روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

١
٢

سورة الذّاريات

«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ـ ولم يحك في ذلك خلاف ـ وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع ، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من ـ ذرا ـ المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (١)

__________________

(١) (تنبيه) جرينا هنا في تقسيم هذا الجزء هكذا لما هو المشهور من تجزئة الأجزاء الأربعة الأواخر لذلك ليكون أو كل جزء منها أو سورة وإن كانت تجزئة المصاحف في هذا الجزء هي قوله «قال فما خطبكم أيها المرسلون».

٣

أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : أخبرني عن (الذَّارِياتِ ذَرْواً) قال : هي الرياح ، ولو لا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال : هي السحاب ولو لا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال : هي السفن ولو لا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال : هي الملائكة ولو لا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما إخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس».

ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع.

وفي رواية عن ابن عباس أن ـ الحاملات ـ هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم ، وقيل : هي الحوامل من جميع الحيوانات ، وقيل : الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عزوجل ، وقيل : هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه ، وقيل : هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة ، وقيل : (الذَّارِياتِ) النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح ، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا ، وقيل : (الذَّارِياتِ) هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها ، وقيل : الحاملات الرياح الحاملة للسحاب ، وقيل : هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا ، وقيل : الجاريات الرياح تجري في مهابها ، وقيل : المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد ، وقيل : هي الكواكب السبعة السيارة ـ وهو قول باطل ـ لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد ، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين. وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول ، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر ، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك ، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها ـ كما تذر ـ وما تذروه تثير السحاب وتحمله ، وتجري في الجوّ جريا سهلا ـ وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار ـ والمعول عليه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر ـ وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين ، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير : الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له ، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

وقول صاحب الكشف : إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عزوجل ، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها

٤

من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح ، وقيل : الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا ، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره ، وقيل : إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء ، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.

ونصب (ذَرْواً) على أنه مفعول مطلق ، و (وِقْراً) على أنه مفعول به ، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا ، و (يُسْراً) على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر ، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه ، و (أَمْراً) على أنه مفعول به وهو واحد الأمور ، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برءوس الآي مع ظهور الأمر ، وقيل على أنه حال أي مأمورة ، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة ، وقرأ أبو عمرو وحمزة (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) بإدغام التاء في الذال ، وقرئ «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله ـ كما أفاده كلام الزمخشري ـ وناهيك به إماما في اللغة ، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق ـ لحاملات ـ من معناها كأنه قيل : فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) جواب للقسم ، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه ، أو توعدون به ، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم ، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد ، وأن يكون مضارع أوعد ، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] ولأن المقصود التخويف والتهويل ، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه ، وفي الكشاف وعد صادق ـ ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ـ و (الدِّينَ) الجزاء ووقوعه حصوله ، والأكثرون على أن الموعود هو البعث ، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أي الطرق جمع حبيكة كطريقة ، أو حباك كمثال ومثل ، ويقال : حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح ، وعليه قول زهير يصف غديرا :

مكلل بأصول النجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك (١)

وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره ، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك ، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب ، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر ، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع : ذات الخلق المستوي الجيد ، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان ، وقيل : ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم : حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها ، وفرس محبوك المعاقم ـ وهي المفاصل ـ أي محكمها ، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر ، وعن الحسن ـ حبكها ـ نجومها ، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل : ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين ، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة

__________________

(١) قوله : «مكلل» مجرور على الوصف في قوله : قبله ثم استعانت ـ ماء مكلل ـ ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل ، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و «الضاحي» الظاهر ، و «حبك الماء طرائفه». ا ه.

٥

منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته ، أو متقنة البنيان أو صفيقة ، أو ذات طرق معقولة ظاهر ، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات ، فممراتها باعتبار المسامتة طرق ، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه ، وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : هي السماء السابعة ، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.

وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل ، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة (١) وبرق ، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء ـ كالإبل ـ وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا ، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء ـ كالسلك ـ وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع ـ قاله في البحر ـ وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما ـ كالجبل ـ قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب ، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم ، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال : هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء (٢) وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول ، وقال صاحب اللوامح : هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.

وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة ، وقال أبو حيان : الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء (ذاتِ) في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي متخالف متناقض في أمر الله عزوجل حيث تقولون : إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه ، وفي أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فتقولون تارة : إنه مجنون ، وأخرى : إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا ، وفي أمر الحشر فتقولون : تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا ، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به ، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم ، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها ، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة ، أو ليست قوية محكمة ، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه ، وقال الحسن وقتادة : عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال غير واحد : عن القرآن ، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم ، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل : (يُصْرَفْ عَنْهُ) [الأنعام : ١٦] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي

__________________

(١) هي أرض ذات حجارة.

(٢) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة.

٦

في الموصول ، وهو قريب من قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] وقيل : المراد (يُصْرَفْ عَنْهُ) في الوجود الخارجي من (فَصَرَفَ عَنْهُ) [يوسف : ٣٤] في علم الله تعالى وقضائه سبحانه ، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة ، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عزوجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه ، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما (تُوعَدُونَ) أو ـ للدين ـ أقسم سبحانه ـ بالذاريات ـ على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في وقوعه ، فمنهم شاك ، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا : (يُؤْفَكُ) عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك ، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه ، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون الضمير ـ لقول مختلف ـ وعن ـ للتعليل كما في قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) [هود : ٥٣] وقوله :

ينهون عن أكل وعن شرب

مثل المها يرتعن في خصب (١)

أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام ، وقال الزمخشري : حقيقة يصدر إفكهم عن القول المختلف ، وهذا محتمل لبقاء ـ عن ـ على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين ، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة ، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال : المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للإسلام من غلبت سعادته ، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين ، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار ـ وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره ـ واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر ، واستظهر العموم فيما سبق أيضا ، والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقول الكفار بنقيض ذلك ، وقرأ ابن جبير وقتادة «من أفك» مبينا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش ، وقرأ زيد بن علي ـ يأفك عنه من أفك ـ أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب ، وقرئ «يؤفن عنه من أفن» بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي الكذابون من أصحاب القول المختلف ، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له ، وقال الراغب : حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له : خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه ، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون : ١] الآية انتهى.

وفيه بحث وحقيقة ـ القتل ـ معروفة ، والمراد ـ بقتل ـ الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري : وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك ، وقرئ «قتل الخراصين» أي قتل الله الخراصين (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به ، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.

__________________

(١) يصف الشاعر مضيافا يصدر الأضياف عنه شباعا يتباهون في السمن بسبب الأكل والشرب وقالوا جمل ناه إذا كان عريقا في السمن ا ه.

٧

(يَسْئَلُونَ) أي بطريق الاستعجال استهزاء (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول ، أو لقول مقدر ـ أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء ـ وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في (أَيَّانَ) ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) [الدخان : ١٠] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك ـ كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز ـ وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه ، وقرئ «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يحرقون ، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك ، و (يَوْمَ) نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده ـ أي يقع يوم الدين يوم هم على النار ـ إلخ ، وقال الزجاج : ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدإ كذلك أي هو واقع ، أو كائن يوم إلخ ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير ، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل ـ أي هو يوم هم ـ إلخ ، والضمير قيل : راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو ـ سيقولون لله ـ في جواب (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع ، وجوابه الأصلي في يوم كذا ، وإذا قلت : وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه. ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى ، فالتقدير يوم الجزاء ـ يوم تعذيب الكفار ـ ويؤيد ـ كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدإ محذوف ـ قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع ، وزعم بعض النحاة أن ـ يوم ـ بدل من (يَوْمُ الدِّينِ) وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء ، و (يَوْمَ) وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء ، وحكي على المعنى ، ولو حكي على اللفظ لقيل : يوم نحن على النار نفتن ، وهو في غاية البعد كما لا يخفى ، وقوله تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) بتقدير قول وقع حالا من ضمير (يُفْتَنُونَ) أي مقولا لهم (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذابكم المعدّ لكم ، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب ـ كالكفر ـ فتنة ، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل : ذوقوا كفركم ـ أي جزاء كفركم ـ أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر ـ أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء ـ وجوز أن يكون هذا بدلا من (فِتْنَتَكُمْ) بتأويل العذاب ، وفيه بعد (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي قابلين لكل ما أعطاهم عزوجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول ، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم ، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد ، ونصب (آخِذِينَ) على الحال من الضمير في الصرف (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) في الدنيا (مُحْسِنِينَ) أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم ، وفسر إحسانهم بقوله تعالى (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى : (كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) حصل بها تفسير ، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية ، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من الفرائض (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون ، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر ، ولا يكاد تجعل جملة (كانُوا) إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

٨

و ـ الهجوع ـ النوم ، وقيده الراغب بقوله : ليلا ، وغيره بالقليل ، و (ما) إما مزيدة ـ فقليلا ـ معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي ـ هجوعا قليلا ـ و (مِنَ اللَّيْلِ) صفة ، أو لغو متعلق ـ بيهجعون ـ و (مِنَ) للابتداء ، وجملة (يَهْجَعُونَ) خير ـ كان ـ أو (قَلِيلاً) صفة لظرف محذوف ـ أي زمانا قليلا ـ و (مِنَ اللَّيْلِ) صفة على نحو ـ قليل من المال عندي ـ وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل (قَلِيلاً) وهو خبر ـ كان ـ و (مِنَ اللَّيْلِ) حال من الموصول مقدم كأنه قيل : كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار (مِنَ اللَّيْلِ) وإما مصدرية فالمصدر فاعل (قَلِيلاً) وهو خبر كان أيضا ، و (مِنَ اللَّيْلِ) بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم ، أو حال من المصدر ، و (مِنَ) الابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف ، وذهب بعضهم إلى أن (مِنَ) على زيادة ـ ما ـ بمعنى في كما في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في (مِنَ اللَّيْلِ) كونه صفة ، أو بيانا ـ للقليل ـ لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه ، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم ؛ وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره (يَهْجَعُونَ) وجوز أن يكون (ما يَهْجَعُونَ) على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل : كان هجوعهم قليلا وهو بعيد ، وجوز في (ما) أن تكون نافية ، و (قَلِيلاً) منصوب ـ بيهجعون ـ والمعنى ـ كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله ـ ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد ، ورده الزمخشري بأن (ما) النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو ـ عوتب بلا جرم ـ ولم ولن ـ لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه ، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين ، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا ، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه ، واستدل عليه بقوله :

ونحن عن فضلك ما استغنينا

نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول : بأنه كان ثابتا في الشرع ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية : كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل : ٢٠] وقال الضحاك : (كانُوا قَلِيلاً) في عددهم ، وتم الكلام عند (قَلِيلاً) ثم ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) على أن (ما) نافية ؛ وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام ، ولعل أظهر الأوجه زيادة (ما) ونصب (قَلِيلاً) على الظرفية ، و (مِنَ اللَّيْلِ) صفة قيل : وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم ، وقوله تعالى : (قَلِيلاً) و (مِنَ اللَّيْلِ) لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة (ما) لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.

والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا ، قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا ، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا ، وفسر أنس ابن مالك الآية ـ كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم ـ فقال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.

٩

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨)

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الاحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.

وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى ، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر ـ وبه قال الحسن.

أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال : صلوا فلما كان السحر استغفروا ، وقيل : المراد طلبهم المغفرة بالصلاة ، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : (يَسْتَغْفِرُونَ) يصلون ، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا ولا أراه يصح ، وأخرج أيضا عن أنس قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عزوجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. (لِلسَّائِلِ) الطالب منهم (وَالْمَحْرُومِ) وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.

أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل : فمن المسكين؟ قال : الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم» وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس ، وقيل : هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان ، وقال زيد بن أسلم : هو الذي اجتيحت ثمرته ، وقيل : من ماتت ماشيته ، وقيل : من ليس له سهم في الإسلام ، وقيل : الذي لا ينمو له مال ، وقيل : غير ذلك ـ قال في البحر : وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه ـ وأنا بقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقول ـ وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة ، وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم ، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم ، والجمهور على الأول.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات ، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء ، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص ، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره ، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض ، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها ، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط

١٠

رحمته عزوجل (لِلْمُوقِنِينَ) للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة ، وقرأ قتادة ـ آية ـ بالإفراد (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة ، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى ، وقيل : أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع ، ورواه عطاء عن ابن عباس ، وقيل : سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة ، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية ، وقيل : في الأخير (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي تقديره وتعيينه ، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك ، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب ، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة ، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن ـ أرزاقكم ـ على الجمع.

(وَما تُوعَدُونَ) عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد ، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك ـ ما توعدون ـ الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف ، وقال بعضهم : هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، وقيل : أمر الساعة ، وقيل : الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها ، وقيل : إنه مستأنف خبره.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) على أن ضمير (إِنَّهُ) ل (ما) وعلى ما تقدم ، فإما له أو للرزق ، أو لله تعالى ، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو للقرآن ، أو للدين في (إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] أو لليوم المذكور في (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢] أو لجميع المذكور أما ما أقوال ، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع ، ونصب (مِثْلَ) على الحالية من المستكن في (لَحَقٌ) وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير ، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم ، وقيل : إنه مبني على الفتح فقال المازني : لتركبه مع (ما) حتى صارا شيئا واحدا نحو ـ ويحما ـ وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر :

أثور ما أصيدكم أو ثورين

أم هذه الجماء ذات القرنين

وقال غيره : لإضافته إلى غير متمكن وهو (ما) إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء ، أو موصولة بمعنى الذي و (أَنَّكُمْ) إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو (أَنَّكُمْ) إلخ ، والجملة صفة ، أو صلة ، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت (ما) زائدة ، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة (لَحَقٌ) أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم (مِثْلَ) بالرفع ، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون ـ مثلا ـ ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية ـ واستدلالهم ، والرد عليهم مذكور على النحو ـ وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : ممن

١١

الرجل؟ قلت : من بني أصمع قال : من أين أقبلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال : اتل علي فتلوت (وَالذَّارِياتِ) فلما بلغت (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد ، وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مديحا فيه صدق المبلغ ، وقضى الوطر من تفصيله مهّد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالاتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه : (هَلْ أَتاكَ) إلخ ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم‌السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى : (وَفِي مُوسى) عطفا على قوله سبحانه (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما‌السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجى مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم ـ والترجيح مع الأول انتهى ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما سيتعلق بقوله سبحانه : (وَفِي مُوسى) ، و (الضيف) في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد ، قيل : كانوا اثني عشر ملكا ، وقيل : ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه‌السلام حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان ، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية (الْمُكْرَمِينَ) أي عند الله عزوجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم‌السلام : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] أو عند إبراهيم عليه‌السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار ، وقرأ عكرمة «المكرّمين» بالتشديد (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل ، أو للضيف ، أو ل (الْمُكْرَمِينَ) إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد ، أو منصوب بإضمار اذكر (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليك سلاما ، وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها ، وقال ابن عطية : يتجه أن يعمل في (سَلاماً) قالوا : على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا : تحية وقولا معناه «سلام» ونسب إلى مجاهد وليس بذاك.

(قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام ، وقيل : (سَلامٌ) خبر مبتدأ محذوف أي أمري (سَلامٌ) وقرئا مرفوعين ، وقرئ ـ سلاما قال سلما ـ بكسر السين وإسكان اللام والنصب ، والسلم السلام ، وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة ـ سلاما قال سلم ـ بالكسر والإسكان والرفع ، وجعله في البحر على معنى نحن أو أنتم سلم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أنكرهم عليه‌السلام للسلام الذي هو علم الإسلام ، أو لأنهم عليهم‌السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس ، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، و (قَوْمٌ) خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه‌السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته : أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها ، وذهب بعض المحققين إلى

١٢

أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وأنه عليه‌السلام قاله في نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه‌السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما ، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه‌السلام لمقدمات الضيافة.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه ، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال : راغ إلا إذا ذهب على خفية ، وقال : يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى ، قال ابن المنير : وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى ، وقال الراغب : الروغ الميل على سبيل الاحتيال ، ومنه راغ الثعلب ، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال ، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا ، وتشعر الفاء بأنه عليه‌السلام يبادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف ، أو يصير منتظرا (فَجاءَ بِعِجْلٍ) هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا (سَمِينٍ) ممتلئ الجسد بالشحم واللحم يقال : سمن ـ كسمع ـ سمانة بالفتح وسمنا ـ كعنب ـ فهو سامن وسمين ، وكحسن السمين خلقة كذا في القاموس ، وفي البحر يقال : سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر ، واسم الفاعل والقياس سمن وسمن ، وقالوا : سامن إذا حدث له السمن انتهى ، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها ، وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به ، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر ، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيئ من الطعام قبل وروده ، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه‌السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منه لأكرمهم به.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه لديهم ، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) ، قيل : عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف ، وقيل : إنكار لعدم تعرضهم للأكل ، وفي بعض الآثار أنهم قالوا : إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه‌السلام : إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عزوجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله تعالى خليلا (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ؛ ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه‌السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف (قالُوا لا تَخَفْ) إنا رسل الله تعالى ، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه‌السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم ، وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه‌السلام ، وقيل : مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما باطلاع الله تعالى إياهم عليه ، أو اطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به ، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن (وَبَشَّرُوهُ) وفي سورة [الصافات : ١١٢] (وَبَشَّرْناهُ) أي بواسطتهم (بِغُلامٍ) هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود ، والقصة واحدة ، وقال مجاهد : إسماعيل بن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح (عَلِيمٍ) عند بلوغه واستوائه ، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي

١٣

يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة الجميلة والقوة ونحوهما ، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة ، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور ، وعن الحسن (عَلِيمٍ) نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس ، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة ، وذكر بعضهم أن علمه عليه‌السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣)

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) أي سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار عن الملائكة ، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة ، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة هاهنا تصححها ، وقيل : أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني (فِي صَرَّةٍ) في صيحة من الصرير قاله ابن عباس ، وقال قتادة وعكرمة : صرتها رنتها ، وقيل : قولها أوه ، وقيل : يا ويلتي ، وقيل : في شدة ، وقيل : الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء ـ وإلى هذا ذهب ابن بحر ـ قال : أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة عليهم‌السلام ، والجار والمجرور في موضع الحال ، أو المفعول به إن فسر (أقبلت) بأخذت قيل : إن (فِي) عليه زائدة كما في قوله :

يجرح في عراقيبها نصلي

والتقدير أخذت صيحة ، وقيل : بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة (فَصَكَّتْ وَجْهَها) قال مجاهد : ضربت بيدها على جبهتها وقالت : يا ويلتاه ، وقيل : إنها وجدت حرارة الدم فلطمت

١٤

وجهها من الحياء ، وقيل : إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء (وَقالَتْ عَجُوزٌ) أي أنا عجوز (عَقِيمٌ) عاقر فكيف ألد ، وعقيم فعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس (قالُوا كَذلِكَ) أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به (قالَ رَبُّكِ) وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عزوجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا ، وروي أن جبريل عليه‌السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) فيكون قوله عزوجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة ، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر ، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر ـ هاهنا وفي سورة هود ..

(قالَ) أي إبراهيم عليه‌السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر (فَما خَطْبُكُمْ) أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط عليه‌السلام (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أي طين متحجر وهو السجيل ؛ وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فان بعض الناس يسمي البرد حجارة (مُسَوَّمَةً) معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها ؛ وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب ، وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا ، وقيل : مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى ، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠] (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عزوجل ، والمراد أنها معلمة في أول خلقها ، وقيل : المعنى أنها في علم الله تعالى معدّة (لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد في الفجور ، و ـ أل ـ عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين ، ووضع الظاهر. موضع الضمير ذمّا لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام ، وإشارة إلى علة الحكم ، وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا) إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه‌السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليهم‌السلام من الكلام ، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل : فقاموا منه وجاءوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [الحجر : ٦٥] إلخ (مَنْ كانَ فِيها) أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط عليه‌السلام (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ) أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى : (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فالكلام بتقدير مضاف ، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا ، والمراد بهم ـ كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ـ عن مجاهد لوط وابنتاه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : كانوا ثلاثة عشر ، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام ، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا ، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف ، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى : (مَنْ كانَ) أولا ، و (غَيْرَ بَيْتٍ) ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ (مَنْ كانَ) وأين كان إلى غير ذلك ، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب ، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال : ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش ، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا (مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فما وجد ملائكتنا

١٥

فيها (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل.

(وَتَرَكْنا فِيها) أي في القرى (آيَةً) علامة دالة على ما أصابهم من العذاب ، قال ابن جريج : هي أحجار كثيرة منضودة ، وقيل : تلك الأحجار التي أهلكوا بها ، وقيل : ماء منتن قال الشهاب : كأنه بحيرة طبرية ، وجوز أبو حيان كون ضمير (فِيها) عائدا على الاهلاكة التي أهلكوا فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل ، وإمطار الحجارة ، والظاهر هو الأول (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية (وَفِي مُوسى) عطف على (وَتَرَكْنا فِيها) بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى ، والجملة معطوفة على الجملة ، أو هو عطف على (فِيها) بتغليب معنى عامل الآية ، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو :

علفتها تبنا وماء باردا

لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه : (وَفِي مُوسى) فقول أبي حيان : لا حاجة إلى إضمار (تَرَكْنا) لانه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الاول فيه بحث ، وقيل : (فِي مُوسى) خبر لمبتدإ محذوف أي (وَفِي مُوسى) آية ، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ) وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر ، وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله (إِذْ أَرْسَلْناهُ) قيل : بدل من (مُوسى) ، وقيل : هو منصوب بآية ، وقيل : بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا ، وقيل : بتركنا.

(إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة ، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) فأعرض عن الإيمان بموسى عليه‌السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه ، والتولي به كناية عن الإعراض ، والباء للتعدية لأن معناه ثنى عطفه ، أو للملابسة ، وقال قتادة : تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم ، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه ، وقيل : تولى بقوته وسلطانه ، والركن يستعار للقوة ـ كما قال الراغب ـ وقرئ بركنه بضم الكاف اتباعا للراء (وَقالَ ساحِرٌ) أي هو ساحر (أَوْ مَجْنُونٌ) كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه‌السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا ، أو بغير اختياره فيكون جنونا ، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله ـ فأو ـ للشك ، وقيل : للإبهام ، وقال أبو عبيدة : هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩ ، الشعراء : ٣٤] وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] وأنت تعلم أن اللعين يتلوّن تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواو (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم غير معتدّين بهم (فِي الْيَمِ) في البحر ، والمراد فأغرقناهم فيه ، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالافعال هنا للاتيان بما يقتضي معنى ثلاثيه كأغرب إذا أتى أمرا غريبا ، وقيل : الصيغة للنسب ، أو الإسناد للسبب ـ وهو كما ترى ـ وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه‌السلام (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا) على طرز ما تقدم (عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم ، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة ففعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة ، وقال بعضهم وهو

١٦

حسن : سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم ، وفعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول ، وهذه الريح كانت الدبور لما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور» وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء ، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب ، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا ، والمعول عليه ما ذكرنا أولا ، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ) ما تدع شيئا (أَتَتْ عَلَيْهِ) جرت عليه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) الشيء البالي من عظم ، أو نبات ، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي ، ويقال للبالي: رمام كغراب ، وأرم أيضا لكن قال الراغب يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن ، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي ، والرمة بالضم بالحبل البالي ، وفسره السدي هنا بالتراب ، وقتادة بالهشيم ، وقطرب بالرماد ، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب ، والجملة بعد (إِلَّا) حالية. والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك ، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) أخرج البيهقي في سنة عن قتادة أنه ثلاثة أيام ـ وإليه ذهب الفراء وجماعة ـ قال : تفسيره قوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا) [هود : ٦٥] ، وقوله تعالى : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) يدل على أن العتو مؤخر ، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل : وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية ، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر ، فالفاء للتفصيل قال في الكشف. وهو الظاهر من هذا المساق ، وكذلك قوله تعالى : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه‌السلام بالسلطان ؛ وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية ، والقصة من توليهم إلى هلاكهم انتهى ، وقال الحسن : هذا أي ـ القول لهم تمتعوا حتى حين ـ كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ـ ثم عتوا بعد ذلك ـ قال في البحر : ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال : قال بعض المفسرين : المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور ، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى ، وما تقدم أبعد مغزى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أهلكتهم ، روي أن صالحا عليه‌السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام ، وقال لهم : تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب. ولما رأوا الآيات التي بينها عليه‌السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء ، وقيل : صيحة منها فهلكوا ، وقرأ عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا ، أو الصيحة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها ، وقال مجاهد : (يَنْظُرُونَ) بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) كقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨ ، ٩١ ، العنكبوت : ٣٧] وقيل : هو من قولهم : ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه ، وروي

١٧

ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي ، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم (وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم ، فإن ما قبله يدل عليه ، أو واذكر ، وقيل : عطف على الضمير في (فَأَخَذَتْهُمُ) ، وقيل : في (فَنَبَذْناهُمْ) لأن معنى كل فأهلكناهم ـ وهو كما ترى ـ وجوز أن يكون عطفا على محل (وَفِي عادٍ) أو (وَفِي ثَمُودَ) وأيد بقراءة عبد الله وأبي عمرو وحمزة والكسائي وقوم بالجر ، وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء ، والخبر محذوف أي أهلكناهم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء المهلكين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي (وَالسَّماءَ) أي وبنينا السماء (بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، ومثله ـ الآد ـ وليس جمع «يد» وجوزه الامام وإن صحت التورية به (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة ، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عزوجل كل شيء فضلا عن السماء ، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] ، وعن الحسن (لَمُوسِعُونَ) الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) إلى ما تقدم من قوله سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذاريات : ٢٢] على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه ، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام ، وقيل : أي لموسعوها بحيث إن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة ، وقيل : أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة ، والمراد السعة المكانية ، وفيه على القولين تتميم أيضا (وَالْأَرْضَ) أي وفرشنا الأرض (فَرَشْناها) أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن ، وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدءان وما بعدهما خبر لهما (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل جنس من الحيوان (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) نوعين ذكرا وأنثى ـ قاله ابن زيد وغيره ـ وقال مجاهد : هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة ، وقيل : أريد بالجنس المنطقي ، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد ، ومن المادي النامي والجامد ، ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الصامت والناطق وهو كما ترى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عزوجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه ، وقيل : خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام ، وقيل : المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه ، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) تفريع على قوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عزوجل ، والمعنى قل يا محمد : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) لمكان (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات ، أو (مُبِينٌ) ما يجب أن يحذر عنه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) عطف على الأمر ، وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوده ولا تشركوا ، ومن الأذكار المأثورة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وكرر قوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة ، وقيل : إن

١٨

المراد بقوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة ، وذكر (وَلا تَجْعَلُوا) إلخ ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه ، و (إِنِّي لَكُمْ) إلخ ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة ، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر ، وقال الزمخشري : في الآية : فروا (إِلَى) طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به ، وكرر (إِنِّي لَكُمْ) إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى ، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع ، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية ، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود ، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود ، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] ، وقوله سبحانه : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.

(كَذلِكَ) أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة ، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) [الذاريات : ٨] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه : الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عزوجل : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال : الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا ، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره ، والإشارة إلى الإتيان أي (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من رسول إتيانا مثل إتيانهم (إِلَّا قالُوا) إلخ لأن ما بعد (ما) النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور ، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة ، وجعله معمولا لقالوا ، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان (ما) وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش (مِنْ رَسُولٍ) أي رسول من رسل الله تعالى (إِلَّا قالُوا) في حقه (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر ، و ـ أو ـ قيل : من الحكاية أي (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ) ، أو قالوا (مَجْنُونٌ) وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض : ساحر ؛ وقال بعض : مجنون ؛ وقال بعض : ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت ـ أو ـ على التفصيل انتهى فلا تغفل.

واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه‌السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه‌السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله : لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل ، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه‌السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل ، ولا يدخل في عموم

١٩

ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى ، وعن الاستشكال بآدم عليه‌السلام بأن المراد ـ ما أتى الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا ـ إلخ ، وآدم عليه‌السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن في حين أرسل إلا زوجته حواء ، ولعله أولى مما قيل : إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه‌السلام في ذلك ، واستشكلت أيضا بأن (إِلَّا قالُوا) يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم ، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر ، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية ، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال : الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا ـ وفيه ما فيه ـ وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين ـ وفيه ما لا يخفى ـ فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك (أَتَواصَوْا بِهِ) تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا ، وقيل : إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباء وعنادا (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على التولي بعد ما بذلت الجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود.

(وَذَكِّرْ) آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك ؛ فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم ، وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر.

(فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم ، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين ، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف ، وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) إلخ ، وقال : أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال سبحانه : (وَذَكِّرْ) إلخ فنسختها.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسنا ، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى (وَذَكِّرْ) إلخ.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ ، ولعل تقديم

٢٠