المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

فيه ، كما لعله يجري في مثل وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرام الفساق.

ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين ، كما لو وجب إكرام العلماء ، ووجب إكرام العدول ، حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكدا ، لتعدد المقتضي له. فتأمل.

هذا إذا كان مرجع التكليف بالعنوانين المتحدين في منشأ الانتزاع خارجا المختلفين بالخصوصيات والقيود إلى التكليف بالذات الواجدة لأحد القيدين ، بمفاد كان التامة.

أما إذا كان مرجعهما أو مرجع أحدهما إلى التكليف بنفس القيد في ظرف وجود الذات ـ الذي هو مفاد كان الناقصة ـ من دون أن تكون الذات بنفسها موردا للتكليف ، خرج عن محل الكلام ودخل في تعدد العنوان والمعنون معا الذي هو من أوضح أفراد التزاحم ، لفرض عدم الاتحاد خارجا بين العنوانين إلا في الذات المفروض خروجها عن موضوع أحد التكليفين أو كليهما ، وليس الموضوع إلا تحقيق النسبة بين الذات والخصوصية ، وهو أمر مباين مفهوما وخارجا للذات ، ولتحقيق النسبة بينها وبين الخصوصية الاخرى ، كما لو فرض ورود كراهة النوم في المسجد ، واستحباب النوم على التراب ، وكان مرجع الثاني إلى استحباب جعل النوم على التراب ، من دون أن يدعو إلى تحقيق النوم ، بل الى تحقيق الخصوصية له في ظرف وجوده ، ولا يقع التزاحم بينهما إلا في فرض انحصار التراب في المسجد ، مع اضطرار المكلف للنوم ، واختياره في الكون في المسجد.

ثم إن الظاهر أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي الذي فرض فيه تعدد العنوان وواحدة المعنون هو القسم الأول دون الثاني.

وبهذا كان موضوعها وسطا بين التزاحم والتعارض ، فهو بلحاظ تعدد موضوع الغرض والملاك يجري مجرى التزاحم ، وبلحاظ واحدة المعنون

٤١

خارجا ـ وهو فعل المكلف ـ قد يشتبه بسائر موارد العامين من وجه المفروغ ظاهرا عن تحقق التعارض فيها.

ولذا كان ظاهر المشهور القائلين بالامتناع وتقديم جانب النهي المفروغية عن تحقق ملاك الأمر في مورد اجتماع العنوانين ، حيث يصح عندهم ويتحقق به الامتثال لو أتي به مع عدم تنجز النهي لغافلة ونحوها ، مع ما هو المعلوم من أن العامين من وجه متعارضان لا طريق مع تقديم أحدهما لإحراز ملاك الآخر.

بل مفروغيتهم عن تقديم جانب النهي لا وجه له إلا ما ذكرنا من إلحاق المورد بالتزاحم ارتكازا. وإن وقع من غير واحد الكلام في وجه ذلك وأطالوا فيه بما لا مجال للتعرض له هنا ، بل يوكل لمحله.

الأمر السادس : تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى الكلام في قاعدة : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، المدعى عليها الإجماع من بعضهم.

وقد أطال الكلام فيها بما لا يسعنا متابعته فيه بعد إجمال المراد من القاعدة المذكورة وعدم الدليل عليها غير الأدلة العامة المحكمة في العمل بالأدلة.

والذي ينبغي أن يقال : إن الجمع إن كان راجعا إلى تحكيم أحد الدليلين على الآخر وحمله عليه بالنحو الذي تقتضيه أدلة الحجية العامة ، كما في موارد الجمع العرفي ، فهو المتعين أخذا بدليل الحجية المقتضي له ، كما يؤخذ به في العمل بالدليل الواحد الذي لا معارض له. وهو في الحقيقة خارج عن التعارض بين الدليلين ، كما تقدم في الأمر الثالث.

وإن كان راجعا إلى محض تأويل أحدهما بما لا ينافي الآخر وإن لم تساعده أدلة الحجية. فإن أريد بذلك مجرد رفع التنافي بين الدليلين دفعا لتوهم صدور المتنافيين عن المعصوم عليه السّلام. فهو مستغنى عنه في حق من يعتقد عصمته ، وإنما يحتاج له لدفع النقض على عصمته ممن لا يعتقد بها. ولا أثر له

٤٢

إلا الإقناع بوجه خطابي غير علمي ، دفعا لشبهته بمثلها.

لأن دليل العصمة إن لم يكن أقوى من مثل هذه الشبهة المستندة لظهور الكلام لم يصلح التأويل غير المناسب لأدلة الحجية لدفع التنافي بعد استناده لظاهر الكلام الذي هو حجة في كشف مراد المتكلم ، وإن كان دليل العصمة قطعيا أقوى من الشبهة المذكورة كان مانعا من ورودها علميا ، فإيرادها تهريج بخطابيات مردودة بمثلها.

نعم ، قد ينفع التأويل في منع استحكام الشبهة في حق ضعيف البصيرة من المؤمنين ، كما قد ينفع في استيضاح العمل بأحد المتعارضين إذا اقتضاه دليل الحجية ، لأن طرح الآخر للجهل بحاله أثقل على النفس من تأويله بما يلائم مقتضى الحجية ، لأن الناس أعداء ما جهلوا. وقد تعرض لأكثر ما ذكرنا الشيخ في مقدمة التهذيب.

لكن اللازم حينئذ ذكر التأويل احتمالا تجنبا لمحذور القول بغير علم ولا حجة ، الذي هو مورد للخطر ، بل للهلاك إذا كان في كلام المعصومين عليهم السّلام الذين هم حجج الله تعالى على خلقه وبهم قوام دينه.

وأشكل من ذلك ما لو اريد بالتأويل العمل بمقتضاه ، كما قد يناسبه المقابلة بالطرح ، فإنه قول وعمل بغير علم. ومن ثم ورد الأمر بإرجاع ما اشتبه أمره إليهم عليهم السّلام والنهي عن القول فيه بالرأي.

الأمر السابع : ذكرنا في الأمر الثالث أن التعارض لا يتحقق إلا مع تمامية موضوع الحجية بحسب الأدلة العامة في كل من المتعارضين في ظرف اجتماعهما ، حيث يكون كل منهما مانعا عن العمل بالآخر في ظرف تمامية المقتضي له فيه. كما ذكرنا في الأمر الرابع أنه لا بد فيه من التنافي بين المؤديين.

وأنه يترتب على الأول عدم تحقق في موارد الجمع العرفي بين الأدلة ، لارتفاع موضوع الحجية في أحدهما بسبب الآخر. كما يترتب على الثاني عدم تحققه في موارد التخصص والورود وبعض أقسام الحكومة.

٤٣

ومن ثم كان البحث في الأمرين خارجا عن التعارض الذي هو محل الكلام ، إلا أن أهمية البحث فيهما وارتباطه بمحل الكلام ملزم بتعميم البحث بنحو يشملهما ، كما سبق.

ومن هنا كان المناسب جعل موضوع البحث الأدلة التي يكون لبعضها أثر في العمل بالآخر بالنظر لعموم دليل الحجية ، إما لكونه دخيلا في كيفية العمل به من دون أن ينافيه في المؤدى ـ على ما سيأتي توضيحه ـ أو لكونه منافيا له بحسب المؤدى رافعا لموضوع حجيته بالنظر لعموم أدلة الحجية ، أو لكونه مانعا من العمل به مع بقاء موضوع حجيته بالنظر للعموم المذكور ، حيث يستند قصوره عن الحجية حينئذ لاستحالة عمومها عقلا ، لا لعدم الموضوع ، وهو ينحصر بالمتعارضين.

ولأجله يكون البحث في بابين ، يبحث في الأول منهما عن الأدلة التي يكون بعضها دخيلا في العمل بالآخر ، من دون تمانع بينها في الحجية ، إما لعدم التنافي بينها في المؤدى ، أو لعدم بقاء موضوع الحجية في أحدها بسبب الآخر ، وإنما جمعا في باب واحد لتداخل جهات البحث فيهما. ويكون البحث في الباب الثاني عن الأدلة المتعارضة التي يكون بعضها مانعا من حجية الآخر مع تمامية موضوع الحجية فيه.

كما أن المناسب إلحاق البحث في المقام بخاتمة يبحث فيها عن الوظيفة في الحكمين المتزاحمين من حيثية التخيير والترجيح ، وعلاج التزاحم من الناحيتين الثبوتية والاثباتية.

لأن خروج ذلك عن محل الكلام وعدم وضوح الجامع بينهما مانع من جعله من مقاصد البحث. كما أن أهمية وشدة مناسبته للمقام وارتباطه به في بعض الجهات ـ كما يظهر مما تقدم ويأتي ـ مانع من إهماله وملزم بالحاقه به تتميما للفائدة. ونسأله سبحانه وتعالى العون والتوفيق والتأييد والتسديد إنه حميد مجيد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٤

الباب الأول

في الأدلة التي يكون لبعضها دخل في

العمل بالآخر بلا تمانع في الحجية

وقد أشرنا إلى شمول ذلك لما لو لم يكن بين الدليلين تناف في المؤدى ، ولما لو كان بينهما تناف في المؤدى مع ارتفاع موضوع الحجية في أحدهما بالآخر.

إذ من الظاهر أن ترتب العمل على الدليل المفروض حجيته في نفسه موقوف على امور لا يتكفل هو بها ، بل تحرز من جهات أخر ، كتشخيص ظهوره وإحراز إرادة الظهور وصدور الكلام لبيان المراد الجدي وإحراز موضوع الحكم.

فإن كان الدليل الآخر الدخيل في العمل به غير متعرض لمضمونه ، بل كان متكفلا ببعض هذه الجهات ومتعرضا لها نفيا أو إثباتا لم يكن منافيا له في المؤدى ، وكان من القسم الأول.

أما لو تعرض لمضمونه فمع كونه منافيا له فيه إن كان وروده موجبا لارتفاع موضوع الحجية فيه كان من القسم الثاني. وإلا خرج عن القسمين ودخل في التعارض ، الذي يأتي الكلام فيه في الباب الثاني.

وقد أشرنا الى أن تداخل جهات البحث في القسمين المذكورين هو الموجب لجمعهما في باب واحد. والكلام في كل من القسمين ..

٤٥

تارة : في أنحاء دخل بعض الأدلة في العمل بالآخر وأقسام النسب بين الأدلة غير المتعارضة حسبما هو مصطلح عليه بين أهل الفن ، حيث يقع الكلام في تحديد تلك النسب وتوجيه تحكيم أحد الدليلين على الآخر في كل منها.

واخرى : في توجيه تقديم بعض أنواع الأدلة التي بأيدينا على بعض كالطرق على الاصول وبعض الاصول على بعض ، وتحقيق نوع النسبة التي يبتني عليها ذلك من بين النسب المذكورة. ومن هنا يقع الكلام في مقامين ..

٤٦

المقام الأول

في أقسام النسب بين الأدلة غير المتعارضة

حيث عرفت أن هذا النوع من الأدلة قد لا يكون بين أطرافه تناف في المؤدى ، لتعرض أحدها للجهات الدخيلة في العمل بالآخر ، وقد تتنافى مع ارتفاع موضوع الحجية في أحدها بسبب الآخر ، فقد تكرر في كلماتهم بعض العناوين مصطلحين بها على بعض أنواع النسب في الأول ، وهي التخصص والورود والحكومة.

ولعل الأخيرين من مصطلحات شيخنا الأعظم قدّس سرّه التي جرى عليها من بعده ، وإن وقعا في كلام بعض من تقدمه ـ كصاحب الجواهر ـ غير مراد بهما مصطلح خاص ، بل مطلق تقديم أحد الدليلين على الآخر وتحكيمه عليه.

وأما الثاني فصغرياته كثيرة ، كتقديم البينة على اليد ، والإقرار على البينة ، إلا أن الذي وقع موردا للكلام بينهم من حيثية وجهه وصغرياته هو الجمع العرفي الراجع لتقديم أقوى الظهورين على الآخر في استكشاف الحكم والمراد الجدي.

ومن هنا يكون التعرض للنسب الأربع في ضمن فصول ثلاثة ..

٤٧

الفصل الأول

في التخصص والورود

وإنما جمعناهما في فصل واحد لأن معيار الفرق بينهما محتاج لبعض الكلام ، بل قد يكون الأول منهما خارجا عن محل الكلام وهو النسب بين الأدلة.

وقد سبق أن أشرنا إلى توقف العمل بالدليل على تحقق موضوع حكمه وإحرازه.

وبيان ذلك : أن الأحكام الشرعية التي تتكفلها الأدلة لما كانت مجعولة كبرويا بنحو القضايا الحقيقية الفرضية الموضوع ففعليتها في الخارج تدور ثبوتا مدار فعلية موضوعاتها في الخارج وجودا وعدما.

كما أن إحرازها بنحو يصلح لاحداث الداعي العقلي للعمل ـ الذي هو تابع للتنجز ـ يدور وجودا وعدما مدار إحراز موضوعاتها وعدمه ، ومن الظاهر عدم تكفل دليل الحكم بتحقيق موضوعه ثبوتا ، ولا باحرازه إثباتا ، بل هما تابعان لأسبابهما التكوينية أو التشريعية.

وقد تنهض بعض الأدلة بتنقيح موضوعات بعض الأحكام ..

تارة : لكون الدليل بنفسه محققا لموضوع الحكم ثبوتا ـ لا بلحاظ مدلوله ـ كما في الأحكام التي يؤخذ في موضوعاتها قيام الحجة ، كجواز القضاء والفتوى ، حيث يكون قيام الدليل على الحكم محققا لموضوعها بنفسه. وكما في الاصول العقلية التي يكون موضوعها عدم البيان كالبراءة والاشتغال ، حيث يكون قيام الدليل على التكليف أو الامتثال رافعا لموضوعها.

٤٨

وأخرى : لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجود خارجي حقيقي تابع لأسبابه التكوينية ، كالبينة القائمة على عدالة إمام الجماعة أو عدمها ، بالإضافة لجواز الائتمام.

وثالثة : لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجود اعتباري ، تابع للجعل والتشريع ، مثل ما دل على أسباب التملك أو الخروج عن الملك ، كالميراث والبيع والشراء ، بالإضافة لأحكام الملك ، كوجوب الزكاة ، والحج.

إذا عرفت هذا فالمعروف أن التخصص عبارة عن قصور عموم الحكم في مورد لعدم تحقق عنوانه فيه ، كقصور عموم وجوب إكرام العلماء عن الجاهل ، في قبال التخصيص الذي هو عبارة عن قصوره في مورد لدليل مخرج عنه مع تحقق عنوانه ، كقصور العموم المذكور عن النحويين لقيام دليل على حرمة إكرامهم.

أما الورود اصطلاحا فهو عبارة عن خروج المورد عن موضوع الحكم بسبب التعبد ، كقيام الدليل على التكليف الموجب لخروج المورد عن موضوع البراءة العقلية ، وهو عدم البيان ، على ما تقدم في الصورة الأولى.

وقد تكرر في كلام غير واحد أنه من سنخ التخصص وأنه ليس الفارق بينهما بعد اشتراكهما في خروج المورد حقيقة عن موضوع الحكم إلا في استناد الخروج في الورود للتعبد ، لكون الموضوع أمرا قابلا للجعل والاعتبار ، وعدم استناد الخروج في التخصص له ، لكون الموضوع أمرا حقيقيا تابعا لسببه التكويني.

بحيث قد يبدو أن التقابل بينهما للفرق المذكور ناشئ عن التنبه أخيرا للورود وتحديده ، لأن التخصص كمصطلح سابق لم يؤخذ فيه عدم دخل التعبد في الخروج عن الموضوع ، وإنما أخذ فيه ذلك متأخرا للفرق بينه وبين الورود.

فالمقابل للورود هو التخصص بالمعنى الأخص ، وأما التخصص

٤٩

كمصطلح سابق في قبال التخصيص فهو الجامع بين القسمين.

لكن الظاهر أن المقابلة بين الورود والتخصص والتفريق بينهما بذلك ناشئان عن الخلط بين قصور الحكم كبرويا في مقام الجعل عما عدا موضوعه ، وقصور موضوع الحكم وعنوانه في الخارج صغرويا عن شمول الفرد.

توضيح ذلك : أنه إذا حكم الشارع بوجوب إكرام العالم ، وكان زيد جاهلا ، فهناك أمران ..

الأول : قصور الحكم في مقام الجعل عن شمول زيد لكونه جاهلا كما يقصر عن سائر الجهال.

الثاني : قصور العالم في الخارج عن شمول زيد وصيرورته جاهلا.

والتخصص عبارة عن الأول ، لأنه الذي يصح جعله مقابلا للتخصيص ، ولا معنى للترديد فيه بين أن يكون للتعبد ولغيره ، بل ليس هو إلا عبارة عن عدم شمول الحكم لغير موضوعه ، وما يقبل الترديد بين الأمرين هو الثاني ، بلحاظ أن موضوع الحكم إن كان حقيقيا له ما بإزاء في الخارج استند تحققه للأسباب التكوينية ، وإن كان اعتباريا ـ كقيام الحجة ـ استند عدم تحققه للجعل والتعبد ، الذي هو مورد الورود ، فقيام الدليل على التكليف في المثال المتقدم ـ إنما يوجب خروج المورد صغرويا عن عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية وبه يتحقق الورود ، وأما التخصص فهو خروجه بذلك عن حكم البراءة ، لقصور الحكم كبرويا عن صورة وجود البيان.

فالتخصص يجتمع خارجا مع الورود ، ويكون في طوله وإن باينه موضوعا ومفهوما ، وليس مقابلا له ولا أعم منه مفهوما.

وليس المقابل للورود إلا الخروج عن عنوان موضوع الحكم بالسبب التكويني ، كصيرورة زيد جاهلا في المثال المتقدم لتركه التعلم ونسيانه ما تعلم ، وهو أجنبي عن التخصص ، وإن كان مجتمعا معه كالورود.

٥٠

إلا أن يخرج بالتخصص عن المصطلح المعهود المقابل للتخصيص ، فيراد منه المعنى المقابل للورود ، ولا مشاحة في الاصطلاح. إلا أنه لا يظهر منهم في المقام تبديل الاصطلاح فيه ، بل الجريان على المعنى المعهود له ، على أنه لا موجب لتبديله ولا ثمرة فيه.

ثم إن التخصص بالمعنى الذي ذكرناه لا يصلح لأن يكون نحو نسبة بين الأدلة ، لأن قصور الحكم عن غير أفراد العنوان المأخوذ في دليله معنى قائم بالحكم أو بدليله والأفراد المذكورة ، ونحو نسبة بينها ، ولا يتوقف على فرض دليل آخر ، ليكون طرفا لتلك النسبة.

ولو فرض ورود دليل فيه متضمن لحكم مضاد له فالنسبة بين الدليلين التباين ، كما لو كان حكمه مماثلا له ، لعدم دخل أحدهما في العمل بالآخر. فما يظهر من بعضهم من كون ذلك من موارد التخصص بين الدليلين في غير محله.

وكذا لو اريد من التخصص المعنى المقابل للورود ـ الذي تقدم الكلام فيه ـ لأن خروج الفرد عن عنوان الموضوع نحو نسبة بينه وبين الموضوع قائمة بهما وليس الدليل طرفا لها.

نعم ، قد يكون سببا له ، كسائر الأسباب التكوينية ، حيث قد يوجب الدليل تبدل حال المكلف من الشك لليقين ، أو من القلق للاطمئنان ، أو من الحب للبغض.

لكن هذا لا يجعله طرفا للتخصص ، ليكون التخصص من أقسام النسب بين الأدلة ، كالورود.

ومنه يظهر أنه حتى لو فرض تعميم التخصص لاحراز انسلاخ عنوان الموضوع عن الفرد بتعبد ظاهري ، نظير ما تقدم في الصورة الثانية ويأتي في الورود لم يصلح لأن يكون نسبة بين الدليلين ، لأن دليل التعبد سبب للتخصص لا طرف له.

٥١

وبالجملة : التخصص (تفعّل) وهو نحو نسبة بين نفس الحكم أو دليله أو موضوعه ، وبين الفرد ، ولا يكون الدليل طرفا له ، وإن أمكن أن يكون سببا وعلة له. ومن هنا لم يبعد كون ذكر غير واحد له في المقام لتوضيح الورود وتحديده ، للبناء على التقابل بينهما ، لا لكونه من أقسام النسب بين الأدلة التي هى محل الكلام في المقام.

وأما الورود فكونه من النسب بين الأدلة ظاهر ، لأن الدليل الوارد لما كان رافعا لموضوع حكم الدليل المورود وكان الدليل مرتبطا بحكمه صح جعله طرفا للنسبة الاصطلاحية ، لأن النسب متقومة باللحاظ ويكفي فيها أدنى مناسبة.

ومصحّح الاصطلاح المذكور هو كون محل الكلام الأدلة التي يهتم بتعين ما يتعارض منها عن غيره.

ولا ينبغي التأمل في تقديم الدليل الوارد ، لعدم منافاته للمورود ، لأن حكم المورود إنما جعل في ظرف تحقق الموضوع من دون أن يقتضي تحققه ، لينافي مضمون الوارد ، بل يكون الوارد متقدما عليه رتبة تبعا لتقدم مضمونه ، ومقتضى عموم دليل الحجية العمل بكل منهما في مضمونه.

ومن هنا يتجه كون المراد بالموضوع الذي يكون رفعه محققا للورود هو الموضوع الواقعي بما له من خصوصيات وقيود ، سواء استفيدت من عموم دليل الحكم أم من التخصيصات والتقييدات أن المنفصلة ، وليس هو كالتخصص الذي يكون المعيار فيه عدم تحقق عنوان العام ، فاذا وجب إكرام العالم الذي لا حجة على فسقه كانت الحجة على فسق عالم واردة على دليل الحكم المذكور ، سواء استفيد دخل القيد المذكور في الحكم من عموم دليله أم من تخصيص منفصل ، لعدم الفرق في الجهة المذكورة لوجه التقديم الملحوظة في اصطلاح عنوان الورود بين الوجهين ، ولا موجب لتخصيصه بأحدهما وإن كان قد يناسبه مقابلتهم الورود بالتخصص.

٥٢

كما أن الجهة المذكورة بعينها تقتضي تقديم الدليل المحقق لموضوع حكم الدليل الآخر ، الذي هو أحد فرضي الصورة الاولى من الصورة المتقدمة ، لأن الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه لا يقتضي عدمه ، فكما لا يكون الدليل الرافع للموضوع منافيا له لا يكون الدليل المحقق له منافيا له ، بل يكونان معا متقدمين عليه رتبة. ومن ثم قد يحسن تعميم اصطلاح الورود لذلك أيضا.

كما قد يحسن تعميمه للصورتين الأخيرتين من تلك الصور أيضا اللتين فيهما كون أحد الدليلين محرزا لموضوع حكم الدليل الآخر أو لعدمه ظاهرا ، لنظير الوجه المذكور ، فإن دليل جعل الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه ولا عدمه ، كذلك لا يقتضي إحراز أحد الأمرين ، فلا ينافي الدليل المحرز لأحد الأمرين.

ولعل إلحاقهما بالورود أولى من إلحاقهما بالحكومة (١) ـ وإن كان لا مشاحة في الاصطلاح ـ لأن التعبد بالموضوع وإن كان مستلزما للتعبد بحكمه ، إلا أنه لا يبتني على النظر للحكم ولا لدليله الذي هو المعيار في الحكومة بقسميها الآتيين.

ولا فرق في ذلك بين الصورتين ، لأن أثر الدليل هو إحراز الموضوع أو عدمه ظاهرا المشترك بينهما ، لا تحقيق الموضوع أو رفعه واقعا ، ليقصر عن الصورة الثانية ، بلحاظ استناده فيها للسبب التكويني ، ويتجه إلحاقها بالتخصص ، بناء على مقابلته للورود ، على ما سبق ، بخلاف الثالثة التي فرض فيها كون موضوع الحكم خاضعا للجعل والاعتبار.

وعلى هذا يكون الورود عبارة عن كون أحد الدليلين رافعا لموضوع حكم الآخر أو محققا له واقعا في عالم الجعل والاعتبار ، أو محرزا ظاهرا لتحقق

__________________

(١) كما قد يظهر من بعضهم. بل صريح بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل المحرز لموضوع الحكم حاكم على دليله حكومة ظاهرية.

٥٣

موضوع حكمه أو لعدمه في عالم التكوين أو الاعتبار.

ولنخص الثاني باسم الورود الظاهري ، فرقا بينه وبين الأول ، الذي هو المتيقن في الجملة من مصطلحهم في الورود.

ثم إن ارتفاع الموضوع ظاهرا وإحراز عدمه في الصورة الثالثة وإن استند لدليل التعبد ، إلّا أنه لا بد أن يكون الرافع له واقعا نفس المجعول المتعبد به ، وهو الحكم الشرعي المحرز به ، كالحكم بخروج المال عن الملك ببيعه الذي يكون رافعا لوجوب الزكاة المأخوذ فيه الملكية. ومن هنا قد يتوسع وينسب الورود لنفس الحكم ، ويراد منه الورود الواقعي ، وإن كان الورود في مصطلحهم نسبته بين الدليلين لا بين الحكمين.

وقد يكون ذلك بين حكمين من الطرفين ، بأن يكون كل منهما مقيدا بقيد يرفعه الآخر ، ويعبر عنه بتوارد الحكمين ، كما لو تعلق النذر ونهي الأم بشيء واحد ، فإنه حيث يعتبر في انعقاد النذر رجحان المنذور يكون عموم مرجوحية معصية الأم محرزا لارتفاع موضوع وجوب الوفاء بالنذر ، كما أنه حيث يعتبر في مرجوحية معصية الأم ألا يكون متعلق أمرها محرما شرعا يكون عموم وجوب الوفاء بالنذر محرزا لارتفاع موضوع مرجوحية معصية الأم.

ولا مجال للترجيح بالأهمية وما يشبهها ، ككون أحد الحكمين الزاميا دون الآخر ، لأنه مختص بتزاحم التكليفين في ظرف إحراز ملاك كل منهما تبعا لتمامية موضوعه ، ويتعذر ذلك في المقام ، لأن التوارد بين الحكمين مستلزم لارتفاع موضوعيهما معا في المرتبة اللاحقة لتحقق عنوانيهما ، فلا يحرز ملاكاهما ، ليقع التزاحم بينهما ، وأهمية أحدهما ثبوتا لا تقتضي إحرازه إثباتا مع عدم تحقق موضوعه.

إن قلت : عدم تمامية موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما ومقتضاهما إنما يمنع من فعليتهما في هذه المرتبة ، أما في المرتبة الثالثة

٥٤

اللاحقة لها ، فيتم موضوع كل منهما ، لفرض تحقق قيده بسبب سقوط كل منهما عن الفعلية في المرتبة السابقة عليها ، فلا يكون رافعا لموضوع الآخر ، ومع تمامية موضوعيهما يتم ملاكاهما ، ويتعين إجراء أحكام التزاحم عليهما.

قلت : بعد بطلان المقتضيين وامتناع تأثيرهما في المرتبة اللاحقة لحدوثهما لعدم تمامية موضوعيهما فلا مجال للبناء على فعلية أثريهما في المرتبة الثالثة ، لظهور أدلتهما في اتصال أثريهما بهما ، لا انفصالهما عنهما ، بل هو محتاج لدليل خاص ، نظير العقد الفضولي الذي يكون أثره فعليا بالإجازة المنفصلة عنه.

على أن تحقق قيد كل منهما في المرتبة المذكورة ـ نظير تحققه في المرتبة السابقة على حدوث عنوانيهما ومقتضاهما ـ لا ينفع في تمامية موضوعيهما بنحو يترتب عليه فعلية الغرض مع التوارد بينهما في جميع الموارد ، لأن تمامية موضوعيهما في كل مرتبة تستلزم ارتفاعهما في المرتبة اللاحقة لها ، فلا يصلح كل منهما لأن يكون موضوعا للغرض الفعلي الصالح للداعوية ، ليكون من صغريات التزاحم.

هذا ، وقد تكرر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه الترجيح بالسبق الزماني ، مدعيا أنه مقتضى الجمع العرفي قال : «تنزيلا للعلل الشرعية منزلة العلل العقلية ، فكما أن العلل العقلية يكون السابق منها رافعا للاحق ، كذلك العلل الشرعية ، فيلغى احتمال كون اللاحق رافعا لموضوع السابق ، وإن كان احتمالا معقولا في العلل الشرعية ، لكنه لا يعتنى به في مقام الجمع بين الدليلين» (١).

أقول : احتمال كون اللاحق رافعا لموضوع السابق وإن كان معقولا ـ كما ذكره قدّس سرّه ـ إلا أنه مخالف لفرض التوارد بين الحكمين وتوقف تمامية موضوع

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ، كتاب الحج ، المسألة الثانية والثلاثون من فصل شرائط وجوب حجة الاسلام ، ج : ١٠ ص : ١١٩ ، الطبعة الثالثة.

٥٥

كل منهما على عدم فعلية الآخر ، لأن مقتضاه اعتبار عدم كل منهما في مرتبة سابقة على فعلية الآخر ، كما هو الحال في سائر قيود الموضوع ، بحيث لو كان موجودا كان مانعا منه ، فلا يكون اللاحق فعليا كي يرفع السابق في المرتبة اللاحقة لحدوثه.

ولو فرض رفع اللاحق للسابق لزم كون موضوع اللاحق مطلقا بالإضافة إلى السابق غير مقيد بعدمه ، كي يمكن فعليته مع وجوده ليرفعه في المرتبة اللاحقة ، وهو خارج عن مفروض الكلام.

فالترجيح بالسبق الزماني لا بد منه في مفروض الكلام من توارد الحكمين ، وليس مبنيا على الجمع العرفي. ولا يظن من أحد التشكيك فيه.

وما وقع من بعضهم من المنع منه في بعض الموارد مبني على إنكار الصغرى بدعوى أن الورود فيه من أحد الطرفين ، لا من كليهما.

وليس الكلام في المتواردين إلا في صورة التقارن التي يكون مقتضى القاعدة فيها التساقط ، لعدم تمامية موضوع كل من الحكمين في المرتبة اللاحقة لتحقق مقتضاهما.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا تنافي بين الدليلين ليحتاج للجمع العرفي بينهما ، لأن إطلاق كل منهما إنما يقتضي فعلية حكمه في المرتبة اللاحقة لتمامية موضوعه ، لا مطلقا ، فعدم فعلية اللاحق لعدم تمامية موضوعه في المرتبة السابقة لحدوث عنوانه ومقتضيه لا ينافي إطلاقه ، كما أن عدم فعليتهما معا في صورة التقارن لارتفاع موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما بسبب مانعية كل منهما من الآخر ورفعه لموضوعه لا ينافي إطلاقيهما معا.

ومن هنا يخرج المورد عن التعارض والتزاحم معا ، لعدم تحقق شرطهما ، وهو التنافي بين الحكمين ، لعدم تمامية موضوعيهما.

نعم ، لو علم من الخارج بفعلية أحدهما إجمالا فحيث كان مرجع ذلك

٥٦

إلى تقييد إطلاق شرطيته بالخصوصية المرتفعة بالآخر كان من صغريات التعارض لأمر خارج ، للعلم بكذب أحد الإطلاقين من دون تناف بينهما لذاتيهما. كما أنه لو كان مرجع تقييد موضوع كل من الحكمين بالقيد المرتفع بالآخر هو اعتبار وجوده في مرتبة المقتضي له وإن ارتفع بعد ذلك ، بأن يكون كل منهما مانعا من تمامية موضوع الآخر لا رافعا له بعد تماميته ، لتم موضوع كل منهما في فرض تقارنهما المستلزم لتمامية ملاكه ، ودخل المورد في التزاحم إن تحققت بقية شروطه ، وإلا دخل في التعارض.

لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام في توارد الحكمين بل لعلّ لا وجه له في الخارج.

بقي في المقام أمران :

الأول : أنه لو كان أحد المقتضيين مؤثرا بحدوثه فقط ، والآخر مؤثرا بحدوثه وبقائه تعيّن فعلية أثر الثاني مع تقارن حدوثهما ، لأن عدم تمامية موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لاجتماعهما إنما يمنع من فعلية تاثير حدوثهما ، فيؤثر الثاني ببقائه ، لعدم الرافع لموضوعه بعد فرض سقوط تأثير الأول بحدوثه وعدم تأثير بقائه.

أما مع سبق أحد المقتضيين فالأثر له مطلقا ، لأن فعلية أثره تبعا لحدوثه كما تمنع من تأثير الآخر بحدوثه لعدم تمامية موضوعه تمنع من تأثيره ببقائه لذلك أيضا.

والظاهر أن مثل النذر والاجارة من الامور المتقومة بالجعل والإنشاء من الأول ، بل لا بقاء في الحقيقة للمقتضي فيها ، كما أن مثل ملكية الزاد والراحلة في الاستطاعة للحج من الثاني ، وكذا مثل أمر الوالدين ونهيهما ، لأن ملاك رجحان المأمور به ومرجوحية المنهي عنه ارتكازا هو موافقة الإرادة والكراهة القابلين للبقاء ، وليس الأمر والنهي إلا كاشفين عنهما ، ولذا لو حدثت ملكية الزاد

٥٧

والراحلة أو أمر الوالدين في حال فقد شرط تأثيرهما ـ كما في الصبي ـ ثم تحقق الشرط أثّرا ببقائهما ، بخلاف مثل النذر والإجارة.

الثاني : أنه قد يتوهم أن توارد الحكمين مستلزم لتقدم كل منهما على الآخر رتبة ، بل للدور ، حيث يكون وجود كل منهما رافعا للآخر ومن أجزاء علة عدمه وعدمه شرطا له ومن أجزاء علة وجوده.

ويندفع بأن الحكم ليس معلولا للموضوع حقيقة ، بل للجعل والاعتبار الشرعي ، واعتبار كل من الحكمين مباين لاعتبار الآخر ، وليس الموضوع إلا ظرفا لاعتبار كل من الحكمين ، ولا مانع من عدم جمع الشارع للحكمين بجعلهما في عرض واحد ، لعدم فعلية غرضيهما وملاكيهما كذلك ، المستلزم لكون فعلية كل من الحكمين ظرفا لعدم الآخر وعدمها شرطا في تحقق الآخر ، وإذا لم يكن الحكم معلولا للموضوع أمكن كونه علة له في المقام دون أن يلزم محذور الدور.

٥٨

الفصل الثاني

في الحكومة

سبق أن موضوع الكلام هو الدليلان الدخيل أحدهما في ترتب العمل على الآخر ، وحيث تقدم في الفصل الأول الكلام في ما لو كان أحد الدليلين متكفلا بتنقيح موضوع حكم الدليل الآخر ثبوتا أو إثباتا يبقى الكلام في بقية الأقسام في المقام ، وهي ثلاثة ..

الأول : أن يتكفل أحد الدليلين ببيان بعض الجهات التي يبتني عليها استفادة الحكم الذي يترتب عليه العمل من الآخر مما لا يتكفل هو به ، بل يستند لجهات أخر ، كتعيين معاني المفردات وظهور الكلام ومراد المتكلم منه أو بيان بعض القرائن المحيطة بالكلام الموجبة لتبدل ظهوره ، أو جهة صدوره كالتقية ، مثل ما في صحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السّلام : «سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا. قال : يعيد. قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه؟ فقال : إنما ذلك في الثلاث والأربع» (١).

وحديث علي بن المغيرة : «قلت لأبى عبد الله عليه السّلام : جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال : لا. قلت : بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله مرّ بشاة ميتة فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها (بجلدها. خ. ل) : قال : تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما كان على أهلها إذ لم

__________________

(١) الوسائل ، ج : ٥ ، باب : ٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، حديث : ٣.

٥٩

ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها. أي : تذكى» (١) ، وغيرهما.

ومن الظاهر أن هذا السنخ من الأدلة متفرع على الدليل المتعرض له تفرع المفسّر على المفسر.

كما أنه يكون ناظرا إليه من حيثية دليليّته إما تفصيلا ـ كما في الخبرين المتقدمين ـ أو إجمالا ، كما في ما يتضمن بيان معاني المفردات ، كما ورد في تفسير المذي والوذي والودي (٢) ، لوضوح رجوعه إلى بيان ما هي ظاهرة فيه في جميع موارد استعمالها ، وإن لم يرد لشرح دليل خاص.

ومن ثمّ لا يلزم تأخره عنه زمانا ، بل يمكن تقدمه عليه مع نظره إليه إجمالا وتفسيره له على فرض وجوده بنحو القضية التعليقية.

كما أنه حيث كان ناظرا للدليل من حيثية دليليته فلا يلزم نظره للحكم المدلول له ولا تحديده وشرح حاله ، بل غاية ما يقتضيه تحديد دلالة الدليل على الحكم ومدى استفادته منه ، وإن كان الحكم في الواقع أوسع أو أضيق من مدلول الدليل. فمثلا ما تضمنه الخبر المتقدم من شرح قصة الشاة الميتة إنما يمنع من استفادة حلية الانتفاع بجلد الميتة من كلام النبي صلّى الله عليه وآله ولا ينافي جواز الانتفاع بها لدليل آخر.

نعم ، قد يقتضي ذلك لخصوصية فيه زائدة على النظر للدليل وشرحه ، كما هو الحال في الخبر المذكور ، لوروده في مقام الردع عن جواز الانتفاع بالجلد.

الثاني : أن يكون أحد الدليلين ناظرا للحكم الذي تضمنه الآخر ومبينا لحاله بنحو خاص ، كأدلة التنزيل الموسعة للموضوع ، كالنبوي : «الطواف بالبيت

__________________

(١) الوسائل ، ج : ٢ باب : ٦١ من أبواب النجاسات حديث : ٢٠.

(٢) الوسائل ، ج : ١ باب : ١٢ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٦.

٦٠