وليس مرخم فلان خلافا للفراء ، واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو ، قيل : ياء ، وكنوا بهن بفتح الهاء وتخفيف النون عن أسماء الأجناس كثيرا ، وقد كنى به عن الأعلام كما في قوله :

والله أعطاك فضلا عن عطيته

على هن وهن فيما مضى وهن

فإنه على ما قال الخفاجي أراد عبد الله وإبراهيم وحسنا والخليل من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة أطلق عليها ذلك إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها ، وأنشد :

قد تخللت مسلك الروح مني

وبه سمّي الخليل خليلا

وإما لأنها تخلها فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية ، وإما لفرط الحاجة إليها ، وهذا التمني وإن كان مسوقا لإبراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير ، وقوله تعالى (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله ، وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي والله لقد أضلني فلان عن ذكر الله تعالى أو عن موعظة الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن كلمة الشهادة أو عن القرآن (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي وصل إليّ وعلمته أو تمكنت منه فلا دلالة في الآية على إيمان من أنزلت فيه ثم ارتداده (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) مبالغا في الخذلان وهو ترك المعاونة والنصرة وقت الحاجة ممن يظن فيه ذلك ، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان إبليس لأنه الذي حمله على مجالسة المضلين ومخالفة الرسول الهادي عليه الصلاة والسلام بوسوسته وإغوائه فإن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق لحال إبليس عليه اللعنة.

(وَقالَ الرَّسُولُ) عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [الفرقان : ٢١] إلخ وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم من الأهوال والخطوب ، والمراد بالرسول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكي عنهم قدحا في رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عزوجل والشكوى عليهم (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ) الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم (مَهْجُوراً) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا إليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده ووعده ، فمهجورا من الهجر بفتح الهام بمعنى الترك وهو الظاهر ، وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه ، وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر النظم الكريم فإن ظاهره ذم الهجر مطلقا وإن كان المراد به عدم القبول لا عدم الاشتغال مع القبول ولا ما يعمهما فإن كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليل آخر للكراهة. وأورد بعضهم في ذلك خبرا وهو «من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه

١٤

جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذاب ، والحق أنه متى كان ذلك مخلا باحترام القرآن والاعتناء به كره بل حرم وإلا فلا.

وقيل : مهجورا من الهجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحش القول والكلام على الحذف والإيصال أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل نحو ما قالوا : إنه أساطير الأولين اكتتبها وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قرئ لئلا يسمع كما قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] وجوز أن يكون مصدرا من الهجر بالضم كالمعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلادة أي اتخذوه نفس الهجر والهذيان ، ومجيء مفعول مصدرا مما أثبته الكوفيون لكن على قلة ، وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير ما لا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.

وقيل : إن (قالَ) إلخ عطف على (يَعَضُّ الظَّالِمُ) ، والمراد ويقول الرسول إلا أنه عدل إلى الماضي لتحقق الوقوع مع عدم قصد الاستمرار التجددي المراد بمعونة المقام في بعض وإن كان إخبارا عما في الآخرة.

وحال عطفه على (وَكانَ الشَّيْطانُ) إلخ على أنه من كلامه تعالى لا يخفى حاله ، وقول الرسول ذلك يوم القيامة وهو كالشهادة على أولئك الكفرة وليس بتخويف وإلى ذلك ذهبت فرقة منهم أبو مسلم ، والأول أنسب بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) فإنه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم‌السلام ، والبلية إذا عمت هانت ، والعدو يحتمل أن يكون واحدا وجمعا أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مرتكبي الجرائم والآثام ويدخل في ذلك آدم عليه‌السلام لدخول الشياطين وقابيل في المجرمين ويكتفي بدخول قابيل إن أريد بالمجرمين مجرمو الإنس أو مجرمو أمة النبي ؛ وقيل : الكلية بمعنى الكثرة ، والمراد بجعل الأعداء جعل عداوتهم وخلقها وما ينشأ منها فيهم لا جعل ذواتهم ، ففي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم إن خالق الشر غيره تعالى شأنه ، وقوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) وعد كريم له عليه الصلاة والسلام بالهداية إلى كافة مطالبه والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل إليك وإجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وناصرا لك عليهم على أبلغ وجه.

وقدر بعضهم متعلق (هادِياً) إلى طريق قهرهم ، وقيل : المعنى هاديا لمن آمن منهم ونصيرا لك على غيره ، وقيل : هاديا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله ونصيرا لهم عليهم وهو كما ترى. ونصب الوصفين على الحال أو التمييز (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حكاية لنوع آخر من أباطيلهم ، والمراد بهم المشركون كما صح عن ابن عباس وهم القائلون أولا ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم به والإشعار بعلة الحكم ، وقيل : المراد بهم طائفة من اليهود (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر فلا قصد فيه إلى التدريج المكان (جُمْلَةً واحِدَةً) فإنه لو قصد ذلك لتدافعا إذ يكون المعنى لو لا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية ، وقيل : عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه ، ونصب (جُمْلَةً) على الحال و (واحِدَةً) على أنه صفة مؤكدة له أي هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة والسلام دفعة غير مفرق كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار حتى كاد يكون إجماعا كما قال السيوطي ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره ، فقول ابن

١٥

الكمال إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة ناشئ من نقصان الاطلاع.

وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته لأن الإعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد ، منها ما ذكره الله تعالى بعد ، وقيل : إن شاهد صحة القرآن إعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة فلا يقاس بسائر الكتب فإن شاهد صحتها ليس الإعجاز. وفيه أن قوله : ولا يتيسر إلخ ممنوع فإنه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها. وقد صح أنه نزل كذلك إلى السماء الدنيا فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به بل قد يقال إن هذا أقوى في إعجازه والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام فافهم (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجا ، ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده ، وجوز نصبها على الحالية ، «وذلك» إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لا تنزيلا مغايرا له أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك فإن في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الكلام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح وتعدد نزول جبريل عليه‌السلام وتجدد إعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنزل منه ، ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا ، منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على معرفة البلاغة لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك ، وقيل : قوله تعالى (كَذلِكَ) من تمام كلام الكفرة والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر نزل المذكور أو لجملة ، والإشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة ، ولام (لِنُثَبِّتَ) لام التعليل والمعلل محذوف نحو ما سمعت أولا أي نزلناه مفرقا لنثبت إلخ ، وقال أبو حاتم : هي لام القسم ، والتقدير والله لنثبتن فحذف النون وكسرت اللام وقد حكى ذلك عنه أبو حيان والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في (كَذلِكَ). وتعقبه بأنه قول في غاية الضعف وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه «ولتصغى إليه أفئدة» إلخ وهو مذهب مرجوح ، وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء أي ليثبت الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر ، وتنكير «ترتيلا» للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره ، وترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعي والحسن وقتادة.

وقال ابن عباس : بينّاه بيانا فيه ترسل ، وقال السدي : فصلناه تفصيلا ، وقال مجاهد : جعلنا بعضه إثر بعض ؛ وقيل : هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤] وقيل : قرأناه عليك بلسان جبريل عليه‌السلام شيئا فشيئا في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل وهو مأخوذ من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان غير متلاصقها (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) من الأمثال التي من جملتها اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي لا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك ويظهرونه لك (إِلَّا جِئْناكَ) في مقابلته (بِالْحَقِ) أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحي عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية ، وقوله تعالى : (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) عطف على «الحق» أي جئناك بأحسن تفسيرا أي بما هو أحسن أو على محل (بِالْحَقِ) أي استحضرنا لك وأنزلنا عليك الحق وأحسن تفسيرا أي كشفا وبيانا على معنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به

١٦

له حسن في الجملة وهذا أحسن منه ، وهذا نظير قولهم : الله تعالى أكبر أي له غاية الكبرياء في حد ذاته وبعضهم قدر مفضلا عليه فقال : أي وأحسن تفسيرا من مثلهم وحسنه على زعمهم أو هو تهكم ، وتعقب الأول بأنه يفوت عليه معنى التسلية لأن المراد لا يهلك ما اقترحوه من قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً) فإن تنزيله مفرقا أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى وفيه منع ظاهر ، وقيل : المراد بالتفسير المعنى ، والمراد وأحسن معنى لأنه يقال : تفسير كذا كذا أي معناه فهو مصدر بمعنى المفعول لأن المعنى مفسر كدرهم ضرب الأمير ، ورد بأن المفسر اسم مفعول هو الكلام لا المعنى لأنه يقال فسرت الكلام لا معناه.

وقال الطيبي : وضع التفسير موضع المعنى من وضع السبب موضع المسبب لأن التفسير سبب لظهور المعنى وكشفه ، وقيل عليه : إنه فرق بين المعنى وظهوره فلا يتم التقريب وقد يكتفى بسببيته له في الجملة.

وأيا ما كان فهو نصب على التمييز والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحالية أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال أي إلا حال إنزالنا عليك واستحضارنا لك الحق وأحسن تفسيرا ، وجعل ذلك مقارنا لإتيانهم وإن كان بعده للدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به تثبيتا لفؤاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة الغريبة التي كانوا يقترحون كونه عليه الصلاة والسلام عليها من الاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحدة على معنى لا يأتوك بحالة عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن ، وتعقب بأنه يأباه الاستثناء المذكور فإن المتبادر منه أن يكون ما أعطاه الله تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في أن ما أتاه الله تعالى من الملكات السنية الطائفة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها ، وإبطالها.

وأجيب بأن معنى (إِلَّا جِئْناكَ) إلخ على ذلك إلا أظهرنا فيك ما يكشف عن بطلان ما أتوا به وهو كما ترى فالحق التعويل على الأول. والمشهور أن الإتيان والمجيء بمعنى لكن عبر أولا بالإتيان ، وثانيا بالمجيء للتفنن وكراهة أن يتحد ما ينسب إليه عزوجل وما ينسب إليهم لفظا مع كون ما أتوا به في غاية القبح والبطلان وما جاء به سبحانه في غاية الحقية والحسن ، وفرق الراغب بينهما فقال المجيء كالإتيان لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة ، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتى وأتاوى ، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول والمجيء يقال اعتبارا بالحصول ، ولعل في التعبير بالإتيان أولا والمجيء ثانيا على هذا إشارة إلى أن ما يأتون به من الأمثال في نفسه من الأمور التي تتخيل بسهولة ولا تحتاج إلى إعمال فكر بخلاف ما يكون في مقابلته فإنه في نفسه من الأمور العقلية التي صقلها الفكر فلا يجد أحد سبيلا إلى ردها والطعن فيها أو إلى أن فعلهم لخروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى كأنهم لم يتحقق منهم القصد دون الحصول بخلاف ما كان من قبله عزوجل فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي يحشرون ماشين على وجوههم. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ، صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» وهذا يحتمل أن يكون بمس وجوههم وسائر ما في جهتها من صدورهم

١٧

وبطونهم ونحوها الأرض وأن يكون بنكسهم على رءوسهم ، وجعل وجوههم إلى ما يلي الأرض وارتفاع أقدامهم وسائر أبدانهم ، ولعل الحديث أظهر في الأول ، وقيل : إن الملائكة عليهم‌السلام تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم والأمر عليه ظاهر لا غرابة فيه ، وقيل : الحشر على الوجه مجاز عن الذلة المفرطة والخزي والهوان ، وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب ، وقيل : الكلام كناية أو استعارة تمثيلية والمراد أنهم يحشرون متعلقة قلوبهم بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها ، ولعل كون هذه الحال في الحشر باعتبار بقاء آثارها وإلا فهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وزخارفها وتعلق قلوبهم بها ، ومحل الموصول قيل إما النصب بتقدير أذم أو أعني أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين أو على أنه مبتدأ ، وقوله تعالى : (أُوْلئِكَ) بدل منه أو بيان له ، وقوله تعالى : (شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثان و (شَرٌّ) خبره ، والجملة خبر الموصول ، وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون الموصول بدلا من الضمير في يأتونك و (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) كلام مستأنف ، ولعل الأقرب كون الموصول مبتدأ وما بعده خبره قال الطيبي. وذلك من باب كلام المنصف وإرخاء العنان وفصل (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) عما قبله استئنافا لأن التسلية السابقة حركت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يسأل فإذا بما ذا أجيبهم وما يكون قولي لهم؟ فقيل قل لهم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم إلخ يعني مقصودكم من هذا التعنت تحقير مكاني وتضليل سبيلي وما أقول لكم أنتم كذلك بل أقول الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم شر مكانا وأضل سبيلا فانظروا بعين الإنصاف وتفكروا من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا وسبيلكم أضل من سبيلنا. وعليه قوله تعالى : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] فالمكان الشرف والمنزلة. ويجوز أن يراد به الدار والمسكن. و (شَرٌّ) و (أَضَلُ) محمولان على التفضيل على طريقة قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة : ٦٠] وجعل صاحب الفرائد ذلك لإثبات كل الشر لمكانهم وكل الضلال لسبيلهم. ووصف السبيل بالضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة والآية على ما سمعت متصلة بما قبلها من قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ) إلخ وقال الكرماني هي متصلة بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ الآية قيل ويجوز أن تكون متصلة بقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) انتهى. وما ذكر أولا أبعد مغزى ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إلخ جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى : (كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) على ما قدمناه بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم‌السلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود. واللام واقعة في جواب القسم أي والله تعالى لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة ، وقيل : المراد بالكتاب الحكم والنبوة ولا يخفى بعده (وَجَعَلْنا مَعَهُ) الظرف متعلق بجعلنا ، وقوله تعالى : (أَخاهُ) مفعول أول له وقوله سبحانه : (هارُونَ) بدل من (أَخاهُ) أو عطف بيان له وقوله عزوجل (وَزِيراً) مفعول ثان له وتقدم معنى الوزير ولا ينافي هذا قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] لأنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه‌السلام وهو تابع له فيها كما أن الوزير متبع لسلطانه.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي

١٨

أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩)

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) هم فرعون وقومه والظاهر تعلق بآياتنا ب (كَذَّبُوا). والمراد بها دلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق أو الآيات التي جاءت بها الرسل الماضية عليهم‌السلام أو التسع المعلومة. والتعبير عن التكذيب بصيغة الماضي على الاحتمالين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل لتنزيل المستقبل لتحققه منزلة الماضي وتعقب بأنه لا يناسب المقام ، وقال العلامة أبو السعود : لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات التسع عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير وبحث فيه بما فيه تأمل ، وجوز أن يكون الظرف متعلقا باذهبا فمعنى (كَذَّبُوا) فعلوا التكذيب (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) عجيبا هائلا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه والمراد به أشد الهلاك. وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه والفاء فصيحة والأصل فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا إليهم ودعواهم إلى الإيمان فكذبوهما واستمروا على ذلك فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود. وقيل : معنى فدمرناهم فحكمنا بتدميرهم فالتعقيب باعتبار الحكم وليس في الإخبار بذلك كثير فائدة. وقيل : الفاء لمجرد الترتيب وهو كما ترى.

١٩

وعطف (قلنا) على (جَعَلْنا) المعطوف على (آتَيْنا) بالواو التي لا تقتضي ترتيبا على الصحيح فيجوز تقدمه مع ما يعقبه على إيتاء الكتاب فلا يرد أن إيتاء الكتاب وهو التوراة بعد هلاك فرعون وقومه فلا يصح الترتيب والتعرض لذلك في مطلع القصة مع أنه لا مدخل له في إهلاك القوم لما أنه بعد للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه‌السلام غاية الكمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكة فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام إذ به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي ذكر سابقا.

وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والحسن ومسلمة بن محارب فدمراهم على الأمر لموسى وهارون عليهما‌السلامو عن علي كرّم الله تعالى وجهه أيضا كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة ، وعنه كرّم الله تعالى وجهه «فدمرا» أمرا لهما بهم بباء الجر وكأن ذلك من قبيل :

تجرح في عراقيبها نصلي

وحكي في الكشاف عنه أيضا كرّم الله تعالى وجهه «فدمرتهم» بتاء الضمير (وَقَوْمَ نُوحٍ) منصوب بمضمر يدل عليه قوله تعالى : (فَدَمَّرْناهُمْ) أي ودمرنا قوم نوح ، وجوز الحوفي وأبو حيان كونه معطوفا على مفعول فدمرناهم ورد بأن تدمير قوم نوح ليس مترتبا على تكذيب فرعون وقومه فلا يصح عطفه عليه.

وأجيب بأنه ليس من ضرورة ترتب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لا سيما وقد بين سببه بقوله تعالى : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) أي نوحا ومن قبله من الرسل عليهم‌السلام أو نوحا وحده فإن تكذيبه عليه‌السلام تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد أو أنكروا جواز بعثة الرسل مطلقا ، وتعريف الرسل على الأول عهدي ، ويحتمل أن يكون للاستغراق إذ لم يوجد وقت تكذيبهم غيرهم ، وعلى الثاني استغراقي لكن على طريق المشابهة والادعاء ، وعلى الثالث للجنس أو للاستغراق الحقيقي ، وكأن المجيب أراد أن اعتبار العطف قبل الترتيب فيكون المرتب مجموع المتعاطفين ويكفي فيه ترتب البعض. وقيل : المقصود من العطف التسوية والتنظير كأنه قيل : دمرناهم كقوم نوح فتكون الضمائر لهم. والرسل نوح وموسى وهارون عليهم‌السلام ولا يخفى ما فيه. واختار جمع كونه منصوبا باذكر محذوفا ، وقيل : هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى : (أَغْرَقْناهُمْ) ويرجحه على الرفع تقدم الجمل الفعلية. ولا يخفى أنه إنما يتسنى ذلك على مذهب الفارسي من كون ـ لما ـ ظرف زمان وأما إذا كانت حرف وجود لوجود فلا لأن (أَغْرَقْناهُمْ) حينئذ يكون جوابا لها فلا يفسر ناصبا. ولعل أولى الأوجه الأول ، و (أَغْرَقْناهُمْ) استئناف مبين لكيفية تدميرهم كأنه قيل : كيف كان تدميرهم؟ فقيل : أغرقناهم بالطوفان (وَجَعَلْناهُمْ) أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم (لِلنَّاسِ آيَةً) أي آية عظيمة يعتبر بها من شاهدها أو سمعها وهو مفعول ثان لجعلنا و (لِلنَّاسِ) متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من (آيَةً) إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي جعلناه معدا لهم في الآخرة أو في البرزخ أو فيهما. والمراد بالظالمين القوم المذكورون ، والإظهار في موقع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب أو جميع الظالمين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أوليا ويحتمل العذاب الدنيوي وغيره.

(وَعاداً) عطف على (قَوْمَ نُوحٍ) أي ودمرنا عادا أو واذكر عادا على ما قيل ، ولا يصح أن يكون عطفا إذا نصب على الاشتغال لأنهم لم يغرقوا. وقال أبو إسحاق هو معطوف على ـ هم ـ من (جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) ويجوز أن يكون معطوفا على محل (الظالمين) فإن الكلام بتأويل وعدنا الظالمين ا ه ولا يخفى بعد الوجهين (وَثَمُودَ) الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله.

٢٠