المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

امتثال الآخر ، ولذا يتخير بين التكليفين العرضيين المتساويين في الأهمية ، مع القدرة على كل منهما بخصوصه ، فيسقط كل منهما بنحو يجوز تفويته لأجل امتثال الآخر وإن كان مقدورا حين تفويته ، لتكافؤ الغرضين ، وهو جار في المقام في فرض مساواة المتقدم للمتأخر في الأهمية.

نعم ، لو بني على عدم وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف قبل وقته لم يصلح المتأخر لمزاحمة المتقدم ، لعدم داعويته حينه بنحو يقتضي صرف القدرة منه إليه.

لكن ذلك ـ مع أنه خلاف التحقيق ، ولذا يلزم الإتيان بالمقدمات المفوتة ـ مستلزم لترجيح المتقدم ، وإن كان دون المتأخر في الأهمية ، لأن الأهمية إنما تقتضي قوة الداعوية بعد الفراغ عن أصل تحققها ، ولم يلتزم بذلك.

ومن هنا أنكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه في المسألة السابعة عشرة من فصل القيام في الصلاة من مستمسكه الترجيح بالتقدم الزماني.

وأما الإشكال على ذلك باستلزامه لمن لا يطيق إلا صوم نصف شهر رمضان أن يفطر النصف الأول منه لإدراك النصف الثاني ، ولا يظن الالتزام به من أحد.

فهو ـ لو تم ـ نقض كاشف عن مرجحية التقدم الزماني ، لا عن صحة الوجه المتقدم في الاستدلال عليه.

على أنه لا يبعد ظهور أدلة وجوب الصوم في دخل القدرة والطاقة في موضوعه شرعا ، بنحو يكون التعذر رافعا لملاك وجوبه ومانعا من فعلية غرضه وإن كان مقتضيه باقيا ، فيتعين ترجيح السابق لتمامية موضوعه ويكون امتثاله مانعا من فعلية غرض اللاحق.

والذي ينبغي أن يقال : لا ريب في عدم دخل التقدم الزماني في الترجيح بين الاغراض المتزاحمة المستتبعة للإرادة التكوينية في ما إذا لم يحتمل احتمالا

٢٨١

معتدا به تجدد القدرة على المتأخر مع حفظ المتقدم ، أو تجدد العجز عن المتأخر مع تفويت المتقدم ، ولذا قد يختار صاحب الغرض المتأخر لأدنى داع للتأخير أما مع أحد الاحتمالين فلا إشكال في وجوب الاحتياط بالمحافظة على المتقدم لاحتمال تحصيل كلا الغرضين في الأول ، وللحذر من فوتهما معا في الثاني ، لأن مرجع ذلك إلى الشك في مزاحمة المتأخر للمتقدم. إلا أن يكون اللاحق من الأهمية بمكان ، بحيث يقتضي الاحتياط له بتفويت الغرض بمجرد احتمال مزاحمته له ، ويختلف ذلك باختلاف مراتب الأهمية ومراتب قوة الاحتمال.

ومقتضى الوضع الطبعي الجري على ذلك في الأغراض المستتبعة للإرادة التشريعية ، لو لا ما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح محتمل الأهمية من أن الشك في المقام في المسقط المعذر عن امتثال التكليف مع تنجز احتماله ، بنحو يجب الاحتياط ما لم يعلم بالمعذرية.

وربما يكون التقدم منشأ للترجيح بنظر المولى تحفظا على تحصيل ما يمكن تحصيله بالفعل ، لأن احتمال تحصيل كلا الغرضين مع فعل الأول ، أو فوتهما مع تفويته وإن فرض عدم حصوله أو كان غير معتد به عند العقلاء ، ولذا لا يجرون عليه في الترجيح في إراداتهم التكوينية ـ كما سبق ـ إلا أن المولى قد يلزم بالترجيح تحفظا من الطوارئ غير المحتسبة لهم ، أو التي لا يعتدون باحتمالها ، لأن عدم احتمالهم لذلك أو عدم اعتنائهم باحتماله لا ينافي تحفظ المولى منه ، كما قد يتحفظ المولى من خطأ قطع المكلف ، ولا يتحفظ منه المكلف نفسه.

نعم ، مع إحراز أهمية المتأخر بنحو معتد به فلا إشكال في لزوم ترجيحه. وأما مع احتمال أهميته فالأمر لا يخلو عن إشكال ، لتزاحم الاحتياطين المقتضي للتخيير. ولا بد من التأمل التام في المقام ، لأن الأمور الوجدانية لما لم تكن

٢٨٢

خاضعة للبرهان فقد يلتبس الأمر فيها بأدنى شبهة. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد.

تنبيه :

التزاحم في مقام الامتثال إنما يتصور في التكاليف الاستقلالية ، دون التكاليف الضمنية بالأجزاء والشرائط في المكلف به الارتباطي ، كما لو تعذر الجمع بين السورة والطمأنينة في الصلاة ، لواحدة الغرض الفعلي التي لا موضوع معها للتزاحم.

ولذا كان مقتضى القاعدة سقوط التكليف بالمركب بتعذر بعض ما يعتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط لو كان لدليل اعتباره إطلاق يشمل حال التعذر ، سواء كان المتعذر أمرا بعينه أم الجمع بين أمرين مع القدرة على كل منهما بعينه ، لرجوعهما معا إلى تعذر المكلف به وهو الأمر الارتباطي. وإنما يكتفى بالناقص لدليل خاص من إجماع أو غيره ، كما هو الحال في كثير مما يعتبر في الصلاة.

وحينئذ لو تعذر الجمع بين أمرين وعلم اكتفاء الشارع بالميسور ودار الأمر بين ترك أحدهما كان الاكتفاء بترك كل منهما منافيا لإطلاق دليله ، لو كان لكل منهما إطلاق يخصه ، فيتكاذب الإطلاقان ، ويكون من موارد التعارض العرضي لأمر خارج عن مفاد كل من الدليلين الموجب لسقوط كل منها عن الحجية في خصوص مؤداه ، مع عدم المرجح لأحدهما. ولو كانا مستفادين من دليل واحد علم بكذبه ، فيسقط عن الحجية في إثباتهما معا في الحال المذكور.

نعم ، لو استفيد من الإجماع أو غيره ثبوت المقتضي لكل منهما بحيث يعلم بوجوب أحدهما كان المورد من صغريات التزاحم الملاكي ، الذي سبق الكلام فيه في بحث الفرق بين التعارض والتزاحم.

وحينئذ لا إشكال في التخيير بينهما مع العلم بالتساوي في الأهمية ،

٢٨٣

ومرجعه إلى التخيير في مقام الجعل لغرض واحدة الغرض المستلزم للتخيير في فرض تكافؤ المقتضيين.

كما لا إشكال في ترجيح الأهم منهما لفعلية الغرض على طبق أقوى المقتضيين عند تزاحمهما ، كما سبق عند الكلام في التزاحم الملاكي.

ولو احتمل أهمية أحدهما بخصوصيته فالمورد من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل ، الذي سبق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الكلام في أن المرجع فيه البراءة أو الاشتغال. وكذا مع احتمالها في كل منهما مع احتمال التساوي أيضا.

وأما لو علم بأهمية أحدهما إجمالا فالمورد من صغريات الدوران بين المتباينين في مقام الجعل فيلزم فيه الاحتياط بتكرار المركب مع كل من الأمرين مع تيسره ، ومع تعذره يتعين البناء على التخيير الظاهري ، بناء على ما سبق في مباحث العلم الإجمالي من وجوب الموافقة الاحتمالية عند الاضطرار لمخالفة أحد أطرافه غير المعين.

وأما الترجيح بتقدم المحل ، كترجيح الركوع الاختياري على السجود الاختياري ، فلا مجال له ، ولا يجري فيه ما سبق ، لأن امتثال التكليف الضمني لا يكون إلا بتمامية المركب الذي يحصل به غرضه ، فتقدم المحل لا يوجب سبق الامتثال ، كما يوجبه في التكاليف الاستقلالية.

نعم ، لو كان موضوع الاكتفاء بالميسور تعذر الجزء أو الشرط حين تركه تعين ترجيح السابق والمحافظة عليه ، لعدم تعذره ، ومع الاتيان به يتعذر اللاحق فيتحقق موضوع جواز تركه.

ومرجعه إلى رفع الاتيان بأحدهما لموضوع وجوب الآخر ، الخارج عن مفروض الكلام وهو تمامية موضوع كل منهما وشمول إطلاقه. فتأمل جيدا.

هذا ، ولو لم يحرز المقتضي لأحدهما فلا موضوع للترجيح بالأهمية. بل

٢٨٤

يكون المقام من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل أو بين المتباينين ، ويجري فيه ما سبق.

نعم ، لو كان التكليف بأحدهما رافعا لموضوع الآخر ، لأخذ القدرة الشرعية فيه التي هي بمعنى عدم لزوم محذور منه تعين ترجيح الأول ، وخرج عن مفروض الكلام من تمامية إطلاق دليل اعتبار كل من الأمرين.

هذا ما تقتضيه القواعد العامة ، وتنقيح الصغريات موكول للفقه ، ولا يسع المقام التعرض لها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم ، وله الحمد وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.

إلى هنا انتهى الكلام في مبحث التعارض ، ليلة السبت ، الثالث من شهر ذي الحجة الحرام ، سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وتسعين للهجرة النبوية ، على صاحبها وآله أفضل الصلوات ، وأزكى التحيات.

في النجف الأشرف بيمن الحرم المطهر المشرف على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير محمد سعيد عفي عنه ، نجل العلامة الجليل حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).

ونشكره تعالى على تسهيله وتيسره ، ونسأله أن يشفع أوائل مننه بأواخرها ، وسوابقها بلواحقها ، ويتم علينا نعمه بالتوفيق والتسديد ، وقبول الأعمال ، وصلاح الأحوال ، إنه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلا به عليه توكلت وإليه أنيب.

وقد انتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأحد الرابع من الشهر المذكور بقلم مؤلفه حامدا ، مصليا ، مسلما.

٢٨٥
٢٨٦

خاتمة

في الاجتهاد والتّقليد

٢٨٧
٢٨٨

خاتمة علم الأصول

في الاجتهاد والتقليد

وقد وعدنا في تمهيد مباحث الحجج بالتعرض لذلك ، وذكرنا أن المناسب جعله خاتمة للمباحث الأصولية ، لخروجه عنها ، ومناسبته لها ، لأن البحث فيه عن أقسام الاستنباط وأحكامه ، لا عن مقدمات لاستنباط ، التي هي مورد الكلام للمباحث الأصولية.

وكيف كان ، فالكلام يقع في مقامين ، وخاتمة ، يبحث في أول المقامين عن الاجتهاد ، وفي ثانيهما عن التقليد ، وفي الخاتمة عن وجوب الفحص الذي يشترك بين المجتهد والمقلد.

٢٨٩
٢٩٠

المقام الأول

في الاجتهاد

وهو لغة بذل الوسع ، كما في الصحاح ومختاره والقاموس والنهاية ولسان العرب ، وفي الأخيرين : «وهو افتعال من الجهد الطاقة».

وكأن ما في المعالم والفصول والكفاية وغيرها من أنه تحمل المشقة مبني على أنه افتعال من الجهد ـ بالفتح أو به وبالضم ـ بمعنى المشقة كما صرح به في المعالم.

لكنه خلاف المتبادر منه عرفا. وكأنه بلحاظ ملازمة بذل الوسع للمشقة غالبا قال في مفردات الراغب : «والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة». والأمر سهل.

وأما في الاصطلاح فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه وتحديده ففي المعالم وعن العلامة والحاجبي وجماعة : أنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ، وعن البهائي قدّس سرّه : أنه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي ، وقيل غير ذلك.

قال في تقرير درس بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه : «ولكن الظاهر أن اختلاف عباراتهم في شرح معناه المصطلح ليس لأجل اختلافهم في حقيقته ، بل هو عند الجميع عبارة عن استفراغ الوسع في إعمال القواعد لتحصيل المعرفة بالوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية ، وأن المقصود من تلك العبارات هو مجرد الاشارة إليه بوجه ما». وسبقه إليه في الجملة المحقق

٢٩١

الخراساني قدّس سرّه في الكفاية.

أقول : التأمل في موارد اطلاق الاجتهاد في الصدر الأول في النصوص الواردة عن الأئمة عليهم السّلام وغيرها مما ورد عن العامة في كلماتهم ورواياتهم شاهد بأن الأصل له العامة ، وأن مرادهم منه خصوص إعمال الرأي بالقياس والاستحسان ونحوهما للوصول للحكم الواقعي ، في مقابل أخذه من الكتاب والسنة ونحوهما من الأدلة التعبدية ، فضلا عن معرفة الوظيفة الظاهرية ، خصوصا العقلية.

وهو المناسب للتعريف الأول ، وللمعنى اللغوي أيضا ، للزوم استفراغ الوسع في طلب الحكم والوصول إليه عند من يعتمد عليه.

كما قد يناسبه أيضا ما هو المعلوم من طريقة كثير من العامة من الاعتماد على ذلك ، بل قد يصدر من بعض أصحابنا كالفاضلين وغيرهما.

ولعله لذا شنع الاخباريون على الاجتهاد ووقفوا منه الموقف المعلوم ، حتى عقد في الوسائل بابا (١) ضمنها ما يزيد على خمسين حديثا في الردع عنه وعن الرأي والقياس ونحوها من الاستنباطات الظنية في الأحكام الشرعية.

ولذا ذكر شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أن الأولى تغيير هذا العنوان الذي سبب الفتنة بين الطائفة المحقة وشق صفوفها ووقوع الفرقة بين علمائها فضلا عن عوامها.

لكن ذلك ناشئ عن الجمود على ظاهر لفظ الاجتهاد من دون نظر إلى سيرة الأصحاب وتصريحاتهم في مباحثهم الكلامية والأصولية والفقهية ، حيث لا إشكال في عدم بنائهم على التعويل على الاستنباطات الظنية ، بل على الحجج المعتبرة شرعية كانت أو عقلية ، وأن مرادهم من الاجتهاد هو تشخيص الوظيفة التي يترتب عليها العمل اعتمادا عليها.

وذكرهم لبعض الوجوه الاستحسانية في الاستدلال على الأحكام

__________________

(١) هو الباب السادس من أبواب صفات القاضي ، ج : ١٨.

٢٩٢

الشرعية إما أن يكون مجاراة للعامة أخذا بما يلتزمون بنظيره ـ كما لعله الغالب ـ أو لحصول القطع بسببه من باب تنقيح المناط أو نحوه ، ولو للغفلة عن الحال ، حيث لا بد من تأويل ما يقبل التأويل في مقابل المقطوع به من مذهبهم.

بل لا يبعد كون ذلك هو المراد لكثير من الأصوليين من العامة ، وإن اختلفوا معنا في تعيين الحجج ، وأن ذكر الظن في التعريف لأنه أقل ما يكتفي به المجتهد.

وربما كان ذلك هو الاجتهاد بالمعنى الأعم عندهم ، وما قبله هو الاجتهاد بالمعنى الأخص ، كما يظهر من بعضهم.

بل في نهاية ابن الأثير بعد الكلام المتقدم قال : «والمراد به رد القضية التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة ، ولم يرد الرأي الذي رآه من قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنة» ، ونحوه في لسان العرب ومقتضاه مباينة الاجتهاد للمعنى المتقدم ، لا أنه أعم منه. وإن كان ذلك لا يناسب طريقتهم في الاستنباط.

إلا أن ينزل على الرد للكتاب والسنة ولو بلحاظ دلالتهما بنظرهم على حجية بعض أقسام الرأي ، فيرجع إلى ما ذكرنا من كون المراد بالاجتهاد تشخيص الوظيفة اعتمادا على الحجة.

نعم ، ذلك لا يناسب التعريف الأول ، ويحتاج تنزيله عليه إلى تكلف. كما لا يناسب المعنى اللغوي ، لوضوح أن مجرد بذل الوسع من دون وصول للوظيفة الفعلية ليس اجتهادا بالمعنى المذكور ، بخلاف المعنى الأول ، لأن بذل الوسع عندهم كاف في تحقق الوظيفة ، لحجية الظن الحاصل منه عندهم.

كما أن بذل الوسع مع تشخيص الوظيفة ليس دخيلا في مفهوم الاجتهاد ، بل في تحققه ، لتوقف تشخيص الوظيفة على اليأس من الظفر بدليل آخر ولو كان معارضا.

٢٩٣

وليس الأمر بمهم بعد عدم الأثر لتحديد مفهوم الاجتهاد ، لعدم أخذ عنوانه في الأدلة الشرعية موضوعا لشيء من الأحكام ، وإنما هو محض اصطلاح لا مشاحة فيه.

غاية الأمر أن المناسب مطابقته لموضوع الغرض.

وحيث لا يفرق في وظيفة المجتهد ـ التي يترتب عليها عمله وعمل غيره ، والتي هي موضوع البحوث الآتية ـ بين تشخيص الحكم الواقعي وتشخيص الوظيفة الظاهرية شرعية كانت أو عقلية ، كان المناسب تعميمه لمطلق تشخيص الوظيفة العملية الفعلية في الشبهة الحكمية ، إما بتشخيص الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري ، اعتمادا على الحجج ولو كانت ظنية أو على الأصول أو بتشخيص الوظيفة العقلية.

ومن هنا لا مجال لذكر استفراغ الوسع في تعريفه ، لما فيه من الاشعار بكون موضوعه ذا واقع محفوظ قد لا يصل إليه الوسع ، وهو إنما يتجه بالإضافة إلى الأحكام الواقعية ، وأما الوظيفة الفعلية التي يترتب عليها العمل فلا يتصور فيها ذلك ، لقطع المجتهد بها.

ثم إن تشخيص الوظيفة المذكورة حيث كان موقوفا على الفراغ من مقدمات كثيرة ، كالمسائل الاصولية واللغوية ، وعلى أنس الذهن بالظهورات الشرعية والعرفية ، كان مسبوقا بملكة مكتسبة نتيجة لذلك.

ومن هنا قد يجعل الاجتهاد نفس الملكة المذكورة كما تقدم عن البهائي ، وقد يجعل نفس الاستنباط والتشخيص للوظيفة ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين ـ في كلامه السابق ـ وغيره.

وحيث كان كل منهما موردا للأثر من بعض الجهات ، كان الأنسب تعريفه بالملكة ، ليطابق موضوع الغرض.

ودعوى : عدم صدقه على ذي الملكة من دون أن يمارس عملية

٢٩٤

الاستنباط.

غير ظاهرة ، لأن المفهوم المذكور غير عرفي ، ليتضح حاله بعرضه على العرف ، وإنما هو مصطلح خاص لم يتضح حدوده بعد عند أهله ، بل لا مانع من توسيعه تبعا لسعة الغرض.

وقد تلخص من جميع ما تقدم : أن الاجتهاد الذي هو محل الكلام. ملكة يقتدر بها على تشخيص الوظيفة الفعلية في الشبهات الحكمية.

إذا عرفت هذا فالكلام في الاجتهاد يقع في مسائل ..

المسألة الاولى : وقع الكلام بين الاصوليين من العامة والخاصة في تجزي الاجتهاد وعدمه على أقوال.

ومحل الكلام إنما هو الملكة ، أما العلم الفعلي المبتني على إعمال الملكة فلا ريب ظاهرا في إمكان التجزي فيه ، بل وقوعه بالنظر في بعض المسائل الفقهية دون بعض ، بل يمتنع عادة العلم بجميع المسائل دفعة ، بل لا بد من النظر فيها تدريجا ، الراجع إلى التجزي في بعض الأزمنة ، بل حيث كانت بعض المسائل مغفولا عنها ، لعدم الابتلاء بها أصلا ، وعدم المنبه لموضوعاتها ، كان اللازم التجزي دائما.

ومن هنا ينحصر الكلام في التجزي بالملكة ، ومرجعه إلى الكلام في أنه هل يكون الشخص قادرا على تشخيص الوظيفة في خصوص بعض المسائل ، أو لا بد إما قدرته على تشخيصها في كل مسألة يفرض ابتلاؤه بها ، أو عجزه عنه في الكل؟

والمعروف ـ كما قيل ويظهر بالنظر في كلماتهم ـ هو إمكان التجزي.

وربما نسب القول بامتناعه للشذوذ ، وإن كان هو الظاهر من شيخنا الاستاذ قدّس سرّه وبعض تلامذته.

وكيف كان ، فقد يستدل على امتناعه بوجوه ..

٢٩٥

أولها : عدم انضباط مدارك الأحكام وأدلتها ، حيث قد يكون في مدارك بعض الأحكام ما ينفع في معرفة أحكام أخرى ، فما لم يطلع الشخص على مدارك تمام الأحكام ، ويكون ذا خبرة بها ، لا يستطيع تشخيص شيء منها ، لاحتمال عدم استكمال الفحص عنه.

وفيه : أنه قد يقطع الناظر في كلمات الأصحاب في المسألة وبعد التأمل في خصوصياتها بعدم وجود دليل فيها قد خفي عليه يتوقف اطلاعه عليه على النظر في بقية المسائل ، ولا أقل من اليأس عن ذلك بالنحو الكافي الذي يقطع معه بعدم وجوب الفحص. وإلا أمكن ورود ذلك في الناظر في تمام المسائل ، لإمكان نسيانه لمفاد بعض الأدلة أو غفلته عن إفادته في بعض المسائل.

على أن النظر في جميع أدلة المسائل لا يستلزم القدرة على تشخيص الوظيفة فيها ـ الراجعة للاجتهاد المطلق ـ لإمكان ابتناء معرفة بعضها على مقدمات لم يفرغ منها ، بخلاف بعضها الآخر الذي استكمل مقدمات المعرفة فيه.

ثانيها : أن ملكة الاجتهاد كسائر الملكات أمر بسيط غير قابل للتجزي.

وفيه : أن مرجع التجزي ليس إلى تجزّي الملكة ، بل الى ضعفها وقصورها عن بعض الأحكام ، لما أشرنا إليه آنفا من أن الملكة متقومة بمعرفة المقدمات التي يبتني عليها تشخيص الوظيفة ، وقد يكون الشخص عارفا ببعض تلك المقدمات دون بعض ، فلا يتسنى له إلا تشخيص الوظيفة في المسائل التي يكفي فيها تلك المقدمات ، دون غيرها مما يحتاج للمقدمات الاخرى التي يجهلها.

ثالثها : أن مدارك الأحكام في الوقائع المختلفة ومقدمات الاستنباط متداخلة مترابطة ، فليس تشخيص الوظيفة في الواقعة الواحدة موقوفا على مقدمة أو مقدمتين ، كي يمكن للعارف بهما تشخيصها فيها ولو مع العجز عن

٢٩٦

تشخيصها في غيرها للجهل بمقدماته.

مثلا المسألة التي يكون المرجع فيها الأدلة اللفظية لا يكفي فيها البناء على أصالة حجية الظهور ، بل لا بد فيها من تشخيص الظهور ، وتشخيص مقتضى الجمع العرفي بين الظهورات ، ومقتضى القاعدة في المتعارضين بعد الفراغ عن حجية الخبر ذي الظهور الخاص الوارد فيها.

كما أن المسألة التي يكون المرجع فيها الأصل العملي مثلا لا يكفي فيها ثبوت كبرى الأصل المذكور ، بل لا بد معها من الفراغ عن عدم الدليل في المسألة ، لعدم وجود الخبر فيها ، أو عدم تمامية ظهور ما ورد فيها ، أو معارضته بما يسقطه عن الحجية ، وكل ذلك قد يبتني على قواعد اصولية متعددة.

بل الفراغ عن بعض مقدمات الاستنباط يتوقف على غيرها أيضا ، فالفراغ عن كبرى الاستصحاب مثلا موقوف على الفراغ عن أصالة الظهور ، وعن حجية خبر الواحد ، ليمكن التمسك بأخباره ، وعن قواعد الجمع بين الأدلة لمعارضة ظهور أخباره بما ينافيها بدوا ، كعمومات البراءة أو الاحتياط ، وعن حجية الإجماع المستدل به عليه ، والسيرة التي وقع الكلام في حجيتها ذاتا ، وفي صلوح عمومات عدم حجية غير العلم للردع عنها. وهكذا الحال في جعل القواعد الاصولية أو جميعها.

ومن هنا لا يتسنى النظر في بعض المسائل الفقهية لمن لم يفرغ عن تمام مقدمات الاستنباط ، التي يستلزم الفراغ عنها الاجتهاد المطلق.

وكأن هذا هو الوجه الذي اعتمده شيخنا الأستاذ قدّس سرّه في المقام.

وفيه : أن عدم الاكتفاء في المسألة الواحدة بمقدمة واحدة أو مقدمتين ، وابتناء بعض المقدمات على بعض وإن كان مسلما في الجملة ، إلا أنه ليس بالنحو الراجع إلى توقف تشخيص الوظيفة في المسألة الواحدة على الفراغ عن جميع المقدمات ، بحيث يلزم الاجتهاد المطلق ، لوضوح أن كثيرا من الكبريات

٢٩٧

الاصولية يسهل اثباتها في الجملة ، ولا يحتاج لقوة النظر إلا بعض خصوصياتها ، ولا يتوقف على تلك الخصوصيات إلا قليل من الفروع الفقهية ، فالجهل بها لا يوجب إلّا العجز عن تشخيص الوظيفة في تلك الفروع ، مع القدرة على تشخيصها في الفروع الأخر غير المبتنية على تلك الخصوصيات ، كبعض خصوصيات مسألة اجتماعي الأمر والنهي ، والجمع العرفي ، وحجية العام في عكس نقيضه ، وفي الشبهة المصداقية ، وحجية بعض مراتب الإجماع ، والخبر الصحيح المهجور بين الأصحاب والضعيف المعمول به عندهم ، وانقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال ، وجريان الاستصحاب التعليقي ، أو استصحاب القسم الثالث من الكلي أو حكم المخصص أو العدم الازلي ، ومقتضى القاعدة في المتكافئين ، وغير ذلك مما يلزم من عدم الفراغ عنه إلا التوقف في خصوص بعض الفروع.

كما لا ريب في اختلاف الفروع الفقهية في الاحتياج إلى دقة النظر وإعمال الذوق الفقهي ، لابتناء بعضها على بعض الاستظهارات الخفية والالتفات للنكات الدقيقة أو بعض وجوه الجمع العرفي المحتاجة لحسن السليقة ، أو ملاحظة بعض القرائن ككلمات الأصحاب ومقدار الابتلاء بالحكم ، ونحو ذلك مما لا يتسنى إلا للممارس الماهر ، ويعجز عنه كثير ممن تمت مبانيه الاصولية وسهل عليه كثير من المسائل الفقهية بسببها ، فإن المباني الاصولية وحدها لا تكفي في القدرة على الاستنباط ما لم يتيسر لصاحبها تشخيص موضوعاتها بنحو تطمئن به النفس ويركن إليه في مقام العمل ، وهو لا يتسنى لكل أحد ، خصوصا في بعض الفروع.

وبذلك يظهر أن البناء على إمكان التجزي بل وقوعه هو المتعين.

بل ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أنه يستحيل عادة حصول اجتهاد مطلق غير مسبوق بالتجزي ، للزوم الطفرة.

٢٩٨

وما ذكره متين بلحاظ الوضع المتعارف من تدرج الباحث في المعلومات ، وفي المهارة فيها وقوة النظر والذوق الفقهي باستمرار الممارسة ، فلا يتسنى له في أول مراحله إلا تشخيص الوظيفة في الفروع الفقهية غير المعقدة ، التي يسهل إثبات كبرياتها الاصولية وإحراز موضوع تلك الكبريات فيها ، ثم يقوى على الأصعب فالأصعب بطول الزمن واستمرار الممارسة ، وإعمال النظر والملاحقة.

وربما يبقى عاجزا عن تشخيص الوظيفة في بعض الفروع ، لشدة تعقدها واضطراب الوجدان عليه فيها ، لتصادم جهات الكشف عن الوظيفة الفعلية ، كما يبتلى به أعاظم المجتهدين في كثير من الموارد ، فيتوقف عن الفتوى فيها ، ويقتصر على بيان مقتضى الاحتياط ، وهو الذي اصطلح عليه في عصورنا بالاحتياط الوجوبي ومن هنا لا يكون مجتهدا مطلقا بالمعنى المتقدم. ولعله لذا اكتفى في الفصول في الاجتهاد المطلق بالقدرة على استنباط جملة معتد بها من الأحكام.

وأما ما ذكره غير واحد من أن تردد المجتهد في بعض المسائل إنما يكون بالإضافة للحكم الواقعي ، لعدم الظفر بالدليل عليه مع استكمال الفحص ، لا لقصور الباع أو قلة الإطلاق ، من دون تردد في الوظيفة الفعلية.

فهو كما ترى! لوضوح عدم انحصار وظيفة المجتهد ببيان الحكم الواقعي ، بل يكفي تعيينه للوظيفة الفعلية مع وضوحها عنده ، ويجب اتباعه فيها ، ولا يجب الاحتياط معها ، كما لا يجوز للعامي الرجوع لغيره ممن هو دونه في الفضيلة ، وإن أفتى بالحكم الواقعي اعتمادا على ما يراه حجة عليه.

نعم ، يحسن الاحتياط لإصابة الواقع ، أو لتجنب بعض الاحتمالات غير المعتد بها بعد معرفة الوظيفة الفعلية ، وهو احتياط استحبابي بمصطلح العصر.

ودعوى : أنه بعد فراغ المجتهد عن وجوب العمل بالحجة الفعلية ،

٢٩٩

والرجوع للأصل الشرعي أو العقلي مع فقدها ولو للشك فيها ، بمقتضى مبانيه الاصولية ، لا مجال لتردده في الوظيفة الفعلية في المسألة ، إذ مع القطع بقيام الحجة يتعين العمل بها ، ومع عدمه يتعين الرجوع للأصل ، ويمتنع الشك في ذلك ، لأنه لا يدخل الامور الوجدانية.

مدفوعة : بأنه قد لا يتضح للمجتهد وجود الحجة بالنحو المصحح للرجوع للأصل ، لتصادم جهات الكشف عنده واضطراب الوجدان عليه ، فلا يطمئن لشيء من الوجوه ، ويكون كغير المجتهد من أهل العلم ممن قد يطلع على كلمات الأصحاب ووجوههم في المسألة ويفهمها ، لكن يعجز عن تمييز الصحيح منها بنحو يركن إليه ويجري على مقتضاه ، ولو لعدم قوة مبناه الاصولي.

وإن شئت قلت : إن مجرد علم الباحث ببعض الكبريات ويتحقق موضوعاتها والاذعان بذلك لا يستلزم العمل عليها ما لم يحصل له القناعة الكافية بما حصله من معلومات والركون النفسي إليها ، بنحو يتحمل لأجلها مسئولية العمل ، وبهذا يكون مجتهدا.

فتوقف المجتهد عن العمل ببعض القواعد التي أذعن بها في بعض الموارد كاشف عن ضعف ملكته وقصورها عن ذلك المورد.

نعم ، ذلك لا يطرد ، بل قد يكون التوقف عن الفتوى لمحض التورع والاحتياط للواقع مع القدرة على تشخيص الوظيفة ، ولذا قد يشخصها لو اضطر لذلك أو ترجح لديه لزوم الفتوى ، لحاجة الناس أو نحوها.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في وجوب عمل المتجزي برأيه في ما وصل إليه ـ وإن قيل : إنه محل خلاف ـ لعموم أدلة الحجج له ـ بل تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الكلام في المتكافئين عمومها للعامي ـ فيقطع بمقتضاها بالوظيفة الفعلية ، كما يقطع بها في موارد الأصول العقلية ، ولا مجال لتخلف القاطع عن

٣٠٠