روح المعاني - ج ٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام ، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة (أَرَأَيْتَ) من إثبات كاف ، أو ما في معناه ـ ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان ـ فإن (أَلَمْ تَرَ) يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه ، (أَرَأَيْتَ) كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه ، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه ، وفي الثاني بمثله ، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير (أَرَأَيْتَ) مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.

و (أَوْ) للتخيير أو للتفصيل ـ والمار ـ هو عزيز بن شرخيا ـ كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه. وإسحاق بن بشر عن ابن عباس ، وعبد الله بن سلام ، واليه ذهب قتادة ، وعكرمة ، والربيع ، والضحاك ، والسدي ، وخلق كثير ـ وقيل : هو أرميا بن خلقيا من سبط هارون عليه‌السلام ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ وإليه ذهب وهب ، وقيل : هو الخضر عليه‌السلام ـ وحكي ذلك عن ابن إسحاق ـ وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد ، وأن أرميا هو الخضر بعينه ، وقيل : شعيا ، وقيل : غلام لوط عليه‌السلام ، وقال مجاهد : كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما ، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [آل عمران : ٤٠ ، مريم : ٨ و ٢٠] و (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) [آل عمران : ٤٧] وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر ـ وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره ـ قوى المعارض جدا ، وإن قلنا : بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى ، ـ والقرية ـ قال ابن زيد : هي التي خرج منها الألوف ، وقال الكلبي : دير سابرآباد ، وقال السدي : دير سلماباذ ، وقيل : دير هرقل ، وقيل : المؤتفكة ، وقيل : قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس ، وقال عكرمة ، والربيع ، ووهب : هي بيت المقدس وكان قد خربها بختنصر وهذا هو الأشهر ، واشتقاقها من القرى وهو الجمع (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه ، وقيل : المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق ـ بخاوية ـ وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر ـ لهي ـ والجملة قيل : في موضع الحال من الضمير المستتر في (مَرَّ) وقيل : من (قَرْيَةٍ) ويجيء الحال من النكرة على القلة ، وقيل : في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو ، ومن الناس من جوز كون (عَلى عُرُوشِها) بدلا من (قَرْيَةٍ) بإعادة الجار وكونه صفة لها ، وجملة (وَهِيَ خاوِيَةٌ) إما حال من ـ العروش ـ أو من ـ القرية ـ أو من ـ ها ـ والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه (قالَ) في نفسه أو بلسانه (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر ، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب ، أو بتقدير مضاف ـ أي أصحاب هذه القرية ـ فالإحياء والإماتة على حقيقتها ، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة ، والسياق دال على ذلك ، والاحياء والاماتة على حالهما أيضا ، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه ، ثم في غيره ، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده ، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة

٢١

المحيي إذا قلنا : إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا ، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء ـ لأهل ، أو عظامهم ـ يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر ، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه ، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل ، و (أَنَّى) نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى ، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف ، والعامل فيه على أي حال (يُحْيِي).

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد ـ والعام ـ السنة من العوم وهو السباحة ، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه ، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية ، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له : كوسك فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى (قالَ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال له؟ فقيل قال : (كَمْ لَبِثْتَ) ليظهر له العجز عن الإحاطة بشئون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره (كَمْ) وقتا والناصب له (لَبِثْتَ) والظاهر أن القائل هو الله تعالى ، وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه ، وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس : (يَوْماً) ثم التفت فرأى بقية منها فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على الإضراب ، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) قيل : كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة ، واشتقاقه من ـ السنة ـ وفي لامها اختلاف فقيل : هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء ، وقيل : واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه ، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج ، وقيل : أصله لم يتسنن. ومنه ـ الحمأ المسنون ـ أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت : تظنيت ، وفي تقضضت : تقضيت ، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء ، ثم أبدلت الياء ألفا ، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال ، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [الأنعام : ١٩ ، ٩٣] و (أُوحِيَ إِلَيَّ) [هود : ٣٦](وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام: ٩٣] وصاحبها إما الطعام والشراب ، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله ، وهذا شريك ـ لم يتسنه ـ وقرأ أبي ـ لم يسنه ـ بإدغام

٢٢

التاء في السين واستشكل تفرع (فَانْظُرْ) على ـ لبث المائة ـ بالفاء وهو يقتضي التغير ، وأجيب بأن المفرع عليه ليس ـ البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء ، وقيل : إن التقدير ـ إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث ـ فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده ، وكون المراد ـ انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب ـ ليس بشيء ولا يساعده المأثور (وَلِنَجْعَلَكَ) متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك ، ومنهم من قدره متأخرا ، وقيل : إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على (لَبِثْتَ) أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك ، وقيل : إنه عطف على (قالَ) ففيه التفات (آيَةً) أي عبرة أو مرشدا (لِلنَّاسِ) أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة ، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار ـ كما قاله السدي ـ وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد ، وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها ، وقيل : عظام أموات أهل القرية ، وعن قتادة ، والضحاك ، والربيع عظام نفسه قالوا : أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها ، وقيل : عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ، وقال الكسائي : نلينها ونعظمها ، وقرأ أبي ننشيها ، وابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ ننشرها ـ من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى : (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس ، وقرأ أبان عن عاصم ـ ننشرها ـ بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي ـ كما قال الفراء ـ فالمعنى كيف نبسطها ، والجملة قيل : إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط اللحم عليها ، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا ، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية ، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح ـ كما قيل ـ لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها ، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل : فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) ومن جملته ما شوهد (قَدِيرٌ).

وقيل : فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين ، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل : وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور ، وقد صرح بازات الفن بخلافه ـ كأبي علي وغيره ـ مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] و ـ لما ـ رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم

٢٣

يصرحوا به ، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما حصل له التبين (قالَ أَعْلَمُ) إلخ ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله عنهما (فَلَمَّا تَبَيَّنَلَهُ) على البناء للمفعول ، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه ، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر ، وقرأ ابن مسعود ـ قيل أعلم ـ على وجه الأمر ، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ (قالَ أَعْلَمُ) ويقول : لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه‌السلام قال الله تعالى له : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ) [البقرة : ٢٦] وبذلك قرأ حمزة ، والكسائي ، والآمر هو الله تعالى ، أو النبي ، أو الملك ، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد ، يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها : يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت : نعم وبكت وقالت : ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال : فإني أنا عزيز قالت : سبحان الله فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال : فإني عزيز كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإن عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحّتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم ، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر : حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد ـ فعند ذلك قالوا : عزيز ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه (قَدْ تَبَيَّنَ) ووضح (الرُّشْدُ) الذي هو طريق الوحدة وتميز (مِنَ الْغَيِ) الذي هو النظر إلى الأغيار (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) وهو ما سوى الله تعالى (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا حقيقيا شهوديا (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التي هي الوحدة الذاتية (لَا انْفِصامَ لَها) في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشئون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع قول كل ذي دين (عَلِيمٌ) بنيته (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره (يُخْرِجُهُمْ مِنَ) ظلمات ـ النفس وشبه

٢٤

الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالميل إلى الأغيار (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ) نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات (أُولئِكَ) المبعدون عن الحضرة (أَصْحابُ النَّارِ) الطبيعية (هُمْ فِيها خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما ، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه‌السلام (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الروح أو إبراهيم الخليل (رَبِّيَ) أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته (الَّذِي يُحْيِي) من توجه إليه (وَيُمِيتُ) من أعرض عنه ، أو يحيي ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين (قالَ) نمروذ النفس الأمارة ، أو الجبار (أَنَا أُحْيِي) بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات (وَأُمِيتُ) بعضها بتعطيله عن ذلك برهة ، أو أحي بالعفو وأميت بالقتل (قالَ إِبْراهِيمُ) الروح ، أو الخليل (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي) بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي أظهرها عد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها ، أو أن الله ـ يأتي بشمس الروح من مشرقها ـ وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن ـ فأت بها بعد ما غربت ـ أي فأرجعها إلى من قتله وأمته ، وعلى هذا يكون من تتمة الأول (فَبُهِتَ) وغلب (الَّذِي كَفَرَ) وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ) وهو العقل الإنساني (عَلى قَرْيَةٍ) القلب الذي هو البيت المقدس ، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيي (وَهِيَ خاوِيَةٌ) خالية من التجليات النافعة ثابتة (عَلى عُرُوشِها) صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم (قالَ) لذهوله عن النظر إلى الحقائق (أَنَّى) متى ، أو كيف (يُحْيِي هذِهِ) القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال (بَعْدَ مَوْتِها) بداء الجهل والالتفات إلى السوي (فَأَماتَهُ اللهُ) أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة ، وقيل : هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها ـ إلا يوما أو بعض يوم ـ استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى ، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال : بل لبثت في الحقيقة مائة عام (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وكان التين أو العنب ، والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين ، والثاني إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم (وَشَرابِكَ) وكان عصير العنب واللبن ، والأوّل إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق ، والثاني إشارة إلى العلم النافع كالشرائع (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً) أي دليلا للناس بعثناك (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) من القوى (كَيْفَ نُنْشِزُها) ونرفعها عن أرض الطبيعة (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) وهو العرفان الذي يكون لباسا لها ، وعبر عنه باللحم لنموه وزيادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال ، والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك (قالَ أَعْلَمُ) علما مستمرا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) ومن جملته ما كان (قَدِيرٌ) لا يستعصى عليه ولا يعجزه (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا

٢٥

إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) [الأعراف : ٦٩ ، ٧٤] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما ـ يقال ـ الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك (رَبِ) كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة (أَرِنِي) من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) في محل مفعوله الثاني المعلق عنه ، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين ، واعترض بأن البصرية لا تعلق ، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة ، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها ، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية ، ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة (كَيْفَ) إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] ثم الاستفهام ـ بكيف ـ إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي ـ بصرني كيفية إحيائك للموتى ـ وإنما سأله عليه‌السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة» وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وهو المروي عن أهل البيت ، وروى عن ابن عباس ، والسدي ، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه‌السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل لذلك ، وروى عن محمد بن إسحاق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحيي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ (قالَ) استئناف مبني على السؤال والضمير للرب (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) عطف على مقدر ـ أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه ـ أو بأني قد اتخذتك خليلا ، أو بأن الجبار لا يقتلك (قالَ) أي إبراهيم (بَلى) آمنت بذلك (وَلكِنْ) سألت (لِيَطْمَئِنَ) أي يسكن (قَلْبِي) بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك ، أو (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني ، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا ، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية ـ وما ذكر هو المشهور فيها ـ ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه‌السلام من الكلام ، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينيّ والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها ، فالخليل عليه‌السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة (كَيْفَ) وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال ـ أيحكم زيد في الناس ـ ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى ، وقيل : إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا ، ومن هذا الباب (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : ٣٧] أي لا خير في الفريقين ، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه ، ولا أرى

٢٦

رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه‌السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به ، ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله : لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها ـ ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي ـ وفي القلب منه شيء ، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية ، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه ، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا ، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما‌السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما ـ برب أرني كيف تحيي الموتى ، ورب أرني انظر إليك ـ وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله : «لو كشف» إلخ ، وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم ، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إني لأسهو فقال : يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وحسنات المقربين سيئات النبيين ، وهذا أولى مما سبق ، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس‌سره أنه قال : يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه ، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس‌سره ينطق بذلك ، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين ، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به ، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس‌سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه ، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس‌سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس‌سره ـ وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة ـ والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق ، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول : إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه ، والوقوف عند رتبته ـ وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة ـ وبعيد عنه بمراحل ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى ، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة ، ولكل مقام مقال ، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معنى ذلك ، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا

٢٧

ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم ، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه ـ على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره ـ وقد قيل عليه ما قيل فتدبر ، واللام في (لِيَطْمَئِنَ) لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن ، وليس بمبني كما ـ زلق السمين ـ ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف ـ ما ـ منه الاستدراك وقيل المتعلق (أَرِنِي) ولا أراه شيئا ، والماضي للفعل ـ اطمأن على وزن اقشعر ، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من ـ اطأمن ـ فالطاء فاء الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل ، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول ـ اطأمن واطمأن ـ مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة ، وقيل : طمأنينة بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان ، وقرئ ـ أرني ـ بسكون الراء (قالَ) أي الرب (فَخُذْ) الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ.

(أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائر كتاجر وتجر ـ وإليه ذهب أبو الحسن ـ وقيل : بل هو مخفف من طير بالتشديد ، وقال أبو البقاء : هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق ـ بخذ ـ والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة ، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب ، وفي رواية بدل الحمامة بطة ، وفي رواية نسر ، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته (فَصُرْهُنَ) قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد ، والباقون بضمها مع التخفيف من ـ صاره يصوره ويصيره ـ لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي ، وقال الفراء : الضم مشترك بين المعنيين ، والكسر بمعنى القطع فقط ، وقيل : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة ، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة ، والصحيح أنه عربي ، وعن عكرمة أن نبطي ، وعن قتادة أنه حبشي ، وعن وهب أنه رومي ، فإن كان المراد ـ أملهن ـ فقوله تعالى : (إِلَيْكَ) متعلق به وإن كان المراد ـ فقطعهن ـ فهو متعلق ـ بخذ ـ باعتبار تضمينه معنى الضم ، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي ـ فقطعهن مقربة ممالة ـ إليك ـ وزعم ابن هشام ـ تبعا لغيره ـ أنه لا يصح تعليق الجار ـ بصرهن ـ مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل ، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ـ «فصرّهن» ـ بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه ، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف ، أو مكسورة لالتقاء الساكنين ، وعنه أيضا ـ «فصرّهن» ـ من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع ـ أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا.

(ثُمَّ اجْعَلْ) أي ألق ، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة.

٢٨

(عَلى كُلِّ جَبَلٍ) يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك ـ كما روي عن مجاهد. والضحاك ـ وروي عن ابن عباس والحسن ، وقتادة أن الجبال كانت أربعة ، وعن ابن جريج. والسدي أنها كانت سبعة ، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة (مِنْهُنَ) أي من تلك الطير (جُزْءاً) أي قطعة ، وبعضا ربعا ، أو سبعا ، أو عشرا ، أو غير ذلك ، وقرئ «جزوءا» بضمتين «وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول ـ لا جعل ـ والجاران قبله متعلقان بالفعل ، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير ، و (مِنْهُنَ) حال من (جُزْءاً) لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي نادهنّ ، أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين ، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول ، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين ، وقيل : في الآية حذف كأنه قيل : فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.

(يَأْتِينَكَ سَعْياً) فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده ، وأعظم منه فسادا ما قيل : إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء ، وفي بعضها أن رءوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رءوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة ، وسعيا حال من فاعل ـ يأتينك ـ أي ساعيات مسرعات ، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا ، وقيل : إطلاق السعي على الطيران مجاز ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا ، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل. قال : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال : لا قلت : فما معناه؟ قال : معناه (يَأْتِينَكَ) وأنت تسعى سعيا ـ وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان ـ وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام ، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا ، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا : خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم ، و ـ الرؤية ـ هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح ، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه ، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه ـ بقال ـ أو حال ـ ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا ، وقال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه ، والمراد ـ بصرهن ـ أملهن ومرنهنّ على الإجابة ـ أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ـ

٢٩

والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين ، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم ، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية ، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو ، وقال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة ، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة ـ وفيه تأمل ـ والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال ، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين ، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى ؛ وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه ، وأرى عزيزا عليه‌السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح ، حكى أن الله سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له : يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا.

(ومن باب الاشارة في هذه القصة) البقرة ٢٦١ ـ ٦٧٢ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) أي موتى القلوب بداء الجهل (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي ألم تعلم ذلك علما يقينا (قالَ بَلى) أعلم ذلك :

ولكن للعيان لطيف معنى

له سأل المشاهدة الخليل

وهو المشار إليه بقوله سبحانه : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الذي هو عرشك (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم ، وهي أربعة من أطيار الغيب : العقل ، والقلب ، والنفس ، والروح (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي ضمهن واذبحهن ، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت ، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت ، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية ، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في ، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة ، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية ، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في

٣٠

التجليات (ثُمَّ ادْعُهُنَ) ونادهنّ بصوت سر العشق (يَأْتِينَكَ سَعْياً) إلى محض العبودية بجمال الأحدية (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة (حَكِيمٌ) في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك ، وقد يقال : أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية ، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا ، وديكا ، وغرابا ، وحمامة ، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب ، والديك إلى الشهوة ، والغراب إلى الحرص ، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج ، وفي أثر بدل الحمامة بطة ، وفي آخر نسر ، وكأن الأوّل إشارة إلى الشره الغالب ، والثاني إلى طول الأمل ، ومعنى (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها ، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رءوسها عنده ـ أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه ـ ثم أمر أن يجعل على كل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهنّ وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه ، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن ، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة ، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً

٣١

مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢٧٦)

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره ، وقيل : المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف ، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أو مثلهم كمثل باذر حبة ولو لا ذلك لم يصح التمثيل ، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة. (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك ، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل ، وقيل : وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات ـ والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى ـ وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.

(وَاللهُ يُضاعِفُ) هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى ، واقتصر بعض على الأول ، وبعض على الثاني ، والتعميم أتم نفعا (لِمَنْ يَشاءُ) من عبادة المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه ، أخرج ابن ماجه ، وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين ،

٣٢

وأبي أمامة ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة (عَلِيمٌ) بنية المنفق وسائر أحواله ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية ، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ وكانا من أدل دليل على البعث ـ ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة : ٢٤٣] بقوله تعالى عز شأنه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥ ، الحديد : ١١] وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) [البقرة : ٢٥٣] بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤] إلخ.

وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) استئناف جيء به لبيان كيفية الانفاق الذي بين فضله.

(ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) أي انفاقهم أو ما أنفقوه (مَنًّا) على المنفق عليه (وَلا أَذىً) أي له ـ والمنّ ـ عبد الإحسان وهو في الأصل القطع ، ومنه قوله : حبل منين ـ أي ضعيف ـ وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه ، و ـ الأذى ـ التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه ، وإنما قدم المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة (لا) لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما ، و (ثُمَ) للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة ، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك ـ وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات ـ وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) إلخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ ، وبسببه مثله يقع في السين نحو (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها ـ وهو كلام حسن ـ ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.

والآية كما أخرج الواحدي عن الكلبي ـ والعهدة عليه ـ نزلت في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى وسلم : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال : عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين ، وقال أبو سعيد الخدري : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول : «يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر» فأنزل الله تعالى فيه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) إلخ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) حسبما

٣٣

وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول ، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى (لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي ، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق ، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا (وَمَغْفِرَةٌ) أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه (خَيْرٌ) للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ) عليه (يَتْبَعُها) من المتصدق (أَذىً) له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر ، وقيل : يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسئول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول (خَيْرٌ) للمسئول من تلك الصدقة ، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد ـ وعلى هذين الوجهين ـ ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه (خَيْرٌ) في الجملة مع بطلانها بالمرة ، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء ، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى ، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره ، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه ، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة ، وقد يقال : إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها ، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مئونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حَلِيمٌ) فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما ، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه ، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله تعالى ، وبالأذى الأذى للفقير ، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ؛ ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة ، والآية أحد متمسكاتهم ، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل : إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها ، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك ، فمعنى (لا تُبْطِلُوا) حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) فيه نوع تأييد له بناء على أن (كَالَّذِي) في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل (لا تُبْطِلُوا) أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء ، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا ، وإنما أتي به باطلا مردودا ، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر ، وانتصاب (رِئاءَ) إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم ؛ أو على أنه حال من فاعله أي

٣٤

ينفق ماله مرائيا ، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء ، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه ، وأصل رياء (رِئاءَ) فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة ، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة ، وقد قرأ به الخزاعي ، والشموني ، وغيرهما ، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له ؛ والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر ـ كما قيل ـ وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا (فَمَثَلُهُ) أي المرائي في الإنفاق ، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة (١) أو صفاء ، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى : (عَلَيْهِ تُرابٌ) أي شيء يسير منه (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان ، وقيل : للتراب.

(فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا ، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات ، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح ، وقيل : إنه هو الوجه والأول ليس بشيء.

(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا ، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا يكون حالهم حينئذ فقيل : لا يقدرون ، وجعلها حالا من الذي كما قال : السمين مهزول من القول كما لا يخفى ، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والتفريق ، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] على رأي ، وقوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد (٢)

وقيل : إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته ، ولا يخفى بعده ، ورجوع الضمير إلى (الَّذِينَ آمَنُوا) من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما ينفعهم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه تعريض بأن كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لطلب رضاه أو طالبين له. (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان ـ فمن تبعيضية ـ كما في قولهم هزّ من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال ، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس ، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] ويحتمل أن يكون المعنى (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون (مِنْ) بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي

__________________

(١) قوله : وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه‌الله.

(٢) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة الفرزدق ، وقيل : للحارث بن مخفض ، و «حانت» بمعنى هلكت وذهبت ، و «فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة ، والمراد بدمائهم نفوسهم ا ه إدارة الطباعة المنيرية.

٣٥

الجبائي ـ وليس بالبعيد ـ وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.

(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي بستان بنشز من الأرض ، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة ، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده.

وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح ، والباقون بالضم ، وابن عباس بالكسر ، وقرئ «رباوة» وكلها لغات وقرئ : «كمثل حبة» بالحاء والباء. (أَصابَها وابِلٌ) مطر شديد (فَآتَتْ) أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. (أُكُلَها) بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير. ونافع بسكون الكاف تخفيفا. (ضِعْفَيْنِ) أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير ، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل ، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان ، وقيل : المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها ، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها و ـ الطل ـ الرذاذ من المطر وهو اللين منه.

وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك ، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل ، والطل ، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم ، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل : ـ وهو محتمل ـ لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق ـ ويحتمل أن يكون من المركب ـ والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب ، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.

والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها ، واختار بعضهم الأول ، وأبى آخرون الثاني فافهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ، ففي الجملة ترغيب للأوّل ، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أي أيحب أحدكم ، وكذلك قرأ عمر رضي الله عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) وقرئ جنات (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما ، والنخيل ـ قيل : اسم جمع ، وقيل : جمع نخل وهو اسم جنس جمعي ، و (أَعْنابٍ) جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك ـ لأن النخلة كلها منافع ـ ونعمت العمات : هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره ، وفي

٣٦

بعض الآثار ـ ولم أجده في كتاب يعول عليه ـ إن الله تعالى يقول : أتكفرون بي وأنا خالق العنب ، و ـ الجنة ـ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة ، وعلى الأرض المشتملة عليها ، والأول أنسب بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا ؛ والجملة في موضع رفع صفة (جَنَّةٌ) أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الظرف الأول في محل رفع خبر مقدم ، والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر ، والثالث نعت لمبتدإ محذوف أي رزق ، أو ثمر كائن من كل الثمرات ، وجوز زيادة (مِنْ) على مذهب الأخفش ، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير ، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع ، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما ، ومنهم من قال : إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر ، والواو للحال ، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل ـ يود ـ أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش ، وقيل : الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء ، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر ، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) لا يتمناها أحد ، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) في موضع الحال من الضمير في ـ أصابه ؛ أي أصابه الكبر ، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم ، و ـ الضعفاء ـ جميع ضعيف كشركاء جمع شريك ، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى ، وقرئ ـ ضعاف ـ (فَأَصابَها إِعْصارٌ) أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة ، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية ، وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه ، وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين ، وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر ، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص ، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نار تدور أيضا ، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه : (فِيهِ نارٌ) وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل : لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر ، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال ـ فأصابها نار (فَاحْتَرَقَتْ) لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر ، والفعل المقرون بالفاء عطف على (أَصابَها) وقيل : على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها ـ فاحترقت ـ وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا شأنه.

٣٧

وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى : أيحب أحدكم أن تكون له (١) إلخ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر : فلم تحقر نفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال : فوقعت على قلب عمر وأعجبته.

وفي رواية البخاري ، والحاكم ، وابن جرير ، وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) إلخ؟ قالوا : الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله ، قيل : وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء ، وفصل عنه لاتصاله بما ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له ، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور ، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها ، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي جياد أو حلال (ما كَسَبْتُمْ) أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي.

وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في (طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) : من الذهب والفضة وفي قوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة ، والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد (مِنْ) في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل ، أو للتأكيد ـ ولعله أولى ـ وترك ذكر ـ الطيبات ـ لعلمه مما قبله ، وقيل : لعلمه مما بعد ، وبعض جعل (ما) عبارة عن ذلك (وَلا تَيَمَّمُوا) أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف ، وقرأ عبد الله ولا تأمموا ، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى (الْخَبِيثَ) أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق ـ بتنفقون ـ والتقديم للتخصيص ، والجملة حال مقدرة من فاعل (تَيَمَّمُوا) أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه ، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق ، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.

فعن عبيدة السلماني قال : سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال : نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال الله تعالى : (وَلا

__________________

(١) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (أَيَوَدُّ).

٣٨

تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث ، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين ، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه ، و (تُنْفِقُونَ) حال من الفاعل المذكور ـ أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال ـ أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) حال على كل حال من ضمير (تُنْفِقُونَ) أي ـ والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات ـ أو بوجه من الوجوه (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم ، وقد استعير هنا ـ كما قال الراغب ـ للتغافل والتساهل ، وقيل : إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل ، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا ـ وهو الأكثر ـ ولازما مثل أغضى عن كذا ، والآية محتملة للأمرين ، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم ، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم ، فقرأ الزهري ـ تغمضوا ـ بتشديد الميم وعنه أيضا ـ تغمضوا ـ بضم الميم وكسرها مع فتح التاء ، وقرأ قتادة ـ تغمضوا ـ على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمنسبك من (أَنْ) والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه ، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية ، وسيبويه لا يجوز أن تقع (أَنْ) وما في حيزها حالا ، وزعم الفراء (أَنْ) هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم ، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه ، ومن البعيد في الآية ما قيل : إن الكلام تم عند قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) والحال ـ أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم ـ فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل : أمنه تنفقون إلخ ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم ، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهورعلمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه (حَمِيدٌ) أي مستحق للحمد على نعمه ، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به ، وقيل: حامد بقبول الجيد والإثابة عليه ، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل ، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر ، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم ، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا ، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم : لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته ، ولوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع ، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير ، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل ، وقرئ ـ الفقر ـ بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب :

٣٩

أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته

ولا برم عند اللقاء هيوب

والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية ، وقيل : المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه ؛ وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم (مَغْفِرَةً) لذنوبكم ، وعن قتادة لفحشائكم ، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى : (مِنْهُ) فهو مؤكد لفخامتها ، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان (وَفَضْلاً) أي رزقا وخلفا ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة ، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.

وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها ، وقيل : المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها (وَاللهُ واسِعٌ) بالرحمة والفضل (عَلِيمٌ) بما تنفقونه فيجازيكم عليه ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وفي رواية عنه الفقه في القرآن ، ومثله عن قتادة ، والضحاك ، وخلق كثير ، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم» وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء ـ الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه ـ وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل ، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه ، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته ، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى ، وقال أبو عثمان : هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام ، وقيل : غير ذلك ، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها ، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.

قيل : ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها (مَنْ يَشاءُ) من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على

٤٠