روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

ثم خمود (وَالْقانِتِينَ) الذين لازموا الباب وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب (وَالْمُنْفِقِينَ) الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ، ثم جادوا بميسورهم من الأموال ، ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال ، ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه «هل من سائل. هل من مستغفر. هل من كذا. هل من كذا» ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه:

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال الكلبي : لما «ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم قالا : أنت أحمد؟ قال : نعم قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سلاني فقالا له : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما. وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجّوا في أمر عيسى عليه‌السلام وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار ـ ويميل إليه كلام محمد ابن جعفر بن الزبير ـ وقيل : نزلت في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية ، وقيل : إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت.

والجمهور على قراءة (شَهِدَ) بلفظ الماضي وفتح همزة (أَنَّهُ) على معنى بأنه أو على أنه ، وقرئ «إنه» بكسر الهمزة إما بإجزاء (شَهِدَ) مجرى قال ، وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على (إِنَّ الدِّينَ) إلخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع اليه تعالى ، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرئ ـ شهداء لله ـ بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد ـ كظرفاء ـ في جمع ظريف ، أو جمع شاهد ـ كشعراء ـ في جمع شاعر ، والنصب إما على الحالية من المذكورين ، وإما على المدح ، والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء ، والاسم الجليل في الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده ، وقرئ ـ شهداء الله ـ بالرفع والإضافة. وفي (شَهِدَ) مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك ـ كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي ـ وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل ، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة ، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم ، وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه ، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ (شَهِدَ) مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه ، ولعل القول بعموم المجاز أولى منه ، وقيل : والمراد ـ بأولو العلم ـ الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : المهاجرون والأنصار ، وقيل : علماء مؤمني الكتاب ، وقيل : جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة ، وقدم ـ الملائكة ـ لأن فيهم من هو واسطة لإفادة العلم لذويه ، وقيل : لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم ضروري واكتسابي ، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي (وَالْمَلائِكَةُ

١٠١

وَأُولُوا الْعِلْمِ) شهداء بذلك ، وقيل : بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل ، واعترض بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولو العلم ـ وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى.

وقوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته ، و ـ القسط ـ العدل ، والباء للتعدية أي مقيما بالعدل ، وفي انتصاب (قائِماً) وجوه : الأول أن يكون حالا لازمة من فاعل (شَهِدَ) ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذ قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية ، ومنه (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما ، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به ، والثاني أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا ، والثالث أن يكون وصفا لاسم ـ لا ـ المبني ، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه ، والمعطوف على فاعل (شَهِدَ) أجنبي مما هو في صلة ـ أن ـ لفظا ومعنى ، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم ـ لا ـ رفعا للالتباس.

والرابع أن يكون مفعول العلم أي (وَأُولُوا) المعرفة (قائِماً بِالْقِسْطِ) ولا يخفى بعده ، الخامس ـ ولعله الأوجه ـ أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه ، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة.

وقرأ عبد الله ـ القائم بالقسط ـ على أنه خبر لمبتدإ محذوف وكونه بدلا من (هُوَ) لا يخلو عن شيء ، وقرأ أبو حنيفة : «قيما بالقسط» (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تكرير للمشهود به للتأكيد ، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل ، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيعلم أنه المنعوت بهما ، وقيل : لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده ، والثاني شهادة الملائكة ، وأولي العلم ، وهو ظاهر عند من يرفع ـ الملائكة ـ بفعل مضمر ، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها (الْعَزِيزُ) على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها (الْحَكِيمُ) ، وجعل بعضهم (الْعَزِيزُ) ناظرا إلى قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) و (الْحَكِيمُ) ناظرا إلى قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ورفعهما على الخبرية لمبتدإ محذوف أو البدلية من (هُوَ) أو الوصفية له بناء على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير الغائب ، وجعلهما نعتا لفاعل (شَهِدَ) بعيد ، وقد روى في فضل الآية أخبار.

أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا «لما نزلت الحمد لله رب العالمين. وآية الكرسي. وشهد الله وقل اللهم مالك الملك ـ إلى بغير حساب ـ تعلقن بالعرش وقلن : أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة».

وأخرج ابن عدي ، والطبراني ، والبيهقي ـ وضعفه ـ والخطيب ، وابن النجار عن غالب القطان قال «أتيت الكوفة

١٠٢

فنزلت قريبا من الأعمش فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام بتهجد من الليل فمر بهذه الآية (شَهِدَ اللهُ) إلخ فقال : وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت : لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال : حدثني أبو وائل بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وروي عن سعيد بن جبير «أنه كان حول المدينة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة».

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للأولى ، وتعريف الجزأين للحصر ـ أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام ـ وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة «شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به». وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له : لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل ، وقرأ أبيّ ـ إن الدين عند الله للإسلام ـ والكسائي ـ أن الدين ـ بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا ، وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للايمان والإقرار بالوحدانية ، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها ، وقيد كون الدين الإسلام بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والأوقات ، ولا يخفى ما فيه ، أو على أن (شَهِدَ) واقع عليه على تقدير قراءة ـ إنه ـ بالكسر كما أشير إليه ، و (عِنْدَ) على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه الجملة ، وقيل : متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أي ـ إن الدين المرضي عند الله الإسلام ـ وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الدين ، وقيل : متعلق به ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف ، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت عند الله ، وأرى الكل ليس بشيء «أما الأول» فلأنه خلاف القاعدة المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات ، وأما الثاني فلأن المشهور أن (إِنَ) لا تعمل في الحال ، وأما الثالث فلأنه لا وجه للتعلق بلفظ (الدِّينَ) إلا أن يكتفى بأنه في الأضل بمعنى الجزاء ، وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغني عنه أظهر من أن يخفى ، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل : المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام ، أخرج ابن جرير عن الربيع قال : «إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم» ، وقيل : النصارى ، واختلفوا في التوحيد. وقيل : المراد بالموصول اليهود والنصارى ، و ـ بالكتاب ـ الجنس ، واختلفوا في

١٠٣

التوحيد ، وقيل : في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : في الإيمان بالأنبياء ، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين ، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح ، وقوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات ، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه ، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي ، وقوله سبحانه : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) زيادة تشنيع ، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه (مَا) و (إِلَّا) من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبا ، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث ، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر ، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناء على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول : ما ضرب إلا زيد عمرا ـ أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) قيل : المراد بها حججه ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام ، والظاهر العموم أي أية آية كانت ، والمراد ـ بمن ـ أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قائم مقام جواب الشرط علة له ـ أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب ـ فإنه سريع الحساب ـ أي يأتي حسابه عن قريب. أو يتم ذلك بسرعة ، وقيل : إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد ، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير ، ولعله أولى وأدق نظرا.

وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة ، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدّة عقابهم (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج ، والضمير ـ للذين أوتوا الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ قاله الحسن ـ وقال أبو مسلم : لجميع الناس ، وقيل : وفد نصارى نجران ؛ وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي (لِلَّهِ) لا أشرك به غيره ، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي خالدوا به أمر مكشوف ، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة ، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم ، وقيل : إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال : هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية. والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه‌السلام ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات ، ونظير ذلك (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٦٤] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] فكأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه‌السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحظ مقدارهم ، وعبر عن الجملة ـ بالوجه ـ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء ، وفتح الياء نافع. وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على الضمير المتصل في (أَسْلَمْتُ) وحسن للفصل. أو

١٠٤

مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح ـ أكلت رغيفا وزيدا وو زيدا ، وقد أكل كل منهما رغيفا ، فالواجب أن يكون ـ من ـ مبتدأ والخبر محذوف أي (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) كذلك ، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة ، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مئونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا ، وأثبت الياء في ـ اتبعني ـ على الأصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ـ وحذفها أحسن ـ لموافقة خط المصحف ، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى :

فهل يمنعني ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن (يأتين)

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) عطف على الجملة الشرطية ، والمعنى فإن حاجّك أهل الكتاب فقابلهم بذلك فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر (أَسْلَمْتُمْ) متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد ـ وهذا كما تقول إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته ـ فهل فهمتها على طرز (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه ، وفي ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود القريحة ، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين ، والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب قاله ابن عباس وغيره.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا) أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق (فَقَدِ اهْتَدَوْا) على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل ، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا : وسبب إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء ، وفيه منع ظاهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه ، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أية آية كانت ، ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقيقة الإسلام دخولا أوليا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) هم أهل الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا معنى لإنذار الماضين قال القطب : وإسناد القتل إليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين : أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا سيما إذا كان راضيا به ، الثاني أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع ، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت ـ أل ـ هنا دون ما سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر.

وقرأ الحسن «يقتلون النبيين» (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي بالعدل ، ولعل تكرير الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قال : قلت : يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ـ ثم قرأ الآية ـ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من

١٠٥

ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى» وقرأ حمزة ـ «ويقاتلون الذين» ـ وقرأ عبد الله ـ «وقاتلوا» ـ وقرأ أبيّ ـ «ويقتلون النبيين» و ـ «الذين يأمرون» ـ (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر (إِنَ) ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير ـ كليت ، ولعل ـ امتنع ذلك إجماعا ـ وسيبويه ، والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما في قولك زيد ـ فافهم ـ رجل صالح ، وقد صرح به النحاة في قوله :

فاعلم ـ فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كل ما قدرا

ومن لم يفهم هذا قال : إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح ؛ وإذا قلنا لك ذلك ـ فافهم ـ وعلى الأول هو استئناف ، و (أُولئِكَ) مبتدأ ، وما فيه من البعد على المشهور للايذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال ، والموصول خبره ـ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناء وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب ـ وهذا شامل للأعمال المتوقفة على النية ولغيرها.

ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر ، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول ، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين ، وجمع ـ الناصر ـ لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعي أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية ، والمراد من انتفاء ـ الناصرين ـ انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى ، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠ ، آل عمران : ١٩٢ ، المائدة : ٧٢] إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق ـ على ما أشار إليه الحديث ـ ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه.

ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء الكفر بالعذاب ، وقتل الأنبياء بحبط الأعمال. وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) تعجب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة ، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم. وقيل : إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم ، والمراد بالموصول اليهود ـ وبالنصيب ـ الحظ ، و (مِنَ) إما للتبعيض وإما للبيان على معنى (نَصِيباً) هو الكتاب ، أو نصيب منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه ، وعلى التقديرين اللام في (الْكِتابِ) للعهد ، والمراد به التوراة ـ وهو المروي عن كثير من السلف ـ والتنوين للتكثير ، وجوز أن يكون اللام في (الْكِتابِ) للعهد والمراد به اللوح ، وأن يكون للجنس ؛ وعليه ـ النصيب ـ التوراة ، و (مِنَ) للابتداء في الأول ويحتملها ، والتبعيض في الثاني والتنوين للتعظيم ، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك ، وجوز على تقدير أن يراد ـ بالنصيب ـ ما حصل لهم من العلم أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم ، والتعبير عما أوتوه

١٠٦

بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حق من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها ، وقوله تعالى: (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب ، وإما حال من الموصول. والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة ، والإضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره.

وقد أخرج ابن إسحاق وجماعة عنه قال : «دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو ، الحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه قالا : فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وفي البحر «زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن ابن جريج ـ وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا ـ وذهب الحسن. وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل : أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا ـ وهم اليهود ـ وبين الداعي لهم ـ وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه‌السلام. أو في حكم الرجم. أو في شأن الإسلام. أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق ، وعلى هذا ـ وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول ـ وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) عطف على يدعون ، و (ثُمَ) للتراخي الرتبي ، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه ، و (مِنْهُمْ) صفة لفريق ، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل : وهذا سبب العدول عن ـ ثم يتولون ـ وقيل : الذين لم يسلموا ، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف ، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في (مِنْهُمْ) أو من (فَرِيقٌ) لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والاعراض بمعنى ، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناء على ما قيل: إن التولي عن الداعي والاعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والأعراض بالقلب. أو الأول كان من العلماء. والثاني من أتباعهم ، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة ، والمراد وهم قوم ديدنهم الاعراض ، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها (ذلِكَ) أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب ، والمراد ـ بالأيام المعدودات ـ أيام عبادتهم العجل ، وجاء هنا (مَعْدُوداتٍ) بصيغة الجمع دون ما في البقرة فإنه (مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] بصيغة المفرد تفننا في التعبير ، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال : هذه جبال راسية ، وإن شئت قلت راسيات ، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات ، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ)

١٠٧

أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) إلخ ـ قاله مجاهد ـ أو من قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ـ قاله قتادة ـ أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم : «إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق ـ بما عنده ـ أو ـ بيفترون ـ واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ؛ وأجيب بالتوسع (فَكَيْفَ) استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه ، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف ـ أي كيف تكون حالهم ـ أو كيف يصنعون أو كيف يكونون ، وجوز أن تكون خبرا لمبتدإ محذوف أي كيف حالهم ، وقوله تعالى : (إِذا جَمَعْناهُمْ) ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر ، وإن قلنا : إنها خبر لمبتدإ مضمر كان العامل في (إِذا) ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم (لِيَوْمٍ) أي في يوم أو لجزاء يوم. (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في وقوعه ووقوع ما فيه ، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ما عملت من خير أو شر ، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه ، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس ، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته ، وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى ، وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله ، وبهذا تنظيم هذه الآية الكريمة بما قبلها.

روى الواحدي عن ابن عباس ، وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال : حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان الفارسي ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا : يا سليمان ارق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن تعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال : فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي

١٠٨

فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون : ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] وأنزل هذه الآية (قُلِ اللهُمَ) إلخ ، وأصل (اللهُمَ) ـ يا الله ـ فحذفت «يا» وعوض عنها ـ الميم ـ وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة ، وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع ـ يا ـ كما في قوله :

إني إذا ما حدث ألمّا

أقول ـ (يا اللهم) ـ يا اللهما

شاذ ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو ـ لله لا يؤخر الأجل ـ ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضا ، وميم في ـ م الله ـ ووقوع همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو ـ لاها الله ذا ـ وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب ، وزعم الكوفيون أن أصله ـ يا الله آمنا بخير ـ أي اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته ، ويجوز الجمع عندهم بين يا ـ والميم بلا بأس ـ ولا يخفى ما فيه ـ ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الإبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف ـ وأل ـ في الملك للجنس أو الاستغراق ، و (الْمُلْكِ) بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق ـ نسبة بين من قام به ومن تعلق ، وإن شئت قلت : صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار ـ فمالك الملك ـ هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا مانع ، ولهذا لا يقال «ملك الملك» إلا على ضرب من التجوز ، وحمل (الْمُلْكِ) على هذا المعنى أوفق بمقام المدح ، وقيل : المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد ـ وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة ، وانتصاب (مالِكَ) على الوصفية عند المبرد. والزجاج ، وسيبويه يوجب كونه نداء ثانيا ، ولا يجوز أن يكون صفة ـ لاللهم ـ لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف ، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف ، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه ، ومن هنا قال أبو علي : قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ـ اللهم ـ ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف ـ والعلامة التفتازاني على هذا ـ وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية

١٠٩

(الْمُلْكِ) وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف ، وصحح الجواز لأنه مفعول به ، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل ، وجعل الجملة خبرا لمبتدإ محذوف أي أنت تؤتي ـ وإن اختاره أبو البقاء ـ ليس فيه كثير نفع (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) عطف على (تُؤْتِي) وحكمة حكمه ، ومفعول (تَشاءُ) في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه ممن تشاء نزعه منه ، و (الْمُلْكِ) الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس. أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية ، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتي لا يمكن أن يكون الجميع والمنزع هو ذاك لأنه معرفة معادة ، ويراد بها إن لم يمنع مانع عن الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول.

ومن الناس من حمل (الْمُلْكِ) هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتي النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب ، وقيل : المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون ، وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : تنزعه من صناديد قريش (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) أن تعزه في الدنيا والآخرة. أو فيهما بالنصر والتوفيق (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير ، وقيل : المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين (وَتُذِلُ) أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب ، وقال عطاء : (تُعِزُّ) المهاجرين والأنصار (وَتُذِلُ) فارس والروم ، وقيل : (تُعِزُّ) المؤمنين بالظفر والغنيمة (وَتُذِلُ) اليهود بالقتل والجزية ، وقيل : (تُعِزُّ) بالإخلاص (وَتُذِلُ) بالرياء ، وقيل : (تُعِزُّ) الأحباب بالجنة والرؤية (وَتُذِلُ) الأعداء بالنار والحجاب ؛ وقيل : (تُعِزُّ) بالقناعة والرضا (وَتُذِلُ) بالحرص والطمع «وقيل : وقيل :» وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، و (تُعِزُّ) مضارع أعز ضد أذل ، والمجرد من الهمزة منه ـ عز ـ ومضارعه يعز بكسر العين ، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية ، وله استعمالان آخران الضم والفتح ، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله :

يا قارئا كتب الآداب كن يقظا

وحرر الفرق في الأفعال نحريرا

«عز» المضاعف يأتي في مضارعه

تثليث عين بفرق جاء مشهورا

فما كقل وضد «الذل» مع عظم

كذا كرمت علينا جاء مكسورا

وما ـ كعز ـ علينا الحال أي صعبت

فافتح مضارعه إن كنت نحريرا

وهذه الخمسة الأفعال لازمة

واضمم مضارع فعل ليس مقصورا

«عززت» زيدا بمعنى قد غلبت كذا

أعنته فكلا ذا جاء مأثورا

وقيل : إذا كنت في ذكر القنوت ولا

«يعز» يا رب من عاديت مكسورا

واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا

لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) جملة مستأنفة ، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها ، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي (بِيَدِكَ) التي لا يكتنه كنهها ، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك ، وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه ، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق ، وتحقيقه (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء ، وقيل : إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية

١١٠

ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات ، وقيل : لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام : الأول ما لا شر فيه أصلا ، والثاني ما يغلب خيره على شره ، والثالث ما يكون شرا محضا ، والرابع ما يكون شره غالب على خيره ، والخامس ما يتساوى الخير والشر فيه. والموجود من هذه الأقسام في العالم ـ القسم الأول ، والثاني ـ والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا ؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل ، ولهذا ورد في الحديث «لا تتهم الله تعالى على نفسك» وورد «ولا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين».

وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» ومن هنا قيل : يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا : جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح ودبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما ، وهذا من باب ـ ليس في الإمكان أبدع مما كان ـ وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه ، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح ، ولا ينافيه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] إذ لا يفعل ما يسأل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة «ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع».

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)

١١١

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٧)

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان ـ وروي ذلك عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ـ ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب ، وقال الجبائي : المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول : ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء.

وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل ، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها ، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلاثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني ، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها ، وزيادتها ، ونموها ، وصحتها ، وسقمها ، وحياتها ، وموتها ، فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية ، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ، ويرد كل فرع إلى أصله ، ويلحق كل ابن بأبيه ، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي (١) النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلا : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤ ، الرعد : ٣] ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذا حكم الإيلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من

١١٢

أجل الظاهر ، والباطن ، والغيب ، والشهادة ، والروح والجسم ، والحرف ، والمعنى ـ وشبه ذلك ـ فالإيلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح ، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار ، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه ، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر ، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا ، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامّهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة ، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني ، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم ظاهر ، وباطن ، وغيب ، وشهادة ، وروح ، وجسم ، وملك ، وملكوت ، ولطيف ، وكثيف قالوا : إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر ، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه ، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الإلهية ، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب ، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أن ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس ، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة ، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت ، ومن ليلة الخميس نهار الأحد ، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذات الجهات ، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف ، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله ، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات ، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعدادتها ولهذا قال سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] ولم يقل ـ في شئون ـ وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرا في ذلك ، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو ، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه ، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل : (يُولِجُ اللَّيْلَ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات ، والحاكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس ، والثانية منها ، والثالثة من يوم الخميس ، والعاشرة منها ، والخامسة من ليلة الجمعة ، والثانية عشرة منها ، والسابعة من يوم الجمعة ، والثامنة من ليلة السبت ، والتاسعة منها ، والرابعة من يوم السبت ، والحادية عشرة منه ، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله.

وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد. والثامنة. والثالثة من يوم الاثنين. والعاشرة منه،

١١٣

والخامسة من يوم الاثنين. والثانية عشرة منه. والسابعة من ليلة الثلاثاء. والثانية من يوم الثلاثاء. والتاسعة منه ، والرابعة من ليلة الأربعاء. والحادية عشرة منها. والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد ، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام ، ويظهر ذلك من أيام التكوير.

وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره الشأن في كل يوم في رسالته المسماة بالشأن الإلهي ، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ، ويوم الرب ، ويوم المعارج ، ويوم القمر ، ويوم الشمس ، ويوم زحل ، ويوم الحمل. ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم ـ وقد ذكر كل ذلك في الفتوحات ـ وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون ، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة ، وعليه ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ومجاهد ، والسدي ، وخلق كثير (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف.

وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر» فذلك قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الآية ـ وإلى هذا ذهب الحسن ـ وروي عن أئمة أهل البيت ، فالحي والميت مجازيان ، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى والقائلون بعموم المجاز قالوا : المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم ، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى ، وقرأ (الْمَيِّتِ) بالتخفيف في الموضعين (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له ، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له ، أو غير مضيق عليه ، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أو مفعول محذوف أي رزقا غير قليل ، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين.

هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية ، وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال : شكوت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان عليّ فقال : «يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت : نعم قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عن ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدي عنك» وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.

١١٤

«ومن باب الاشارة في الآيات» (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه ، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره ، وشهد ـ الملائكة وأولو العلم ـ بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل ، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة ، وأيضا قالوا : شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات ، وقيل : شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف ، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادة بعض من الحالات ، وشهادة آخرين من المقامات ، وشهادة طائفة من المكاشفات ، وشهادة فرقة من المشاهدات ؛ وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية ، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى عليه على قدر دعائه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته (الْحَكِيمُ) الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق (إِنَّ الدِّينَ) المرضي (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) الداعين إلى التوحيد وهم العباد الواصلون الكاملون (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى من الناس ، ويحتمل أن يشار ـ بالذين كفروا ـ إلى قوى النفس الأمارة ـ وبالنبيين ـ إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب ، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم ، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار (أَعْمالُهُمْ) لعدم شرطها وهو التوحيد في الدنيا وهي عالم الشهادة والآخرة وهي عالم الغيب (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) لسوء حظهم وقلة استعدادهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كعلماء السوء وأحبار الضلال (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الناطق بمقام الجمع والفرق (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وبين الموحدين (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) نار البعد (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي قليلة يسيرة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) الذي هم عليه (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال (فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ) بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره ، ووفيت كل نفس صالحة طالحة ما كسبت بواسطة استعدادها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جزاء ذلك (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) وهو من اخترته للرئاسة الباطنة وجعلته متصرفا بإرادتك وقدرتك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة ، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله «وأنت» القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) تدخل ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما وتخرج حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب ، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من النعم الظاهرة والباطنة ، أو من إحداهما فقط (بِغَيْرِ حِسابٍ) إذ لا حجر عليك.

١١٥

هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نبه المؤمنين على أنه لا ينبغي أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) قال ابن عباس : كان الحجاج بن عمرو ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ـ والكل من اليهود ـ يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ، وقال الكلبي : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم.

وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى (لا يَتَّخِذِ) إلخ ، والفعل مجزوم بلا الناهية ، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين ، وجوز أن يكون متعديا لواحد ـ فأولياء ـ مفعول ثان ، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب ، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا : إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار ، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا ـ وعليه الجمهور ـ أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به ، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة ، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول ـ وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز ـ على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها ، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.

ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس ، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار

١١٦

دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع ، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.

وقيل : الظرف في حيز الصفة لأولياء ، وقيل : متعلق بفعل الاتخاذ ، و (مِنْ) لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الاتخاذ ، والتعبير عنه بالفعل ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره و (مِنْ) شرطية ، و (يَفْعَلْ) فعل الشرط ، وجوابه. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) والكلام على حذف مضاف أي من ولايته ، أو من دينه ، والظرف الأول حال من (شَيْءٍ) والثاني خبر ـ ليس ـ وتنوين (شَيْءٍ) للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل :

تودّ عدوي ثم تزعم أنني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

وقيل أيضا :

إذا والى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

والجملة معترضة ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ، وقيل : استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية (مِنْهُمْ) أي من جهتهم ؛ و ـ من ـ للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (تُقاةً) لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها ، والمراد ـ بالتقاة ـ ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول يكون مفعولا به لتتقوا ، وعلى الثاني مفعولا مطلقا له ، و (مِنْهُمْ) متعلق به ، وتعدى ـ بمن ـ لأنه بمعنى خاف ، وخاف يتعدى بها نحو (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) [النساء : ١٢٨](فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) [البقرة : ١٨٢] والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعم به أي ضررا ونحوه ، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاء كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة ـ كتخمة ، وتؤدة ـ وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء ـ كاقتداء ـ وقرأ أبو الرجاء ، وقتادة «تقيّة» ـ بالياء المشددة ووزنها فعلية والتاء بدل من الواو أيضا «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس ، أو العرض ، أو المال من شر الأعداء ، والعدو قسمان : الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم ، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين : أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل ، أو قتل الأولاد ، أو الآباء ، أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق ، أو بحبس القوت ، أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم ، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه

١١٧

لذلك فإنه شهيد قطعا ، ومما يدل على أنها رخصة ـ ما روي عن الحسن ـ أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ثم دعا بالآخر فقال له : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم قالها ثلاثا ، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه «وأما القسم الثاني» فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : تجب لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال ، وقال قوم : لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن ، وقال بعضهم : الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة ، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض ، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك ، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة ، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم التبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع.

فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة».

وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «استأذن رجل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «بئس ابن الشعيرة ـ أو أخو العشيرة ـ ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال : يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا ، وإبراهيم الحرمي بزيادة ، «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.

ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس ، وهم الخوارج ، والشيعة : أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة ، منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كيلا يهرب ، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان ، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم :

١١٨

إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين ؛ وقال المفيد : إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها ، وقال أبو جعفر الطوسي : إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ، وقال غيره : إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به ، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي ، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف ، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا ، وفي أفضلية التقية من سني واحد ـ صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن ـ خلاف أيضا ، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز ـ بل وجوب ـ إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز ـ بل وجوب ـ إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان ، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم ـ وهو الشائع الآن فيما بينهم ـ حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم‌السلام ؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.

ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه ففي كتاب نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب ـ بعد كتاب الله تعالى ـ في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال : علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] بأكثركم تقية؟ وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال : إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج.

وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع ، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين ، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال : توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال : ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال : أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال : انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر : أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.

وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال : يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ : إنك هاهنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر : الله الله تعالى يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان : فلما كان الليل دعاني عليّ فقال : سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي : أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك. قال سلمان : فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال : أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال : يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستقين بك والصواب أن تفارقه

١١٩

وتصير من جملتنا قلت : ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا ، قال : ارجع إليه فقل : السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال : أحدثك عما جرى بينكما فقلت : أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال : إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت ، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية.

وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال : إن الله عزوجل أنزل على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا فقال جبريل : يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال : ومن النجباء يا جبريل؟ فقال : عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه ، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل ، ثم دفعه إلى على بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل ، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك ، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل ، ثم دفعه إلى موسى ـ وهكذا إلى المهدي ... ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله ، وفي الخاتم الخامس ـ وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة ، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال : لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة : الزبير ، وسلمان ، وأبو ذر ، والمقداد. وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.

وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال : انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيري ، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فاصحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته ، وفيه أيضا أن عمر قال لعلي : بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال : إن لم أفعل ذلك؟ قال : إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال : كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألام وأضعف من ذلك. فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية ، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر : يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.

وروي أيضا أنه قال لعمر مرة إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس

١٢٠