المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

وربما يظهر الأثر لذلك في بعض التنبيهات الآتية ، على ما نتعرض له إن شاء الله تعالى.

وينبغي التنبيه على أمور ..

الأول : التعارض بين أكثر من دليلين ينشأ ..

تارة : من منافاة مؤدى كل منها لمؤدى غيره ، كأدلة وجوب الشيء وحرمته وإباحته.

وأخرى من منافاة مؤدى كل منها لمجموع مؤدى الباقي ، كأدلة وجوب القصر ووجوب الصيام والتلازم بين القصر والإفطار.

أما الأول فلا ينبغي التأمل في جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم ، بل هو راجع للتعارض بين دليلين ، غايته أن عدم المرجح لأحدها بالنحو الموجب لملاحظة التعارض بين اثنين منها وتساقطهما ، ثم الرجوع للثالث ، موجب لسقوط الكل.

وأما الثاني فالظاهر جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم أيضا ..

أما على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في تقريبها فظاهر ، للعلم إجمالا بكذب أحدها ، المستلزم لخروجه عن الحجية ، واشتباه الحجة باللاحجة في المورد.

وأما على ما ذكرنا فلأن المدلول الالتزامي لكل منها كذب أحد الأدلة الباقية إجمالا ، كما أن المدلول الالتزامي لمجموع الأدلة الباقية كذبه بعينه ، فالتعبد به معها تعبد بالنقيضين. وبهذا يفترق المقام عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، الذي تقدم في محله جوازه في الجملة ، لعدم حجية الأصول في لازم مجراها ، فلا تناقض بين المعلوم بالإجمال ومفاد الأصول.

ولو فرض حجيتها في لازم مجراها فالتناقض بينه وبين المعلوم بالإجمال وإن كان حاصلا ، إلا ان المعلوم بالإجمال ليس موضوعا للتعبد

١٤١

الشرعي ، ليلزم التعبد بالنقيضين. غاية ما يلزم هو العلم بكذب أحد الأصلين على ما هو عليه من الإبهام والترديد ، من دون أن ينطبق على كل منهما بعينه ، ليوجب خروجه عن موضوع الأصل.

نعم ، بناء على حجية الأصل في لازم مجراه قد يلزم في مورد العلم الإجمالي التكاذب بين الأصلين فيدخل في التعارض بين الدليلين.

هذا ، ولو فرض ترجيح أحد الأدلة المتعارضة تمحض التعارض في الباقي ، فلو فرض في المثال السابق ترجيح دليل التلازم بين القصر والإفطار كان دليل القصر بمدلوله الالتزامي مكذبا لدليل الصيام وبالعكس ، إذ بعد فرض ثبوت الملازمة ـ بمقتضى فرض حجية الثالث ـ يكون الدليل على أحد المتلازمين دليلا على الثاني ونافيا لضده.

ومن هنا يظهر أنه لا يعتبر في التعارض بين الأدلة كون مؤدى كل منها موردا للتعبد الشرعي ، فلو فرض عدم كون بعضها موردا للتعبد ـ إما لعدم وروده في أمر عملي ، بل في قضية تاريخية تستلزم حكما شرعيا ، أو لخروج مورده عن ابتلاء المكلف ـ كان طرفا للمعارضة بلحاظ مدلوله الالتزامي المناقض لباقيها.

نعم ، لا بد من كونه حجة في لازم مؤداه ، وإلا لم يجر الوجه المتقدم ، لعدم التناقض ولا التضاد بين المؤديات ، لوضوح أنهما إنما يقومان بطرفين لا أكثر ، بخلاف التعارض بين دليلين ، حيث يمكن تناقض مؤدييهما وإن لم يكونا حجة في اللازم.

الثاني : تنافي التعبدين الظاهريين ينشأ ..

تارة : من تنافي مضمونيهما ثبوتا ، كما لو كانا متناقضين أو متضادين ، ولو بلحاظ المدلول الالتزامي.

وأخرى : من مانع خارجي ، كما في التعبد بالترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي ، لوضوح أنه لا محذور في الترخيص في تمام الأطراف واقعا ،

١٤٢

وإنما يمتنع ظاهرا بلحاظ منجزية العلم الإجمالي.

أما الأول فهو المتيقن من محل الكلام.

وأما الثاني فقد سبق في الأمر الرابع من التمهيد أنه لا بد في صدق التعارض من تنافي المضمونين ، ولازم ذلك عدم صدقه فيه ، إلا أنه تكرر في كلماتهم إطلاقه. وكأنه بلحاظ تنافي الجعلين ، لامتناع الجمع بينهما ولو بلحاظ المانع الخارجي المذكور.

وكيف كان ، فالظاهر جريان ما سبق في وجه أصالة التساقط فيه ، أما بناء على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه فظاهر ، للعلم بكذب أحدهما ، كما أشرنا إليه عند التعرض لكلامه ، وذكرنا أن لازمه عدم تحقق موضوع أحد الأصلين مع العلم بكذب أحدهما إجمالا مطلقا وإن لم يكن منجزا. فراجع.

وأما بناء على ما ذكرنا فلأنه وإن لم يلزم من التعبد بهما معا التعبد بالضدين أو النقيضين ، إلا أن المفروض امتناع جعل كلا التعبدين ، وحيث لا مرجح لأحدهما ، لاشتراكهما في شمول عموم التعبد لهما ذاتا ، وفي الجهة المانعة من فعلية التعبد ، وهي مخالفة العلم الإجمالي ، تعين سقوط التعبد عن الفعلية فيهما معا.

وقد سبق في أول الكلام في مباحث العلم الإجمالي تفصيل الكلام في قصور الأصول عن أطراف العلم الإجمالي. فراجع.

وهكذا الحال في سائر موارد عدم شمول العموم لكلا الفردين لجهة قائمة بهما معا ، فإن عدم المرجح لأحدهما يقتضي سقوط حكم العام عنهما معا وإن كفى في رفع المحذور سقوطه عن أحدهما.

أما إذا كانت الجهة مانعة من شمول أحدهما بعينه وخصوصيته وترددت بينهما ، فإن مقتضى أصالة العموم بقاء أحدهما تحت العام ، واقتصار التخصيص على أحدهما ، ويكون من اشتباه الحجة باللاحجة.

١٤٣

وكذا لو تردد حال الجهة الموجبة للتخصيص بين الوجهين ، للزوم الاقتصار في التخصيص على المتيقن.

ولا مجال لتخيل أن عدم المرجح لأحدهما يقتضي قصور العموم عنهما معا. لفرض المرجح لأحدهما يقينا في الأول ، وبمقتضى أصالة العموم في الثاني.

غايته أنه لا طريق لتعيين الراجح ، وهو لا يقتضي الحكم بالتخصيص في كلا الفردين ، بل عدم تعيين مورده منهما ، الراجع لما ذكرناه من اشتباه الحجة باللاحجة.

بخلاف محل الكلام في المقام ، لفرض العلم فيه بعدم المرجح لأحد الفردين في الجهة الموجبة للتخصيص ، كما سبق.

نعم ، قد يحتمل وجود مرجح لأحدهما خارج عن تلك الجهة قابل للاجتماع معها ، بلحاظ أنها إنما تقتضي أولا وبالذات عدم الجمع بين الفردين في الدخول في حكم العام ، لا خروجهما معا عنه ، وحيث كان المرجح المذكور من سنخ المانع عن تأثير تلك الجهة ، فلا مجال للتعويل عليه في الحكم بدخول أحد الفردين إجمالا تحت العام ، بل يحكم بخروجهما معا ما لم يثبت المرجح المذكور.

وإن شئت قلت : حيث سبق أن المناسبات الارتكازية العرفية تقتضي البناء على حجية كل من المتعارضين اقتضاء لا فعلا لمانعية الآخر له قياسا على الحجج العرفية ، فترجيح أحدهما وثبوت الحجية الفعلية له لما كان مخالفا للارتكاز المذكور احتاج لدليل.

وقد ظهر من ذلك : أن نفي المرجح في المقام لأحد الفردين إنما هو بلحاظ الجهة المانعة من العموم ، لا مطلقا ومن جميع الجهات ، وإلا فهو محتمل لا محرز لعدمه. غاية الأمر أنه لا يعول على احتماله في البناء على دخول أحد

١٤٤

الفردين إجمالا تحت العام بعد اشتراكهما في الجهة المانعة من العموم لهما معا. فلاحظ.

الثالث : لا فرق في جريان أصالة التساقط في المتعارضين بين التساوي في التخصيص اللازم من سقوط كل منهما عن الحجية والتفاضل فيه ، لزيادة أحد طرفي التعارض كمية أو دليلا ، فكما يكون الأصل التساقط عند معارضة صحيحة لاخرى ، يكون هو الأصل عند معارضة صحيحتين لصحيحة ثالثة ، وعند معارضة صحيحة لموثقة ، وإن كانت الصحيحة مشاركة للموثقة في أدلة الحجية وتزيد عليها بدليل حجية خبر العادل أو المؤمن.

لعدم وضوح مرجحية الكمية في نفس المتعارضين أو في دليل حجيتهما ، وقد سبق في التنبيه الثاني أن احتمال الترجيح ما لم يثبت لا يعتد به.

وما اشتهر من لزوم الاقتصار على أقل التخصيص عند الدوران بينه وبين الأكثر ، إنما هو مع العلم بمورد التخصيص الأقل والشك في ما زاد عليه ، حيث تسقط أصالة العموم بالإضافة للأقل بالعلم ، ويشك في الخروج عنها في الزائد ، لا مع الدوران بين تخصيصين أحدهما أكثر من الآخر ، من دون مورد متيقن للتخصيص الأقل ، كما هو نظير المقام.

نعم ، إذا أوجبت الكثرة في أحد الطرفين ارتفاع موضوع الحجية في الآخر ، للقطع بخطئه أو نحوه ، تعين العمل بالأكثر. لكنه خارج عن فرض التعارض بين الحجتين.

الرابع : لا فرق في جريان أصالة التساقط بالوجه المتقدم بين مقطوعي الصدور دون الدلالة ، ومقطوعي الدلالة دون الصدور ، ومظنوني الصدور والدلالة ، والمختلفين.

غايته أن طرف المعارضة في المقطوع من إحدى الجهتين هو دليل الحجية في الجهة الاخرى ، وفي المظنون منهما معا هو دليل الحجية من

١٤٥

الجهتين ، وقد عرفت في الأمر السابق عدم الترجيح بكمية أدلة الحجية.

ولا مجال لترجيح مقطوعي الصدور أو الدلالة على غيرهما بلحاظ عدم صلوح المظنون لمعارضة المقطوع ، لأن طرف التعارض في المقطوع لا يكون هو الجهة المقطوعة ، من الدلالة أو الصدور ، بل الجهة الاخرى غير المقطوعة.

نعم ، يخرج عن ذلك موارد الجمع العرفي بالملاك المتقدم.

كما لا مجال لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم التساقط في مقطوعي الصدور ، مظنونى الدلالة ، بل يجب الأخذ بهما معا مع تأويلهما وصرفهما عن ظاهرهما ، بل ظاهره الاتفاق على ذلك.

لأن صرفهما عن ظاهرهما إن كان بنحو الجمع العرفي خرج عن محل الكلام من فرض استحكام التعارض ، وإن كان بنحو التأويل والجمع التبرعي ، فلا دليل عليه ، بل الدليل على عدمه ، لما سبق عند الكلام في قاعدة : ان الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

والاتفاق إنما هو على عدم العمل بظاهرهما ، لفرض تعارضهما ، وعدم الحكم بكذب أحدهما ، لفرض القطع بصدورهما ، لا على العمل بهما بعد التأويل بنحو يستكشف منهما مراد المتكلم ، بل يتعين تساقطهما وعدم صلوحهما لبيان مراده ، بل يرجع فيه لدليل آخر إن كان.

الخامس : أصالة التساقط في المتعارضين هل ترجع إلى سقوطهما عن الحجية مطلقا أو في خصوص ما ينفرد به كل منهما مع حجيتهما في ما يشتركان فيه ، وهو نفي الثالث؟

لا ينبغي التأمل في الثاني بناء على ما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه في تقريب أصالة التساقط من كون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة ، لوضوح أن اشتباه الحجة منهما لا يوجب سقوطه في القدر المشترك بينهما ، فيكون هو الحجة على نفي الثالث ، كما صرح به قدّس سرّه. بل عن بعضهم أن كلا منهما

١٤٦

يكون حجة عليه حينئذ بمقتضى مدلولهما الالتزامي ، بناء على ما يأتي الكلام فيه من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية. ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في المبنى المذكور.

وأما بناء على ما ذكرنا من سقوطهما معا عن الحجية فلا ينبغي التأمل أيضا في نفي الثالث لو علم إجمالا بصدق أحدهما. لكنه راجع للعلم بنفيه ، لا لحجيتهما في ذلك.

أما لو احتمل كذبهما معا فقد اختلفت كلماتهم في ذلك فقد ذهب جماعة إلى حجيتهما في نفي الثالث ، على اختلاف منهم في عموم ذلك والتفصيل فيه ، على ما سيظهر.

قال سيدنا الأعظم قدّس سرّه : «لأنهما وإن سقطا عن الحجية معا ، لكن في خصوص ما يتكاذبان فيه ... لا ما يتفقان عليه ، لعدم تكاذبهما فيه فلا يسقطان عن الحجية فيه» وقد سبقه إلى ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

وقد يستشكل في ذلك : بأن دلالتهما على ما يتفقان فيه وهو نفي الثالث فرع دلالة كل منهما على ما ينفرد به ، لكونه لازما له ، فاذا فرض تكاذبهما في ما ينفردان فيه وسقوطهما عن الحجية فيه تعين سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث تبعا لذلك. ومرجع ذلك إلى سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية تبعا للدلالة المطابقية. وقد أشار قدّس سرّه إلى المنع من ذلك ، كما هو مبنى غير واحد.

فقد ذكروا أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في الوجود ، إلا أنها غير تابعة لها في الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بسبب التكاذب لا يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية بعد فرض عدم التكاذب فيها ، نعم ، خصه قدّس سرّه بما إذا ساعد عليه الجمع العرفي وجعل منه المقام. وحيث كان المبنى المذكور من أهم مباني المسألة التي تبتني عليها الأقوال فيها ، كما يبتني عليه الكلام في غير مقام فالمناسب تحقيقه والنظر في المهم من كلماتهم

١٤٧

فيه ..

فاعلم أن عدم التلازم بين الدلالتين في السقوط عن الحجية هو الذي أصر عليه غير واحد ، لدعوى : لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم الحجية على المورد الذي يقتضيه دليل التخصيص ، فقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية ، أي : دلالته على المؤدى ، وأما كون المؤدى مرادا فهو مما لا تتوقف عليه الدلالة الالتزامية ، فسقوط المتعارضين عن الحجية في نسبة المؤدى للمتكلم لا يقتضي سقوطهما عن الحجية في الدلالة الالتزامية التي يبتني عليها نفي الثالث.

وقد استشكل في ذلك غير واحد من مشايخنا ..

تارة : بالنقض.

واخرى : بالحل.

أما الأول : فقد ذكر بعض مشايخنا جملة من النقوض التي لا مجال لاطالة الكلام فيها وفي خصوصياتها ، إلا أن شيخنا الاستاذ قدّس سرّه ذكر أنهم لا يلتزمون بذلك في الموضوعات.

ولعل الاولى التمثيل لذلك بما يناسب ما ذكره هو وبعض مشايخنا وهو ما لو كان في يد زيد مال مدعيا ملكيته ، وقامت بينة بأنه ملك عمرو ، واخرى بأنه ملك بكر ، حيث لا يظن منهم البناء على أنه بعد تساقط البينتين في إثبات ملكية من شهدت له يبقيان حجة في ما يتفقان فيه من المدلول الالتزامي وهو عدم ملكية زيد ، فتسقط يده عن الحجية ، ولا يجوز ترتيب أثر ملكيته له من جواز شرائه منه والتصرف فيه بإذنه. ويأتي في آخر الكلام في حجة القول الأول ما يتعلق بذلك.

وأما الثاني فبدعوى : أن المدلول الالتزامي لكل منهما ليس متحدا مع المدلول الالتزامي للآخر ، إذ مدلول كل منهما ليس هو وجود اللازم مطلقا ، بل

١٤٨

خصوص الحصة المقارنة للمدلول المطابقي ، فهما يتكاذبان في المدلول الالتزامي كما يتكاذبان في المدلول المطابقي ، فالمدلول الالتزامي لدليل الحرمة مثلا هو عدم الاباحة المقارن للحرمة ، لا مطلقا ، كما أن مدلول دليل الوجوب الالتزامي هو عدم الاباحة المقارن للوجوب ، فمع فرض تكاذبهما في الوجوب والحرمة يتكاذبان في عدم الاباحة الملازم لكل منهما والمدلول لدليليهما. وكما يكون التكاذب مسقطا لهما عن الحجية في الوجوب والحرمة يكون مسقطا لهما عنها في الحصتين الخاصتين من عدم الاباحة.

هذا حاصل ما ذكره بعض مشايخنا وحكي عن شيخنا الاستاذ قدّس سرّه.

وأما دعوى : أن عدم الإباحة لا تحصص له في نفسه ، وليس اللازم لكل من الوجوب والحرمة إلا ذاته ، فيتفق فيها الدليلان معا.

فهي ممنوعة ، فإن عدم الإباحة متحصص في نفسه ، ولذا لو صرح في كل من الدليلين بفرد منه لم يتفقا في مدلول واحد.

والتلازم وإن كان نسبة بين الملزوم واللازم بذاتيهما ، إلا أن ما يحكي عنه الدليل على الملزوم هو خصوص ما يقارنه من أفراد اللازم.

نعم ، قد يقال : التكاذب بين المتعارضين في كل من خصوصيتي اللازم لا أثر له ، لعدم إناطة الآثار العملية بالخصوصيات ، بل بذات اللازم ـ كعدم الإباحة ـ على ما هو عليه من سعة. وترتب أثر الذات على دليل الخصوصية ، إنما هو لاستلزام الذات المطلقة للخصوصية.

وحينئذ إن بني على أن تكاذب الدليلين في الملزوم مانع من حجيتهما في اللازم لم يحتج لتحصص اللازم وإثبات تكاذبهما في حصصه. وإلا لم ينفع تحصصه ، لأنهما وإن تكاذبا في خصوصية حصصه متفقان في الحكاية عن ذاته التي هي موضوع الأثر على ما هي عليه من سعة.

ولذا لو صرح في دليل الحجية بحجية المتعارضين في نفي الثالث لم

١٤٩

يكن ذلك راجعا إلى حجيتهما في أمر خارج عن مؤداهما ولا في أمر يتكاذبان فيه ، بل إلى التفكيك بين مؤدياتهما في الحجية وقصر حجيتهما على ما يتفقان فيه.

فلعل الأولى أن يقال : المدلول الالتزامي ..

تارة : يراد به ما يساق الكلام لبيانه ببيان الملزوم ، بأن يكون المتكلم في مقام الحكاية عنه ، نظير الكنايات.

وأخرى : يراد به ما لا يستفاد من الكلام إلا لمحض الملازمة الواقعية بينه وبين مؤداه ، من دون أن يكون المتكلم في مقام بيانه ولا بصدد الحكاية عنه ، إما لاعتقاده عدم الملازمة ، أو غفلته عنها أو عدم تعلق غرضه ببيان اللازم.

أما الأول فيصدق عليه عنوان الخبر والشهادة وظاهر الكلام ونحوها من موضوعات الحجية ، كما تصدق على المدلول المطابقي ، ويشتركان معا في الدخول تحت عموم الحجية.

فيتجه ما سبق ، في توجيه التفكيك بينهما في السقوط عن الحجيّة من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي لاختصاص المانع عن الحجية به ، ويبقى المدلول الالتزامي حجة بمقتضى العموم بعد كونه فردا آخر له في قبال المدلول المطابقي.

وأما الثاني فلا تصدق عليه عناوين موضوعات الحجج من الخبر والشهادة ونحوهما ، لتوقفها على قصد الحكاية وبيان المؤدى ، وإنما بني على الحجية فيها توسعا في إعمال عمومها في المدلول المطابقي وتبعا له ، بضميمة المرتكزات العقلائية التي يبتني عليها عموم الحجية ، من دون أن يكون فردا آخر للعموم في قبال المدلول المطابقي ، على ما سبق التعرض له في لواحق مبحث الأصل المثبت في بيان الفرق بين الأمارة والأصل.

ومن هنا لا يتجه ما سبق من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي في

١٥٠

السقوط عن الحجية ، لاختصاص منشئه به ، مع الرجوع في المدلول الالتزامي لعموم الحجية. لما عرفت من عدم كون المدلول الالتزامي فردا آخر للعموم ، ليتعين الرجوع إليه فيه عند الشك في تخصيصه.

بل لا بد من ملاحظة بناء العقلاء ومرتكزاتهم في عموم الحجية للازم أو قصورها عما إذا لم يكن الدليل حجة في المدلول المطابقي. والظاهر أنه يختلف باختلاف منشأ عدم الحجية فيه ..

فإن كان ناشئا من قصور في طريقية الطريق كان مستتبعا لعدم حجيته في اللازم ، لتفرع طريقيته عليه عندهم على طريقيته على الملزوم ، سواء كان ذلك لعدم طريقيته رأسا ، كما لو علم بكذبه فيه ، وإن احتمل تحقق اللازم ، أم لعدم طريقيته شرعا ، كما لو شهد كل من الشاهدين بأمر مباين لما شهد به الآخر ، واشترك كلا الأمرين المشهود بهما في لازم واحد ، أو شهدت البينة في الحسيات عن حدس ، كالشهادة اعتمادا على الحساب بهلال شهر إذا استلزم تعيين هلال شهر آخر ، وغير ذلك.

أما إذا كان عدم حجية الطريق في المدلول المطابقي ناشئا من خصوصية فيه يمتاز بها عن اللازم تمنع من ثبوته بالطريق من دون قصور في طريقية الطريق ولا في كاشفيته ، فلا يكون مستتبعا لعدم حجية الطريق في اللازم بعد فرض عدم اشتماله على الخصوصية المذكورة وصلوحه لأن يثبت بالطريق المذكور ، كما لو أخذ في حجية الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي ، كالإقرار المتقوم بكون موضوعه حقا على المقر ، حيث قد لا يتضمن الخبر حقا على المخبر بمدلوله المطابقي ، بل بلازمه.

أو فرّق بين الموضوعات في حجية الطريق بنحو لا ينطبق على المدلول المطابقي ، كما في السرقة التي هي موضوع الحد ، حيث لا تثبت بالشاهد واليمين ، لأن الحد من حقوق الله تعالى ، فإنه حيث لا يرجع إلى قصور في

١٥١

طريقية الشاهد واليمين المتضمنين للسرقة ، بل لخصوصية في السرقة تمنع من ثبوتها بهما ، تعين ثبوت لازمها بها إذا كان حقا للناس ، كالضمان.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر أن التعارض من القسم الأول ، فإنه وإن كان سقوط الحجية معه لامتناع التعبد بالنقيضين المفروض اختصاصه بالمدلول المطابقي ، إلا أنه موجب أيضا لقصور طريقية الطريق عرفا.

فهو من سنخ المانع من الطريقية وإن تم معه مقتضيها ، فيتعين عدم حجية الطريق في اللازم تبعا لسقوط حجيته في الملزوم. من دون فرق في ذلك بين اتفاقهما في لازم واحد ـ كما في محل الكلام ـ وانفراد أحدهما بلازم لا ينافيه الآخر ، كما لو قامت إحدى البينتين على مطر السماء المستلزم لوجود السحاب ، ونفت الاخرى المطر من دون أن تنفي السحاب ، أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء المستلزم لثبوت الملاك الصالح للتقرب والذي هو المعيار في الاجزاء ، ودل الآخر على عدم وجوبه من دون أن ينفي الملاك المذكور.

وإن ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث اجتماع الأمر والنهي لزوم البناء حينئذ على ثبوت الملاك لحجية الدلالة الالتزامية.

وأما ما يظهر منه قدّس سرّه هناك من أن التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية في الحجية في ذلك وفي المقام مقتضى الجمع العرفي.

فهو كما ترى! لوضوح أن مرجع الجمع العرفي إلى صرف الكلام عن ظاهره واستكشاف مراد المتكلم منه بالنحو المناسب للقرينة ، لا إلى عدم حجية الكلام رأسا تخصيصا لعموم الحجية ، ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل الكلام في المقام ونحوه على إرادة بيان اللازم دون المدلول المطابقي ، بل ليس المفروض فيه إلا سقوطه عن الحجية رأسا في المدلول المطابقي ، وقد ذكرنا أن ذلك لسقوطه عنها في المدلول الالتزامي ، وعليه يبتني عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث.

١٥٢

نعم ، إذا كان منشأ التعارض خفاء وجه الجمع العرفي بين الدليلين مع صلوح كل منهما عرفا للقرينية على الآخر ، من دون أن يتعين أحدهما للقرينية ، بحيث لا يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا ، بل عن تعيينه مع تردده إجمالا بين وجهين ، تعين حجيتهما في نفي الثالث ، لخروجه عن طرفي الترديد ، كما هو الظاهر في مثل العامين من وجه في مورد الاجتماع ، لأن العرف وإن كان يتوقف عن تحصيل المراد منهما ، إلا أنه لصلوح كل منهما بنظره لتخصيص الآخر والانفراد بمورد الاجتماع من دون أن يتعين المخصص منهما ، لتساويهما في قوة الظهور ، فمورد الاجتماع مردد بينهما ، لا أنهما غير صالحين لبيان المراد رأسا.

ومرجع هذا في الحقيقة إلى عدم استحكام التعارض بينهما من جميع الجهات ، بل إلى الجمع العرفي ، الذي هو خارج عن محل الكلام ، غايته أنه مردد بين الوجهين.

بقي في المقام شيء ، وهو أنه يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه تقريب تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية بأن شمول دليل الحجية للمدلول الالتزامي إنما هو بتبع شمولاه للمدلول المطابقي ، فمع قصوره عن المطابقي لا معنى لإعماله في الالتزامي.

بدعوى : أن دلالة وجوب تصديق العادل مثلا على نفي ما ينافي ما أخبر به لأجل دلالته على تصديقه في ما أخبر به ، لا أنه يدل عليها في عرض واحد.

ومن هنا ذهب إلى نفي الثالث بأحدهما فقط ، بناء على ما سبق منه من أن التعارض يقتضي سقوط أحدهما عن الحجية لا غير.

ويشكل : بأن التصديق إن كان بترتيب أثر المدلول المطابقي فقط ، فلا وجه لاستتباعه نفي ما ينافيه بعد عدم الاشكال في إمكان التفكيك بين المتلازمين في التعبد ، وإن كان بترتيب أثر المدلولين معا ، كانا في عرض واحد

١٥٣

بالإضافة لدليل الحجية. فالعمدة ما ذكرنا.

ثم إن ظاهره انه لو لا الشبهة المذكورة لكان نفي الثالث بالدليلين معا حتى بناء على ما سبق منه من أن الساقط عن الحجية أحد المتعارضين للعلم بكذبه.

وما عن بعضهم من أنه أنكر عليه دعوى استناد نفي الثالث إلى أحدهما فقط ، بل يستند إليهما معا ، لعدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

إن رجع إلى انكار التبعية التي سبق منه دعواها كان إشكالا مبنائيا. وإن رجع إلى إنكار ذلك منه حتى بناء على عدم التبعية ، فلا يظهر منه قدّس سرّه دعوى استناد نفي الثالث إلى خصوص أحدهما بناء على عدم التبعية ، بل ظاهره استناده إليهما معا بناء على ذلك.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أنه بناء على ما سبق منه من سقوط أحد المتعارضين عن الحجية للعلم بكذبه يتعين البناء على استناد نفي الثالث إلى أحدهما فقط حتى بناء على عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية ، إذ مع العلم بكذب أحدهما لا يدخل في عموم دليل الحجية رأسا حتى يفكك بين مدلوله المطابقي والالتزامي.

ففيه : أن ذلك يتم لو كان المدعى كذب أصالة الصدور في أحدهما ، لوضوح أن ما لم يصدر ليس من السنة الحجة.

لكن لا مجال لدعوى ذلك ، بل ليس المعلوم إجمالا إلا كذب أحدهما مضمونا ، بمعنى عدم تحقق مضمون أحدهما المانع من قيام الحجة عليه والتعبد به ، ومن الظاهر أن معلوم الكذب هو المضمون المطابقي دون الالتزامي ، فبناء على التفكيك بينهما في السقوط عن الحجية يتعين البناء على عدم حجية أحدهما في خصوص مضمونه المطابقي ، مع حجيتهما في المضمون الالتزامي الذي يستند إليه نفي الثالث.

١٥٤

اللهم إلا أن يفرق بين السقوط عن الحجية للعلم بالكذب ، والسقوط عنها لمحذور آخر ـ كالتعبد بالنقيضين اللازم في المتعارضين ـ فيلتزم بتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية في الأول دون الثاني. فلا بد من بيان الفارق بينهما. فلاحظ.

وكيف كان ، فالمتحصل من جميع ما سبق : أن المتعارضين إن تصدى أحدهما أو كلاهما لنفي الثالث ، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيانه ، كان أحدهما أو كلاهما حجة في نفيه ، وإن استفيد نفيه منهما بمحض ملازمته لمضمون كل منهما ، فإن كان تعارضهما بنحو يمكن الجمع بينهما عرفا ، لصلوح كل منهما لأن يكون قرينة على الآخر وإن لم يتعين أحدهما للقرينية ، بل يكون المراد مرددا بينهما عرفا ، كانا حجة في نفيه أيضا.

وإن كان بنحو يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا ، لتعذر الجمع عرفا بينهما ، تعين عدم حجيتهما في نفي الثالث.

إذا عرفت ما هو الحق في المقام ، وما يبتني عليه الكلام من حديث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية ، فلنشر لبقية الأقوال في المسألة مما يبتني على الحديث المذكور وعلى غيره مما يظهر عند عرضها ، وهي جملة أقوال ..

الأول : الحجية مطلقا ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما أخذا بالمدلول الالتزامي ، بناء منهما على عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية. بتبع الدلالة المطابقية.

ويظهر ضعفه مما سبق من ضعف المبنى المذكور على عمومه ، بل سقوط الدليل عن الحجية في المدلول المطابقي مستلزم لسقوطه عنها في المدلول الالتزامي إذا لم يكن المتكلم بصدد بيانه ، بل يستفاد بمحض ملازمته لمضمونه.

١٥٥

أما شيخنا الأستاذ قدّس سرّه فقد بنى على عموم حجيتهما في نفي الثالث مع الاعتراف بما ذكرنا ، فقد سبقنا إلى التنبيه على تقسيم المدلول الالتزامي إلى القسمين ، أعني : ما يكون عليه دلالة مقصوده للمتكلم ، وما لا يكون كذلك ، بل يستفاد من الكلام بمحض ملازمته لمضمونه ، وحكم بتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية في الثاني ، وفي الأول أيضا إذا لم تكن الدلالة الالتزامية حجة بنفسها ، لكون اللازم أمرا حدسيا لا يرجع فيه للمتكلم ، كما لو شهدت البينة بالملاقاة التي هي سبب النجاسة ، فإنه لو فرض قصد الشاهدين الإخبار عن النجاسة لا تقبل شهادتهما بها ، لعدم حجيتها في الأحكام الشرعية ، وإنما يا بني عليها المشهود عنده ـ في فرض ثبوت الملازمة عنده باجتهاد أو تقليد ـ بتبع البناء على موضوعها ـ وهو الملاقاة ـ للتلازم بين التعبد بالموضوع والتعبد بالحكم ، فمع معارضة البينة على الملاقاة بالبينة النافية لها وسقوطها عن الحجية في إثبات الملاقاة لا مجال للبناء على النجاسة ، لعدم إحراز موضوعها.

أما إذا كان قول المتكلم مقبولا في اللازم ، وكان اللازم من القسم الأول ـ وهو الذي تكون عليه دلالة التزامية مقصودة للمتكلم ـ فقد ذكر قدّس سرّه أن المتعين التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية في السقوط عن الحجية ، نظير ما سبق منا ، وجعل من ذلك دلالة النصين المتعارضين على نفي الثالث اللازم لثبوت كل من الحكمين اللذين تعرضا لهما بمدلولهما المطابقي لإمكان قصد الإمام عليه السّلام من بيان الحكم نفي غيره ، فيكون له دلالة التزامية مقصودة ، وحيث كانت الدلالة المذكورة حجة في نفسها لقبول قوله عليه السّلام في اللازم ، تعين عدم سقوطها عن الحجية وإن سقطت الدلالة المطابقية بالمعارضة.

وهذا ، بخلاف تعارض البينتين في الشبهات الموضوعية ، لعدم قبول قول الشاهدين في نفي الحكم الثالث ، فلا يتوجه ما سبق من النقض بعدم بنائهم على حجية الأمارات المتعارضة في الموضوعات في نفي الثالث.

١٥٦

لكنه كما ترى! إذ مجرد إمكان قصد الإمام عليه السّلام من بيان الحكم نفي غيره لا يستلزم أن يكون لكلامه دلالة التزامية مقصودة ، بل لا بد في إحرازها من ثبوت تصديه لذلك وسوق كلامه لبيانه ، وهو أمر زائد على مفاد الكلام مبني على مزيد مئونة لا بد في البناء عليها من ظهور الكلام فيها بضميمة قرينة مقالية أو حالية محيطة به ، والغالب عدمه ، ولا وجه معه لإطلاق حجية المتعارضين في نفي الثالث.

كما أن عدم حجية قول الشاهدين في نفي الحكم الثالث إنما يمنع من الحجية فيه لا في نفي الثالث إذا كان موضوعا منافيا لما شهدا به ، كما لو شهدت كل من البينتين باصطياد شخص للحيوان ، وكان في يد ثالث يدعي اصطياده ، لوضوح حجية البينة في نفي اصطياد الشخص المذكور ، لأنه من الموضوعات الحسية ، وإن ترتب عليه الحكم بعدم ملكيته ، مع عدم بنائهم على حجية البينتين في مثل ذلك بعد تساقطهما في ما شهدا به ، على ما سبق ، فيتجه النقض المذكور.

الثاني : عدم الحجية مطلقا ، كما يظهر من بعض مشايخنا ، لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

لكن المتيقن من مساق كلامه واستدلاله ما إذا استفيد نفي الثالث من كل من الدليلين بمحض ملازمته لكل من الحكمين اللذين تكفلا بهما ، أما لو تصدى المتكلم لبيانه بكلامه ، من باب بيان اللازم بذكر الملزوم ، فلا يبعد انصراف كلامه عنه في المقام وفي حديث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

الثالث : ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنهما إن كانا متعارضين في أنفسهما بالنظر لمدلوليهما كانا حجة في نفي الثالث ، أخذا بالمدلول الالتزامي ، بناء منه على عدم سقوطهما عن الحجية فيه ، على ما سبق الكلام فيه.

وإن كان تعارضهما لأمر خارج لم يكونا حجة في نفي الثالث فلو دل

١٥٧

دليل على وجوب صلاة الظهر وأخر على وجوب صلاة الجمعة ، وعلم من الخارج بعدم وجوب أكثر من صلاة واحدة تعارضا وتساقطا وجاز الرجوع لأصل البراءة والبناء على عدم وجوب كل من الصلاتين ، إذ ليس لهما مدلول التزامي قاض بوجوب فريضة في اليوم ، ليمتنع الرجوع للبراءة ، بل كل منهما يقتضي وجوب كل من الفريضتين بخصوصها ، ولا يدلان على وجوب القدر المشترك ، فمع سقوطهما عن الحجية في الخصوصية لا وجه لحجيتهما في القدر المشترك ، ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما في الجنس ، فإن التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من الالفاظ.

نعم ، لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها امتنع الرجوع للأصل ، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة.

وفيه : ـ مع أن ذلك إنما يمنع من حجيتهما في نفي الثالث المطابق لأصالة البراءة ، لا المخالف له ، كوجوب فريضة ثالثة لو فرض كونه مقتضى عموم أو استصحاب ـ أن المراد بالمدلول الالتزامي في محل الكلام ليس خصوص ما يكون موضوعا لدلالة عرفية للكلام ، بحيث يكون مرادا بالبيان بمقتضى ظاهر الكلام ، ليتجه ما ذكره من عدم العبرة بالتحليل العقلي في باب الظهورات ، بل مطلق لازم مؤدى الكلام ولو لم يكن المتكلم بصدد بيانه ، ومن الظاهر أن لازم وجوب إحدى الفريضتين بخصوصيتها وجوب فريضة في الجملة ، كما لو صرح به في أحد الدليلين أو كليهما وتصدى المتكلم لبيانه.

اللهم إلا أن يقال : وجوب إحدى الفريضتين ليس لازما واقعيا لمفاد الدليلين المطابقي ، ليجري فيه ما سبق في المدلول الالتزامي ، بل هو متحد معه حقيقة ، وإن باينه مفهوما مباينة المجمل للمبين ، فمع فرض سقوط الدليل عن الحجية في المدلول المطابقي لا مجال لحجيته فيه.

١٥٨

كما أن وجوب القدر المشترك بينهما الذي هو الجنس بحسب التحليل العقلي ليس لازما له أيضا ، بل هو وجوب ضمني متحد مع وجوب كل من الخصوصيتين استقلالا ، الذي هو المفاد المطابقي لكل من الدليلين ، فخروج المورد عن حديث بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية ليس لعدم العبرة بالتحليل في باب الظهورات ، كما ذكره قدّس سرّه بل لرجوع التحليل للاتحاد ، دون التلازم.

وأما التصريح في أحد الدليلين بوجوب فريضة في الجملة فليس هو تصريحا باللازم ، بل هو راجع إلى اشتمال الدليلين على مدلول إجمالي وأخر تفصيلي ، وتكاذبهما في الثاني لا يوجب سقوطهما عن الحجية في الأول.

تذنيب

إذا تنجز أمر إجمالي إما بالعلم ـ كفريضة اليوم ـ أو بقيام دليل خاص ـ كما في ما تقدم في تعقيب كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ واختلف الدليلان في تعيينه بوجهين مثلا ، فحيث يسقطان عن الحجية في تعيينه ، فهما لا ينهضان بنفي طرف ثالث للإجمال لو فرض احتماله ، بناء على ما سبق من عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث.

ومن هنا يشكل الحال في اختلاف النّسخ ، لوضوح أن الإخبار بكل نسخة وإن كان مبنيا على المفروغية عن وجود مضمون الكتاب الذي تحكي عنه النّسخ ، فهي تصلح لتنجيز الأمر الإجمالي ، إلا أن عدم صلوحها لتعيينه بسبب التعارض موجب لعدم حجيتها في القدر المشترك بينها ، وهو مخالف لسيرة العلماء في مقام الاستدلال ، حيث لا يخرجون عن مفاد كلتا النسختين.

ولا مجال لدعوى ابتناء ذلك منهم على الخروج عن أصالة التساقط والعمل بأخبار العلاج المتضمنة للترجيح والتخيير.

لما يأتي في محله إن شاء الله تعالى من قصور أخبار العلاج عن اختلاف

١٥٩

النّسخ ولزوم الرجوع فيه للأصل.

فلا يبعد أن يكون ذلك منهم للاطمئنان بصدق إحدى النسخ ولو بلحاظ مساق الكلام ومناسباته.

أو يقال : لما كان منشأ اختلاف النسخ منحصرا بالخطإ في إثبات النسخة أو قراءتها أو سماعها ، فأصالة عدم الخطا بنظر العقلاء تقتضي عدمه في إحدى النسخ إجمالا ، اقتصارا فيه على المتيقن.

وليس الخطأ كغيره من الأمور التي يبتني استحصال الواقع من الطرق على عدمها ـ كمخالفة ظاهر الكلام ، وصدوره لبيان غير المراد الجدي ، وتعمد الكذب من الناقل ـ مما يبتني الخروج عنه على العمد الذي لو جاز في أحد الطريقين جاز في كليهما. ولو لا ذلك لأشكل الحال.

نعم ، لا إشكال مع عدم أداء اختلاف النّسخ إلى اختلاف المعنى لو أمكن عرفا حمل بعضها على بيان النقل بالمعنى وعدم تعمد الألفاظ ، لثبوت جواز ذلك.

وكذا لو كان الاختلاف بالزيادة بنحو لا يخل بالمعنى ، بل يوجب زيادته لو أمكن عرفا حمل الناقص على عدم التصدي والاهتمام بضبط تمام المضمون ، حيث يخرج عن التعارض حينئذ ، لعدم التكاذب.

وأولى بعدم الإشكال ما لو كان مرجع النّسخ إلى بيان محتملات نسخة الأصل لاشتباهها وتشوشها ، من دون جزم ببعضها ، لرجوعها إلى الأخبار بعدم خروج نسخة الأصل عن المحتملات المذكورة. فلاحظ.

الأمر السادس : تقدم تقريب أصالة التساقط في المتعارضين بالإضافة إلى ما لم يكن لدليل حجية إطلاق بقصور دليله عن شمول حال التعارض ، وبالإضافة إلى ما كان لدليل حجيته إطلاق بمانعية التعارض من حجية المتعارضين المستلزم لتخصيص عموم الحجية فيهما.

١٦٠