روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

علي ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أنا دعوت فآمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية».

وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه : «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة» وعن جابر «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا». وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي ، وفاطمة ، والحسنان رضي الله عنهم قال : يا معشر النصارى : إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا».

هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة ، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته ، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن ، والنصب جازم الإيمان ، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنار على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن. والحسين ، وبنسائنا فاطمة ، وبأنفسنا الأمير ، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل ـ تعين أن يكون المراد المساواة ، ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره ، ولا معنى للخليفة إلا ذلك ، وأجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء ، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة ، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا : إن إطلاق الابن على ابن البنت حقيقة ، وإن قلنا : إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية.

وقول الطبرسي ، وغيره من علمائهم ـ إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود (نَدْعُ) والشخص لا يدعو نفسه ـ هذيان من القول ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث ـ دعته ـ نفسه إلى كذا ، ودعوت نفسي إلى كذا ، وطوعت له نفسه ، وآمرت نفسي ، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل (نَدْعُ أَنْفُسَنا) نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله : (تَعالَوْا) كما لا يخفى.

وأما ثانيا فبأنّا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة. ومن ذلك قوله تعالى ؛ «يخرجون أنفسهم من ديارهم» (١)(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١](لَوْ (٢) لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس ، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك ـ وهو باطل بالإجماع ـ لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل

__________________

(١) لا يوجد آية بهذا النص ، والذي في الآية ٨٥ من سورة البقرة : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ).

١٨١

وأولى بالتصرف بالضرورة ، وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وهو باطل بالاتفاق ـ وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع ، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير ، والبتول ، والحسين أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه ـ إظهار الحق.

وقد أخرج مسلم ، والترمذي ، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : «لما نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ) إلخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا ، وفاطمة ، وحسنا ، وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي» وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين. وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم «أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر ، وولده ، وبعمر ، وولده ، وبعثمان ، وولده ، وبعلي ، وولده» وهذا خلاف ما رواه الجمهور.

واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين ، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز ، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به ـ وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم.

وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء ، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا ، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان ، وأثر من مس الشيطان :

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة ، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه ، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب (إِنَّ هذا) أي المذكور في شأن عيسى عليه‌السلام قاله ابن عباس (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) جملة اسمية خبر (إِنَ) ويجوز أن يكون ـ هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب ، و (الْقَصَصُ) هو الخبر ، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين و (الْحَقُ) صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي ـ إن هذا هو الحق ـ لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه‌السلام إلها. وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ، وقيل : إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك

١٨٢

وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد ، والأول هو المشهور ـ وعليه الجمهور ولعله الأوجه ، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبتدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم.

(الْقَصَصُ) على ما في البحر مصدر قولهم : قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا ، وأصله تتبع الأثر يقال : خرج فلان يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص : ١١] أي تتبعي أثره ، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر ، أو يتتبع المعاني ليوردها ، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق ، وقرئ «لهو» بسكون الواو (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) رد النصارى في تثليثهم ، وكذا فيه رد على سائر الثنوية و (مِنْ) زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات ، وقد فهم أهل اللسان ـ كما قال الشهاب ـ أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر ، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية ، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان ، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال : إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب غلبة تامة ، أو القادر قدرة كذلك ، أو الذي لا نظير له (الْحَكِيمُ) أي المتقن فيما صنع ، أو المحيط بالمعلومات ، والجملة تذييل لما قبلها ، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل : إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات ، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا ، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا ، وأصله تتولوا (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بهم ، أو بكم ، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه (بِالْمُفْسِدِينَ) من معاقبته لهم ، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد ، وقيل : المعنى على أن (اللهَ عَلِيمٌ) بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك ، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب ، والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (فَلَمَّا أَحَسَ) أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي ظلمته ، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها.

وحكي عن الباز قدس‌سره أنه قال : إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما ، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها (قالَ مَنْ أَنْصارِي) في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال (قالَ الْحَوارِيُّونَ) المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه‌السلام (آمَنَّا بِاللهِ) الإيمان الكامل (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي منقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك ، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك (وَمَكَرُوا)

١٨٣

أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] فهو الماكر في الحقيقة وهذا معنى (وَمَكَرَ اللهُ) عند بعض ، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق ، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال : لا علة لصنعه وأنشأ يقول :

فديتك قد جبلت على هواكا

ونفسي لا تنازعني سواكا

أحبك لا ببعضي بل بكلي

وإن لم يبق حبك لي حراكا

ويقبح من ـ سواك الفعل ـ عندي

وتفعله فيحسن منك ذاكا

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ

١٨٤

لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٨٢)

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن رسم الحدوثية (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بنعت الربوبية (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بشغل سرك عن مطالعة الأغيار ، أو متوفيك عنك ، وقابضك منك ، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية ، وقيل : إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي ، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس ، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ.

ومن قال : إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه‌السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر ، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه‌السلام ، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول : بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال ، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر

١٨٥

بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخرة قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة ، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي الحق ، أو في عيسى عليه‌السلام بالحجج الباطلة (فَقُلْ تَعالَوْا) إلخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة.

قال بعض العارفين : اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم‌السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه ، كالغضب ، والخوف ، والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به ، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى.

وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد ـ وفيه كلام طويل ـ ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه ، هذا وتطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول ، والله تعالى الموفق.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) نزلت في وفد نصارى نجران ـ قاله السدي ، والحسن ، وابن زيد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ـ وروي عن قتادة ، والربيع ، وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة. وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب ، واستظهره بعض المحققين لعمومه (تَعالَوْا) أي هلموا (إِلى كَلِمَةٍ) أي كلام ـ كما قال الزجاج ـ وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء ، وقيل : إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد ـ وقرئ (كَلِمَةٍ) بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل (سَواءٍ) أي عدل ـ قاله ابن عباس ، والربيع ، وقتادة ـ وقيل : إن (سَواءٍ) مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن ، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع ، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت ـ لكلمة ـ وقرئ بنصبه على المصدر.

(بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) متعلق بسواء (أَلَّا نَعْبُدَ) أي نحن وأنتم (إِلَّا اللهَ) بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها ، وفي موضع أن وما بعدها وجهان ـ كما قال أبو البقاء ـ الأول الجر على البدلية من (كَلِمَةٍ) ، والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله ، ولو لا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية ، وقيل : إن الكلام تم على (سَواءٍ) ثم استؤنف فقيل : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أن لا نعبد ، فالظرف خبر مقدم ، وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد ، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة ، وقيل : المراد (لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من الشرك وهو بعيد جدا (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى ـ قاله ابن جريج ـ ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم «أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم

١٨٦

فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك» قيل : وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عزّ من قائل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض ، وقيل : هو مثل اعتقاد اليهود في عزيز أنه ابن الله ، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك ، وضمير ـ نا ـ على كل تقدير للناس لا للممكن ـ وإن أمكن ـ حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها.

وفي التعبير ـ بالبعض ـ نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟

«فإن قلت» إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه «أجيب» بأنه أريد من دون الله وحده ، أو يقال : بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا ـ قاله بعضهم ـ وللنصارى ـ سود الله تعالى حظهم ـ الحظ الأوفر من هذه المنهيات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) المراد فان تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عنادا فقولوا لهم : أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا : إنا لسنا كذلك ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وقيل : المراد فإن تولوا فقولوا : إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر ـ فاشهدوا بأنا مسلمون ـ فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعرفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون ، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم ، (تَوَلَّوْا) هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن (فَقُولُوا) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، وتتولوا خطاب للمشركين ، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه‌السلام كان على دينه ، أخرج ابن إسحاق. وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «اجتمعت نصارى نجران. وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني ، و ـ ما ـ استفهامية ، والغرض الإنكار والتعجب ـ عند السمين ـ وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة ، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى عليه‌السلام (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) حيث كان بينه وبين موسى عليهما‌السلام خمسمائة وخمس وستون سنة ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : ألف سنة وبين موسى ، وعيسى عليهما‌السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة ، وقيل ألفا سنة ، وهناك أقوال أخر (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي ـ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم ـ أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه ، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق ، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا ـ كما قال الشهاب ـ إنه عليه‌السلام منهم حقيقة ، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى ، أو دين عيسى فهو يهودي ، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم ، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة الإنجيل بعده ـ مشكل إلا أن يدعي بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه‌السلام التوراة ، ولا عيسى عليه‌السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم ـ كذا قيل ـ وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول : أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن

١٨٧

مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث ، ثم ما قاله الشهاب ـ إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا ، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة ، وفيهم أحبار اليهود ، ووفد نجران ، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث ، فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال : «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني» من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم إلا أن يقال : إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه ، أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى ، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب ـ وما ذكره ابن الحرث ـ لا يدل على علمهم كما لا يخفى ، وقيل : إن مراد اليهود بقولهم : إن إبراهيم عليه‌السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه‌السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به ، وأن مراد النصارى بقولهم : إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم ، والمفخر العظيم ، والمنة الكبرى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما ، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم (هؤُلاءِ) الحمقى (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) كأمر موسى ، وعيسى عليهما‌السلام (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهو أمر إبراهيم عليه‌السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم ، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى. وعيسى قبل بعثتيهما أصلا ، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر ، ولا رمز له في كتابكم البتة؟! و (ها) حرف تنبيه ، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو ـ ها أنا ذا ـ وكررت هنا للتأكيد ، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاء ، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاء في كلامهم إلا في بيت نادر ، ثم الفصل بين الهاء المبدلة. وهمزة (أَنْتُمْ) لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء ، والإشارة للتحقير والتنقيص ، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل ، وجملة (حاجَجْتُمْ) مستأنفة مبينة للأولى ، وقيل : إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو ـ ها أنا ذا قائما ـ وهذه الحال لازمة ؛ وقيل : إن الجملة غبر عن (أَنْتُمْ) و (هؤُلاءِ) منادى حذف منه حرف النداء ، وقيل : (هؤُلاءِ) بمعنى الذين خبر المبتدأ ، وجملة (حاجَجْتُمْ) صلة ؛ وإليه ذهب الكوفيون ، وقراؤهم يقرءون (ها أَنْتُمْ) بالمد والهمز ، وقرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن ، وقرأ ابن كثير. ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد ، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز (وَاللهُ يَعْلَمُ) حال إبراهيم وما كان عليه.

(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا ، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه‌السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) كما قالت اليهود (وَلا نَصْرانِيًّا) كما قالت النصارى (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) أي مائلا عن العقائد الزائغة (مُسْلِماً)

١٨٨

أي منقادا لطاعة الحق ، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا ؛ قيل : وينصره قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دينه ، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس ، وعبدة الكواكب كالصابئة ، وقيل : أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون ، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها ، وتفسير الإسلام بما ذكر ـ هو ما اختاره جمع المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فيرد عليه ما ورد عليهم ، ويشترك الإلزام بينهما ، وفسره بعضهم بذلك ، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان (مُسْلِماً) وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق ، قال العلامة النيسابوري : فإن قيل : قولكم : إن إبراهيم عليه‌السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام ، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل : يختار الأول ، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزيز عليه‌السلام إلى غير ذلك ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه‌السلام ثم نسخ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى ، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد ، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى ، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا : إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه‌السلام ، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالبديهة ، ونحو ذلك كثير.

وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات ، وقوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملمة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] واعترض الشهاب على الجواب ـ على الاختيار الأول ـ بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا ، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد يكون إبراهيم (مُسْلِماً) أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي ، وادعى أنه سالم من القدح ، ونظر فيه ـ بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان ، والكلام فيه ـ فلا يخلو هذا الوجه عن بعد ، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.

هذا وفي الآية وجه آخر ـ ولعله يخرج من بين فرث ودم ـ وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود: إبراهيم منا ، وقالت النصارى : إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه‌السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول ، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى

١٨٩

عليهم بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان ، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم ، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه‌السلام في نفس الأمر (وَلا نَصْرانِيًّا) أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه‌السلام كذلك (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً (١) مُسْلِماً) أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء ، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فعلى هذا يكون المسلم ـ كما قال الجصاص ، وأشرنا إليه فيما مرّ مرارا ـ المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة ـ هذا ما عندي في هذا المقام ـ فتدبر فلمسلك الذهن اتساع.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أَوْلَى) أفعل تفضيل من وليه يليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واوا فلا تكون لامه واوا إذا ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو ، وأصل معناه أقرب ، ومنه ما في الحديث «لأولى رجل ذكر» ويكون بمعنى أحق كما تقول : العالم أولى بالتقديم ، وهو المراد هنا ـ أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي كانوا على شريعته في زمانه ، أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه : (وَهذَا النَّبِيُ) من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر (إِنَ) وقرئ بالنصب عطفا على الضمير المفعول ، والتقدير ـ للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي ـ وقرئ بالجر عطفا على إبراهيم أي ـ إن أولى الناس بإبراهيم ، وهذا النبي للذين اتبعوه ـ واعترض بأنه كان ينبغي أن يثنى ضمير (اتَّبَعُوهُ) ويقال اتبعوهما ، وأجيب بأنه من باب (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إن كان عطفا على ـ الذين اتبعوه ـ يكون فيه ذلك أيضا ، وإن كان عطفا على هذا النبي ـ فلا فائدة فيه إلا أن يدعي أنها للتنويه بذكرهم ، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى ، ثم إن كون المتبعين لابراهيم عليه‌السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر ، وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الابراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها ، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيما جاء به ومنه الموافق (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي ، ولم يقل ـ وليهم ـ تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده ـ وهو الإيمان ـ بناء على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق.

ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: الله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأخرج عيد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال : حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال : ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان ـ لعمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ـ يزعمان إنما جئتم لتحيلوا عليّ ملكي وتفسدوا عليّ أرضي فقال عثمان بن مظعون ، وحمزة : إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به ، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر ، فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وترجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من

١٩٠

عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا : نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف ، ويأمر بحسن المجاورة ، ويأمر باليتيم ، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إلها آخر فقرأ عليه ـ سورة الروم. والعنكبوت. وأصحاب الكهف. ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال : والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى : قال يقول : إن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين فخلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة ـ يعني بلسان الحبشة ـ اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المدينة (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة ، وعمارا ، ومعاذا إلى اليهودية ، فالمراد بأهل الكتاب اليهود ، وقيل : المراد بهم ما يشمل الفريقين ، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون ، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى. ولعله جار مجرى الغالب ، و (مِنْ) للتبعيض ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم ، وقيل : لبيان الجنس ـ والطائفة ـ جميع أهل الكتاب وفيه بعد ، و (لَوْ) بمعنى أن المصدرية ، والمنسبك مفعول ـ ودّ ـ وجوز إقرارها على وضعها ، ومفعول ودّ محذوف ، وكذا جواب (لَوْ) والتقدير (وَدَّتْ) إضلالكم (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لسروا بذلك ، ومعنى (يُضِلُّونَكُمْ) يردونكم إلى كفركم ـ قاله ابن عباس ـ أو يهلكونكم ـ قاله ابن جرير الطبري ـ أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ـ قاله أبو علي ـ وهو قريب من الأول (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الواو للحال ، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه ، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال : إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل ، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم ، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم ، وفيه على ما قيل : الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم ـ ولله تعالى الحمد ـ وقيل : إن معنى إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج ، ولا يخلو عن شيء (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة ـ قاله أبو علي ـ وقيل : (وَما يَشْعُرُونَ) بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم ، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد (لِمَ تَكْفُرُونَ) بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) الحجج الدالة على ذلك ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ) بما في كتبكم من (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وأنتم تشاهدون ذلك ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ) بالحجج الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو ـ أنتم تشدون ـ إذ خلوتم بصحة دين الإسلام ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي تسترونه به ، أو تخلطونه به ، والباء صلة ، وفي المراد أقوال :

١٩١

أحدها أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل ـ قاله الحسن. وابن زيد ـ وثانيها أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق ـ قاله ابن عباس. وقتادة ـ وثالثها أن المراد الإيمان بموسى ، وعيسى ، والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام ، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه ، عن أبي علي ، وأبي مسلم ، وقرئ (تَلْبِسُونَ) بالتشديد وهو بمعنى المخفف ، وقرأ يحيى بن وثاب (تَلْبِسُونَ) وهو من لبست الثوب ، والباء بمعنى مع ، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء ، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق ، وقيل : تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود لبعضهم (آمِنُوا) أي أظهروا الإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله كما في قول الربيع بن زياد :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا «بوجه نهار»

وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه ، وقيل : لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه ؛ وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم ـ قال الحسن ، والسدي ـ تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر ، وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد ـ أول النهار ـ باللسان دون الاعتقاد ـ واكتفروا آخر النهار ـ وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم فقالوا : إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون ، والتعبير بما أنزل بناء على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين ، وظاهر الآية ، يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك. وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه ، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين ، أحدها أن التقدير (وَلا تُؤْمِنُوا) بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى ـ وبأن يحاجوكم ـ ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم ، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى ـ بأو ـ على وزان (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وهو أبلغ.

والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح ، وأتى بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) معترضا بين الفعل ومتعلقه ، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام أو زيادة التصلب فيه.

ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف :

١٩٢

٨] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري ، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي ، والمراد من التابعين المتصلب منهم ، وإلا وقع ما فروا منه ، وثانيها أن المراد (وَلا تُؤْمِنُوا) هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع ، وهم فيه أرغب وأطمع ، وعند هذا تم الكلام ، ثم قيل : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى) إلخ على هذا معللا لمحذوف أي ـ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم.

وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد ، وإنما أتى ـ بأو ـ تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة ، وأما ـ أو ـ فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير ، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا.

ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير ـ أن يؤتى ـ بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار ، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه ؛ وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا ، وعن الزمخشري أن (أَنْ يُؤْتى) إلخ من جملة المقول كأنه قيل : قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم ، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله ـ كأنه قيل ـ قل : إن الهدى هدى الله ، وقل ـ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم ، وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني ، ويجعل أن يؤتى خبر (إِنَ) و (هُدَى اللهِ) بدل من اسمها ـ وأو ـ بمعنى حتى على أنها غاية سببية ، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة ، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام ، ورابعها أن يكون (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ) إلخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون (قُلْ إِنَّ الْهُدى) إلخ أمرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا ؛ وقرينة الإضمار أن (وَلا تُؤْمِنُوا) إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن ، وحمل ـ أو ـ على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون ، وقرئ ـ أن يؤتى ـ بكسر همزة إن على أنها نافية ـ أي قولوا لهم ما يؤتى ـ وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود ، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة ـ فأو ـ بمعنى حتى ، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى) إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه ؛ وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه ، وأقرب إلى المساق انتهى.

«وأقول» ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا (أَنْ يُؤْتى) إلخ هو قول قتادة ، والربيع ، والجبائي لكنهم لم يجعلوا ـ أو ـ بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي. وابن جريج إلا أنهم قدروا ـ لا ـ بين أن ويؤتى ، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن ـ لا ـ ليست مما تحذف هاهنا ، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة ، والمعنى إن الهدى كراهة ـ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين ، ولا يخفى

١٩٣

أنه معنى متوعر ، وليس بشيء ، ومثله ما قاله قوم من أن (أَنْ يُؤْتى) إلخ تفسير للهدى ، وأن المؤتى هو الشرع وأن (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على أوتيتم ، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل ، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال : والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان ، وجعل (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة ـ ولا يخفى ما فيه ـ واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك ـ إن اليهود قالوا : إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون ـ ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الجمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم ، والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع إذا المراد به غير أتباعهم.

واستشكل ابن المنير قطع (أَنْ يُؤْتى) عن (لا تُؤْمِنُوا) على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار ، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق ، ثم قال : ويمكن أن يقال : روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك ـ وفيه تأمل ـ فتأمل وتدبر ، فقد قال الواحدي : إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة ، والمراد من الفضل الإسلام ـ قاله ابن جريج ـ وقال غيره : النبوة وقيل : الحجج التي أوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون ، وقيل : نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من عباده (وَاللهُ واسِعٌ) رحمة ، وقيل : واسع القدرة يفعل ما يشاء (عَلِيمٌ) بمصالح العبادة ، وقيل : يعلم حيث يجعل رسالته (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال الحسن : هي النبوة ، وقال ابن جريج : الإسلام والقرآن ، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى ، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال :

والباء بعد الاختصاص يكثر

دخولها على الذي قد قصروا

وعكسه مستعمل وجيد

ذكره الحبر الإمام السيد

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) قال ابن جبير : يعني الوافر.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) شروع في بيان نوع آخر من معايبهم ، و (تَأْمَنْهُ) من أمنته بمعنى ائتمنته والباء ، قيل : بمعنى على ، وقيل : بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم ـ قنطار من الكلام فيه ـ يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده ، وقيل : المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وروي هذا عن عكرمة ، و ـ الدينار ـ لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياء لوقوعه بعد كسرة ، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله ، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا : ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما ، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال : إنما سمي الدينار دينارا لأنه ـ دين ونار ـ ومعناه أن من

١٩٤

أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير حقه فله النار ، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على ـ مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار ـ وقرئ (يُؤَدِّهِ) بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ بالكسر من غير ياء ، وبالإسكان إجراء للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) استثناء من أعم الأحوال ، أو الأوقات أي (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) في حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك ، أو في وقت دوام قيامك ، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة ، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح ، والسدي بالملازمة والاجتماع معه ، والحسن بالملازمة والتقاضي ، والجمهور على ضم دال ـ دمت ـ فهو عندهم كقلت ، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة ، والمضارع على اللغة الأولى يدوم كيقوم ، وعلى الثانية يدام كيخاف (ذلِكَ) أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى : (لا يُؤَدِّهِ).

(بِأَنَّهُمْ قالُوا) ضمير الجمع عائد على (مِنْ) في (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم.

أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي إنهم كاذبون ، وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن سعيد بن جبير قال : «لما نزلت «ومن أهل الكتاب» إلى قوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» والجار والمجرور متعلق بيقولون ، والمراد يفترون ، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه ، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره (بَلى) جواب لقولهم ليس علينا في الأميين سبيل ، وإيجاب لما نفوه ، والمعنى (بَلى) عليهم في الأميين سبيل.

(مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها (بَلى) حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا ، و (مَنْ) إما موصولة أو شرطية ، و (أَوْفى) فيه ثلاث لغات : إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها ، والضمير في ـ عهده ـ عائد على (مَنْ) وقيل : يعود على (اللهِ) فهو على الأول مصدر مضاف لفاعله ، وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله ، أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على (مَنْ) من الجملة الثانية ، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان (الْمُتَّقِينَ) من (أَوْفى) وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما ؛ وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرءوس الآي ، ورجح الأول بقوة الربط فيه ، وقال ابن هشام : الظاهر أنه لا عموم وأن (الْمُتَّقِينَ) مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا ، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله ، ويدل عليه (فَإِنَّ اللهَ) إلخ ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه ، وقوله : الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير (بِعَهْدِهِ) إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين.

١٩٥

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) أخرج الستة ، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألك بينة؟ قلت : لا فقال لليهودي : احلف. فقلت : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ)» إلخ.

وأخرج البخاري ، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.

وأخرج أحمد ، وابن جرير ـ واللفظ له ـ عن عدي بن عميرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «فقال للحضرمي : بينتك وإلا فيمينه قال : يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس : يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال : الجنة قال : فإني أشهدك إني قد تركتها» فنزلت ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع. ولبابة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف. وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة ، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.

والمراد ـ يشترون ـ يستبدلون ، وبالعهد أمر الله تعالى ، وما يلزم الوفاء به ، وقيل : ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق ، و ـ الأيمان ـ الأيمان الكاذبة ، و ـ بالثمن القليل ـ الأعواض النزرة ، أو الرشا ، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم ـ قاله الجبائي ـ أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم ، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده ، واستظهر أن يكون ذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل ـ انظر إليّ ـ يريد ارحمني ، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ، وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أو لا غير واضحة بخلاف لمعنى المكنى عنه ، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر.

١٩٦

والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة ـ قاله القاضي ـ وقال الجبائي : لا ينزلهم منزلة الأزكياء ، وقيل : لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع ، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول ، وقيل : إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي يحرفونه ـ قاله مجاهد ـ وقيل : أصل ـ اللّي ـ الفتل من قولك : لويت يده إذا فتلتها ، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر :

تطيلين لياني وأنت «ملية»

وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا

وفي الخبر «ليّ الواجد ظلم» فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد ، وقريب منه ما قيل : إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب ، و ـ الألسنة ـ جمع لسان. وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث ، ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن ، ومن ذكره جمعه على ألسنة ، وعن الفراء أنه قال : اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي ؛ والباء صلة ، أو للآلة ، أو للظرفية ، أو للملابسة ، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب ، وقرأ أهل المدينة ـ يلوون ـ بالتشديد فهو على حد (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) [المنافقون : ٥] وعن مجاهد وابن كثير ـ يلون ـ على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل ، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة ، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف ، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا.

نعم قرئ ـ يلؤون ـ بالهمز في الشواذ وهو يؤيده ، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير ، وأما جعله من ـ الولي ـ بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.

(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه ـ باللي ـ أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين.

(وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) ولكنه من قبل أنفسهم (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف ، أو المشابه نازل من عند الله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى ، و ـ الواو ـ للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر ، وفي جملة (وَيَقُولُونَ) إلخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف ، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه ، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف منه عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.

والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إلى نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه ، ونفي

١٩٧

الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العبادة مخلوقة لهم لا لله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ ، وقيل : (يَعْلَمُونَ) ما عليهم في ذلك من العقاب ، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه ، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود ، وهم كعب بن الأشرف ، ومالك ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.

واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص ، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا ، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم : «ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال.

وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال التواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته ، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره ، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل إن يكون قولا عن اجتهاد ، أو ناشئا عن عدم استقراء تام ، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض ، فإنها أربعة أناجيل : الأول إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين ـ وإنجيله باللغة السريانية ـ كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدد إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا ، والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين ـ وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة ـ وعدد إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا ، والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا ـ كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك ـ وعدد إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا ، والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح ـ كتب إنجيله بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة ـ وعدد إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا. وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر ، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها ، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا ، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه ، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال : إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له : أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح : يا سيدي اذكرني في ملكوتك فقال : حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس. ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وأغفل هذه القصة مرقس ، ويوحنا ، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع : إن ابن الإنسان لم

١٩٨

يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيي وخالفه أصحابه ، وقالوا بل قال : إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا ، ولا شك أن هذا تناقض ، أحدهما يقول جاء رحمة للعالمين ، والآخر يقول : جاء نقمة على الخلائق أجمعين ، ومن ذلك أن متى قال : قال يسوع للتلاميذ الاثني عشر : أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبطا إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال : مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع : الويل له خير له أن لا يولد ، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال : أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا : يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماء وغسل يديه وقال : أنا بريء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر ، وأكذب يوحنا ذلك فقال : لما حمل يسوع إليه قال لليهود : ما تريدون؟ قالوا : يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول ، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم :

وإذا كان في الأنابيب حيف

وقع الطيش في صدور الصعاد

ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟!

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه ، وقيل : تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه‌السلام.

وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى الآية.

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت ، وأخرج ابن أبي حاتم قال : «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال : ما كان لبشر» إلخ ، والمعنى ما يصح ، وقيل : ما ينبغي ، وقيل لا يجوز لأحد ، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.

والجار خبر مقدم ـ لكان ـ والمنسبك من (أَنْ) والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه ، وعطف الفعل على منصوب أن ـ بثم ـ تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة ، وقد تقدم معناها ، و ـ العباد ـ جمع عبد قال القاضي : وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى ، ولهذا يقال : هؤلاء عبيد زيد ولا يقال : عباده ، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين (لِي)

١٩٩

و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بلفظ (عِباداً) لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا ـ كما قال الجبائي ـ فإن التجاوز متحقق فيهما حتما ، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) إثبات لما نفي سابقا ، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل : ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين ، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه ، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول ، وقيل : يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم ، وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم ، وابن جبير بالحكيم التقي ، وابن زيد بالمدبر أمر الناس ـ وهي أقوال متقاربة ، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح.

وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي ، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا ـ كلحياني ـ لعظيم اللحية ، والجماني لوافر الجمة ، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة ، وقيل : إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) الباء السببية متعلقة ـ بكونوا ـ أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له ، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر ، وقيل : متعلقة ـ بربانيين ـ لأن فيه معنى الفعل ، وقيل بمحذوف وقع صفة له ـ والدراسة ـ التكرار يقال : درس الكتاب أي كرره ، وتطلق على القراءة ، وتكرير (بِما كُنْتُمْ) للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم ، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل ، وتحصيل الربانية ، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها ، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم ، والثاني لمن دونهم ، وقيل : لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن ، ومتعلق الدراسة الفقه ـ وفيه بعد بعيد ـ وإن أشعر به كلام بعض السلف.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين ، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس ، وتدرسون من الإدراس بمعناه ، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير ، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول ، (وَلا) أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل ، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة (وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فهو كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي ، وإما غير زائدة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة ، والمسيح ، وعزير عليهم‌السلام فلما قيل له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له : ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي» وعلى هذا يكون المقصود ـ من عدم الأمر ـ النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ ، بالمقصود وأوفق للواقع ، وقرأ باقي السبعة (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع على الاستئناف ، ويحتمل الحالية ، وقيل : والرفع على الاستئناف أظهر ، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي ، وبأن العطف يستدعي تقديمه على (لكِنْ) وكذا الحالية أيضا.

وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على ـ بشر ـ وجوز

٢٠٠