المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

بحكمه.

لكن ذلك مخالف للنصوص الكثيرة الظاهرة في حجية الأخبار في معرفة الحكم الشرعي الأولي ولزوم العمل عليها في ذلك ، كما هو ظاهرها البدوي ، كنصوص الترجيح والتوقف الظاهرة في رجوع اختلاف الأخبار إلى تعارض الحجتين ، ونصوص العرض على الكتاب والسنة الملزمة بطرح ما خالفهما ، لوضوح أنه لو كان البناء على العمل بالخبر الأحدث لمطابقته للوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية لكان حكم المخالف مقدما على حكم الكتاب والسنة.

مضافا إلى ما هو المعلوم من سيرة الأئمة عليهم السّلام من عدم التصدي لبيان الوظيفة الفعلية الثانوية في حق جميع الشيعة ، بنحو تتجدد البيانات العامة منهم عليهم السّلام باختلاف المناسبات والظروف ، بل البناء على العمل بالأحكام الأولية بعد تشخيصها ـ كما هو مقتضى الوضع الطبيعي المناسب للأمر بالأخذ بخلاف العامة ـ وإيكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية التقية في حق كل شخص إليه ـ كما يشخصها من سائر الجهات ، كالحرج والضرر ـ لاختلافها باختلاف الاشخاص والظروف غير المنضبطة عادة ، ولذا ورد الحث على التقية مع وضوح الاستغناء عنه لو كان تشخيص مقتضاها من وظيفة الإمام عليه السّلام.

وإنما صدر منهم في مناسبات نادرة تشخيص الوظيفة الثانوية في حق بعض الأشخاص وخطابهم على طبقها ، كقصة علي بن يقطين ونحوها.

ولا مجال مع ذلك للتعويل على خبر المعلى ، ولا سيما مع معارضته لنصوص الترجيح والتخيير والتوقف التي يتعذر حملها على خصوص صورة الجهل بالأحدث ، لندرتها في عصر حضور الأئمة عليهم السّلام.

بل اللازم بناء عليه التوقف عن الترجيح حتى مع الجهل بالأحدث ، لعدم صلوح المرجحات المذكورة فيها لتشخيص الوظيفة الثانوية المفروض اهتمام الأئمة عليهم السّلام ببيانها.

٢٠١

مضافا إلى ظهور إعراض الأصحاب عنه في مقام العمل حتى في عصر ظهور الأئمة عليهم السّلام ، لأن الجري عليهم موجب لانقلاب مقياس الفقه بنحو لا يخفى عادة.

فلا بد من حمله على ظروف خاصة أو بيانات خاصة نظير ما سبق في خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار ، ولا يتخذ قاعدة عامة يعمل عليها ، ولا سيما في عصر الغيبة المتطاول الذي يعلم بعدم بقاء مقتضي التقية فيه على النحو الذي بدأ.

ولعل هذا هو المنشأ الارتكازي لما تقدم من الوسائل من عدم الرجوع للمرجح المذكور في عصر الغيبة ، ومن الحدائق من عدم تعرض الأصحاب له ، فضلا عن عملهم عليه. حتى أن الكليني مع روايته للنصوص المذكورة لم يعمل بها ولم يشر إليها في ما سبق من كلامه في ديباجة الكافي الذي يسجل رأيه في الترجيح.

الثامن : موافقة الاحتياط.

وقد انفردت بها مرفوعة زرارة ، التي تقدم عدم صلوحها للاستدلال. فلا يهم مع ذلك تحقيق المعيار في الموافقة والمخالفة ، وأنه كيف يمكن فرضهما في الخبرين معا ، كما تضمنته المرفوعة. فإنه وإن كان قد يصور موافقتهما معا له فيما لو كان كل منهما مقتضيا للتكليف بشيء ، كما لو دل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، بلحاظ أن متابعة احتمال الوجوب في كل منهما أحوط عملا من البناء على عدمه.

كما قد تصور مخالفتهما معا له في ما لو كان نافيا للتكليف ، كما لو دل أحدهما على عدم وجوب الظهر والآخر على عدم وجوب الجمعة.

إلا أنه يشكل بأن دلالة كل منهما على التكليف أو عدمه إن لم تكن مع

٢٠٢

دلالة التزامية مناقضة لدلالة الآخر ، لإمكان ثبوت التكليف على طبقهما معا أو عدمه كذلك ، لم يكونا متعارضين ، وإلا كان كل منهما موافقا للاحتياط من جهة ومخالفا له من جهة اخرى.

وتنزيل الموافقة للاحتياط والمخالفة له على ما يعم ذلك ـ مع مخالفته لإطلاقهما ـ لا يناسب الترديد بينهما للتلازم بينهما حينئذ. إلا أن يكون الملحوظ فيهما المدلول المطابقي فقط. والأمر سهل بعد ما ذكرنا.

التاسع : ترجيح المحكم على المتشابه.

ففي الصحيح عن أبي حيون مولى الرضا عنه عليه السّلام : «قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال : إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا (١)» ، ولا يخفى أن المتشابه ليس حجة في عرض المحكم ، سواء أريد به المجمل بدوا الذي لا يكون اتباعه إلا بالتأويل التحكمي الخالي عن القرينة ، أم الظاهر الموهم خلاف الواقع ، والذي يعلم بعدم إرادة ظاهره بالنظر في القرائن العقلية أو النقلية ، بحيث يكون النظر في القرائن موجبا لإجماله عرضا بعد القطع بعدم إرادة ظاهره ، أو لاستكشاف المراد الحقيقي به ، كالظاهر مع الأظهر أو النص ، ويكون اتباعه بالعمل بظهوره البدوي من دون تأمل في القرائن.

فليس العمل بالمحكم دون المتشابه من ترجيح إحدى الحجتين على الاخرى الذي هو محل الكلام.

وإنما ذكرناه هنا ـ كما ذكرنا بعض ما سبق ـ لاستقصاء مفاد النصوص التي عدت من نصوص الترجيح في كلام شيخنا الأعظم وغيره.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٢.

٢٠٣

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن المرجحات المنصوصة تنحصر بالشهرة في الرواية ، وموافقة الكتاب والسنة ، ومخالفة العامة ، وهي التي اقتصر عليها الكليني قدّس سرّه تقريبا في ما سبق من كلامه. وأن ما عداها مما تعرضت له النصوص إما لا تنهض نصوصه باثباته ، لضعفها سندا أو دلالة ، أو لا يرجع للترجيح بين الحجتين المتعارضتين ، بل إلى وجوب العمل بالحجة منهما. فلاحظ.

٢٠٤

المبحث الثالث

في التعدي عن المرجحات المنصوصة

أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات المقام الأول في أصالة التساقط في المتعارضين إلى أن احتمال ترجيح أحد المتعارضين تعبدا لا يكفي في البناء على حجيته والخروج عن أصالة التساقط ، بل لا بد من إحراز ترجيحه وحجيته.

وأما بالنظر إلى الأدلة الخاصة فإن كان البناء على التساقط مع فقد المرجح ولو من جهة الأصل المذكور ، فالأمر كذلك ، للشك في حجية محتمل الرجحان.

وإن كان البناء على التخيير ، فإن كان مبنيا على إطلاق يقتضي التخيير بين المتعارضين يصلح دليلا على نفي الترجيح بينهما لزم الاقتصار في الخروج عنه على ما ثبت ترجيحه ، والبناء على عدمه مع الشك وحجية محتمل المرجوحية أخذا بالإطلاق المذكور.

وإن لم يكن لدليل التخيير إطلاق ، بل كان المتيقن عدم سقوط كلا المتعارضين ، تعين الاقتصار في التخيير على صورة العلم بعدم المرجح لأحد الدليلين ، لأنه المتيقن من مورد التخيير ، ومع احتمال الترجيح يلزم العمل عليه ، للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية الآخر الملزم بالبناء على عدم حجيته.

هذا ، وحيث لا دليل على التخيير ـ لو تم ـ إلا النصوص التي يأتي الكلام فيها ، والتي لها إطلاق في نفسها ، فلا فرق بين القول بالتساقط والقول بالتخيير في عدم التعويل على احتمال الترجيح.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر تنبيهات دليل الانسداد من سقوط

٢٠٥

إطلاقات التخيير عن الحجية ، للعلم بوجوب الترجيح إجمالا وعدم وفاء المرجحات المنصوصة بالمقدار المعلوم بالإجمال فيتعين الاكتفاء بالظن بالترجيح.

فهو كما ترى! إذ لو سلم العلم بوجوب الترجيح إجمالا فالمرجحات المنصوصة وافية بالمعلوم بالإجمال ، ولا يعلم بوجود غيرها ، لتسقط إطلاقات التخيير عن الحجية.

ولو سلم ما ذكره لزم الاقتصار في التخيير على المتيقن ووجب الترجيح بمجرد احتماله للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية محتمل المرجوحية ، ولا وجه للاكتفاء بالترجيح.

وقد أطال قدّس سرّه في النقض والإبرام بما لا مجال لمتابعته فيه ، بل نكتفي بما علقناه على كلامه. ولا مخرج عما ذكرنا من لزوم الاقتصار في الترجيح على المتيقن من دون فرق بين القول بالتساقط والتخيير.

إذا عرفت هذا ، فالمعروف من جماعة من الأصحاب التعدي عن المرجحات المنصوصة لكل مزية ، بل نسب شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى جمهور المجتهدين عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة ، وقد أشار في آخر تنبيهات الانسداد لبعض الكلمات الشاهدة منهم بذلك ، بل نسب لبعض مشايخه استظهار الاتفاق على الترجيح بكل ظن ، كما قال في مبحث الترجيح : «ادعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة».

وربما يستدل بذلك في المقام ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر تنبيهات الانسداد : أن تتبع كلماتهم يوجب الظن القوي بل القطع بأن بناءهم على الأخذ بكل مزية ، بنحو يظهر منه قول التعويل على ذلك من جهة الإجماع.

لكن لا مجال لدعوى الإجماع بعد ظهور كلام الكليني المتقدم في

٢٠٦

الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، بل لا يبعد استظهاره من جميع القدماء الذين لا طريق لمعرفة آرائهم إلا النصوص التي يروونها ويثبتونها في كتبهم ، ولا أقل من عدم إمكان نسبة العموم إليهم.

على أن بعض ما نقل عمن صرح بذلك منهم راجع إلى بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح للاستدلال ، ولا يظهر منهم ابتناء ذلك على التعبد الشرعي الذي قد يخفى علينا ويستكشف من إجماعهم ، حتى ظن بعض المتأخرين ـ في ما حكي عنه ـ ابتناء ذلك منهم على متابعة طريقة العامة.

وإن كان الأنسب حمل ذلك منهم على الاحتياط في تحري أقرب الدليلين للواقع بعد بنائهم على التخيير وعدم تساقط المتعارضين ، مع الغافلة ـ بسبب الأنس بارتكازية ذلك ـ عن ورود إطلاقات التخيير وعدم وجوب الاحتياط معها.

ولعله لبعض ما ذكرنا أنكر ذلك غير واحد من المتأخرين ، خصوصا المحدثين ، قال في الحدائق : «وقد ذكر علماء الاصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره إلى محصول ، والمعتمد عندنا على ما ورد عن أهل بيت الرسول من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ...».

وبالجملة : لا مجال لدعوى الإجماع على التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فضلا عن الاستدلال به للخروج عن مقتضى الأصل المتقدم مع الشك في مرجحية بعض الامور.

هذا ، وقد حاول شيخنا الأعظم قدّس سرّه إثبات ذلك من نصوص الترجيح بدعوى ظهور بعض الفقرات فيها في التعدي بالنحو المذكور.

منها : الترجيح بالأصدقية في المقبولة ، وبالأوثقية في المرفوعة ، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن اعتبارهما ليس تعبديا محضا ، كاعتبار الأعدلية والأفقهية ، بل لأن الخبر الواجد لهما أقرب للواقع في نظر الناظر من دون

٢٠٧

خصوصية سبب فيتعدى منه لكل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين من الآخر.

وفيه : ـ مع أن الترجيح بالصفات لم يثبت في نفسه ، كما سبق ـ أن المناسبات الارتكازية إنما تقتضي كون الملحوظ للشارع هو الأقربية النوعية بنظره علة لمرجحيتها ، لا أن موضوع الترجيح هو الأقربية الشخصية أو النوعية بنظر المكلف ليتعدى عن موردها.

نظير ما تضمّن حجية خبر الثقة والصادق ، حيث تقتضي المناسبات الارتكازية كون القرب للواقع نوعا بنظر الشارع علة لحجيته ، لا أن موضوع الحجية هو القرب الشخصي أو النوعي بنظر المكلف ، ولذا لا يتعدى عن مورده لكل ما يقتضي ذلك ولو لم يكن خبرا.

ومنها : تعليل الترجيح بالشهرة في المقبولة بقوله عليه السّلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بدعوى : أن نفي الريب في المشهور ليس حقيقيا ، إذ ليس المشهور قطعيا من جميع الجهات الصدور والدلالة والجهة ، بل إضافي ، بمعنى أن المشهور لا ريب فيه بالإضافة للشاذ ، لأن الريب في الشاذ من حيثية الشذوذ غير وارد فيه ، فيفيد الترجيح بكل مزية في أحد الخبرين ، لأن في فاقد المزية منشأ لاحتمال مخالفة الواقع غير موجود في واجدها.

وفيه : أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي حمل نفي الريب على نفيه من حيثية الصدور فقط ، فلا يمتنع البناء على كون نفيه حقيقيا الراجع إلى الاطمئنان بالصدور والركون إليه على ما سبق في مقابل ما يكون موردا للريب لشذوذه ، فيدل على مرجحية عدم الريب في الصدور ولو بسبب غير الشهرة من القرائن المحيطة بالخبر ، ولا يتعدى منه لكل احتمال ولو من غير جهة الصدور.

وإلا فإطلاق تقديم المشهور لذلك لا يحسن مع أنه كثيرا ما يكون الشاذ واجدا لمزية يفقدها المشهور ، حيث يتعين حينئذ التوقف لتعارض المرجحين.

ومنها : تعليل ترجيح الخبر المخالف للعامة بان الحق والرشد في

٢٠٨

خلافهم وأن ما وافقهم فيه التقية ، فإن هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية ، فيدل بحكم التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان معه أمارة الحق والرشد وترك ما فيه مظنة خلاف الحق والصواب.

وفيه : أن المقبولة لم تتضمن التعليل بذلك ، بل الحكم به ، وظاهره أنه دائمي واقعي في فرض التعارض الذي هو مورد التعليل ، فإنه ثبت خلافه تعين حمله على كونه دائميا ظاهريا ، لأنه الصالح لأن يترتب عليه العمل ، دون الغالبي الواقعي. وإنما استفيد التعليل بذلك من المرفوعة التي سبق عدم صلوحها للاستدلال.

مع أن التعليل المذكور لو لم يكن دائميا في مورده وكان غالبيا فحيث لم يصرح بالغلبة في التعليل ، بل كان لسانه قضية دائمية ، فلا طريق للتعدي بمعيار الغلبة أو الظن ، بل غاية الأمر كشف ذلك عن اكتفاء الشارع بالغلبة المذكورة علة للترجيح وكونها مصححة بنظره لإطلاق القضية الظاهرة في الدوام ، ولا طريق للتعدي عنها للجهل بخصوصياتها المنظورة له. وهو راجع إلى كون التعليل حكمة ، لا موضوعا للحكم يطرد تبعا له.

وأما ما تضمن أن ما وافقهم فيه التقية فقد سبق أنه ليس من نصوص المرجح المذكور ، كما هو الحال في غير واحد من الألسنة التي تضمنتها بعض النصوص. فراجع.

ومنها : قوله عليه السّلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) ، قال قدّس سرّه : «دل على أنه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى».

وفيه : أن ذلك ليس من نصوص الترجيح بين الخبرين ، ليتعين كون موضوع الريب فيه ونفيه هو الخبر ، كما قد يتعين حمل نفي الريب فيه على

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ عن أبواب صفات القاضي حديث : ٥٦.

٢٠٩

الإضافي ، بل هو عبارة عن مرسل مستقل ظاهر في وجوب الاحتياط في مقام العمل باجتناب ما فيه الريب ، ولا مانع من إبقائه على ظاهره وحمل نفي الريب فيه على الحقيقي بنحو السالبة الكلية في مقابل ما فيه ريب ولو من جهة واحدة بنحو الموجبة الجزئية.

ولذا سبق منه قدّس سرّه عدّه من أدلة الاحتياط التي يحتج بها للأخباريين ، كما هو ظاهر الوسائل أيضا.

وقد تعرض قدّس سرّه في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد لبعض الوجوه الاخرى التي هي أوهن مما سبق لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا كله مضافا إلى إباء نصوص الترجيح الحمل على ذلك بعد ما تضمنته من الترتيب بين المرجحات والاقتصار على قليل منها ، واشتمالها على ما لا يوجب الأقربية للواقع ، كموافقة الاحتياط التي تضمنتها المرفوعة وإن لم تكن معولا عليها عملا.

كما قد تأباه نصوص التخيير والتوقف ، لندرة التساوي بين الخبرين من جميع الجهات ، وليس هو كتقييدها بالمرجحات المنصوصة ، لكثرة تساوي المرجحات فيها وقرب الاعتماد في الإطلاق على وضوح بعضها ، لارتكازيته في الجملة.

وأشكل من ذلك ما استقربه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اعتماد من ذهب إلى التعدي عن المرجحات المنصوصة على الوجوه المتقدمة ، مع ما هي عليه من الخفاء وعدم الاشارة في كلماتهم إليها ، بل ظهور بعضها في الاعتماد على بعض الوجوه الاستحسانية التي لا دخل لها بمفاد النصوص ، كما سبق.

وأما ما ذكره قدّس سرّه من أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقضي باختصاصها بصورة تكافؤ المتعارضين من جميع الوجوه.

فلم يتضح المنشأ له بعد إطلاقها وعدم الاستفصال فيها ، بل عدم الاشارة

٢١٠

في بعضها أصلا والاقتصار في بعضها على صورة التكافؤ في خصوص المرجحات المنصوصة ، كمرفوعة زرارة المتقدمة.

ومثله الاستدلال على ذلك بما في كلام بعضهم في وجه لزوم الترجيح من لزوم الأخذ بأقوى الدليلين.

فإنه إنما يتم لو أريد به ما هو الأقوى منهما بنظر الشارع ، الراجع للزوم ثبوت الترجيح من قبله.

وأما لو أريد به ما هو الأقوى بنظرنا ، لمزية فيه توجب أقربية للواقع والظن بمطابقته له.

فهو نظير حجية الظن لا دليل عليه ، بل الدليل على عدمه بعد فرض تساوي الدليلين بالنظر لأدلة الحجية الشرعية ، وأدلة التخيير والتوقف.

فلا معدل عما يظهر من النصوص من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم التعدي عنها ، الذي سبق في صدر المبحث أنه المطابق للأصل والقاعدة المعول عليهما في المقام.

بقي في المقام أمران ..

الأول : أن المعيار في التعدي عن المرجحات غير المنصوصة على ما يوجب أقربية مضمون أحد الخبرين للواقع وأبعدية الآخر عنه ، سواء كان داخليا قائما بالخبر ـ كالنقل باللفظ وقرب السند ـ أم خارجيا حجة بنفسه ـ كالعموم ـ أو لا ـ كالشهرة ـ لأن ذلك هو الذي تقتضيه الوجوه المتقدمة لو تمت.

أما ما لا دخل له بالأقربية للواقع ، كموافقة الأصل ، وأولوية الحرمة من الوجوب فالوجوه المذكورة تقصر عنه ، بل لا بد في الترجيح به من دليل آخر ، وهو غير ظاهر ، فإن دليل الأصل إنما يقتضي كونه مرجعا بعد تساقط المتعارضين ، لا مرجحا لأحدهما ، كما أن أولوية الحرمة من الوجوب لو تمت مختصة بما إذا علم بثبوت أحدهما من دون حجة على كل منهما ، على ما سبق الكلام فيه في مبحث الدوران بين الوجوب والحرمة ، وهو إنما يتم مع العلم

٢١١

بصدق أحد الخبرين مع البناء على تساقطها ، فتكون القاعدة مرجعا كالأصل ، لا مرجحا ، أما مع احتمال كذبهما معا فلا دوران بين الحكمين ، كما أنه بناء على التخيير يكون دليل الوجوب حجة تخييرا مؤمنا من احتمال الحرمة ، فلا يتنجز معه احتمالها ليتعين العمل عليه.

ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من عدم تمامية قاعدة الأولوية المذكورة.

كما لا مجال للكلام في ما أطال فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تعداد المرجحات وأقسامها ، لابتنائه على التعدي عن المرجحات المنصوصة ، الذي عرفت أنه خلاف التحقيق.

الثاني : أنه بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة فلو كان كل من المتعارضين واجدا لمزية أو أكثر ، وكانت المزايا في مرتبة واحدة ، فلا إشكال في عدم الترجيح مع تساويهما في عدد المرجحات وعدم حصول الظن على طبق أحدهما ، بل يكونان متكافئين.

وإلا ففي الترجيح بحصول الظن بأحد المتعارضين ، أو بزيادة المزايا في أحدهما ، أو عدم الترجيح وجوه ..

لا يبعد الأول ـ كما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد ـ لأن ذلك هو المناسب للوجوه المتقدمة للتعدي عن المرجحات المنصوصة ، فإن الظن هو الملاك في الأقوائية العرفية التي تنزل عليها التعليلات المتقدمة عليها ، وليست مرجحية المزايا عرفا إلا بلحاظ سببيتها له فلا أهمية لعددها.

نعم ، لازم ذلك عدم الترجيح مع عدم حصول الظن من المرجحات حتى المنصوصة منها ولو انفرد بها أحد المتعارضين ، وهو مما لا يناسب إطلاق الترجيح بها جدا. ومن ثمّ كان هذا موهنا آخر للقول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة. فلاحظ.

٢١٢

المبحث الرابع

في الترتيب بين المرجحات

لا يخفى أن مقتضى القاعدة الأولية بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة هو الرجوع في الترتيب بينها لظاهر أدلتها ، فلو اقتضاه لزم العمل عليه تعبدا به ، فمع اشتمال كل من المتعارضين على فرد من تلك المرجحات فإن كان ما اشتملا عليه فردين لمرجح واحد ، أو لمرجحين في مرتبة واحدة كانا متكافئين ، وإن كان فردين لمرجحين في مرتبتين كان الواجد للمرجح المتقدم رتبة هو الراجح المتعين للعمل ولا يعتنى بالآخر.

أما بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة فحيث كان مبنى التعدي إلغاء خصوصية المرجحات وأن المعيار على الظن بمضمون أحد المتعارضين وأقربيته للواقع عرفا كان لازمه إلغاء خصوصية الترتيب بين المرجحات لو فرض ظهور النصوص فيه بدوا ، فلا ترتيب بين المرجحات المنصوصة في أنفسها ، ولا بينها وبين غيرها.

إذا عرفت هذا ، فقد وقع الكلام بين الأصحاب في الترتيب بين المرجحات طبعا بنحو يخرج به عن مقتضى القاعدة المتقدمة وعدمه.

وقد ذكروا أن المرجحات المنصوصة وغيرها على أقسام ..

الأول : المرجح الصدوري ، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الخبر ، كالأوثقية والشهرة في الرواية وقلة الوسائط.

الثاني : المرجح الجهتي ، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الكلام لبيان الحكم الواقعي والمراد الجدي ، في مقابل صدوره لغرض آخر من تقية أو

٢١٣

نحوها ، كمخالفة العامة على بعض الوجوه.

الثالث : المرجح المضموني ، وهو ما يوجب قوة الظن بتحقق مضمون الخبر مما هو خارج عنه ، سواء كان معتبرا في نفسه كعموم الكتاب ، أم لا كالشهرة في الفتوى.

وقد وقع الكلام في الترتيب بين الأقسام المذكورة.

وأما المرجح الدلالي الراجع إلى قوة دلالة أحد الخبرين فهو خارج عن محل الكلام ، إذ لا إشكال في تقدمه طبعا على سائر المرجحات في مورد الجمع العرفي ، لخروج الدليلين عن التعارض بسببه. وأما في غير مورد الجمع العرفي فالظاهر أنه مرجح مستقل. لكنه خارج عن محل كلامهم ، وليس الكلام إلا في الأقسام الثلاثة المتقدمة. ولعل الحال يتضح من الكلام فيها.

وقد ادعى المحقق الخراساني قدّس سرّه أن المرجحات المتقدمة وإن اختلف موضوعها في بدو النظر ، إلا أن الظاهر رجوع الترجيح بها لبا إلى الترجيح الصدوري ، فليس مقتضاها إلا التعبد بصدور الراجح دون المرجوح.

ولا مجال لتخيل رجوع المرجح الجهتي لترجيح جهة أحد المتعارضين دون الآخر مع حجية سندهما معا والتعبد بصدورهما ، لامتناع التعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته ، بل يا بنى على صدوره تقية ، لعدم الأثر له.

ويظهر منه أنه رتب على ذلك عدم الترتب الطبعي بين أقسام المرجحات المتقدمة ، لأنه فرع ترتب موضوعها ، فمع رجوعها لموضوع واحد وهو الصدور تكون في رتبة واحدة ، وإن اختلف منشأ الشك الذي تكون موضوعا له.

لكن لا يخفى أن ترتب الأثر والعمل على الخبر لما كان موقوفا على التعبد بصدوره ودلالته وجهته بنحو الارتباطية ، وكان المصحح للتعبد الظاهري هو الأثر العملي ، فلا بد في جريان كل منها من جريان الباقي ، فكما يمتنع التعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته لعدم الأثر ، كذلك يمتنع التعبد بجهة ما لا يتعبد

٢١٤

بصدوره ، فلا وجه لإرجاع جميع المرجحات للمرجحات السندية ، بل هي بلحاظ ذلك راجعة للمرجحات من جميع الجهات.

ومعنى رجوع المرجح لإحدى الجهات ليس إلى سقوط التعبد بالمرجوح من تلك الجهة مع بقاء التعبد به من بقية الجهات ، بل إلى عدم التعبد به من تلك الجهة بالأصالة لأنها موضوع الترجيح ثم سقوط التعبد من بقية الجهات بالتبع ، لعدم الأثر له بسبب الارتباطية المذكورة.

فالفرق بين المرجح الجهتي والصدوري ـ مثلا ـ أن سقوط جهة المرجوح في المرجح الجهتي بالأصل وسقوط الصدور بالتبع ، وفي المرجح الصدوري بالعكس.

ومن هنا أمكن فرض الترتب بين المرجحات طبعا تبعا للترتب بين موضوعاتها ، فلا بد من النظر في وجه ما ذكره القائلون بذلك.

وقد ادعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه تقدم المرجح المضموني غير المعتبر في نفسه ـ كالشهرة في الفتوى ـ على المرجح الصدوري والجهتي.

بدعوى : أن ترجيح السند والجهة إنما اعتبر لأجل الأقربية للواقع ، فاذا فرض اعتضاد المرجوح بحسب السند أو الجهة بالمرجح المضموني الموجب لأقربيته للواقع تعين تقديمه على الراجح بحسبهما لفعلية ملاك الترجيح فيه ، وهو الأقربية.

وفيه : أنه كما يكون الاعتضاد بالمرجح المضموني موجبا للأقربية للواقع كذلك يكون اشتمال الدليل على المرجح السندي أو الجهتي موجبا لأقربيته للواقع ، ومع تصادم الجهتين يلزم تقديم ما يكون مناط الترجيح فيه أقوى ويكون تأثيره فعليا ، لا تقديم المرجح المضموني رتبة. وكأن مبنى كلامه على كون المرجحات المضمونية أقوى ملاكا في الأقربية بحيث تكون فعلية التأثير لها.

٢١٥

بل قد يدعى تأخر المرجح المضموني طبعا ، بلحاظ أن الأقربية للواقع لما لم تكن هي المناط في الحجية إذ لا إشكال في عدم حجية الظن بنفسه فلا يناسب كونها هي المعيار في الترجيح ، بل لما كان مناط الحجية هو دليلية الدليل كان المناسب كون معيار الترجيح مع تعارض الدليلين هو أقوائية الدليلية في أحدهما بلحاظ المرجحات الداخلية التي هي من شئون دليلية الدليل من صدوره وظهوره وجهته ، ولا أثر للمرجحات المضمونية الخارجية التي لا دخل لها بدليا ليته.

نظير موافقة رأي المفضول للشهرة ، فإنها وإن كانت موجبة لأقربيته للواقع إلا أنها لما لم توجب أقوائيته في الدليلية من رأي الافضل ، بل كان رأي الأفضل هو الأقوى فيها كان الترجيح له.

نعم ، لو تساويا في الدليلية مع دوران الأمر بينهما يتجه الرجوع للمرجحات المضمونية الخارجية ، لانسداد طريق الترجيح بلحاظ الطريقية ، نظير الرجوع للظن عند فقد الأدلة وانسداد باب العلم.

لكن هذا التأخر الطبعي ليس بنحو يمنع جري الشارع على خلافه ، بل يمكن الخروج عنه لو اقتضته أدلة الترجيح.

وأما المرجح المضموني المعتبر في نفسه كموافقة عموم الكتاب فقد فصّل فيه قدّس سرّه تفصيلا طويلا لعله يبتني على ما هو خارج عن محل الكلام ولا مجال للإطالة فيه.

كما أنه قدّس سرّه ادعى أيضا تقدم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، لدعوى : أن موضوع الترجيح الجهتي الخبران اللذان لا يمكن رفع اليد عن صدور أحدهما بعينه لكونهما قطعيين أو متكافئين ، وأما في فرض التعبد بصدور أحدهما دون الآخر لترجيحه سندا فلا وجه لاعمال المرجح الجهتي فيه ، لأن الجهة فرع الصدور ، فمع عدم التعبد بصدور المرجوح لا معنى للتعبد

٢١٦

بجهته وإن كان راجحا بحسبها.

لكنه أيضا لا يرجع إلى محصل ، إذ لا وجه لاختصاص الترجيح الجهتي بصورة امتناع إلغاء التعبد بصدور أحد الخبرين دون الآخر ، فإنه عبارة أخرى عن تقدم المرجح الصدوري رتبة الذي هو المدعى في المقام ، بل ليس ذلك بأولى من العكس ، وهو اختصاص الترجيح السندي بصورة امتناع إلغاء الجهة في أحد الخبرين بعينه ، لقطعيتهما أو تكافؤهما فيها.

وما ذكره قدّس سرّه من أن مع عدم التعبد بصدور المرجوح سندا لا معنى للتعبد بجهته ، لتفرعها على الصدور ، مبني على تسليم تقدم الترجيح الصدوري ، حيث يكون أثره إلغاء التعبد بصدور المرجوح فيرتفع فيه موضوع التعبد بالجهة ، وإلا فلو فرض تقديم الترجيح الجهتي فمع عدم التعبد بالجهة في المرجوح لا مجال للتعبد بصدوره أيضا ، لعدم الأثر له ، كما سبق.

ونظير ذلك ما عن الوحيد قدّس سرّه وبعض المتأخرين عنه من تقدم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري. إذ ربما يستدل له بوجوه ..

الأول : أن الصدور لما كان متقدما رتبة على الجهة ، لأن الجهة من شئون الكلام الصادر ، وكان التعارض بين الخبرين مترتبا على جريان كل من أصالة الصدور وأصالة الجهة فيهما ، فهو لا يستند لأصالة الصدور بالمباشرة ، بل لأصالة الجهة ، فيكون الترجيح في الجهة متقدما طبعا ، ولا موجب للنظر في الترجيح الصدوري إلا بعد تعذره.

وفيه : أن استناد التعارض بالمباشرة لأصالة الجهة بالمعنى المتقدم لا يقتضي تقدم المرجح الجهتي طبعا ، لأن موضوع الترجيح هو موضوع التعارض ، وحيث كان تكاذب المتعارضين موقوفا على كل من صدورهما وظهورهما وجهتهما كان التعارض بين مجموع الاصول الجارية فيهما من دون ترتب بينها مستتبع لترتب الترجيح.

٢١٧

الثاني : أن إعمال المرجح الجهتي لا يستلزم إلغاء أصالة الصدور في المرجوح ، بل الغاء أصالة الجهة فيه لا غير ، أما إعمال المرجح الصدوري فهو كما يستلزم إلغاء أصالة الصدور في أحدهما يستلزم إلغاء أصالة الجهة فيه أيضا ، لعدم الموضوع لها معه ، ورفع اليد عن أصالة الجهة واحدها أولى من رفع اليد عن الأصالتين معا.

وفيه : أن سقوط أصالة الصدور بسبب إعمال المرجح الصدوري وإن استلزم سقوط أصالة الجهة ، إلا أنه ليس لعدم الموضوع لها ، لأن الترجيح الصدوري لا يقتضي التعبد بعدم صدور المرجوح ، وإنما يقتضي عدم التعبد بصدوره ـ كخبر الفاسق ـ من دون إلغاء لاحتمال صدوره الذي هو موضوع أصالة الجهة ، بل لأجل عدم الأثر للتعبد بجهة ما لا يتعبد بصدوره ، وهو جار في أصالة الجهة أيضا ، لعدم الأثر للتعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته.

على أن رفع اليد عن أصالة الجهة لعدم الموضوع لها مع إلغاء أصالة الصدور ـ لو تمّ ـ ليس مخالفا للأصل ، ليلزم تقديم المرجح الجهتي ، لعدم منافاته لعموم دليلها ، وإنما المخالف للأصل هو رفع اليد عنها مع تحقق موضوعها ، كما لا يخفى.

الثالث : أنه يجب المحافظة على أصالة الصدور مهما أمكن أخذا بعموم دليلها ، وإن لزم رفع اليد عن الجهة ، نظير رفع اليد عن ظهور الظاهر مع معارضته بالأظهر ، حيث يقدم على الترجيح الصدوري بينهما.

ويندفع : بأن المحافظة على أصالة الصدور ليست بأولى من المحافظة على أصالة الجهة مع عموم دليلهما وتحقق موضوعهما.

ولا مجال لقياسه بحمل الظاهر على الأظهر ، لأن ذلك لما كان بمقتضى الجمع العرفي ، لكون الأظهر قرينة على المراد من الظاهر ، فرفع اليد عن ظهور الظاهر لا يبتني على طرح عموم حجية الظهور ، بل على قصور دليله عن المورد

٢١٨

المذكور ، فهو خارج عن عموم حجية الظهور تخصصا ، بل لا يصدق معه التعارض عرفا ، كما سبق ، بخلاف المرجح الجهتي ، فإنه لا يقتضي سقوط أصالة الجهة في المرجوح تخصصا ، بل سقوطهما تخصيصا ، كسقوط أصالة الصدور بالمرجح الصدوري ، فلا وجه لتقديمه عليه.

ولذا لو لم يمكن الجمع العرفي بين الظاهر والأظهر استحكم التعارض بينهما ، وكانت قوة الظهور في الأظهر مرجحا ولا دلاليا كالمرجح الجهتي ، كما أشرنا إليه عند تقسيم المرجحات.

وحينئذ يجري فيه ما يجري فيه من عدم الدليل على تقدمه على المرجح الصدوري.

نعم ، لو كان أحد الدليلين قرينة عرفية على حمل الآخر على التقية مثلا أو قام دليل آخر على حمله عليها سقطت أصالة الجهة فيه تخصصا ، فلا يصلح لمعارضة الآخر ، ليحتاج للمرجحات الصدورية أو غيرها.

لكنه خارج عن محل الكلام من فرض التعارض ـ لتمامية موضوع الحجية في كل منهما ـ ووصول النوبة للترجيح. فلاحظ.

وقد ذكر بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما وجوها للترتيب قد يرجع بعضها لما ذكرنا ، ولا مجال لاطالة الكلام فيها.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لم يتضح الترتيب بين المرجحات ، وإنما يحتمل تأخر المرجح المضموني عن المرجحات الداخلية بوجه قابل لخروج الشارع عنه. ومن هنا لا يهم إثباته ، بل المهم النظر في مفاد أدلة الترجيح ، وحيث سبق أن البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة يستلزم إلغاء خصوصية الترتيب بينها.

فلو تم تأخر المرجح المضموني طبعا لما سبق كان رفع اليد عنه موقوفا على فهم إلغاء ترتبه وأن المعيار في الترجيح الأقربية ـ كما يظهر من شيخنا

٢١٩

الأعظم قدّس سرّه ـ لا الأقوائية في الدليلية.

والظاهر أن استفادة الترجيح بالمرجح المضموني من النصوص تستلزم ذلك ، إذ هو لا يجتمع مع ظهورها في كون المعيار في الترجيح على الأقوائية في الدليلية.

وكيف كان ، فلا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة تعبدا بظاهر أدلتها ، حيث يلزمه التعبد به أيضا في الترتيب وكيفيته.

ومن الظاهر أن أخص النصوص هي مقبولة ابن حنظلة ، لاستيفائها جميع المرجحات ، وهي تقتضي الترجيح أولا بالشهرة ، ثم بموافقة الكتاب والسنة ـ من دون ترتيب بينهما ـ ثم بمخالفة العامة ، ثم بمخالفة ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل. فيلزم العمل عليها وتقييد إطلاق النصوص المقتصرة على بعض المرجحات بها.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الظاهر كون المقبولة كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان مرجحية المرجحات المذكورة فيها من دون نظر للترتيب بينها ، لبعد تقييد جميع نصوص الترجيح على كثرتها بما فيها.

فهو كما ترى! لعدم كثرة نصوص الترجيح المعتبرة السند المقتصر فيها على بعض المرجحات.

مع أن ذلك لا يصحح الخروج عن ظاهر الترتيب في المقبولة ، وليس تقييد نصوص الترجيح بها بالترتيب بأصعب من رفع اليد عن ظهور تلك النصوص في انحصار الترجيح بما تضمنته من المرجح ، بحيث لا تزاحمه المرجحات الاخرى التي تضمنتها المقبولة وغيرها ، بل ما ذكره قدّس سرّه أصعب لاستلزامه إهمال كلا المرجحين المترتبين عند التعارض ، وهو أكثر تخصيصا لأدلة الترجيح من إهمال أحدهما فقط.

٢٢٠