روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٥٩)

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى ، وقيل : من نصارى نجران (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، والسورة بالأناة كما قال سبحانه : ادفع بالتي هي أحسن [المؤمنون : ٩٦ ، فصلت : ٣٤] (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراد في الاعتداء والعناد ، ولم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة.

٣

وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك أو قالوا يد الله تعالى مغلولة ، أو الله سبحانه فقير أو آذوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه الغلظة التي تفهم الآية الإذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية ، والقتال في المشهور لم يشرع بمكة وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى ، وقيل : المعنى ولا تجادلوا في الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه ، وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة ، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد وأيضا لا قرينة على التخصيص.

وقيل : يجوز أن يكون القائل بذلك ذاهبا إلى أن الآية مدنية ومكية السورة باعتبار أغلب آياتها ؛ أو ممن يقول : بأن الحرب شرع بمكة في آخر الأمر ، والسورة آخر ما نزل بها إلا أنه لم يقع وعدم الوقوع لا يدل على عدم المشروعية.

وعن ابن زيد أن المراد بأهل الكتاب مؤمنو أهل الكتاب وبالتي هي أحسن موافقتهم فيما حدثوا به من أخبار أوائلهم وبالذين ظلموا من بقي منهم على كفره وهو كما ترى ، واختلف في نسخ الآية. فأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة أنه قال : نهى في هذه الآية عن مجادلة أهل الكتاب ، ثم نسخ ذلك فقال سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] الآية ولا مجادلة أشد من السيف ، وقال في مجمع البيان : الصحيح أنها غير منسوخة لأن المراد بالجدال المناظرة وذلك على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره.

وقال بعض الأجلة : إن المجادلة بالحسنى في أوائل الدعوة لأنها تتقدم القتال فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية ، وأما كون النهي يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكر فيدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل ، وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال بمكة ليس بصحيح لأنه مسكوت عنه فتأمل.

وقرأ ابن عباس «ألا بالتي» إلخ ، على أن «الا» حرف تنبيه واستفتاح ، والتقدير ، ألا جادلوهم التي هي أحسن (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَ) الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل ، وهذا القول نوع من المجادلة بالتي هي أحسن ، وعن سفيان بن حسين أنه قال : هذه مجادلتهم بالتي هي أحسن ، وأخرج البخاري ، والنسائي ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون الكتاب بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» الآية ، والتصديق والتكذيب ليسا نقيضين فيجوز ارتفاعهما.

(وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له في الألوهية (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مطيعون خاصة كما يؤذن بذلك تقديم (لَهُ) ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) تجريد للخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل أي مثل ذلك الإنزال البديع الشأن الموافق لإنزال سائر الكتب أنزلنا إليك القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالتي هي أحسن ، وقيل : الإشارة إلى ما تقدم لذكر الكتاب وأهله أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب.

٤

(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) من الطائفتين اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والكلام على ظاهره ، وقيل : هو على حذف مضاف أي آتيناهم علم الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالكتاب الذي أنزل إليك ، وقيل : الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى ، والمراد بهم في قول من تقدم عهد النبي صلى تعالى عليه وسلم من أولئك حيث كانوا مصدقين بنزول القرآن حسبما علموا مما عندهم من الكتاب ، والمضارع لاستخصار تلك الصورة في الحكاية وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن ما بعدهم من معاصري رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ ، وفي قول آخر معاصروه عليه الصلاة والسلام العاملون بكتابهم من عبد الله بن سلام وأضرابه ، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب لما أنهم هم المنتفعون به فكأن من عداهم لم يؤتوه ، قيل : هذا يؤيد القول : بأن الآيات المذكورة مدنية إذ كونها مكية وعبد الله ممن أسلم بعد الهجرة بناء على أنه إعلام من الله تعالى بإسلامهم في المستقبل ، والتفصيل باعتبار الإعلام بعيد جدا ، وجوز الطبرسي أن يراد بالموصول المسلمون من هذه الأمة وضمير (بِهِ) للقرآن ، ولا يخفى ما فيه ، ولعل الأظهر كون المراد به علماء أهل الكتابين الحريون بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب كعبد الله بن سلام ، وأضرابه ، ولا بعد في كون الآيات مكية بناء على ما سمعت ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي ومن العرب أو من أهل مكة على أن المراد بالموصول عبد الله ، واضرابه ، أو ممن في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود والنصارى على أن المراد به من تقدم (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالكتاب الذي أنزل إليك ، (وَمِنْ) على ما استظهره بعضهم تبعيضية واقعة موقع المبتدأ وله نظائر في الكتاب الكريم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي (وَما يَجْحَدُ) به ، وأقيم هذا الظاهر مقام الضمير للتنبيه على ظهور دلالة الكتاب على ما فيه وكونه من عند الله عزوجل ، والإضافة إلى نون العظمة لمزيد التفخيم ، وفيما ذكر غاية التشنيع على من يجحد به.

والجحد كما قال الراغب : نفي ما في القلب ثباته وإثبات ما في القلب نفيه ، وفسر هنا بالإنكار عن علم فكأن قيل : وما ينكر آياتنا مع العلم بها (إِلَّا الْكافِرُونَ) أي المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يمنعهم عن الإقرار والتسليم ، وقيل : يجوز أن يفسر بمطلق الإنكار ، ويراد بالكافرين المتوغلون في الكفر أيضا لدلالة فحوى الكلام ، والتعبير بآياتنا على ذلك أي وما ينكر آياتنا مع ظهورها وارتفاع شأنها إلا المتوغلون في الكفر لأن ذلك يصدهم عن الاعتناء بها والالتفات إليها والتأمل فيها يؤديهم إلى معرفة حقيقتها ، والمراد بهم من اتصف بتلك الصفة من غير قصد إلى معين ، وقيل : هم كعب بن الأشرف ، وأصحابه.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) أي وما كنت من قبل أنزلنا إليك الكتاب تقدر على أن تتلو (مِنْ كِتابٍ) أي كتابا على أن (مِنْ) صلة (وَلا تَخُطُّهُ) ولا تقدر على أن تخطه (بِيَمِينِكَ) أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا تخطه ، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الخط فهو مثل العين في قولك : نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله التقطه من كتب الأوائل ، وحيث لم تكن كذلك لم يكن لارتيابهم وجه ، وكأن احتمال التعلم مما لم يلتفت إليه لظهور أن مثله من الكتاب المفصل الطويل لا يتلقى ويتعلم إلا في زمان طويل بمدارسة لا يخفى مثلها ، ووصف مشركي مكة بالإبطال باعتبار ارتيابهم وكفرهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي فكأنه قيل : إذن لارتاب هؤلاء المبطلون الآن وكان إذ لارتيابهم وجه ، وقيل : وصفهم بذلك باعتبار ارتيابهم ، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أمي وباعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام ليس بأميّ أما كونهم مبطلين

٥

بالاعتبار الأول فظاهر ، وأما كونهم كذلك بالاعتبار الثاني فلأن غاية ما يلزم من عدم أميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتفاء أحد وجوه الإعجاز ، ويكفي الباقي في الغرض فيكون المرتاب مبطلا كالمرتاب في نبوة الأنبياء الذين لم يكونوا أميين وصحة ما جاءوا به.

والأول أظهر ، وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروي عن مجاهد ، وقال قتادة : هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لارتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي ، ووصفهم بالإبطال قيل : باعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي كما هو الواقع ، وإلا فهم ليسوا بمبطلين في ارتيابهم على فرض عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أميا ، وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز ، وأن كونه عليه الصلاة والسلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به ، وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل ا ه فتأمل.

هذا واختلف في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال : إنه الأصح ، وادعى بعضهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية. فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ ، وروى ابن أبي شيبة ، وغيره : «ما مات صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ».

ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال : سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه ، وروى ابن ماجة عن أنس قال : «قال صلى الله تعالى عليه وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر» والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد باحتمال إقدار الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل : إلخ ، ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث ، وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري ، وأبو الوليد الباجي من المغاربة ، وحكاه عن السمناني ، وصنف فيه كتابا ، وسبقه إليه ابن منية ، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاة وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه ، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم ، وردّ بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح ـ إنا أمية لا نكتب ولا نحسب. ، وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله : كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال : كتب السلطان بكذا لفلان ، وتقديم قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) على قوله سبحانه : (وَلا تَخُطُّهُ) كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد ، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال : يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولو لا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة ، وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته ، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب» ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام ، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد ، وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر ، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها : ولا يحسن يكتب فكتب

٦

كالنص في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ثم قال : وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فالله تعالى أعلم.

ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يقرأ ما يكتب لكن إذا نظر إلى المكتوب عرف ما فيه بإخبار الحروف إياه عليه الصلاة والسلام عن أسمائها فكل حرف يخبره عن نفسه أنه حرف كذا وذلك نظير إخبار الذراع إياه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها مسمومة.

وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل بدون خبر صحيح ولم أظفر به (بَلْ هُوَ) أي القرآن ، وهذا إضراب عن ارتيابهم ، أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لوضوح أمره بل هو (آياتٌ بَيِّناتٌ) واضحات ثابتة راسخة (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب ، وجاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم ، وكون ضمير هو للقرآن هو الظاهر ، ويؤيده قراءة عبد الله «بل هي آيات بينات» ، وقال قتادة : الضمير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ «بل هو آية بينة» على التوحيد ، وجعله بعضهم له عليه الصلاة والسلام على قراءة الجمع على معنى بل النبي وأموره آيات ، وقيل : الضمير لما يفهم من النفي السابق أي كونه لا يقرأ لا يخط آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأن ذلك نعت النبي عليه الصلاة والسلام في كتابهم ، والكل كما ترى ، وفي الأخير حمل (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على علماء أهل الكتاب وهو مروي عن الضحاك والأكثرون على أنهم علماء الصحابة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أصحابه ، وروي هذا عن الحسن وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنهم الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع كونها كما ذكر (إِلَّا الظَّالِمُونَ) المتجاوزون للحد في الشر والمكابرة والفساد (وَقالُوا) أي كفار قريش بتعليم بعض أهل الكتاب.

وقيل : الضمير لأهل الكتاب (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) مثل ناقة صالح وعصا موسى ، وقرأ أكثر أهل الكوفة «آية» على التوحيد (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات لا الإتيان بما اقترحتموه فالقصر قصر قلب (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على اقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها (يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها ، وقيل : (يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أهل الكتاب بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك ، وله وجه إن كان ضمير قالوا فيما تقدم لأهل الكتاب وأما إذا كان لكفار قريش فلا يخفى ما فيه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الكتاب العظيم الشأن الباقي على ممر الدهور ، وقيل : الذي هو حجة بينة (لَرَحْمَةً) أي نعمة عظيمة (وَذِكْرى) أي تذكرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي همهم الإيمان لا التعنت فالجار والمجرور متعلق بذكرى والفعل مراد به الاستقبال ، ويجوز أن يكون رحمة (وَذِكْرى) مما تنازعا في الجار والمجرور فيجوز أن يكون الفعل للحال ، وأخرج الفريابي ، والدارمي ، وأبو داود في مراسيله ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن يحيى بن جعدة قال : «جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت (أَوَلَمْ

٧

يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الآية». وأخرج الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه عن يحيى هذا ما هو قريب مما ذكر مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. و (يُؤْمِنُونَ) على هذا على ظاهره لا غير ، وتعقب بأن السياق والسباق مع الكفرة وإن الظاهر كون (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) الآية جوابا لقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ) إلخ ، وفي جعل سبب النزول ما ذكر خروج عن ذلك فتأمل.

وعليه تكون الآية دليلا لمن منع تتبع التوراة ونحوها. وروي هذا المنع عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

أخرج ابن عساكر عن أبي مليكة قال : أهدى عبد الله بن عامر بن ركن إلى عائشة رضي الله تعالى عنها هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت : يتتبع الكتب وقد قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) فقيل لها : «إنه عبد الله بن عامر فقبلتها» وجاء في عدة أخبار ما يقتضي المنع ، أخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان ، عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرأه عليه والنبي عليه الصلاة والسلام يتلون وجهه فقال : «والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني ضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم».

وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل : اكتب لي من هذا الكتاب قال : نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلون فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال : «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك : إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون» أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة ، وقيل : المتحيرون إلى ذلك من الأخبار ، وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين وذلك مما لا شبهة فيه في صدر الإسلام ، وعليه تحمل الأخبار ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي عالما بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا ، وجوز أن يكون المعنى كفى به عزوجل شاهدا بصدقي أي مصدقا لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعي ، وجملة (يَعْلَمُ) إما صفة (شَهِيداً) أو حال أو استئناف لتعليل كفايته ، وقيل عليه : إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى : (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) سواء تعلق بكفى أو بشهيدا ولا قوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ ، وفيه تأمل.

وقد يؤيد ذلك بما روي أن كعب بن الأشرف ، وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد بأنك رسول الله فنزلت (قُلْ كَفى) الآية إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل.

وأيّا ما كان فلا منافاة بين هذه الآية ، وقوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [البقرة : ٢٣] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد هاهنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد ، وإما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك ، والباء في (بِاللهِ) زائدة والاسم الجليل فاعل (كَفى) ، وقال الزجاج : «إن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة ، قال ابن هشام في المغني : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : اتقى

٨

الله تعالى امرؤ فعل خيرا يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم : «كفى بهند بترك التاء فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل وما تسقط من ورقة فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر ا ه».

وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال : «أقول تفسير (كَفى) على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل (كَفى) حينئذ ضمير المخاطب ، و (كَفى) ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر ا ه وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل».

وظن بعض الناس أن (كَفى) على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا بالله ، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام ، وقال ابن السراج : الفاعل ضمير الاكتفاء ، قال ابن هشام : وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي ، والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، وأجاز الكوفيون أعماله في الظرف وغيره ، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقا ا ه.

وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال : لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال ، وعليه يكون المعنى (كَفى) هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبسا بالله تعالى ، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنا معنى اكتف فتدبر (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي بغير الله عزوجل وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم‌السلام.

والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، وقال مقاتل : أي بعبادة الشيطان ، وقيل : أي بالصنم (وَكَفَرُوا بِاللهِ) مع تعاضد موجبات الإيمان به عزوجل (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب ، وفي الكلام على ما قيل : استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب باشتراء مستلزم للخسران ، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات ، وهذا الكلام ورد مورد الإنصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عزوجل بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] وكقول حسان :

فشركما لخيركما الفداء

وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي ويستعجلك كفار قريش (بِالْعَذابِ) على طريقة الاستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وقولهم : أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب ونحو ذلك (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) قد ضربه الله تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) المعين لهم حسبما استعجلوا به ، وقال ابن جبير : المراد بالأجل يوم القيامة لما روي أنه تعالى وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة ، وقال ابن سلام : المراد به أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر ، وقيل : وقت فنائهم بآجالهم ، وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) جملة مستأنفة مبنية لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل ، أي وبالله تعالى (لَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل (بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بإتيانه ، ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسئولهم فإن ذلك إتيان برأيهم

٩

وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم قارّون آمنون لا يخطرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما أن إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل قاله بعضهم ، وقال آخرون : إتيانه كذلك من حيث إنه غير متوقع لهم وإتيان عذاب الآخرة ونحو كذلك لإنكارهم البعث ، وكذا عذاب القبر أو اعتقادهم شفاعة آلهتهم لهم في دفع العذاب عنهم ، وكذا إتيان عذاب يوم بدر لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال على ما بين في السير.

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما استعجلوه عذاب الآخرة ، وجملة (إِنَّ جَهَنَّمَ) إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل : يستعجلونك بالعذاب وأن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من اسم الفاعل ، أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيها بليغا أو استعارة أو مجازا مرسلا أو تجوزا في الإسناد ، وقيل : إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة ، والمراد بالكافرين المستعجلون ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ظرف لمضمر قد طوي ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل : يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال ، وقيل : ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال ، قيل : وذكر الأرجل للدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب (وَيَقُولُ) أي الله عزوجل ، وقيل : الملك الموكل بهم.

وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريون «ونقول» بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو الله تعالى.

وقرأ أبو البرهسم «وتقول» بالتاء على أن القائل جهنم ، ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة «ويقال» مبنيا للمفعول (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) نزلت على ما روي عن مقاتل والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال : تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك ، وروي هذا عن ابن جبير وعطاء ومجاهد. ومالك بن أنس ، وقال مطرف بن الشخير : إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض ، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة ، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عزوجل بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة ، والمعول عليه ما تقدم ، والفاء في (فَإِيَّايَ) فاء التسبب عن قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) كما تقول : إن زيدا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت : إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه ، و(إياي) معمول لفعل محذوف يفسره المذكور ، ولا يجوز أن يكون معمولا له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول ، والفاء في (فَاعْبُدُونِ) هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء ، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر ؛ وأيضا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه ، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف

١٠

العامل في (إياي) مؤخرا لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الاختصاص والإخلاص ، فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا إلى العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه ، ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحا للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي إلخ ، وقيل : الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثاني فتكرير ليوافق المفسر ، المفسر فيقال حينئذ : المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا إلخ مستأنفة عرية عن الفاء ، وما تقدم أبعد مغزى. وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في (إياي) قصدا لنحو الاستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن. وتعقب بأنه حينئذ لا يصلح المذكور مفسر لعدم جواز تخلل العاطف بين مفسر ومفسرا البتة ، وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل : ٥١] من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي ارهبوا فارهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف ، هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا جملة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) جملة مستأنفة جيء بها حثا على إخلاص العبادة والهجرة لله تعالى حيث أفادت أن الدنيا ليست دار بقاء وأن وراءها دار الجزاء أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ومفارقة البدن البتة فلا بد أن تذوقوه ثم ترجعون إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالكم فمن كانت هذه عاقبته فلا بد له من التزود والاستعداد ، وفي قوله تعالى : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) استعارة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم مره ، والعدول عن تذوق الموت للدلالة على التحقق ، و (ثُمَ) للتراخي الزماني أو الرتبي.

وقرأ أبو حيوة «ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ترجعون» مبنيا للفاعل ، وروى عاصم «يرجعون» بياء الغيبة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم على وجه الإقامة ، وجملة القسم وجوابه خبر المبتدأ أعني (الَّذِينَ) ورد به وبأمثاله على ثعلب المانع من وقوع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدإ ، وقوله تعالى : (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) أي علالي وقصورا جليلة لا قصور فيها ، وهي على ما روي عن ابن عباس من الدر والزبرجد والياقوت ، مفعول ثان للتبوئة.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وعبد الله ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي «لنثوينهم» بالثاء المثلثة الساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من الثواء بمعنى الإقامة فانتصاب (غُرَفاً) حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم فهو مفعول به له أو بنزع الخافض على أن أصله بغرف فلما حذف الجار انتصب أو على أنه ظرف والظرف المكاني إذا كان محدودا كالدار والغرفة لا يجوز نصبه على الظرفية إلا أنه أجري هنا مجرى المبهم توسعا كما في قوله تعالى (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] على ما فصل في النحو.

وروي عن ابن عامر انه قرأ «غرفا» بضم الراء (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة لغرفا (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرف ، وقيل : في الجنة (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي الأعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي نعم أجرى العاملين الغرف أو أجرهم ، ويجوز كون التمييز محذوفا أي نعم أجرا أجر العاملين ، وقرأ ابن وثاب «فنعم» بفاء الترتيب (الَّذِينَ صَبَرُوا) صفة للعاملين أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى.

١١

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٩)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة المهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت ، أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها. عن ابن عيينة ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة ، وعن ابن عباس لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ويقال للعقعق مخابي إلا أنه ينساها ، وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في حضنيه والظاهر عدم صحته ، وذكر لي بعضهم أن أغلب الكوامن من الطير يدخر والله تعالى أعلم بصحته.

(اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو عزوجل المسبب لها وحدة فلا تخافوا على معاشكم بالمهاجرة ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم من الهجرة على أبلغ وجه قيل : (يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) دون يرزقكم وإياها (وَهُوَ السَّمِيعُ) البالغ في السمع فيسمع قولكم هذا (الْعَلِيمُ) البالغ في العلم فيعلم ما انطوت عليه ضمائركم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا التردد فيه ، والاسم الجليل مرفوع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة السؤال عليه أو على الفاعلية لفعل محذوف لذلك أيضا (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) إنكار واستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه ، والفاء للترتيب أو واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده عزوجل في الألوهية مع إقرارهم بتفرده سبحانه فيما ذكر من الخلق والتسخير.

وقدر بعضهم الشرط فإن صرفهم الهوى والشيطان لمكان بناء (يُؤْفَكُونَ) للمفعول ، ولعل ما ذكرناه أولى.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه له لا غيره (مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيق عليه ، والضمير عائد على من (يَشاءُ) الذي يبسط له الرزق أي عائد عليه مع ملاحظة متعلقة فيكون المعنى أنه تعالى شأنه يوسع على شخص واحد رزقه تارة ويضيقه عليه أخرى ، والواو لمطلق الجمع فقد يتقدم التضييق على التوسيع أو عائد على من

١٢

يَشاءُ) بقطع النظر عن متعلقه فالمراد من يشاء آخر غير المذكور فهو نظير عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ، وهذا قريب من الاستخدام ، فالمعنى أنه تعالى شأنه يوسع على بعض الناس ويضيق على بعض آخر ، وقرأ علقمة «ويقدر» بضم الياء وفتح القاف وشد الدال (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أن كلّا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منهما في وقته أو فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسطه له ومن يليق بقدره له فيقدر له ، وهذه الآية أعني قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ) إلخ تكميل لمعنى قوله سبحانه : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) لأن الأول كلام في المرزوق وعمومه وهذا كلام في الرزق وبسطه وقترته ، وقوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) إلخ معترض لتوكيد معنى الآيتين وتعريض بأن الذين اعتمدتم عليهم في الرزق مقرون بقدرتنا وبقوتنا كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨] قاله العلامة الطيبي.

وقال صاحب الكشف قدس‌سره : اعترض ليفيد أن الخالق هو الرزاق وأن من أفاض ابتداء وأوجد أولى أن يقدر على الإبقاء وأكد به ما ضمن في قوله عزوجل : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه عزوجل الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفرعها ثم إنهم يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلا (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إظهار الحجة واعترافهم بما يلزمهم ، وقيل : حمده عليه الصلاة والسلام على العصمة مما هم عليه من الضلال حيث أشركوا مع اعترافهم بأن أصول النعم وفروعهما منه جلّ جلاله فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى ، وقيل : يجوز أن يكون حمدا على هذا وذاك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد أو لا يعقلون شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته ، قيل : إضراب عن جهلهم الخاص في الإتيان بما هو حجة عليهم إلى أن ذلك لأنهم مسلوبو العقول فلا يبعد عنهم مثله ، وقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) معترض وجعله الزمخشري في سورة لقمان إلزاما وتقريرا لاستحقاقه تعالى العبادة ، وقيل : (لا يَعْقِلُونَ) ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك ، ولم يرتضه بعض المحققين لخفائه وقلة جدواه وتكلف توجيه الإضراب فيه.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) إشارة تحقير وكيف لا والدنيا لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ، فقد أخرج الترمذي عن سهل بن سعد قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».

وقال بعض العارفين : الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب بيد مجذوم ، ويعلم مما ذكر حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي إلّا كما يلهو ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه ، وهذا من التشبيه البليغ (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي لهي دار الحياة الحقيقية إذ لا يعرض الموت والفناء لمن فيها أو هي ذاتها حياة للمبالغة ، و (الْحَيَوانُ) مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل ، وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس فلامه ياء وإلى ذلك ذهب سيبويه.

وقيل : إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى حياة علم رجل ، ولا حجة على كونه ياء في حي لأن الواو في مثله تبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة ، وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة للدار الآخرة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) شرط جوابه محذوف أي لو كانوا يعلمون لما داروا عليها الدنيا التي

١٣

أصلها عدم الحياة ، ثم ما يحدث فيها من الحياة عارضة سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال وكون (لَوْ) للتمني بعيد (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) متصل بما دلّ عليه شرح حالهم ، والركوب الاستعلاء على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه كما في (لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] واستعماله هاهنا وفي أمثاله نفي للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية ، والفاء للتعقب وفي الكلام معنى الغاية فكأنه قيل : هم مصروفون عن توحيد الله تعالى مع إقرارهم بما يقتضيه لاهون بما هو سريع الزوال ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك ولقوا الشدائد (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي كائنين في صورة من أخلص دينه وملته أو طاعته من المؤمنين حيث لا يذكرون إلّا الله تعالى ولا يدعون سواه سبحانه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلّا هو عزوجل وفيه تهكم به سواء أريد بالدين الملة أو الطاعة أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأنهم لا يستمرون على هذه الحال فهي قبيحة باعتبار المآل (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك ولم يتأخروا عنها ولا وقتا.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها فالشرك سبب لهذا الكفران ، وأدخلت لام كي على مسببه لجعله كالغرض لهم منه فهي لام العاقبة في الحقيقة ، وقيل : اللام فيهما لام الأمر والأمر بالكفران والتمتع مجاز في التخلية والخذلان والتهديد كما تقول عند الغضب على من يخالفك : افعل ما شئت ، ويؤيده قراءة ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام فإن لام كيلا تسكن ، وإذا كانت الثانية لذلك لام الأمر فالأولى مثلها ليتضح العطف ، وتخالفهما محوج الى التكلف بأن يكون المراد كما قال أبو حيان عطف كلام على كلام لا عطف فعل على فعل ، وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة ذلك حين يعاقبون عليه يوم القيامة مؤيد للتهديد (أَوَلَمْ يَرَوْا) ألم ينظروا ولم يشاهدوا (أَنَّا جَعَلْنا) أي بلدهم (حَرَماً) مكانا حرم فيه كثير مما ليس بمحرم في غيره من المواضع (آمِناً) أهله عما يسوءهم من السبي والقتل على أن أمنه كناية عن أمن أهله أو على أن الإسناد مجازي أو على أن في الكلام مضافا مقدرا ، وتخصيص أهل مكة وأن أمن كل من فيه حتى الطيور والوحوش لأن المقصود الامتنان عليهم ولأن ذلك مستمر في حقهم. وأخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكلنا أكلة رأس فأنزل الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذا كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. والظاهر أن الجملة حالية بتقدير مبتدأ أي وهم يتخطف إلخ (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أن أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه أو أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها بالصنم ، وقيل : بالشيطان يؤمنون (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به تعالى غيره سبحانه ، وتقديم الصلة في الموضعين للاهتمام بها لأنها مصب الإنكار أو للاختصاص على طريق المبالغة لأن الإيمان إذا لم يكن خاصا لا يعتد به ولأن كفران غير نعمته عزوجل بجنب كفرانها لا يعد كفرانا.

وقرأ السلمي ، والحسن «تؤمنون» و«تكفرون» بتاء الخطاب فيهما (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن زعم أن له سبحانه شريكا وكونه كذبا على الله تعالى لأنه في حقه فهو كقولك : كذب على زيد إذا وصفه بما ليس فيه (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) يعني الرسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) أي حين مجيئه إياه ، وفيه تسفيه لهم حيث لم يتأملوا ولم يتوقفوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.

١٤

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي ثواء وإقامة لهم أو مكان يثوون فيه ويقيمون ، والكلام على كلا الوجهين تقرير لثوائهم في جهنم لأن الاستفهام فيه معنى النفي وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات كما في قول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي ألا يستوجبون الثواء أو المكان الذي يثوى فيه فيها وقد افتر وأمثل هذا الكذب على الله تعالى وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب مع علمهم بحال الكفرة أي ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجرأة ، وجعلهم عالمين بذلك لوضوحه وظهوره فنزلوا منزلة العالم به ، والتعريف في (الكافرين) على الأول للعهد فالمراد بهم أولئك المحدث عنهم وهم أهل مكة ، وأقيم الظاهر مقام الضمير لتعليل استيجابهم المثوى ، ولا ينافي كون ظاهره أن العلة افتراؤهم وتكذيبهم لأنه لا يغايره والتعليل يقبل التعدد ، وعلى الثاني للجنس فالمراد مطلق جنس الكفرة ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا برهانيا (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا ففيه مضاف مقدر ، وقيل : لا حاجة إلى التقدير بحمل الكلام على المبالغة بجعل ذات الله سبحانه مستقرا للمجاهدة وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، والمراد نزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا لسلوكها فإن الجهاد هداية أو مرتب عليها ، وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم».

ومن الناس من أول (جاهَدُوا) : بأرادوا الجهاد وأبقى (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) على ظاهره ، وقال السدي : المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة ، وقيل : المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة ، وما ذكر أولا أولى ، والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨].

(وَإِنَّ اللهَ) المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك ، وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) قد طابق قوله سبحانه : (جاهَدُوا) لفظا ومعنى ، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية ، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين ، ثم إن جملة قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلى باسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جلّ وعلا تجلى له الرب عزّ اسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما ، ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة الى فريدة قلادتها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] لامحة الى واسطة عقدها (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦] وهي في نفسها جامعة فاذة ا ه.

و(أل) في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا ، ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور ، ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر (الْمُحْسِنِينَ) بالموحدين وفيه تأييد ما للاحتمال الثاني والله تعالى أعلم.

١٥

ومن باب الإشارة في الآيات (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) الآية قال ابن عطاء : ظن الخلق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن ، وهذا كما قال العارف ابن الفارض قدس‌سره :

وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم

علي بما يقضي الهوى لكم عدل

وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان «وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان» (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قال ابن عطاء : أي اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة ، وقال سهل : اطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عزوجل ، وقال ابن عطاء : أي راجع إلى ربي من جميع ما لي وعليّ ، والرجوع إليه عزوجل بالانفصال عما دونه سبحانه ، ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) سئل الجنيد قدس‌سره عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أشار سبحانه وتعالى إلى من اعتمد على غير الله عزوجل في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه ، قال ابن عطاء : من اعتمد شيئا سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه ، ومن اتخذ سواه عزوجل ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا أصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شئونه سبحانه لأنهم علماء المنهج ، وذكر أن العالم على الحقيقة من يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر ، وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر ، هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي انكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جلّ وعلا عن رؤية الأعمال والأعواض ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال ابن عطاء : أي ذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال ، وأيضا ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات ، قال الصادق على آبائه وعليه‌السلام : لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين ، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة ، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية ، وإليه الإشارة بما أخرجه الطبراني والقضاعي ، والخطيب ، والشيرازي في الألقاب ، والخطيب وابن النجار ، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما

١٦

قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) فلا يمنعنكم عنه فقد الزاد أو العجز عن حمله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) قال ابن عطاء : أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا ، والمجاهدة كما قال : الافتقار الى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه ، وقال بعضهم : أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف ، وقيل : أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا ، ومن عرف الله تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء ، كان عبد الله بن المبارك يقول : من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم.

١٧

سورة الروم

مكية كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم بل قال ابن عطية ، وغيره : لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا ، وقال الحسن : هي مكية إلا قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [الروم : ١٧] الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضي كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون ، ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة ، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح ـ بالم ـ ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عزوجل وبذلك تضعف المناسبة ، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عزوجل ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول ، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ

١٨

شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ(١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٢٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) الكلام فيه كالذي مرّ في أمثاله من الفواتح الكريمة (غُلِبَتِ الرُّومُ) هي قبيلة عظيمة من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث نوح عليه‌السلام وقيل : من ولد يافان بن يافث ، وقيل : من ولد رعويل بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقال الجوهري : من ولد روم بن عيص المذكور صارت لها وقعة مع فارس على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فغلبتها وقهرتها فارس (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقربها.

والمراد بالأرض أرض الروم على أن (أل) نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية ، وقد جاء من طرق عديدة أن الحرب وقع بين أذرعات وبصرى ، وقال ابن عباس ، والسدي : بالأردن وفلسطين ، وقال مجاهد : بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب ، وجعل كل قول موافقا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب ، وصحح ابن حجر القول الأول.

وقرأ الكلبي «في أداني الأرض» (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدر المجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ومعاوية بن قرة «غلبهم» بسكون اللام ، وعن أبي عمرو أنه قرأ «غلابهم» على وزن كتاب والكل مصادر غلب ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : (سَيَغْلِبُونَ) وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم ، وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة ، وقوله تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) متعلق بسيغلبون أيضا.

والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي ، وفي المجمل ما بين الواحد : إلى التسعة ، وقيل : «هو ما فوق

١٩

الخمس ودون العشر» وقال المبرد : ما بين العقدين في جميع الأعداد. روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وأنكم قاتلتمونا لنظهرن عليكم الله فأنزل الله تعالى (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) الآيات فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يفرسنّ الله تعالى عينكم فو الله ليظهرنّ الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقام إليه أبيّ بن خلف فقال : كذبت فقال له : أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أنت أكذب يا عدو الله تعالى أنا حبك (١) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : ما هكذا ذكرت إنما البعض ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال : لعلك ندمت؟ قال : لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال : قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به ابنه عبد الرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة.

وجاء في الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية ، وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : تصدق به ، وفي رواية أبي يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال : «هذا السحت تصدق به».

واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن قتادة ، والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا؟ وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه ، فإن قيل : إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر قوله سحتا ، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق ، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تصدق بحلال ؛ أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر ، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة ، ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة ، وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم ، وربما يقال على تقدير الصحة : إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كسب الحجام سحت» فقد قال الراغب : إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله

__________________

(١) قوله أناحبك أي أراهنك ا ه منه.

٢٠