روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ

٣

بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)(٣٦)

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عطف على ما قبله من المحرمات.

والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج ، أحصنهن التزوج أو الأزواج الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم ، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة : على فتح الصاد هنا ؛ ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح ، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب ، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن ، أو أحصن أزواجهن ، وقيل : الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا ، فقد قال ابن الأعرابي : كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن ، وألفج إذا ذهب ماله ، وأسهب إذا كثر كلامه.

وحكي عن الأزهري مثله ، وقال ثعلب : كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة. وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير ، ويقال : حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة ، وفرس حصان بالكسر بيّن التحصين والتحصن ، ويقال : إنه سمي حصانا ، لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة ، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا ، والإحصان في المرأة ورد في اللغة ، واستعمل في القرآن بأربعة معان : الإسلام. والحرية ، والتزوج ، والعفة ، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء ، وفائدته تأكيد عمومها ، وقيل : دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث ـ وليس بشيء ـ كما لا يخفى ، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل ؛ أخرجه عنه ابن جرير ، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال : سألت عكرمة عن هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ) إلخ فقال : لا أدري ، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال : أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا.

والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره ، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟ فعند الشافعي رحمه‌الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح ، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي ، واحتج أهل هذا القول بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قال : أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن ، وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات ، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو

٤

مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب ، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة (١) أعتقتها وخيرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل ، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه ، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى الآية ، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم : قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن ، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف.

وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] فلا يرد ما أورد ، وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا ، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه ـ وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة ـ وإليه ذهب جمهور الإمامية ، وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج ، والملك أعم من ملك اليمين. وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة ، واختاره مالك في الموطأ. ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر ، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع.

أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية : «أحل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك» وروي مثله عن كثير.

وقال شيخ الإسلام : المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته ، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين ، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن ، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح ، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا ، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبئ عن ذلك خبر أبي سعيد ، وليس في

__________________

(١) اختلفوا هل كان الزوج عبدا أو حرا؟ فذهب الحنفيون إلى أنه كان حرا ، والأئمة الثلاثة إلى أنه كان عبدا ، وأكثر الروايات على ذلك فتدبر ا ه منه.

٥

ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها.

واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل : يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر (كِتابَ اللهِ) مصدر مؤكد أي كتب الله تعالى (عَلَيْكُمْ) تحريم هؤلاء كتابا ، ولا ينافيه الإضافة كما توهم ، والجملة مؤكدة لما قبلها و (عَلَيْكُمْ) متعلق بالفعل المقدر ، وقيل (تابَ) منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب الله و (عَلَيْكُمْ) متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه. وقيل : هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه ؛ وقيل : منصوب بعليكم ، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء.

وقرأ أبو السميفع ـ كتب الله ـ بالجمع ، والرفع أي هذه فرائض الله تعالى عليكم ، و ـ كتب الله ـ بلفظ الفعل (وَأُحِلَّ لَكُمْ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول ، والباقون على البناء للمفاعل ، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت ، وعلى الثانية معطوفا على «كتب» المقدر ، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة «كتب» لتأكيد ما قبلها ، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم ، ونظر فيه الحلبي ، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى ، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة (ما وَراءَ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين ، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور.

(أَنْ تَبْتَغُوا) مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة ، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء ، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء (بِأَمْوالِكُمْ) بأن تصرفوها إلى مهورهن ، أو بدل اشتمال من (ما وَراءَ ذلِكُمْ) بتقدير المفعول ضميرا.

وجوز بعضهم كون (ما) عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح ، وجعل هذا بدل كل من كل ، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان (مُحْصِنِينَ) حال من فاعل تبتغوا ، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال من الضمير البارز ، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل ، وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد ، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد : ذات خدن ، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني ، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وقال بعض الشافعية : لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال ، ويؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل رجلا خطب الواهبة

٦

نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذا معك من القرآن؟ قال : معي سورة كذا وكذا وعددهن قال : تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ، ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليل ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه ـ قاله بعض المحققين ـ ولعل في الخبر إشارة إليه (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) «ما» إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيّا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في (فَآتُوهُنَ) ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير (بِهِ) واستعمال (ما) للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة ، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى ، والسين للتأكيد لا للطلب ، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن ، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن ـ فمن ـ ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا و (ما) لما لا يعقل ، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأجله أو بمقابلته ، والمراد من الأجور المهور ، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا ، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع (وَلا جُناحَ) أي لا إثم (عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى ، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة (لا جُناحَ) إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي الشيء المقدر ، وقيل : (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من نفقة ونحوها ، وقيل : من مقام أو فراق ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة ، وقيل : الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر ، والمراد (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية ، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة ، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبيّ «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى ، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ـ والكلام في ذلك شهير ـ ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت ، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا ، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين ، وكانت حلالا قبل يوم خيبر ، ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، واستمر التحريم ، ولا يجوز أن يقال : إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر ، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك ، وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع.

وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه : إنك رجل تائه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المتعة كذا قيل ، وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك ، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال : إنا ناسا أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل ـ يعني ابن عباس ـ كما قال النووي ، فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له ابن

٧

الزبير : فجرب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير ، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه ، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج ، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال : «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المعارج : ٣٠] فكل فرج سواهما فهو حرام ، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه ، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار ، فقد روي عن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء قال : وما قالوا؟ قلت : قالوا :

قد قلت للشيخ لما طال مجلسه

يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة

تكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال : سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا تحل إلا للمضطر ، ومن هنا قال الحازمي : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم ، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد ، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ ، ونهى عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ؛ ومعنى ـ أنا محرمها ـ في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئة كما يزعمه الشيعة ، وهذه الآية لا تدل على الحل ، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط ، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته ، وقد قال بهما الشيعة ، ثم قال جل وعلا : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب ، وفي كل سنة بحجر ملاعب ، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة : إن المتمتع الغير الناكح إذ زنى لا رجم عليه ، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عزّ من قائل : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة ، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة.

وما دل على التحريم كآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المعارج : ٣٠] قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما ، وليس للشيعة أن يقولوا : إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية ـ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ـ فيها ، وقد صرح بذلك علماؤهم.

وروى أبو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟ قال : لا ولا من السبعين ، وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع ، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى ، ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها ، ونقل الحل عن مالك رحمه‌الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه ، ومذهب الأكثرين أنه

٨

لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي : اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال : لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا ، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، وقال آخرون : بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول ؛ وحكى بعضهم عن زفر أنه قال : من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها ، والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت ـ وفي كونه عين نكاح المتعة ـ بحث ، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة ، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول ، وأستمتع أو أتمتع في الثاني ، وقال آخرون : النكاح المؤقت من أفراد المتعة ، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة ، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه ، وشذ الأوزاعي فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح أمر الخلق (حَكِيماً) فيما شرع لهم ، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ مَنْ) إما شرطية ، وما بعدها شرطها ، وإما موصولة وما بعدها صلتها ، و (مِنْكُمْ) حال من الضمير في (يَسْتَطِعْ) وقوله سبحانه : (طَوْلاً) مفعول به ـ ليستطع ـ وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول.

والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد ، وأصله الفضل والزيادة ، ومنه الطائل ، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم : طلته أي نلته ، ومنه قول الفرزدق :

إن الفرزدق صخرة ملمومة

طالت فليس تنالها الأوعالا

قوله عزوجل : ـ (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء ـ إما أن يكون متعلقا «بطولا» على معنى ـ ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات ـ وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة «لطولا» أي ـ ومن لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن ـ أو لنكاحهن ـ أو ـ على ـ على أن الطول بمعنى القدرة ـ كما قال الزجاج ، ومحل (أَنْ) بعد الحذف جر ، أو نصب على الخلاف المعروف ، وهذا التقدير قول الخليل ، وإليه ذهب الكسائي ، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من (طَوْلاً) بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد بناء على أن الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنكاح قوة وفضل ، وقيل : يجوز أن يكون مفعولا ـ ليستطع ـ و (طَوْلاً) مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز ـ أي ومن لم يستطع منكم استطاعة ـ أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام ، وقوله تعالى وتقدس : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة ، و (ما) موصولة في محل جر بمن التبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله ، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم ، وأجاز أبو البقاء كون (مَنْ) زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم ، وقوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) أي إمائكم (الْمُؤْمِناتِ) في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى (ما) ، وقيل : (مَنْ) زائدة ، و (فَتَياتِكُمُ) هو المفعول للفعل المقدر قبل ، و ـ مما ملكت ـ متعلق بنفس الفعل ، و (مَنْ) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول ، و (مَنْ) للتبعيض ، و (الْمُؤْمِناتِ) على جميع الأوجه صفة (فَتَياتِكُمُ) ، وقيل : هو مفعول ذلك الفعل المقدر ، وفيه بعد.

٩

وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط ـ كما ذهب إليه الشافعي ـ وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز ـ وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضي من قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) فلا يخرج منه شىء إلا بما يوجب التخصيص ؛ ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة ؛ أما أولا فالمفهومان ـ أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة ـ ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول. وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح ، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة ، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود ـ طول ـ الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء ، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها ، وبالكراهة صرح في البدائع ، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى ، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.

واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر ، أو رقيقة فرقيق ، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة ، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم ، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة ، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل ـ قاله ابن الهمام ـ وفيه مناقشة ما فتأمل.

وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإمام عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم ـ لكل جديد لذة ـ أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مئونة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب ، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر.

والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم ، وقيل : جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب ، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى ؛ وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثيّة إثر بيان تفاوتهم في ذلك ، وأيّا ما كان ـ فبعضكم ـ مبتدأ والجار والمجرور متعلق

١٠

بمحذوف وقع خبرا له ، وزعم بعضهم أن (بَعْضُكُمْ) فاعل للفعل المحذوف ، قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك.

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن ، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب.

والمراد من الأهل الموالي ، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا : للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز ، وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب ، وفي فتح القدير : للشريك المفاوض تزويج الأمة ، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. ومحمد ، وقال أبو يوسف : يملكون ذلك ، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن ، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي ، وإلى هذا ذهب مالك ـ وهو رواية عند أحمد ـ ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر ، وقال : حديث حسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع ، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما ، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح ، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح ، قال ابن الهمام : لا يقال : يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول : هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج ، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا ، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك ـ وهو الشارع ـ زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى.

وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.

واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى ، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل ، وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل ، ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد ، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن ، ولعل ما تقدم قرينة عليه ، قيل : ونكتة اختيار آتوهن على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة ، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين ، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه.

وقال الإمام مالك : الآية على ظاهرها والمهر للأمة ، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية ، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا ، وكذا إن فسر قوله تعالى.

١١

(بِالْمَعْرُوفِ) بما عرف شرعا من إذن الموالي ، والمعروف فيه أنه متعلق ـ بآتوهن ـ والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار ، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا ـ. بأنكحوهن ـ أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن (مُحْصَناتٍ) حال إما من مفعول (آتُوهُنَ) فهو بمعنى متزوجات ، أو من مفعول (فَانْكِحُوهُنَ) فهو بمعنى عفائف ، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه : (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فليس في إعادته كثير جدوى ، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) تأكيد له ، والمراد غير مجاهرات بالزنا ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) عطف على مسافحات (وَلا) لتأكيد ما في (غَيْرَ) من معنى النفي ـ والأخدان ـ جمع خدن وهو الصاحب ، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة ، والمعنى ولا مسرات الزنا.

وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية ، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون : إنه لؤم ، ويستحلون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١] (فَإِذا أُحْصِنَ) أي بالأزواج ـ كما قال ابن عباس وجماعة ـ وقرأ إبراهيم (أُحْصِنَ) بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن ، وأخرج عبد بن حميد أنه قرئ كذلك ، ثم قال : إحصانها إسلامها ، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج ، وبعض من أراده من الآية قال : لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ ، وروي ذلك مذهبا لابن عباس ، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس ، وقال الزهري : هو فيها بمعنى التزوج.

والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال : «اجلدوها» ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير» فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة ، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جلّ وعلا : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام.

وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع ، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد ، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. (فَعَلَيْهِنَ) أي فثابت عليهن شرعا (نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذابِ) أي الحد الذي هو جلد مائة ، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف ؛ وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان ، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم.

قال الشهاب : وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص (١) فلا وجه لما قيل : إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا

__________________

(١) وقال بعضهم : لاحد على العبد أصلا وإنما الحد على الأمة إذا زنت محصنة ، وقال آخرون : يجلد كالحر لعموم) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى آخرها لأن الآية المنصفة وردت في الإماء ا ه منه.

١٢

بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر ، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى.

والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع ، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرئ فإن أتوا ، وأتين بفاحشة ، هذا والفاء في (فَإِنْ أَتَيْنَ) جواب إذا ، والثانية جواب إن ، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول ، و (مِنَ الْعَذابِ) في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها ، قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من (ما) لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل (ذلِكَ) أي نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال : الإثم ، فقال نافع : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الشاعر :

رأيتك تبتغي «عنتي» وتسعى

مع الساعي عليّ بغير ذحل

وقيل : أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح ، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة ، ومنه ـ أكمة عنوت ـ أي صعبة المرتقى ، وفسره الزجاج هنا بالهلاك ، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثور أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : المراد به الحد لأنه إذا هو يخشى أن يواقعها فيحد ، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب ، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيّا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة ، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح (وَأَنْ تَصْبِرُوا) أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. (خَيْرٌ لَكُمْ) من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا ، وعلى بيعهن للحاضر والبادي ، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد ، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات ذلك ذل ومهانة سارية للناكح ، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور ، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق.

وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله.

وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال : «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر» وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» وقال الشاعر :

ومن لم تكن في بيته قهرمانة

فذلك بيت لا أبا لك ضائع

وقال الآخر :

إذا لم يكن في منزل المرء حرة

تدبره ضاعت مصالح داره

(وَاللهُ غَفُورٌ) أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب (رَحِيمٌ) أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.

١٣

هذا ومن باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عزّ من قائل : و (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات ، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه ، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم سلب السالك مقاما ناله غيره ، وليس له قابلية لنيله ، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية ، وقال شاعر الحقيقة المحمدية :

ولست مريدا أرجعن بلن ترى

ولست بطور كي يحركني الصدع

وقال سيدي ابن الفارض على لسانها :

وإذا سألتك أن أراك حقيقة

فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى

ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقال النيسابوري : المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلّص عباده وأباح لهم بقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب (مُحْصِنِينَ) أي حرائر من الدنيا وما فيها (غَيْرَ مُسافِحِينَ) في الطلب مياه الوجوه ، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا ، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات. ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا ، وكم في الزوايا من خبايا ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة ـ كما قال الشهاب على مذاهب فقيل : مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه ، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين ، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين ، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.

وقيل : إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف ، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله تعالى قديمة ، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية.

وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك كما قيل به في ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف ، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر ، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون : إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها ، ومفعول ـ يبين ـ على بعض الأوجه محذوف أي (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك ، وجوز أن يكون قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ) وقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ) تنازعا في قوله سبحانه : (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم ، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به ، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور : فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة

١٤

مجازا لتسببها عنها ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك ، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا ، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي.

وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف (وَيَتُوبَ) على (وَيَهْدِيَكُمْ) إلخ على سبيل البيان كأنه قيل : ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات ، فوضع موضعه (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم (حَكِيمٌ) مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا ، وأما إذا فسر (يَتُوبَ) أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا ، وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا ، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية ، وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها.

وروي هذا عن ابن زيد ، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة ، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى ، وقيل : إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة ، وقيل : إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم ، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل ، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر ، ويقولون : لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت ، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم ، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون.

وقرئ بالياء التحتانية فالضمير حينئذ ـ للذين يتبعون الشهوات (مَيْلاً عَظِيماً) بالنسبة إلى ميل من اقترف حطيئة على ندرة ، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء ـ قاله طاوس ومجاهد ـ وقيل : يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية ، وقيل : يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها ، والجملة مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي في أمر النساء لا يصبر عنهن ـ قاله طاوس – وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»وقيل : يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه ، وقيل : عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة ، وقيل : ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي.

وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به ، ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء ، وليس

١٥

لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك ، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء ، ونصب ضعيفا على الحال. وقيل : على التمييز ، وقيل : على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة ، وكلاهما (١) كما ترى ، وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير للهعزوجل.

وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، الأولى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) والثانية (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إلى آخرها ، والثالثة (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) إلى آخرها ، والرابعة (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) والخامسة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤] والسادسة (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] والسابعة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] إلى آخرها ، والثامنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء : ١٥٢]. الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة ، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور ، والمراد من الأكل سائر التصرفات ، وعبر به لأنه معظم المنافع ، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض ، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم ـ قاله السدي ـ وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه ، وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة [النور : ٦١] (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية ، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل ، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، و (بَيْنَكُمْ) نصب على الظرفية ، أو الحالية من أموالكم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع ، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه ، و (عَنْ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة ، و (مِنْكُمْ) صفة (تَراضٍ) أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة (عَنْ تَراضٍ) كائن (مِنْكُمْ) أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، والنصب قراءة أهل الكوفة ، وقرأ الباقون بالرفع على أن ـ كان ـ تامة.

وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة (عَنْ تَراضٍ) أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه ، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات. وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا» وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي».

وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام ، وقيل : المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى ، وبالتجارة صرفه فيما

__________________

(١) أي القولين ا ه منه.

١٦

يرضاه وهذا أبعد مما قبله ، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك ، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد ، وقيل : التراضي التخيير بعد البيع ، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه : اختر فخيره ثلاثا ، ثم قال له : خيرني فخيره ثلاثا ، ثم قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : هذا البيع عن تراض.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر ، وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي ؛ وقيل : المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب ، وقيل : المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر ، وحكي ذلك عن البلخي.

وقيل : المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه ، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل : المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم ، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب ، وقيل : المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال : «لما بعثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل شيئا» ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ولا تقتلوا» بالتشديد للتكثير ، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم ، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل للنهي ، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة ، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس ، وقيل : معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي قتل النفس فقط ، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل ، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، أو من أول السورة إلى هنا أقوال : روي الأول منها عن عطاء ـ ولعله الأظهر ـ وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد ، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. (عُدْواناً) أي إفراطا في التجاوز عن الحد ، وقرئ «عدوانا» بكسر العين (وَظُلْماً) أي إيتاء بما لا يستحقه ، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير ، وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية ، أو على العلية ، وقيل : وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) أي ندخله إياها ونحرقه بها ، والجملة جواب الشرط. وقرئ «نصليه» بالتشديد ، و «نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه ، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عزوجل ، أو لذلك ، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب.

(وَكانَ ذلِكَ) أي إصلاؤه النار يوم القيامة (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي (إِنْ

١٧

تَجْتَنِبُوا) أي تتركوا جانبا (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ) أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَنْهُ) أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر ، وقرئ ـ كبير ـ على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة ، وقيل : يحتمل أن يراد به الشرك (نُكَفِّرْ) أي نغفر ونمحو (١) واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران ، وقرئ (٢) يغفر ـ بالياء التحتانية (عَنْكُمْ) أيها المجتنبون (سَيِّئاتِكُمْ) أي صغائركم كما قال السدي ، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال : الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة ، وإليه ذهب الشافعية ، والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد ، وبه قال البغوي وغيره ، والثالث أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد ، والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، وبه قال الإمام ، والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ، وبه قال الماوردي في فتاويه ، والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه ، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي ، والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم ، وقال الواحدي : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى.

وقال شيخ الإسلام البارزي : التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة ، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته ، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه ، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وقال بعضهم : كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه ، وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد ، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا ؛ وقيل : هي سبع ، ويستدل له بخبر الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ، وفي رواية لهما «الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس» زاد البخاري «واليمين الغموس» ومسلم بدلها «وقول الزور» والجواب أن ذلك محمول على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه ـ وممن صرح بأن الكبائر سبع ـ علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير ، وقيل : تسع لما أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث ؛ وعنه أيضا أنها عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع ، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له : هل الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير أنه قال له : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة ، وقالوا : بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين

__________________

(١) قوله : «ونمحو» كذا بخطه بالواو مع أنه تفسير للمجزوم فكان حقه حذف الواو.

(٢) قوله : وقرئ «يغفر» كذا بخطه ، ولفظ القرآن «يكفر» ا ه.

١٨

في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة ، واختاره في تفسيره فقال : معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر ؛ وهذا ليس بصحيح انتهى ، وربما ادعي في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية : إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر ، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة ـ قاله العلامة ابن حجر ـ وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام ، وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عزوجل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأيّ كبيرة ، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين ـ كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار ـ لا سيما هذه الآية وكون المعنى ـ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ) ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ) ما كان من ارتكابها فيما سلف ، ونظير ذلك من التنزيل (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] بعيد غاية البعد ، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع ، نعم قد يقال لذنب واحد : كبير ، وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال ، ومن هنا قال الشاعر :

لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة

في السهو فيها للوضيع معاذر

فكبائر الرجل الصغير صغائر

وصغائر الرجل الكبير كبائر

قال سيدي ابن الفارض قدس‌سره :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهوا حكمت بردتي

وأشار إلى التفاوت من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في حديث مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية ، وأجيب عنه بأجوبة أصحها ـ على ما قاله الشهاب ـ إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «ما اجتنبت» إلخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) الجمهور على ضم الميم ، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها ، وهو على الضم إما مصدر ومفعول (نُدْخِلْكُمْ) محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا ، أو مكان منصوب على الظرف عنه سيبويه ، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش ، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف ، وعلى الفتح قيل : منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر ، وجوز كونه كقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه : (كَرِيماً) [الشعراء : ٥٨] أي حسنا ، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به. فقد قال سبحانه ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان :٢٦].

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) قال القفال : لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم ، وقيل : نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة ، فالمعنى (وَلا تَتَمَنَّوْا) ما

١٩

أعطاه الله تعالى (بَعْضَكُمْ) وميزه (بِهِ) عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس ، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه.

وأظلم خلق الله من بات حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد الله رضي الله تعالى عنهم ، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطى فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل : اللهم أعطني مثله ، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد ، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة ، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح ، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت ، ثم قال : وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء ، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض ، والمعنى لكل من الفريقين (١) في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده ، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى ، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند ، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار : الأول ما أخرجه عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية ، والثاني ما أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت. والثالث ما أخرجه عن قتادة والسدي قالا : لما نزل قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى (وَلا تَتَمَنَّوْا) إلى آخرها ، وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك ، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد ، والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له. وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر ، وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا ، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير ، وروي ذلك عن قتادة ، وفيه استعمال الاكتساب في الخير. وقد استعمل في الشر ، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم ، وفيه استعمال

__________________

(١) و «من». كما قال غير واحد على هذا. بيانية لا تبعيضية فتدبر ا ه منه.

٢٠