روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما أدري ما أقول؟ فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال : لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله : (عَلِيماً) ثم نزل (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء : ١١] فدعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا» ، وفي بعض طرقه ـ أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزوجة الثمن ، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.

وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ، ومن عمم الرجال والنساء ، وقال : إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه ، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال : إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات ، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى ، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا : لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ) إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها ، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل ، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه.

(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل ، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من ـ من من ـ واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.

وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في (تَرَكَ) أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل ، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا ، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال ، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ، وتقديم القليل على الكثير من باب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩](نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد ، ونقل عن بعضهم أنه مصدر ، وإما على الحالية من الضمير المستتر في (قَلَ) و (كَثُرَ) أو في الجار والمجرور الواقع صفة ، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب ، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه ، وقيل : هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا ، وقيل : منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه ، والفرض ـ كالضرب ـ التوقيت ومنه (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [البقرة : ١٩٧] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا ، ويستعمل بمعنى القطع ، منه قوله تعالى : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ١١٨] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح ، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية ، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم.

٤٢١

وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي ، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهو آحاد ، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر ، وذهب الشافعية إلى ترادفهما ، واحتج كل لمدعاه بما احتج به ، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد ، وقال بعض المحققين : لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي ـ كحكم الكتاب ـ وما ثبت بدليل ظني ـ كحكم خبر الواحد في الشرع ـ فإن جاحد الأول كافر دون الثاني ، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني ، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني ، وهذا مجرد اصطلاح ، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما ، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط ، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا ، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني ، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ، ألا ترى أن قولهم : الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع ، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت ، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب ، ثم استعمال الفرض ـ فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي ـ شائع مستفيض كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ، ويسمى فرضا عمليا ، وكقولهم : الصلاة واجبة والزكاة واجبة ، ونحو ذلك ، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون ، والمفروض ما علم بدليل قاطع ، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق ، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.

واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به ، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام ، وقيل : قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع ، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام ، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من الأجانب (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي أعطوهم شيئا من المال ، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل : الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم ، وقيل : أمر وجوب ، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون ، ومن (الْيَتامى وَالْمَساكِينُ) غير الوارثين وأن قوله سبحانه : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) راجع إلى الأولين ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) راجع للآخرين وهو بعيد جدا ، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين ، والمراد من القول المعروف أن

٤٢٢

يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم ، وقوله سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) فيه أقوال : أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية : يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم (إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى : (لِلرِّجالِ) إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم ، وقيل في وجه الارتباط : إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم ، وقيل : إن الآية مرتبطة بقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) ، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.

وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده ، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس ، أو الربع ، يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ـ يعني صغار ـ لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك ، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة ، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر ، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا ، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم ، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث ، وورد في الخبر ما يؤيده ، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى. وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف ، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء ، والورثة بأمر مرضى المؤمنين ، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك ، وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع.

وذهب الأجهوري وغيره إلى أن (لَوْ) بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال ، وأوجبوا حمل (تَرَكُوا) على المشارفة ليصح وقوع (خافُوا) جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع

٤٢٣

أولادهم ، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم ، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم ، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال : كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانئ بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى ، ثم قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت : بلى فتلا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) الآية ، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن (مِنْ خَلْفِهِمْ) ظرف لتركوا ، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة ، وجوز أن يكون حالا من (ذُرِّيَّةً) و (ضِعافاً) كما قال أبو البقاء : يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة ، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار ، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت ؛ وقرئ ـ «ضعفاء» «وضعافى» و «ضعافى» ، نحو سكارى وسكارى (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدإ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة (وَلْيَقُولُوا) لليتامى ، أو للمريض ، أو لحاضري القسمة ، أو ليقولوا في الوصية (قَوْلاً سَدِيداً) فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة ، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته ، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث ، والسديد ـ على ما قال الطبرسي ـ المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل : ما لا خلل فيه ، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا ، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد ، وأمر سديد وأسد أي قاصد ، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب ، وكذلك السدد مقصور منه ، وأما السداد بالكسر فالبلغة ، وما يسد به ، ومنه قولهم : فيه سداد من عوز ـ قاله غير واحد ـ وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السين ـ وهو لحن ـ والصواب الكسر ، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد ، فقال : يقال سداد من عوز وسداد ، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب ؛ وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح ، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير ، وأنشد قول العرجي :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة «وسداد» ثغر

فليحفظ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي و (ظُلْماً) إما حال أي ظالمين ، أو مفعول لأجله وقيل : منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على وجهه ، وقيل : على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الاستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما ، ولا الآكل ظالما. وقيل : ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم. وفيه منع ظاهر. (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي ملء بطونهم ، وشاع هذا التعبير في ذلك ، وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن ، وفي بعض البطن دونه ، وهو المراد في قوله :

٤٢٤

كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

ولا ينافي هذا قول الأصوليين : إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه ، فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره ، فقد قال عصام الملة : إن هذا مذهب الكوفيين ، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو ، وقال شهاب الدين : الظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية ، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال : أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء ، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه.

وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] والقلب لا يكون إلا في الصدر ، وقوله سبحانه : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والطير لا يطير إلا بجناح ، فقد قالوا : إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة ، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل ، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت : إن ضربت زيدا في الدار ، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر ، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول ، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه ، ولذا قال بعض الفقهاء : لو قال : إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه ، ولو قال : إن ضربته ، أو جرحته ، أو قتلته ، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه ، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته ، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل ، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم ، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه ، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك ، والجار والمجرور متعلق ـ بيأكلون ـ وهو الظاهر ، وقيل : إنه حال من قوله تعالى : (ناراً) أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب ، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه ، واستبعده بعض المحققين ، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره ، فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال : من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «حدثني النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة ، والباقون بفتحها ، وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بتشديد اللام ، وفي الصحاح يقال : صليت اللحم ، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته ، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء ـ كأنك تريد الإحراق ـ قلت : أصليته بالألف وصليته تصلية ، ويقال : صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته ، قال الطهوي :

ولا تبلى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

وقال بعض المحققين : إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا ، وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه ، وقيل : إنه يتعدى بالباء فيقال : صلي بالنار ، وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله

٤٢٥

بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم ، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا ، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم ، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم ، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) [البقرة : ٢٢٠] الآية (يُوصِيكُمُ اللهُ) شروع في بيان ما أجمل في قوله عزوجل (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ ، والوصية كما قال الراغب : أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه ، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم ، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة (فِي أَوْلادِكُمْ) أي في توريث أولادكم ، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية ، وقيل : (فِي) بمعنى اللام كما في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي لها كما صرح به النحاة ، والخطاب قيل : للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ، وقيل : الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم ، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث ، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر.

وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال : كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب ؛ وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول ، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف ، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل ، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم : السمن منوان بدرهم ، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه ـ مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث ـ ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث ، وأن يقال : للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل ، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره ، ولذا قال سبحانه : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة ، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث. وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا ـ كما هو زعم أهل الجاهلية ـ حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء ، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ ، ومما اشتهر.

٤٢٦

إن الشباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أي مفسده

وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ أن حواء عليها‌السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه‌السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل ـ ذكره بعضهم ولم أقف على صحته ، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى ، واستثني من العموم الميراث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء على القول بدخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة ، والدليل على الاستثناء قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قالت له بزعمهم: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا ، وقالوا : إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) [الطلاق : ٦] فقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله ، وأيضا العام ـ وهو الكتاب ـ قطعي ، والخاص ـ وهو خبر الآحاد ـ ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.

وقالوا أيضا : إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه‌السلام : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون ، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا : اللهم نعم ، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال : أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال ذلك؟ قالا : اللهم نعم ، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه ، وفي كتب الشيعة ما يؤيده ، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر» وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.

وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة (١) من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا ، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر

__________________

(١) كعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن والحسين وعلي بن الحسين والحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهم ا ه منه.

٤٢٧

من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا ، ومنه قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها» والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسليمان عليه‌السلام غير متصورة بوجه ، وأيضا إن داود عليه‌السلام ـ على ما ذكره أهل التاريخ ـ كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمانعليه‌السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.

وأيضا توصيف سليمان عليه‌السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه‌السلام ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه‌السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى ، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا ، وهذا أفحش من الأول ، وإن كان المراد بعض الأولاد ، أو أريد من يعقوب غير المتبادر ، وهو ابن إسحاق عليهما‌السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته ، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد ، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه‌السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف ، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها ، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية ، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه‌السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر ، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.

وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه‌السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه‌السلام خشي من أشرار

٤٢٨

بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم ، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب ، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية ، فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة ، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة ، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب ، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال ، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح ، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد ، ومن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) [فاطر : ٣٢] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية ، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟ والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما ، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة ، والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول ، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل. إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجه ، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة ، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع ، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه بلا واسطة ، فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه ، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا ، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياءعليهم‌السلام لما علمت ، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو

٤٢٩

غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها ، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا ، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث ، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا ، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها ، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد ، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا ، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة ، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية ، وقد غضب موسى عليه‌السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه ـ كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي ـ وغيرها ، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال : صدقت يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت : افعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال : لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك ، فقالت : والله لتفعلن؟ فقال : والله لأفعلن ذلك ، فقالت : اللهم اشهد ، ورضيت بذلك ، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل ، وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها ، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب ، أو تضييق الأمر على المسلمين.

وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما» على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب ، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل ، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ، ويجوز أن يعود الى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد ، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر ، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) إذا جعل صفة ـ لنساء ـ فهو محل الفائدة ، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت ، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن ـ كان ـ ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم ، والتنازع ـ كما قاله الشهاب ـ والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية ، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن.

(فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه ، ومثله شائع سائغ (وَإِنْ كانَتْ) أي المولودة المفهومة من الكلام (واحِدَةً) أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت.

وقرأ نافع وأهل المدينة (واحِدَةً) بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها ، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل ، وقال ابن تمجيد : القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر ، فإنه إن

٤٣٠

كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر ، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر ، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد ، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا (فَلَهَا النِّصْفُ) أي (مِمَّا تَرَكَ) وترك اكتفاء بالأول و (النِّصْفُ) مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء ، وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ) بضم النون وهي لغة أهل الحجاز ، وذكر أنها أقيس لأنك تقول : الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر ، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة ، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين ، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ، ووجه ذلك ـ على ما قاله القطب ـ أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد ، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية ، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور ، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين ، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة ، أو الإشارة ، وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمهما فقال : أعط لابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك».

فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت (١) فيكون قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) إلخ بيانا لحظ الواحدة ، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.

أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى ، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين ، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك ، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين ، وجعله العلامة ناصر

__________________

(١) وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة ا ه منه.

٤٣١

الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم ، ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه ، وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد ، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد ، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة ، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد ، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.

وقيل : إن معنى الآية (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها» فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها ، وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع اثنان ، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد ، وقد قيل به ، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر ، وأجيب بأن قوله سبحانه : (نِساءً) ظاهر في كونها (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه ، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف ، والمتيقن هو النصف ، والزائد مشكوك غير ثابت ، فتعين المصير إليه ، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك ـ كما قيل ـ فقال ما قال ، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط : صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا ؛ وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث ، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.

وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم (وَلِأَبَوَيْهِ) أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع ، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب ، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل من (لِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل ، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى : (السُّدُسُ) والخبر ، وهو لأبويه ـ وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا ، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، ويكون أصل الكلام ـ والسدس ـ لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فاقتضى اشتراكهن فيه ، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك ، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا ، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب ، وإلا لزم زيادة معنى في البدل ، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله : (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث ، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل ، ولذلك أتى

٤٣٢

بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل (لِأَبَوَيْهِ) خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال ، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك : ما محل (لِأَبَوَيْهِ) من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول : إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم.

ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون (لِأَبَوَيْهِ) واختير هذا التركيب دون أن يقال : ولكل واحد من أبويه (السُّدُسُ) لما في الأول من الإجمال ، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني ، ودون أن يقال : (لِأَبَوَيْهِ) السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل ، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول.

وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ ، والعامل الاستقرار أي كائنا (مِمَّا تَرَكَ) المتوفى (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر ، وولد الابن كذلك ، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية ، وإن كانوا ذكورا وإناثا (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس ، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات ، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما ، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت ، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ولا ولد ابن (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ) والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه ، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون ، وقيل : إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم ، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله ، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب ـ وفيه تأمل ـ لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون ، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك ، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين ، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عزوجل : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا.

ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول : بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل ، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد ، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر ، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن

٤٣٣

المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع ، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه ، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين ، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع ، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى ، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس ، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين. فقال زيد : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال : لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب ، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم ، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه : إن معنى قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه ، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) بعد قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فيلزم أن يكون قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) خاليا عن الفائدة ، فإن قيل : نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا : ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا ، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا ، وليته سمع ذلك فليفهم.

وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها ، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق ، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف ـ وهو الرواية الأخرى ـ عن الصديق رضي الله تعالى عنه : إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب ، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) في حق الأب ، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة ، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة ، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب ، فإن للمرأة الربع ، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي ، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر ، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات ، وسواء كانوا من جهة الأبوين ، أو من جهة أحدهما.

وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى ، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن

٤٣٤

الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ، وقال الجمهور : إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة ، ألا يرى أن البنتين كالبنات ، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب ؛ وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما ، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال : جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب ، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له : يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة ، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب ، وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا.

ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة ، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة ، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب ، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون ، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده ، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة ، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق ، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب ، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة ، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص ، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم ، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان ، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان ، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب ـ وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا ـ ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء ، وقد يستدل عليه بما رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين.

وللجمهور ـ كما قال الشريف ـ إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل : فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي ، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه ، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر ، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب ، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد ، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها ، وقد روي عن طاوس أنه قال : لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال : كان ذلك وصية وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث ، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي ، وفي الدر المنثور أن ابن جرير ، وعبد الرزاق والبيهقي عنه ، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام ، وقيل : إنه اتباع لكسرة الميم ، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية ، وقيل : إنه لغة في الأم ، وأنكرها الشهاب ، وفي القاموس الأم ـ وقد تكسر ـ الوالدة ، ويقال : أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات ، وهذه لمن يعقل ، وأمات لما لا يعقل ، وحكي ذلك في الصحاح عن

٤٣٥

بعضهم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) متعلق ـ بيوصيكم ـ والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به ، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية.

وجوز أن يكون حالا من السدس ، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع ، وقيل : إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها) الميت.

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم (يُوصِي) مبنيا للمفعول مخففا ، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا ، والجملة صفة (وَصِيَّةٍ) وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها ، وقيل : التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها (أَوْ دَيْنٍ) عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة ، وإيثار (أَوْ) على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين ، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه عنه جماعة ـ لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت ، وقال ابن المنير : إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ، ثم اقتسام ذوي الميراث ، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية ، والدين صورة الواقع شرعا ، ولو سقط ذكر (بَعْدِ) وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) الخطاب للورثة ، و (آباؤُكُمْ) مبتدأ ، و (وَأَبْناؤُكُمْ) معطوف عليه ، و (لا تَدْرُونَ) مع ما في حيزه خبر له ، و ـ أي ـ إما استفهامية مبتدأ ، و (أَقْرَبُ) خبره ، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين ، وإما موصولة ، و (أَقْرَبُ) خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته ، وحذف صدر صلته ، والمفعول الثاني محذوف ، و (نَفْعاً) نصب على التمييز ، وهو منقول من الفاعلية ، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية.

والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع ، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات ، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا ، وليس المراد ـ كما قال شيخ الإسلام ـ بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم ، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور ، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشإ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل : لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة ، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا ، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى ، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى ، واختار كثير من المحققين

٤٣٦

كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة ، وجعل الخطاب للمورثين ، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل ؛ وكانت الأنصباء مختلفة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل ، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال : إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم ، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ، فقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ، وإلى هذا ذهب الحسن رحمه‌الله تعالى ، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.

وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة ، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا : لما ذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت ، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة ، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك ، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير ، وربما يقال : المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة ، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا ـ كما قال السدي ـ لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر ، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر ، وقيل : إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ، ونسب إلى أبي مسلم ، ولا يخفى مزيد بعده (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله : وقيل : إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا ، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى ، وقيل : بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم ؛ وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بالمصالح والرتب (حَكِيماً) في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا ، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ ـ كما قال الخليل ـ كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن

٤٣٧

الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم : إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) إن دخلتم بهن أولا (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم ، ولذا قال سبحانه : (لَهُنَ) ولم يقل لكم ، ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن

٤٣٨

الزوجة ، وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء الله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) على ما ذكر من التفصيل ، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام ، أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده ، والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره (وَلَهُنَ) أي الأزواج تعددن أو لا (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) عى التفصيل المتقدم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فرض للرجل بحق الزواج (١) ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا اختص بتشريف الخطاب ، وتقديم ذكر حكم ميراثه وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) المراد بالرجل الميت وهو اسم كان (يُورَثُ) على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان ، والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف (كَلالَةً) هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء قال الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من (كلالة)

ولا من حفي حتى ألاقي محمدا

ثم استعيرت واستعملت استعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد بضعفها بالنسبة إلى قرابتهما ، وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا ، وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها ـ صفة ـ كالهجاجة ـ للأحمق قال الشاعر :

«هجاجة» منتخب الفؤاد

كأنه نعامة في واد

وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه استعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثنى ولا تجمع ، واختار كثيرون كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به ، ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد ، وقال الحسين بن علي المغربي : أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره آخذا من الكلّ وهو الظهر والقفا ، ونصبها (٢) على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة ، أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة ، واختاره الزجاج ، أو على أنها خبر لكان ؛ و (يُورَثُ) صفة لرجل أي (إِنْ كانَ) رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وذكر أبو البقاء احتمال كون (كانَ) تامة ، و (رَجُلٌ) فاعلها ، و (يُورَثُ) صفة له ، و (كَلالَةً) حال من الضمير في يورث ، واحتمال نصبها على هذا الاحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر ، وجوز فيها الرفع على أنها صفة ، أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا ، وجعل نصبها على الاستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث.

وقرئ «يورث» ، و «يورّث» بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل ، فانتصاب (كَلالَةً) إما على أنها حال من

__________________

(١) كقتال ا ه منه.

(٢) وجوز نصبها على أنها خبر ثان إن أريد أحد الملابسين. وعلى التمييز إن أريد المصدر ا ه منه.

٤٣٩

ضمير الفعل والمفعول محذوف أي (يُورَثُ) وارثه حال كونه ذا (كَلالَةً) ، وإما على أنها مفعول به أي (يُورَثُ) ذا كلالة ، وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا ، ثم إن الذي عليه أهل الكوفة. وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث ، وروي عن آخرين ، منهم ابن جبير وصح به خبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أنها بالمعنى الثاني ، ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف ، والأول منهما غير بعيد ، والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل مقيد بما قيد به ، وكثيرا ما يستغني بتقييد المعطوف عليه عن تقييد المعطوف ، ولعل فصل ذكرها عن ذكره فللإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام ، وقيل : لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناء على ما روي عن جابر أنه قال : أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت : كيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض لذلك (وَلَهُ) أي الرجل ، وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد ، أو حتى أن ما ورد على خلاف ذلك مؤول عند الجمهور كقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] وأتى به مذكرا للخيار بين أن يراعي المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك ، وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة ، ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما ، والتذكير للتغليب ، وجوز أن يكون راجعا للميت ، أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه ، وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل ، وضمير المرأة محذوف. والمراد وله أولها (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من الأم فقط ـ وعلى ذلك عامة المفسرين ـ حتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه.

وأخرج غير واحد عن سعيد أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم ، وعن أبي من الأم ، وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء استند إليها بناء على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم ، ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة ، وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت ، وللأكثر وهو السدس ، والثلث هو فرض الأم ، فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم ، ويقال لهم إخوة أخياف ، وبنو الأخياف ، والإضافة بيانية ، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث. أو من رجل على تقدر كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة ، وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور ، وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم ، أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة ، وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) أي الأخت والأخ (السُّدُسُ) مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى ، ولعله إنما عدل عن ـ فله السدس ـ إلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ ، وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة (فَإِنْ كانُوا) أي الإخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي المذكور بواحد ، أو بما فوقه والتعبير باسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه ، وبعض المحققين التزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد انكشاف حال المشار إليه ، ولعل التعبير باسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية ، والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال العدد.

(فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يقتسمونه فيما بينهم بالسوية ، وهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الأمة ، والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات ، وفيه خلاف الشيعة ، هذا ومن الناس من جوز أن يكون (يُورَثُ) في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث ، والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة ؛ أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد ، ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث ، أو أخيه أو أخته السدس ، فإن

٤٤٠