روح المعاني - ج ٧

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٧

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي

٣

رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٧٨)

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي لا أنزهها عن السوء قال ذلك عليه‌السلام : هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعا لله تعالى وتحاشيا عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»(١) أو تحديثا بنعمة الله تعالى وإبرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها من حيث هي ـ هي ـ ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته ، وقيل : إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى (إِنَّ النَّفْسَ) البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها (لَأَمَّارَةٌ) لكثيرة الأمر (بِالسُّوءِ) أي بجنسه ، والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات. وفي كثير من التفاسير أنه عليه‌السلام حين قال : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبريل عليه‌السلام : ولا حين هممت؟ فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) إلخ ، وقد أخرجه الحاكم في تاريخه وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعا ، وروي ذلك عن ابن عباس وحكيم بن جابر والحسن وغيرهم ، وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد ، وقيل : لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال : إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام قبل النبوة ، ويلتزم أنه عليه‌السلام لم يكن إذ ذاك نبيا.

والزمخشري جعل ذلك وما أشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على الله تعالى ورسوله ، وارتضاه وهو الحري بذلك ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله : وذلك شأن المبطلة من كل طائفة (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) قال ابن عطية : الجمهور على أن الاستثناء منقطع و (ما) مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) [يس : ٢٣] وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات و (ما) مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته ، والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم ، لكن فيه التفريغ في الإثبات والجمهور على أنه لا يجوز إلا بعد النفي أو شبهه. نعم أجازه بعضهم في الإثبات إن استقام المعنى كقرأت إلا يوم الجمعة. وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء

__________________

(١) روي «ولا فخر» بالمعجمات من فوق ومعناه الكلام الباطل اه منه.

٤

عليهم‌السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ما قبل النبوة بناء على جواز ما ذكر قبلها أو يراد جنس النفس لا كل واحدة.

وتعقيب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ما ذكر رأسا لأن المراد هضم النوع البشري اعترافا بالعجز لو لا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم ا ه ، ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل ، وأن يكون استثناء من النفس أو من الضمير المستتر في ـ أمارة ـ الراجع إليها أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها الله تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أو من مفعول ـ أمارة ـ المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ما رحمه‌الله تعالى ، وفيه وقوع (ما) على من يعقل وهو خلاف الظاهر ، ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك ، والإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة ، ولعل تقديم ما يفيد الأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وذهب الجبائي واستظهره أبو حيان إلى أن (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) إلى هنا من كلام امرأة العزيز ، والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس أمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه‌السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ما توهم من الاتصال الصوري وليس بذاك ، ومن أين لها أن تقول : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع إليها طمها ورمها.

ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه ، وهو على تقدير جعله من كلامه عليه‌السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقا لا خصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له. وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص ، ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلا للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر ، ويمكن أن يقال : إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له مع أن الملك دعاه إليه ، ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الأشياء أصلا فضلا عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه‌السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الإقدام على غيره أجدر وأحرى ، فالعلة للتثبت مع ما تلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه‌السلام لم يكن منه ما يخون به كائنا ما كان مع ما عطف عليه ، وذلك العلم إنما يترتب على ما ذكر لا على التفتيش ولو بعد الخروج كما لا يخفى ، أو يقال : إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناء على التزام أنه كان قبل ذلك عالما به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه‌السلام فيتلافى تقصيره بالإعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها ، ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل ، وليس ذلك مما لا يليق بشأنه عليه‌السلام بل الأنبياء عليهم‌السلام كثيرا ما يفعلون مثل ذلك في مبادئ أمرهم ؛ وقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجا لأمره ، وإذا حمل قوله عليه‌السلام لصاحبه الناجي (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [يوسف : ٤٢] على مثل هذا كما فعل أبو حيان تناسب طرفا الكلام أشد تناسب ، وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتظافرت عليه الأخبار.

وقيل هنا : إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه ، ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضي لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لا يليق بجلالة شأنه عليه‌السلام.

٥

ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ما ذكر ، ويقال : إنه عليه‌السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى ، ولا يخفى أن عوده عليه‌السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد ، ومن هنا قيل : الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه‌السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة إلى الله تعالى جبرا لما فعل قبل واتباعا لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى ، وقيل : في وجه التعليل غير ذلك ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقول : (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) إلخ ويرد على ظاهره ما لا يخفى فتأمل جميع ما ذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك. وفي رواية البزي عن ابن كثير وقالون عن نافع أنهما قرءا «بالسو» على قلب الهمزة واوا والإدغام (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ) أجعله خالصا (لِنَفْسِي) وخاصا بي (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) في الكلام إيجاز أي فأتوا به فلما إلخ ، وحذف ذلك للإيذان بسرعة الإتيان فكأنه لم يكن بينه وبين الأمر بإحضاره عليه‌السلام والخطاب معه زمان أصلا ، ولم يكن حاضرا مع النسوة في المجلس كما زعمه بعض وجعل المراد من هذا الأمر قربوه إلي ، والضمير المستكن في «كلمه» ليوسف عليه‌السلام والبارز للملك أي فلما كلم يوسف عليه‌السلام الملك آثر ما أتاه فاستنطقه ورأى حسن منطقه بما صدق الخبر الخبر ، واستظهر في البحر كون الضمير الأول للملك والثاني ليوسف أي فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة رفيعة (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء ، وقيل : آمن من كل مكروه ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، و (الْيَوْمَ) ليس بمعيار للمكانة والأمانة بل هو آن التكلم ، والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن كونهما بعد حين ، وفي اختيار ـ لدى ـ على عند ما لا يخفى من الاعتناء بشأنه عليه‌السلام ، وكذا في اسمية الجملة وتأكيدها. روي أن الرسول جاءه فقال له : أجب الملك الآن بلا معاودة والق عنك ثياب السجن واغتسل والبس ثيابا جددا ففعل فلما قام ليخرج دعا لأهل السجن اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ثم خرج فكتب على الباب هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، فلما وصل إلى باب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ثم سلم عليه بالعربية فقال له الملك : ما هذا اللسان؟ فقال : لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال له : وما هذا اللسان أيضا؟ فقال : هذا لسان آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها عليه‌السلام له طبق ما رأى لم يخرم منها حرفا ، فقال الملك : أعجب من تأويلك إياها معرفتك لها فأجلسه معه على السرير وفوض إليه أمره ؛ وقيل : إنه أجلسه قبل أن يقص الرؤيا. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : ذكروا أن قطفير هلك (١) في تلك الليالي وأن الملك زوج (٢) يوسف امرأته راعيل فقال لها حين أدخلت عليه : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جملاء ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله تعالى في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم وميشا.

__________________

(١) وجاء في رواية أن الملك عزله ونصب يوسف عليه‌السلام منصبه ا ه منه.

(٢) وكان ذلك على الفور بناء على أنه لم تكن العدة من دينهم ا ه منه.

٦

أخرج الحكيم الترمذي عن وهب قال : أصابت امرأة العزيز حاجة فقيل لها : لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه فاستشارت الناس في ذلك فقالوا : لا تفعلي فإنا نخافه عليك قالت : كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله تعالى فأدخلت عليه فرأته في ملكه فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ثم نظرت إلى نفسها فقالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بمعصيته فقضى لها جميع حوائجها ثم تزوجها فوجدها بكرا الخبر.

وفي رواية أنها تعرضت له في الطريق فقالت ما قالت فعرفها فتزوجها فوجدها بكرا وكان زوجها عنينا ، وشاع عند القصاص أنها عادت شابة بكرا إكراما له عليه‌السلام بعد ما كانت ثيبا غير شابة ، وهذا مما لا أصل له ، وخبر تزوجها أيضا مما لا يعول عليه عند المحدثين ؛ وعلى فرض ثبوت التزوج فظاهر خبر الحكيم أنه إنما كان بعد تعيينه عليه‌السلام لما عين له من أمر الخزائن ، قيل : ويعرب عنه قوله تعالى :

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، وفي معناه قول بعضهم أي أرضك التي تحت تصرفك ، وقيل : أراد بالأرض الجنس وبخزائنها الطعام الذي يخرج منها ، و (عَلى) متعلقة على ما قيل ـ بمستول ـ مقدر ، والمعنى ولني على أمرها من الإيراد والصرف (إِنِّي حَفِيظٌ) لها ممن لا يستحقها (عَلِيمٌ) بوجوه التصرف فيها ، وقيل : بوقت الجوع ، وقيل : حفيظ للحساب عليم بالألسن ، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره ، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر ، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا وكان متعينا لذلك ، وما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها» وارد في غير ما ذكر. وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده عليه‌السلام ، ولعل إيثاره عليه‌السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين لكونه من فروع تلك الولاية لا لمجرد عموم الفائدة كما قيل.

وجاء في رواية أن الملك لما كلمه عليه‌السلام وقص رؤياه وعبرها له قال : ما ترى أيها الصديق؟ قال : تزرع في سني الخصب زرعا كثيرا فإنك لو زرعت فيها على حجر نبت وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ويكون القصب علفا للدواب فإذا جاءت السنون بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم ، فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه؟ فقال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) إلخ ، والظاهر أنه أجابه لذلك حين سأله ، وإنما لم يذكر إجابته له عليه‌السلام إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له غني عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما تندرج تحته أحكام السلطنة جميعها. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة» ثم إنه كما روي عن ابن عباس وغيره توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع ووضع عليه الفرش وضرب عليه حلة من إستبرق فقال عليه‌السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك ، فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق منها شيء ، وفي الثانية بالحلي والجواهر ، وفي الثالثة بالدواب والمواشي ، وفي الرابعة بالعبيد والجواري ، وفي الخامسة بالضياع والعقار ، وفي السادسة بالأولاد ، وفي السابعة بالرقاب حتى استرقهم جميعا وكان ذلك مما يصح في شرعهم. فقالوا : ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه.

٧

فقال للملك : كيف رأيت صنع الله تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال : إني أشهد الله تعالى وأشهدك أني قد أعتقتهم ورددت إليهم أملاكهم.

ولعل الحكمة في ذلك إظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال : ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم إضاعته؟ وكان عليه‌السلام في تلك المدة فيما يروى لا يشبع من الطعام فقيل له : أتجوع وخزائن الأرض بيدك؟ فقال : أخاف إن شبعت أنسى الجائع وأمر عليه‌السلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع فلا ينسى الجياع ، قيل : ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار ، وقد أشار سبحانه إلى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا : (وَكَذلِكَ) أي مثل التمكين البديع (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي جعلنا له مكانا (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين ، وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندا إلى ضميره تعالى من تشريفه عليه‌السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى ، واللام في (لِيُوسُفَ) على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور ، وقد مر لك ما يتضح منه الحق (يَتَبَوَّأُ مِنْها) ينزل من قطعها وبلادها (حَيْثُ يَشاءُ) ظرف ليتبوأ ، وجوز أن يكون مفعولا به كما في قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] و (مِنْها) متعلق بما عنده ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من حيث. وتعقب بأن (حَيْثُ) لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز ، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير (يَشاءُ) له ، وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات ، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير والحسن وبخلاف عنهم أبو جعفر وشيبة ونافع «نشاء» بالنون فإن الضمير على ذلك لله تعالى قطعا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم ، وقيل : المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك (مَنْ نَشاءُ) بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم ، والمراد به على ما قيل : الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) قد وضع فيه الموصول موضع ضمير (الْمُحْسِنِينَ) وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيها على ذلك ، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير ، والإضافة فيه للملابسة ، وجعل في تعقيب الجملة الثالثة المؤكدة بعد المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة ، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل ، ويفهم من ذلك أن المراد ـ ممن نشاء ـ من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى. وتعقب بأنه خلاف الظاهر ، ولعل الظاهر حمل (مَنْ) على ما هو أعم مما ذكر وحينئذ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك ، يبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل : نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقوى منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه.

واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر. وأجيب بأن قولهم : في «الرحمن» أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَما

٨

أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوما في الجملة وأمر الإشعار سهل ، وقولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناء على أخذ ـ يحمد عاقبتها ـ في تعريفها. وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال : إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم «من» من المؤمنين.

نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) وقد يجاب بأنه لعله حمل (الْمُحْسِنِينَ) على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك ، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرا بينا إذا الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام.

وعمم بعضهم الأوقات في (نُصِيبُ وَلا نُضِيعُ) فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا ، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بعده تأسيسا وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه. وعن ابن عباس تفسير (الْمُحْسِنِينَ) بالصابرين ، ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام. وأيّا ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليه‌السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر ، وقد كان حل بآل يعقوب عليه‌السلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم : يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) عليه‌السلام وهو في مجلس ولايته (فَعَرَفَهُمْ) لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيئاتهم وزيهم في الحالين ، ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط ، ولعله عليه‌السلام كان مترقبا مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم ، ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا إليه. وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل.

(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك ، وقيل : إنما لم يعرفوه لأنه عليه‌السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدا منه وكلمهم بالواسطة ، وقيل : إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليه‌السلام ، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع ، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم ، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم الجهل ، وحيث كان إنكارهم له عليه‌السلام أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه‌السلام إياهم.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، ولعله عليه‌السلام إنما باع كل

٩

واحد منهم وحمل بعير لما روي أنه عليه‌السلام كان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطا بين الناس وفيما يأتي إن شاء الله تعالى من قولهم : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) [يوسف : ٦٥] ما يؤيده ، وأصل الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، وجهاز العروس ما تزف به إلى زوجها ؛ والميت ما يحتاج إليه في دفنه. وقرئ بكسر الجيم (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم كأنه لا يدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به ، ومن هنا قالوا في أرسل غلاما لك : الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه ، ولعله عليه‌السلام إنما قال ذلك لما قيل : من أنهم سألوه حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهرا لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم ، وقيل : إنهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم : من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد ، فقال : كم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الحادي عشر؟ ، قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا : نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون ، وقيل : إنه عليه‌السلام هو الذي اختاره لأنه كان أحسنهم رأيا فيه ، والمشهور أن الأحسن يهوذا فخلفوه عنده ، ومن هذا يعلم سبب هذا القول. وتعقب بأنه لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل ، وقال بعضهم : إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت إخوته بجعلهم جواسيس إلا أن يقال : إن ذلك كان عن وحي.

وقال ابن المنير : إن ذلك غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحدا من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له : إنهم أولاد يعقوب عليه‌السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه‌السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال : إن هذا الجام ليخبرني خبرا هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال : فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك ، وفيه مخالفة للخبر السابق ، وفي الباب أخبار أخر وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه الله تعالى مما قالوا ليوسف عليه‌السلام وقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أتمه لكم ، وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم إيفاء مستمرا والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وكان الأمر كذلك ، ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج حينئذ في ذلك المخاطبون ، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه ، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرا فبما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية ، ولم يقل ذلك عليه‌السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به ، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه‌السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل ، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الإسلام (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) إيعاد لهم على عدم الإتيان به ، والمراد لا كيل لكم

١٠

في المرة الأخرى فضلا عن إيفائه (وَلا تَقْرَبُونِ) أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة ، وهو إما نهي أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء ، وقيل : هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء ، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليه‌السلام ، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك ، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي إنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانى ، والجملة على الأول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب ـ أعني الفعل ـ على السبب ـ أعني القدرة ، وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه ما يدل على أن الموعود يحصل أولا.

(وَقالَ) يوسف عليه‌السلام (لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيالين كما قال قتادة وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل ، وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء ، وقرأ أكثر السبعة «لفتيته» وهو جمع قلة له ، ورجحت القراءة الأولى بأنها أوفق بقوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإن الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة ، وعلى القراءة الأخرى يستعار أحد الجمعين للآخر. روي أنه عليه‌السلام وكل بكل رحل رجلا يعني فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما ؛ وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه.

والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر ، وقال الراغب : هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة ، والظاهر أن هذا الأمر كان بعد تجهيزهم ، وقيل : قبله ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة إليه ، وإنما فعل عليه‌السلام ذلك تفضلا عليهم وخوفا أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك ـ فلعل ـ على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر ، ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله : (إِذَا انْقَلَبُوا) أي رجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ) فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا ، وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حسبما طلبت منهم ، فإن التفضل بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع ، وقيل : إنما فعله عليه‌السلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور ، ومثله في هذا ما زعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليه‌السلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة ، وأغرب منه ما قيل : إنه عليه‌السلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة ، ووجه بعضهم علية الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصدا أو قصدا للتجربة ـ فيرجعون ـ على هذا إما لازم وإما متعد ، والمعنى يرجعونها أي يردونها ، وفيه أن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد ، ألا ترى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا إن شاء الله تعالى.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي حكم بمنعه بعد اليوم إن لم نذهب بأخينا بنيامين

١١

حيث قال لنا الملك (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) والتعبير بذلك عما ذكر مجاز والداعي لارتكابه أنه لم يقع منع ماض ، وفيه دليل على كون الامتيار مرة بعد أخرى كان معهودا بينهم وبينه عليه‌السلام ، وقيل : إن الفعل على حقيقته والمراد منع أن يكال لأخيهم الغائب حملا آخر ورد بغيره غير محمل بناء على رواية أنه عليه‌السلام لم يعط له وسقا (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) بنيامين إلى مصر ، وفيه إيذان بأن مدار المنع على عدم كونه معهم (نَكْتَلْ) أي من الطعام ما نحتاج إليه ، وهو جواب الطلب ، قيل : والأصل يرفع المانع ونكتل فالجواب هو يرفع إلا أنه رفع ووضع موضعه يكتل لأنه لما علق المنع من الكيل بعدم إتيان أخيهم كان إرساله رفعا لذلك المانع ، ووضع موضعه ذلك لأنه المقصود ، وقيل : إنه جيء بآخر الجزأين ترتبا دلالة على أولهما مبالغة ، وأصل هذا الفعل نكتيل على وزن نفعيل قلبت الياء الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ومن الغريب أنه نقل السجاوندي أنه سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن نكتل فقال : نفعل فقال المازني : فإذا ماضيه كتل فخطأه على أبلغ وجه. وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بياء الغيبة على اسناده للأخ مجازا لأنه سبب للاكتيال أو يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا ، وقوى أبو حيان بهذه القراءة القول ببقاء منع على حقيقته ومثل الإمام (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يصيبه مكروه ، وهذا سد لباب الاعتذار وقد بالغوا في ذلك كما لا يخفى ، وفي بعض الأخبار ـ ولا يخفى حاله ـ أنهم لما دخلوا على أبيهم عليه‌السلام سلموا عليه سلاما ضعيفا فقال لهم : يا بني ما لكم تسلمون علي سلاما ضعيفا وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون فقالوا : يا أبانا جئناك من عند أعظم الناس ملكا ولم ير مثله علما وحكما وخشوعا وسكينة ووقارا ولئن كان لك شبه فإنه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك تخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب إليك وذهاب بصرك وقد منع منا الكيل فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون حتى نأتيك به (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) استفهام إنكاري و (آمَنُكُمْ) بالمد وفتح الميم ورفع النون مضارع من باب علم وأمنه وائتمنه بمعنى أي ما ائتمنكم عليه (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ) أي إلا ائتمانا مثل ائتماني إياكم (عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم أيضا في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض أمري إلى الله تعالى (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين ، وهذا كما ترى ميل منه عليه‌السلام إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة ، وفيه أيضا من التوكل علي الله تعالى ما لا يخفى ، ولذا روي أن الله تعالى قال : وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت علي ، ونصب (حافِظاً) على التمييز نحو لله دره فارسا ، وجوز غير واحد أن يكون على الحالية. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لما فيه من تقييد الخيرية بهذه الحالة. ورد بأنها حال لازمة مؤكدة لا مبينة ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم وهو غير معتبر ولو اعتبر ورد على التمييز وفيه نظر ، وقرأ أكثر السبعة «حفظا» ونصبه على ما قال أبو البقاء على التمييز لا غير. وقرأ الأعمش «خير حافظ» على الإضافة وافراد «حافظ» وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين» على الإضافة والجمع ، ونقل ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «فالله خير حافظا وهو خير الحافظين» قال ابن حيان : وينبغي أن تجعل جملة وهو خير إلخ تفسير للجملة التي قبلها لا أنها قرآن وقد مر تعليل ذلك (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) قال الراغب : المتاع كل ما ينتفع به على وجه ، وهو في الآية الطعام ، وقيل : الوعاء وكلاهما متاع وهما متلازمان فإن الطعام كان في الوعاء ، والمعنى على أنهم لما فتحوا أوعية طعامهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) التي كانوا أعطوها ثمنا للطعام (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي تفضلا وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال ، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش «ردت» بكسر الراء ، وذلك أنه نقلت حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع ، وحكى قطرب النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو ضرب زيد.

١٢

(قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل : ما ذا قالوا حينئذ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح (يا أَبانا ما نَبْغِي) إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب إليه جماعة ـ فما ـ يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم ـ لنبغي ـ فالمعنى ما ذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روي أنهم قالوا له عليه‌السلام : إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته ، وقوله تعالى : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعد ما من علينا بما يثقل الكواهل من المنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه ، ومرادهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد ، ولم يريدوا أنه كاف مطلقا فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر.

وجملة (رُدَّتْ) في موضع الحال من (بِضاعَتُنا) بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الإشارة ، وجعلها خبر (هذِهِ) و ـ بضاعتنا ـ بيانا له ليس بشيء ، وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل : للإيذان بكمال الإحسان الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله ، وقيل : للإيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضا ما فيه ، وقوله تعالى : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب لهم الميرة ، وهي بكسر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد ، وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) من المكاره حسبما وعدنا ، وتفرعه على ما تقدم باعتبار دلالته على إحسان الملك فإنه مما يعين على الحفظ (وَنَزْدادُ) أي بواسطته ولذلك وسط الاخبار به بين الأصل والمزيد (كَيْلَ بَعِيرٍ) أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك ، والبعير في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر ، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ.

وقوله تعالى (ذلِكَ كَيْلٌ) أي مكيل (يَسِيرٌ) أي قليل لا يقوم بأودنا يحتمل أن يكون اشارة إلى ما كيل لهم أولا ، والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم : قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام؟ فكأنهم قالوا : إن ما جئنا به غير كاف لنا فلا بد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تحمله أباعرهم ، والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق من الازدياد كأنه قيل : أي حاجة إلى الازدياد؟ فقيل : إن ما تحمله أباعرنا قليل لا يكفينا ، وقيل : المعنى أن ذلك الكيل الزائد قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه ، وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال : لعل الملك لا يعطيكم فوق العشرة شيئا ويرى ذلك كثيرا أو صعبا عليه وهو كما ترى ، وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم إليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا صرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا : ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لا مشقة فيه ولا محنة تتبعه ، وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطراز إلا يسيرا.

وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليه‌السلام والإشارة إلى كيل البعير أن كيل بعير واحد شيء قليل لا يخاطر لمثله بالولد ، وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق ، وقيل : معنى (ما نَبْغِي) أي مطلب نطلب من مهماتنا ، والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو

١٣

متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا : هذه بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكروه ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبغي وراء هذه المباغي ، وما ذكرنا من العطف على المقدر هو المشهور. وفي الكشف لك أن تقول : إن (نَمِيرُ) وما تلاه معطوف على مجموع (ما نَبْغِي) والمعنى اجتماع هذين القولين منهم في الوجود ولا يحتاج إلى جامع وراء ذلك لكونهما محكيين قولا لهم على أنه حاصل لاشتراك الكل في كونه لاستنزال يعقوب عليه‌السلام عن رأيه وأن الملك إذا كان محسنا كان الحفظ أهون شيء ، والاستفهام لرجوعه إلى النفي لا يمنع العطف ووافقه في ذلك بعضهم.

وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة «ما تبغي» بتاء الخطاب ؛ وروت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب ليعقوب عليه‌السلام ، والمعنى أي شيء وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل معنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه ، والجملة المستأنفة موضحة أيضا لذلك أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه ، والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار ، ويحتمل أن تكون (ما) نافية ومفعول (نَبْغِي) محذوف أن ما نبغي شيئا غير ما رأيناه من احسان الملك في وجوب المراجعة إليه أو ما نبغي غير هذه المباغي ، والقول بأن المعنى ما نبغي منك بضاعة أخرى نشتري بها ضعيف ، والجملة المستأنفة على كل تقدير تعليل للنفي ، وأما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد ـ فما ـ نافية فقط ، والمعنى ما نبغي في القول ولا نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر ، والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي ، وقوله : (وَنَمِيرُ) إلخ عطف على (ما نَبْغِي) أي لا نبغي فيما نقول ونمير ونفعل كيت وكيت فاجتمع أسباب الإذن في الإرسال ، والأول كالتمهيد والمقدمة للبواقي والتناسب من هذا الوجه لأن الكل متشاركة في أن المطلوب يتوقف عليها بوجه ما ، على أنه لو لم يكن غير الاجتماع في المقولية لكفى على ما مر آنفا عن الكشف.

وجوز (١) كونه كلاما مبتدأ أي جملة تذييلية اعتراضية كقولك : فلان ينطبق بالحق والحق أبلج كأنه قيل :

وينبغي أن نمير ، ووجه التأكيد الذي يقتضيه التذييل أن المعنى إن الملك محسن ونحن محتاجون ففيم التوقف في الإرسال وقد تأكد موجباه؟ ، وقال العلامة الطيبي : إنما صح التأكيد والتذييل لأن الكلام في الامتيار وكل من الجمل بمعناه أو المعنى (ما نَبْغِي) في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا ، والجمل كلها للبيان أيضا إلا أن ثم محذوفا ينساق إليه الكلام أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت وهو على ما قيل : وجه واضح حسن يلائم ما كانوا فيه مع أبيهم فتأمل هذا. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن السلمي «ونمير» بضم النون ، وقد جاء مار عياله وأمارهم بمعنى كما في القاموس.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي حتى تعطوني ما أتوثق به من جهته ، فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول ، وأراد عليه‌السلام أن يحلفوا له بالله تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقا منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن الله تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى شأنه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا بالله وتقولوا والله لنأتينك به.

وفي مجمع البيان نقلا عن ابن عباس أنه عليه‌السلام طلب منهم أن يحلفوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين ، والظاهر عدم صحة الخبر. وذكر العمادي أنه عليه‌السلام قال لهم : قولوا بالله رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنأتينك به

__________________

(١) فيه رد على صاحب الفرائد حيث غفل عن ذلك فقال رادا على هذا التجويز : إن الواو لا تصلح في الابتداء والتزم العطف ا ه منه.

١٤

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروي عن مجاهد ، وأصله من احاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا ، والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. ورد بأن المصدر من (أَنْ) والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة و (أَنْ) مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير. وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية ، ويؤول ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر. وفي البحر أنه لو قدر كون (أَنْ) والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك ، وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي :

وتالله ما إن شهلة (١) أم واحد

بأوجد مني أن يهان صغيرها

وقيل : من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت عليك الا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك ، والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت ، وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا صح وظهر ارادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليه‌السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال : إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الإتيان فيها ، وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله : وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك : لألزمنك إلى أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه‌السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت : صل إلا أن تكون محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك : لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الاخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه ، فآل المعنى إلى التأويل المذكور اه.

وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه : الأول أنه لو كان المراد من قوله : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) الأخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور ـ أعني التأويل بالنفي ـ كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده. الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله : لأحجن إلخ الأخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي. الثالث أنه إن أراد من قوله : كان اعتبار الأحوال إلخ أن الإتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع ، وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى إلا ذاك اه وهو كما ترى فتبصر ، ثم إنهم أجابوه عليه‌السلام إلى ما أراد (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليه‌السلام (قالَ)

__________________

(١) امرأة شهلة بالشين إذا كانت نصفا عاقلة اه منه.

١٥

عرضا لثقته بالله تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عزوجل (اللهُ عَلى ما نَقُولُ) في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين ، وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته (وَكِيلٌ) أي مطلع رقيب ، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه ، قيل : والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك.

(وَقالَ) ناصحا لهم لما عزم على إرسالهم جميعا (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ) نهاهم عليه‌السلام عن ذلك حذرا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا إذا دخلوا كوكبة واحدة ، وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى ، وجوز أن يكون خوفه عليه‌السلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليه‌السلام ولم يكن فيهم في المرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف ، والقول أنه عليه‌السلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلا ، ومثله ما قيل : إن ذلك كان طمعا أن يتسمعوا خبر يوسف عليه‌السلام ؛ والعين حق كما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» و «إذا استغسلتم فاغتسلوا» وقد ورد أيضا «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسنين رضي الله تعالى عنهما بقوله : «أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وكان يقول : «كان أبو كما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق عليهم‌السلام».

ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لا بأس باطلاعك عليه ، وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني ، فالأنواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات والكرامات والإلهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك. أما النوع الأول ـ أعني تأثير النفساني في مثله ـ فكتأثير المبادئ العالية في النفوس الإنسانية بإفاضة العلوم والمعارف ، ويندرج ي ذلك صنفان : أحدهما ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقي إلى النفس المستعدة لذلك كمال العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه.

وثانيهما ما يتعلق بالتخيل القوي بأن يلقي إلى من يكون مستعدا له ما يقوى به على تخيلات الأمور الماضية والاطلاع على المغيبات المستقبلة ، والمنامات والإلهامات داخلة أيضا تحت هذا النوع ، وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تق وقوتهم العقلية فتتخيل ما ليس بموجود في الخارج موجودا فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها ؛ وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه. وأما النوع الثاني ـ أعني تأثير النفساني في الجسماني ـ فكتأثير النفوس الإنسانية في الأبدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادئ العالية كأن يستسقي للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون ، ويندرج في هذا صنف من السحر أيضا كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلا فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض

١٦

وذبول جسم ويصل ذلك إلى الهلاك ، وأما النوع الثالث وهو تأثير الجسماني في الجسماني فكتأثير الأدوية والسموم في الأبدان ويدخل فيه أنواع النيرنجات والطلسمات فإنها بتأثير بعض المركبات الطبيعية في بعض بسبب خواص فيها كجذب المغناطيس للحديث واختطاف الكهرباء التبن وقد يستعان في ذلك بتحصين المناسبات بالاجرام العلوية المؤثرة في عالم الكون والفساد كما يشاهد في صور أشكال موضوعة في أوقات مخصوصة على أوضاع معلومة في مقابلة بعض الجهات ومسامتة بعض الكواكب يستدفع بها كثير من أذية الحيوانات. وأما النوع الرابع وهو تأثير الجسماني في النفساني فكتأثير الصور المستحسنة أو المستقبحة في النفوس الإنسانية من استمالتها إليها وتنفيرها عنها وعد من ذلك تأثير أصناف الأغاني والرقص والملاهي في بعض النفوس وتأثير البيان فيمن له ذوق كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام : «إن من البيان لسحرا» إذا تمهد هذا فاعلم أنهم اختلفوا في إصابة العين فأبو علي الجبائي أنكرها إنكارا بليغا ولم يذكر لذلك شبهة فضلا عن حجة وأثبتها غيره من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك فقال الجاحظ : إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه تأثير السم في الأبدان فالتأثير عنده من تأثير الجسماني في الجسماني.

وضعف ذلك القاضي بأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن تؤثر العين في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيرها فيما يستحسن. وتعقبه الإمام بأنه تضعيف ضعيف ، وذلك لأنه استحسن العائن شيئا فإما أن يحب بقاءه كما إذا استحسن ولده مثلا وإما أن يكره ذلك كما إذا أحس بذلك المستحسن عند عدوه الحاسد هو له ، فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله وهو يوجب انحصار الروح في داخل القلب ، فحينئذ يسخن القلب والروح جدا ويحصل في الروح الباصر كيفية قوية مسخنة ، وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان هم شديد وحزن عظيم بسبب حصول ذلك المستحسن لعدوه ، وذلك أيضا يوجب انحصار الروح وحصول الكيفية القوية المسخنة ، وفي الصورتين يسخن شعاع العين فيؤثر ولا كذلك في عدم الاستحسان فبان الفرق ، ولذلك السبب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العائن بالوضوء ومن أصيب بالاغتسال ا ه. وما أشار إليه من أن العائن قد يصيب ولده مثلا مما شهدت له التجربة ، لكن أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العين حق يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» وظاهره يقتضي خلاف ذلك ، وأما ما ذكره من الأمر بالوضوء والاغتسال فقد جاء في بعض الروايات ، وكيفية ذلك أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره أي ما يلي جسده من الإزار ، وقيل وركيه : وقيل : مذاكيره ويصب الغسالة على رأس المعين وقد مر «إذا استغسلتم فاغسلوا» وهو خطاب للعائنين أي إذا طلب منكم ما اعتيد من الغسل فافعلوا والأمر للندب عند بعض ، وقال الماوردي تبعا لجماعة : للوجوب فيجب على العائن أن يغسل ثم يعطي الغسالة للمعين لأنه الذي يقتضيه ظاهر الأمر ولأنه قد جرب ذلك وعلم البرء به ففيه تخليص من الهلاك كإطعام المضطر ، وذكر أن ذلك أمر تعبدي وهو مخالف لما أشار إليه الإمام من كون الحكمة فيه تبريد تلك السخونة ، وهو مأخوذ من كلام ابن القيم حيث قال في تعليل ذلك : لأنه كما يؤخذ درياق لسم الحية من لحمها يؤخذ علاج هذا الأمر من أثر الشخص العائن ، وأثر تلك العين كشعلة نار أصابت الجسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ، وهو (١) على علاته أوفى من كلام الإمام. ويرد على ما قرره في الانتصار للجاحظ أنه لا يسد عنه باب الاعتراض على ما ذكره في كيفية إصابة العين ، إذ يرد عليه ما ثبت من

__________________

(١) فيه إشارة إلى أن فيه ما فيه أيضا فقد ذكر ابن القيم نفسه أن ذلك لا ينتفع به من أنكره ولا يخفى أنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن فرق بين المنكر والمعتقد في الانتفاع فتأمل اه منه.

١٧

أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ ، والتزام امتداد تلك للأجزاء إلى حيث المصاب مما لا يكاد يقبل (١) كما لا يخفى على ذي عين. وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة : إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسيا محضا كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض إذا كان موضوعا على الأرض يقدر كل إنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وما ذاك إلا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضا إن الإنسان إذا تصور أن فلانا مؤذيا له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه ، فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقا ليس إلا التصورات النفسانية ، ومتى ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان ، وأيضا جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على ما نقل وتتعجب منه ، ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم ، ولأن وقوع ذلك أكثري عند اعمال العين والنظر بها إلى الشيء نسب التأثير إلى العين والا فالمؤثر إنما هو النفس ، ونسبة التأثير إليها كنسبة الإحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك ، والفاعل للآثار في الحقيقة هو الله عزّ سلطانه بالإجماع ، لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالأسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الأسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الأشعري.

فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام : «العين حق» أن إصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقتضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلا. وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الإلهية فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن ، وحكمة خلق الله تعالى التأثير في مسألة العين أمر مجهول لنا. وزعم أبو هاشم وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا : لا يمتنع أن تكون العين حقا على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به ، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الاعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك تتغير المصلحة فيبقيه الله تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى ، ثم إن ما أشار إليه من نفع ذكر الله تعالى والالتجاء إليه سبحانه حق ، فقد صرحوا بأن الأدعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سببا لرد سهم العائن إليه. فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساجي قيل له : احفظ ناقتك من فلان العائن فقال : لا سبيل له إليها فعانها فسقطت تضطرب فأخبر الساجي فوقف عليها فقال : حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة.

ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار ، وقد جاء في بعضها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا رقية إلا من عين أو حمة» والمراد منه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فقد رقى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أصحابه من

__________________

(١) ومثله ما يقال من ذهابها كالسهم كما قيل :

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

١٨

غيرهما. وينبغي لمن علم من نفسه أنه ذو عين أو لا ينظر إلى شيء نظر إعجاب وأن يذكر الله تعالى عند رؤية ما يستحسن. فقد ذكر غير واحد من المجربين أنه إذا فعل ذلك لا يؤثر ، ونقل الأجهوري أنه يندب أنه يعوذ المعين فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وفي تحفة المحتاج أن من أدويتها أي العين المجربة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها أن يتوضأ العائن إلى آخر ما ذكرناه آنفا وأن يدعو للمعين وأن يقول المعين ما شاء الله لا قوة إلا بالله حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا بالله ، ويسن عند القاضي لمن رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة أن يقول ذلك. وفي شرح مسلم عن العلماء أنه على السلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويرزقه من بيت المال إن كان فقيرا فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله تعالى عنه من مخالطة الناس. ورأيت لبعض أصحابنا أيضا القول بندب ذلك ، وأنه لا كفارة على عائن قيل : لأن العين لا تعد مهلكا عادة على أن التأثير يقع عندها لا بها حتى بالنظر للظاهر ، وهذا بخلاف الساحر فإنهم صرحوا بأنه يقتل إذا أقر أن سحره يقتل غالبا. ونقل عن المالكية أنه لا فرق بين الساحر والعائن فيقتلان إذا قتلا ؛ ثم إن العين على ما نقل عن الرازي لا تؤثر ممن له نفس شريفة لما في ذلك من الاستعظام للشيء. وفيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ما يؤيد المدعى ، واعترض بما رواه القاضي أن نبيا استكثر قومه فمات منهم في ليلة مائة ألف فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له سبحانه وتعالى : «إنك استكثرتهم فعنتهم هلا حصنتهم إذا استكثرتهم فقال : يا رب كيف أحصنهم؟ قال : تقول حصنتكم بالحي القيوم». إلى آخر ما تقدم وقد يجاب بأن ما ذكر الرازي هو الأغلب بل يتعين تأويل هذا إن صح بأن ذلك النبي عليه‌السلام لما غفل عن الذكر عند الاستكثار عوتب فيهم ليسأل فيعلم فهو كالإصابة بالعين لا أنه عان حقيقة هذا والله تعالى أعلم ، ثم إنه عليه‌السلام لم يكتف بالنهي عن الدخول من باب واحد بل ضم إليه قوله : (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) بيانا للمراد به وذلك لأن عدم الدخول من باب واحد غير مستلزم للدخول من أبواب متفرقة وفي دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور ، وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما للنهي السابق إظهارا لكمال العناية به وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق شيء آخر (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ) أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من قضائه تعالى عليكم شيئا فإنه لا يغني حذر من قدر ، ولم يرد بهذا عليه‌السلام ـ كما قيل ـ الغاء الحذر بالمرة كيف وقد قال سبحانه : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء : ١٠٢] وقال عز قائلا : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير وتشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذنه تعالى وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما الحكم مطلقا (إِلَّا لِلَّهِ) لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء (عَلَيْهِ) سبحانه دون غيره (تَوَكَّلْتُ) في كل ما آتي به وأذر ، وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل ، وفي الخبر «اعقلها وتوكل».

(وَعَلَيْهِ) عزّ سلطانه دون غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي المريدون للتوكل ، قيل : جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص ليفيد بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله تعالى شأنه على فعل نفسه وبالفاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به ، وهي على ما صرح به بعضهم زائدة حيث قال : ولا بد من القول بزيادة الفاء وإفادتها السببية ، ويلتزم أن الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد ، وذكر أنه لو اكتفى بالفاء وحدها وقيل : فعليه فليتوكل إلخ أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل وهو المقصود ، وكل ذلك لا يخلو عن بحث. واختار بعضهم أنه جيء بالفاء إفادة للتأكيد فقط كما هو الأمر الشائع في الحروف الزائدة فتدبر ، وأيّا ما كان

١٩

فيدخل بنوه عليه‌السلام في عموم الأمر دخولا أوليا ، وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله تعالى شأنه غير معتمدين على ما وصاهم به من التدبير (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرقة من البلد ، قيل : كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها ، وانما اكتفى بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه ، وحاصله لما دخلوا متفرقين (ما كانَ) ذلك الدخول (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ) من جهته سبحانه (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا مما قضاه عليهم جل شأنه ، والجملة قيل : جواب (لَمَّا) والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقق المقارنة الواجبة بين جواب (لَمَّا) ومدخولها ، فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول مغنيا فيما سيأتي ، وليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢] فإن مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة في بادئ الرأي حيث إنه وقع حسبما وصاهم به عليه‌السلام ، وهو نظير قولك : حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا ، فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء ، فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه ، ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه‌السلام في تضاعيف وصيته من أنه لا يغني عنهم تدبيره من الله تعالى شيئا فكأنه قيل : ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفدهم ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قال عليه‌السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع اه ، وإلى كون الجواب ما ذكر ذهب أبو حيان وقال : إن فيه حجة لمن زعم أن ـ لما ـ حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان كذلك ما جاز أن يكون معمولا لما بعد «ما» النافية ، ولعل من يذهب إلى ظرفيتها يجوز ذلك بناء على أن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، وقال أبو البقاء : في جواب (لَمَّا) وجهان : أحدهما أنه (آوى) وهو جواب (لَمَّا) الأولى والثانية كقولك : لما جئتك وكلمتك أجبتني وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف عليه‌السلام تعقب دخولهم من الأبواب. والثاني أنه محذوف أي امتثلوا أو قضوا حاجة أبيهم وإلى الوجه الأخير ذهب ابن عطية أيضا ولا يخفى أنه عليه وعلى ما قبله ترتفع غائلة توجيه أمر الترتب ، وما أشار إليه صاحب القيل في ثاني وجهيه هو الذي يقتضيه ظاهر كلام كثير من المفسرين حيث ذكروا أن هذا منه تعالى تصديق لما أشار إليه يعقوب عليه‌السلام في قوله : «وما أغني عنكم من الله شيئا».

واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس إلا دفع إصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضا على ما ذكر في الوجه الأخير كما لا يخفى. وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لا يمسهم سوء ما ، وإنما خصت إصابة العين لظهورها ، وقيل : إن ما أصابهم من العين أيضا فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ما أراده عليه‌السلام عن تدبيره وتعقب بأنه تكلف ، واستظهر أن المراد أنه عليه‌السلام خشي عليهم شر العين فأصابهم شر آخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئا ، وحينئذ يدعي أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيدا لهم من حيث إنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ما أصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئا. واعترض أيضا ما ذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه إفادة الاستمرار كما مرت الإشارة إليه غير مرة وظاهر ذلك لا يدل عليه ، قيل : وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفي استمرار الإغناء واستمرار نفيه وفيه تأمل فتأمل جدا. هذا وما أشرنا إليه من زيادة (مِنْ) في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما الرازي

٢٠