روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك ، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حالة ما على وجه ما فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه ، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به ، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا : إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.

فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين ، وأما إذا قلنا : كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيا عنه ، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا : المصيب واحد ، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع ، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان ، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه ، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف ، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المبادر وتأويل الخبر بما تقدم.

هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به ، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف ، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما ، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة ، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) نصب بما في لهم من معنى الاستقرار أو منصوب باذكر مقدرا ، وقيل : العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل ، وقيل : عظيم ، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له ، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال : إن التقييد ليس بمراد ، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد ، والجمهور على الأول قالوا : يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع ، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك ، والظاهر أن الابيضاض والاسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه.

واختلف في وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور ، وقيل : وقت قراءة الصحف ، وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان ، وقيل : عند قوله تعالى شأنه : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، وقيل :

٢٤١

وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده ، ولا يبعد أن يقال : إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطئ كما لا يخفى ، وقرأ : «تبيضّ وتسودّ» بكسر حرف المضارعة وهي لغة و «تبياضّ وتسوادّ».

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك ، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى ، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما ، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافا للسمين ، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه ـ وإليه ذهب عكرمة ـ واختاره الزجاج والجبائي.

وقيل : هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي ، وقيل : إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.

(فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه ، وقيل : يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه ، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فالباء للسببية ، وقيل : للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية ، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذ مجازية كما يقال : في نعيم دائم وعيش رغد ـ وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا رد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له : حتى أنت يا رسول الله؟ فقال : حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) استئنافية وقعت جوابا عما نشأ من السياق كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم ، وقيل : خبر بعد خبر وليس بشيء ، وتقديم الظرف للمحافظة على رءوس الآي ، والضمير المجرور للرحمة ، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافا لمن قال به ، وجعل الكلام عليه بيانا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل : ما بالهم في رحمة الله تعالى؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات ، وقرئ «ابياضت واسوادت» (تِلْكَ) أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي نقرؤها شيئا فشيئا ، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه‌السلام

٢٤٢

بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه ، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة.

وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك ، و (آياتُ) بدل منه ، وقرئ «يتلوها» على صيغة الغيبة.

(بِالْحَقِ) أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلا أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلا ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ظلما ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الانتفاء وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل ؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفي المستحيل كما في قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣٠] وقيل : الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلما منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره ، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلما لا يستفاد هذا ، وفيه ما لا يخفى.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتصرفا والتعبير ب (ما) للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أمورهم فيجازي كلّا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب ، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا ، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين ، وقيل : معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة ، وقرأ يحيى بن وثاب ـ «ترجع» ـ بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل ، وقيل : هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الانقياد والطواعية ـ وكان ـ ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام ، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو (كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب : ٤٠ ، الفتح : ٢٦] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤] ، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن ، وقيل : المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك ، وقال الحسن : معناه أنتم خير أمة ، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة (أُخْرِجَتْ) أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به (لِلنَّاسِ) متعلق بما عنده ، وقيل : بخير أمة ، وجملة (أُخْرِجَتْ) صفة ـ لأمة ـ وقيل : لخير ، والأول أولى ، والخطاب قيل : لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك ، وقيل : للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس ، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم» وأخرج ابن

٢٤٣

أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإنه وإن كان استئنافا مبينا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء ، والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية ، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما ، وأما ذكره فكالتتميم ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ ولو قيل قدما ـ وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لم يبعد أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان (خَيْراً لَهُمْ) مما هم عليه من الرئاسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم ، والآخرة لدفع العذاب المقيم ، وقيل : لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما‌السلام ، وقيل : المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم ، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة.

(وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم ، وقيل : للإشارة إلى أنهم في ـ الكفار ـ بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) استثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) ضررا ما إلا ضررا يسيرا ، وقيل : إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر والآية كما قال مقاتل : نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاء قوليا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره ، وكان

٢٤٤

ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء ، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف على جملة الشرط والجزاء ، و (ثُمَ) للترتيب والتراخي الأخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم. وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه.

وقرئ ـ ثم لا ينصروا ـ والجملة حينئذ معطوفة على جزاء الشرط ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته ، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناء على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف ، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد ، وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي ذلة هدر النفس والمال والأهل ، وقيل : ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية قال الحسن : أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم ، قيل : ففيه استعارة مكنية تخييلية وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية ، وقيل : هو من قولهم : ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا ، وقيل : أخذوا وظفر بهم ، و (أَيْنَ ما) شرط ، و (ما) زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال.

وقيل : أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقا أن يقتل به ، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى (ذلِكَ) أي المذكور من المذكورات (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أصلا ، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم‌السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار ، وقيل : معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم ، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر ، ثم إن جملة (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) وكذا جملة (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعا من الكلام ، وقال بعض المحققين : إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ) مبين له ، فقوله سبحانه : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) مبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع ، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعا لسوء الظن بالبعض ، وقوله عزّ شأنه : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرئاسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة ، ولو آمنوا لنجوا من

٢٤٥

جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له ، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل.

هذا «ومن باب الإشارة» (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الذي هو القرب من الله (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي بعضه ، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فينبغي تحرّي ما يرضيه ، ويحكى عن بعضهم أنه قال المنفقون على أقسام : فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض. ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن. ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ولله تعالى در من قال :

ويهتز للمعروف في طلب العلى

لتذكر يوما عند سلمى شمائله

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) قيل : فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا : إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه‌السلام (مُبارَكاً) بما كساه من أنوار ذاته (وَهُدىً) بما كساه من أنوار صفاته (لِلْعالَمِينَ) على حسب استعدادهم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة ، أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو ، أو جميع ذلك (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين «وتطبيق ذلك على ما في الأنفس» أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي ، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن ، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن ، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة إذ الألف رتبة تامة ، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) الصدر صورة ، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى اليه ، ومعنى كونه (مُبارَكاً) أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه ، وكونه (هُدىً) أنه يهتدي به إلى الله تعالى ـ والآيات ـ التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق ، و (مَقامُ إِبْراهِيمَ) إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك (كانَ آمِناً) من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهم أهل معرفته عز شأنه ، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا ، يحكى عن بعضهم أنه قال : قلت للشبلي : إني حججت فقال : كيف فعلت؟ فقلت : اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي : عقدت به الحج؟ فقلت : نعم قال : فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد؟ قلت : لا قال : فما عقدت ، ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت : نعم قال : تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت : لا قال : ما نزعت ، فقال : تطهرت؟ قال : نعم قال : أزلت عنك كل علة؟ فقلت : لا قال فما تطهرت ، قال لبيت؟ قلت : نعم قال : وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت : لا قال :

٢٤٦

ما لبيت ، قال : دخلت الحرم؟ قلت : نعم قال : اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت : لا قال : ما دخلت ، قال : أشرفت على مكة؟ قلت : نعم قال : أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت لا قال : ما أشرفت ، قال : دخلت المسجد الحرام؟ قلت : نعم قال : دخلت الحضرة؟ قلت : لا قال : ما دخلت المسجد الحرام ، قال : رأيت الكعبة؟ قلت : نعم قال : رأيت ما قصدت له؟ قلت : لا قال ما رأيت الكعبة ، قال رملت وسعيت؟ قلت : نعم قال : هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت؟ قلت : لا قال : ما فعلت شيئا ، قال : صافحت الحجر؟ قلت : نعم قال : من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك؟ قلت : لا قال : ما صافحت ؛ قال : أصليت ركعتين بعد؟ قلت : نعم قال : أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى؟ قلت : لا قال : ما صليت. قال : خرجت إلى الصفا. قلت : نعم قال : أكبرت؟ قلت : نعم فقال : أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان ، قلت : لا قال : ما خرجت ولا كبرت. قال : هرولت في سعيك؟ قلت : نعم قال : هربت منه إليه؟ قلت : لا قال : ما هرولت ، قال : وقفت على المروة؟ قلت : نعم قال : رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها : قلت لا قال : ما وقفت على المروة ، قال : خرجت إلى منى؟ قلت : نعم قال. أعطيت ما تمنيت؟ قلت : لا قال : ما خرجت ، قال : دخلت مسجد الخيف؟ قلت : نعم قال : تجدد لك خوف؟ قلت : لا قال : ما دخلت. قال : مضيت إلى عرفات؟ قلت : نعم قال : عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء؟ قلت : لا قال : ما مضيت. قال : نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت : نعم. قال : ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت لا قال : ما نفرت ، قال : ذبحت؟ قلت : نعم قال : أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق؟ قلت : لا قال ما ذبحت ، قال : رميت؟ قلت : نعم قال : رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت : لا قال ما رميت ، قال : زرت؟ قلت : نعم قال : كوشفت عن الحقائق؟ قلت : لا قال ما زرت ، قال : أحللت؟ قلت : نعم قال : عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت. لا قال : ما أحللت ، قال : ودعت قلت نعم قال : خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت : لا قال : ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى.

فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج ، ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار ، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على توحيده (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) إذ هو أقرب من حبل الوريد (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالإنكار على المؤمنين (مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) بإيراد الشبه الباطلة (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الراسخ فيكم (كافِرِينَ) لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به ، قال الواسطي : ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية ، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة ، وقيل : الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي ، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) بصون العهود

٢٤٧

وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا ، وقيل : حق التقوى عدم رؤية التقوى (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢](وَلا تَفَرَّقُوا) باختلاف الأهواء (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) عليكم (إِخْواناً) في الدين (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) المقرب إلى الله تعالى (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المبعد عنه تعالى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) واتبعوا الأهواء والبدع (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب الحرمان من الحضرة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قالوا : ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم (أَكَفَرْتُمْ) أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل (فَذُوقُوا الْعَذابَ) وهو عذاب الاحتجاب عن الحق (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) به (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) الخاصة التي هي شهود الجمال (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون بعد الفناء (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) من مكامن الأزل (لِلنَّاسِ) أي لنفعهم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الموصل إلى مقام التوحيد (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) كإيمانكم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما هم عليه (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كإيمانكم (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن حرم الحق (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) وهو الإنكار عليكم بالقول (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) ولم يكتفوا بذلك الإيذاء (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم ، والله تعالى الموفق.

(لَيْسُوا سَواءً) أخرج ابن إسحاق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك (لَيْسُوا سَواءً) إلى قوله سبحانه وتعالى : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب ، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين خاصة وهو اسم ـ ليس ـ و (سَواءً) خبره ، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدرا والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام.

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام ، وقال أبو عبيدة :

٢٤٨

إنه مع الأول كلام واحد ، وجعل (أُمَّةٌ) اسم ـ ليس ـ والخبر (سَواءً) فهو على حد أكلوني البراغيث ، وقيل : (أُمَّةٌ) مرفوع ـ بسواء ـ وضعف كلا القولين ظاهر ، ووضع (أَهْلِ الْكِتابِ) موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم ـ والقائمة ـ من قام اللازم بمعنى استقام أي (أُمَّةٌ) مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه ، وحكي عن ابن عباس وغيره ، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة ، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل.

والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول ، وجعل بعضهم (أَهْلِ الْكِتابِ) عاما لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) صفة لأمة بعد وصفها بقائمة ، وجوز أن تكون حالا من الضمير في (قائِمَةٌ) أو من الأمة لأنها قد وصفت ، أو من الضمير في الجار الواقع خبرا عنها ، والمراد يقرءون القرآن (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته وواحده أني بوزن عصا ، وقيل : إنى كمعا ، وقيل : أني بفتح فسكون أو كسر فسكون ؛ وحكى الأخفش أنو كجرو ؛ فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلق ـ بيتلون ـ أو ـ بقائمة ـ ومنع أبو البقاء تعلقه بالثاني بناء على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) حال من ضمير (يَتْلُونَ) على ما هو الظاهر ، والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر ، والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام ، واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة ، وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعا لاحتمال المعنى اللغوي الذي لا مدح فيه ، والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة.

واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : أخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال : وأنزلت هذه الآية (لَيْسُوا سَواءً) حتى بلغ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة يتلون ، وقيل : مستأنفة ويكون المدح لهم بذلك لتميزهم واختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشان التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم ، فقد روى الطبراني بسند حسن أيضا عن المنكدر أنه قال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال : أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ثم قال : أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان ، ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الانفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالا من الضمير كما سبق وليس فليس.

والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أغني بكثرة السجود ، وكذا في كثير من المواضع ، وقيل : المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة ، وقيل : المراد بالسجود سجود التلاوة ، وقيل : الخضوع كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] واختيرت الجملة الاسمية للدلالة على الاستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم

٢٤٩

وتأكيدا له ، واختيار صيغة المضارع للدلالة على التجدد (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صفة أخرى لأمة ، وجوز أن تكون حالا على طرز ما قبلها وإن شئت ـ كما قال أبو البقاء استأنفتها ، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول ، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهارا لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدعون أيضا الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس ، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا ، أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك ، وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة ، واختيار صيغة المفاعلة للمبالغة ، قيل : ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم ، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة. وإيثار (فِي) على ـ إلى ـ وكثيرا ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام : بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون منتهون إليها ؛ وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود : ما آمن به إلا شرارنا.

وقد ذهب الجلّ إلى أن في الآية استغناء بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، والمراد ومنهم من ليسوا كذلك (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي طاعة متعدية أو سارية (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن يحرموا ثوابه البتة ، وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدى إلى مفعولين والخطاب قيل : لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وجميع ما بينهما استطراد ، وقيل : لأولئك الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه التفات ؛ ونكتته الخاصة هنا الإشارة إلى أنهم لا تصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا ، وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين ، والباقون بالتاء فيهما غير أبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يخير بهما ، وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة ، ويحتمل أن يعود للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أولا في التعبير ـ بأخرجت ـ دون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل ذلك.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي بأحوالهم فيجازيهم وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولا أوليا وإما خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى ، وعلى هذا يكون قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

٢٥٠

بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مؤكدا لذلك ولهذا فصل. والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم ، وإما بنو قريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد.

٢٥١

وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : مشركو قريش (وقيل : وقيل :) ولعل من ادعى العموم ـ وهو الظاهر ـ قال بدخول المذكورين دخولا أوليا ، والمراد من الإغناء الدفع ، ويقال : أغنى عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئا يسيرا منه ، وقال بعضهم : المراد بالاغناء الإجزاء ، ويقال : ما يغنى عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك ، و (مِنَ) للبدل أو الابتداء ، و (شَيْئاً) مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئا من الإجزاء ، وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقيا له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفا.

(هُمْ فِيها خالِدُونَ) تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار الجملة الاسمية للإيذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف محافظة على رءوس الآي (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) كالدليل لعدم إغناء الأموال ، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفارا ـ وهو الظاهر ـ كان حكمهم حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا ، وبغضهم لهم في الآخرة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩](يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى ، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير ، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت ـ وهو المروي عن مجاهد ـ وقيل : مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : لما أنفقته قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة ، وقال الزجاج ـ الصر ـ صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح ، وقيل : أصل الصر كالصرصر الريح الباردة ، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه ، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله :

ولو لا ذاك قد سوّمت مهري

وفي الرحمن للضعفاء كاف

أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد ، وقيل : إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل ـ وفيه بعد ـ لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد ، وقيل : هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت ، أو من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله ، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال ، والريح واحدة الرياح ، وفي الصحاح والأرياح ، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو ، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك : أروح الماء وتروحت بالمروحة ، ويقال أيضا : ريح وريحة كما قالوا : دار ودارة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام ، وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روى اللهم ـ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا (أَصابَتْ حَرْثَ) أي زرع.

(قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل : إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما

٢٥٢

غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره ، وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها (فَأَهْلَكَتْهُ) عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم ، وقيل : تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) [يونس : ٢٤] وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق ، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث ، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع ، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح ، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما ، وقرئ ـ تنفقون ـ بالتاء (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به ، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا ، وقرئ «ولكنّ» بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ، وجملة (يَظْلِمُونَ) خبرها والعائد محذوف ، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف ، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله :

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن من يبصر جفونك يعشق

وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي تدخل عليها النواسخ وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية ، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم ، وظاهر ما يأتي يؤيده ، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و (مِنْ) متعلقة ب (لا تَتَّخِذُوا) أو بمحذوف وقع صفة لبطانة ، وقيل : زائدة و ـ دون ـ إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء ، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى (لا تَتَّخِذُوا) الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته ، منزلتكم في الشرف والديانة ، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن اتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج.

وأخرج البيهقي ، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين» فذكر ذلك للحسن فقال : نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم ، ثم قال الحسن : وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أصل الألو التقصير يقال : ألا كغزا ـ يألو ألوا إذا قصر وفتر وضعف ، ومنه قول امرئ القيس :

٢٥٣

وما المرء ما دامت خشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا «آلى»

أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد ، وفي القاموس ما ألوت الشيء أي ما تركته ، والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان فيورثه اضطرابا كالمرض والجنون ، ويستعمل بمعنى الشر والفساد مطلقا ، ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر بل يجهدون في مضرتكم ، وعليه يكون الضمير المنصوب والاسم الظاهر منصوبين بنزع الخافض وإليه ذهب ابن عطية ـ وجوز أن يكون الثاني منصوبا على الحال أي مخبلين ، أو على التمييز.

واعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح جعله فاعلا إلا على اعتبار الإسناد المجازي والنصب بنزع الخافض ، ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر نوعا من العامل نحو أتاني سرعة وبطأ كما نص عليه الرضي في بحث المفعول به والحال ـ واعتمده الساليكوتي ـ ونقل أبو حيان أن التمييز هنا محول عن المفعول نحو (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه؟! وملاحظة تعديه إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه.

وأجيب بالتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوبا على النزع مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم شيئا منه في حقكم وهو وجه وجيه ، والتضمين قياسي على الصحيح والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه ، والمعنى والإعراب على الثالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي أحبوا عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم.

وقال السدي : تمنوا ضلالتكم عن دينكم ، وروي مثله عن ابن جرير (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم ، وقال قتادة : ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه ، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعد ، والأفواه جمع فم وأصله فوه ، فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل على ذلك أيضا تصغيره على فويه والنسبة إليه فوهيّ ، وقرأ عبد الله قد بدا البغضاء (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من البغضاء (أَكْبَرُ) أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا قليلا (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن كنتم من أهل العقل ، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو ، أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها ، وجواب إن محذوف لدلالة الكلام عليه ، ثم إن هذه الجمل ما عدا (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جوابا عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذانا باستقلال كل منها في ذلك ، وقيل : إنها في موضع النعت ـ لبطانة ـ إلا (قَدْ بَيَّنَّا) لظهور أنها لا تصلح لذلك ، والأول أحسن لما في الاستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه ، وقيل : إن (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) بيان وتأكيد لقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالا لأنهم يودّون شدة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء (قَدْ بَيَّنَّا) إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء

٢٥٤

ويصلح تعليلا للنهي فافهم (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة ، وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة : إن (ها) للتنبيه ؛ و (أَنْتُمْ) مبتدأ وجملة (تُحِبُّونَهُمْ) خبره ، و (أُولاءِ) منادى أو منصوب على الاختصاص ، وضعف بأنه خلاف الظاهر والاختصاص لا يكون باسم الإشارة ، وقيل : (أَنْتُمْ) مبتدأ ، و (أُولاءِ) خبره ، والجملة بعد مستأنفة ، ويؤيد ذلك ما قاله الرضي من أنه ليس المراد من ـ ها أنا ذا أفعل ، وها أنت ذا تفعل ـ تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب ، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة ، وقال البصريون : هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا ، والحال هاهنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم ، والعامل فيها حرف التنبيه أو اسم الإشارة.

واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا : ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الاخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد ، ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد واعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه ـ وبه يندفع بحث الرضي ـ على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون (أُولاءِ) بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ ، و (تُحِبُّونَهُمْ) في موضع الصلة وليس بشيء ، وقيل : (أَنْتُمْ) مبتدأ أول و (أُولاءِ) مبتدأ ثان ، وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأول على حد أنت زيد تحبه ، وقيل : إن (أُولاءِ) هو الخبر ، والجملة ما بعده خبر ثان ، وقيل : (أُولاءِ) في محل نصب بفعل يفسره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ.

والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة ، ومثلها ـ وإن كان غريب يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين ، وقيل. المراد (تُحِبُّونَهُمْ) لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك ، ولا يخفى ما فيه.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي الجنس كله وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف ، والجملة حال من ضمير المفعول في (لا يُحِبُّونَكُمْ) واعترضه في البحر بأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا ـ قمت وأصك عينيه ـ على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه ، ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف ، وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب ، والحمل ـ على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة ـ سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف ، وبهذا يندفع ما في البحر من الاعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا (وَإِذا خَلَوْا) أي خلا بعضهم ببعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ) أي لأجلكم (الْأَنامِلَ) أي أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز ، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضا بالفعل (قُلْ) يا محمد بلسانك ، وقيل : المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز

٢٥٥

الإسلام من غير أن يكون هناك قول ، وقيل : هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى : (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) مجرد الخطاب بما يكرهونه ، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم : قاتلك الله تعالى ، وقولهم : دم بعز ، وبت قرير عين ، وغيره مما لا يحصى ، والمراد كما قيل : الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به ، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به.

وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافا ، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري ، وأيضا ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما خفي فيها ، وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازى به وأن يكون خارجا عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم ، والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناء على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة ، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافا لمن وهم في ذلك (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) أيها المؤمنون (حَسَنَةٌ) نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء (تَسُؤْهُمْ) أي تحزنهم وتغظهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي محنة كإصابة العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم (يَفْرَحُوا) أي يبتهجوا (بِها) وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة ، والمس قيل : مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى ، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) [التوبة : ٥٠] وقوله سبحانه : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج: ٢٠] والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير ، وقال بعض المحققين : الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل : إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى موالاتهم أصلا فكيف تتخذونهم بطانة؟! والقول بأنه لا يبعد أن يقال : إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله (وَتَتَّقُوا) ما حرم عليكم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) أي مكرهم وأصل الكيد المشقة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (لا يَضُرُّكُمْ) بكسر الضاد وجزم الراء على أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره ، وضم الراء في القراءة المشهورة لاتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف المضموم العين كمد ، والجزم مقدر ، وجوزوا في مثله الفتح للخفة والكسر لأجل تحريك الساكن ، وقيل : إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو تكلف مستغنى عنه (شَيْئاً) نصب على المصدر أي (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر والتقوى

٢٥٦

لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو ، وقيل : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل ، إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الكيد.

وقرأ الحسن وأبو حاتم ـ تعملون ـ بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى (مُحِيطٌ) علما أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه (وَإِذْ غَدَوْتَ) أي واذكر إذ خرجت عدوة (مِنْ) عند (أَهْلِكَ) والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل : تنزلهم ، وقيل : تسوي وتهيئ لهم ، ويؤيده قراءة ـ «للمؤمنين» ـ إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي مواطن ومواقف ومقامات له ، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه قيام وقعود ، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم ـ وجملة (تُبَوِّئُ) حال من فاعل (غَدَوْتَ) ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة ، و (مَقاعِدَ) مفعول ثان ـ لتبوئ ـ والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد ، ولا يجوز ـ كما قال أبو البقاء ـ أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل.

روى ابن إسحاق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان ابن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة (١) فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر : اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا

__________________

(١) وعبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح البقرة بذبح أناس من أصحابه والثلم الذي بذباب سيفه بقتل رجل من أهل بيته ا ه من مؤلف رحمه‌الله كتبه مصححه.

٢٥٧

أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال : لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف : شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال : تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلا وقال : انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ـ ثلاث من الهجرة ـ وكان ما كان» وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية ، والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور (وَاللهُ سَمِيعٌ) لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولا أوليا (عَلِيمٌ) بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ ، والجماعة اعتراض للإيذان بأنه قد قدر من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره منهم ، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش : قد غنم ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلا فرجلا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى اثني عشر رجلا مع إيصاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثبوتهم مكانهم (إِذْ هَمَّتْ) قيل : بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير.

وجوز أن يكون ظرفا ـ لتبوئ ـ أو ـ لغدوت ـ أو ـ لسميع عليم ـ على سبيل التنازع أو لهما معا في رأي ، وليس المراد تقييد كونه سميعا عليما بذلك الوقت (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير وقال الجبائي : همت طائفة من المهاجرين ، وطائفة من الأنصار (أَنْ تَفْشَلا) أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمنسبك من (أَنْ) والفعل متعلق ـ بهمت ـ والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله :

٢٥٨

أقول لها إذا جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي ناصرهما والجملة اعتراض.

وجوز أن تكون حالا من فاعل (هَمَّتْ) أو من ضميره في (تَفْشَلا) مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى ، وقرأ عبد الله «والله وليهم» بضمير الجمع على حد (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩](وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول ، وإظهار الاسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في (الْمُؤْمِنُونَ) للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا ، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه ، وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة (١) لا يجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه. وبدر ـ كما قال الشعبي ـ بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به ، وقال الواقدي: اسم للموضع ، وقيل : للوادي وكانت ـ كما قال عكرمة ـ متجرا في الجاهلية.

وقال قتادة : إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة ، والباء بمعنى ـ في ـ أي نصركم الله في بدر (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حال من مفعول (نَصَرَكُمُ) و (أَذِلَّةٌ) جمع قلة لذليل ، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم ، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به ، وقيل : لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم ، وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك (فَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاء بما سبق وما لحق مع الاشعار ـ على ما قيل ـ بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مبادئها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الاخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى :

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه ، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل : فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لنصركم ، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهارا لكمال العناية ، وقيل : بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) وعلى الأول يكون هذا القول ببدر ، وعلى ذلك الحسن وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إلخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين ؛ وعلى الثاني يكون القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا ، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه.

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناء على

__________________

(١) وقوله : أو مساقة كذا بخطه رحمه‌الله ، ولعلها منساقة أو مسوقة ، كتبه مصححه.

٢٥٩

أنه الزيادة على نفي الحاجة ، والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال ، ويقال مد في السير إذا استمر عليه ، وامتد بهم السير إذا طال واستمر ، وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه : مده مدا ، وقيل : يقال : مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك ، وأتي بلن لتأكيد النفي بناء على ما ذهب إليه البعض ، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم ، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار ، و (أَنْ يُمِدَّكُمْ) في تأويل المصدر فاعل ـ بيكفيكم و (مِنَ الْمَلائِكَةِ) بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه و (مُنْزَلِينَ) صفة لثلاثة آلاف ، وقيل : حال من الملائكة وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس‌سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في الفتوحات ، وقرئ (مُنْزَلِينَ) بالتشديد للتكثير أو للتدريج ، وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين على معنى (مُنْزَلِينَ) الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة ، وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاء أيضا على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد (بَلى) إيجاب لما بعد (لَنْ) أي بلى (يَكْفِيَكُمْ) ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى : (إِنْ تَصْبِرُوا) على مضض الجهاد وما أمرتم به (وَتَتَّقُوا) ربكم بالاجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له (وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون أو أصحاب كرز كما قال الشعبي.

(مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا اشتد غليانها ومنه «أن شدة الحر من فور جهنم» ويطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء ، ثم إنه استعير للسرعة ، ثم أطلق على الحال التي لا بطء فيها ولا تراخي ، والمعنى ويأتوكم في الحال ووصف بهذا التأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق الإمداد لا محالة أسرعوا أو أبطئوا إيذانا بتحقق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله ، أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المد دعاة فمتى علق به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو غير مناف له كذا قيل ، وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على الشرط في قوله تعالى : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر كما هو المعتمد فقد وقع الاختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة الآلاف أولا. فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها بناء على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر والتقوى وإيتاء (١) أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه أولا فلم يوجد المجموع لانعدامه بانعدام بعض أجزائه فلم يوجد الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي ، نعم ذهب جمع إلى خلافه ولعله مبنى صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير متعين بل لم يوجد صريحا في كلام السلف ، والذي ذهب إليه عكرمة ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانئ أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون من للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم ، والإشارة إما لتعظيم ذلك الغضب من حيث إنه شديد ومتمكن في القلوب ، وإما لتحقيره من حيث إنه ليس على الوجه اللائق والطريق المحمود فإنه إنما كان على مخالفة المسلمين لهم في

__________________

(١) قوله : وإيتاء كذا بخطه رحمه‌الله ولعل المناسب ، وإتيان كما لا يخفى. كتبه مصححه.

٢٦٠