المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

المرجوح لضعف احتمال صدوره ، تقديما للأقوى في مقام التعارض ، لأن ذلك هو المنسبق منه عرفا في فرض بلوغ كل من المتعارضين مرتبة الحجية وعدم تكاذبهما في مقام الصدور ، وهو المناسب لتعليل مرجحية الشهرة بأن المشهور لا ريب فيه ، لأن المنساق من ذلك أن الآخر مورد للريب ، واللازم ترك ما فيه الريب إلى ما لا ريب فيه عند التعارض والدوران بينهما ، لا أن الآخر محكوم بعدم الصدور ، وذلك لا يقتضي ترك المرجوح في غير مورد المعارضة ، لأن ضعف الدليل إنما يناسب عدم حجيته في مورد معارضته بالأقوى ، لا سقوطه عن الحجية رأسا.

نعم ، لو كان مفاد الترجيح الصدوري الحكم بعدم صدور المرجوح أو كان الخبران متكاذبين في الصدور كان ما ذكره من امتناع التفكيك فيه بين أجزاء المضمون متينا.

لكنه يقتضي جريان الترجيح الصدوري في العامين من وجه ـ بعد فرض شمول أخبار العلاج لهما ـ المستلزم لعدم حجية المرجوح حتى في غير مورد المعارضة ، لأن دليل المرجح المذكور يكون مخصصا لعموم الحجية ، ولا وجه لعدم جريان المرجح المذكور بعد عموم دليله.

ولا مجال لقياسه على القطعيين ، حيث يجري فيهما سائر المرجحات دون المرجح الصدوري ، لعدم الموضوع للمرجح المذكور في القطعيين وتحقق الموضوع له في العامين من وجه.

واستلزامه عدم حجية المرجوح في غير مورد المعارضة ليس محذورا إذا اقتضاه الجمع بين أدلة الحجية وأدلة الترجيح ، لأن عدم المانع من حجيته في غير مورد المعارضة إنما يستلزم حجيته إذا بقي مشمولا لعموم دليل الحجية ، دون ما إذا كان خارجا عنه تخصيصا بأدلة تخصيصا بأدلة الترجيح.

كما أن ما ذكرناه من الجمع العرفي بينهما إنما هو بعد الفراغ عن عموم

٢٦١

دليل الحجية لهما معا.

وبالجملة : البناء على عموم الأخبار العلاجية للعامين من وجه وجريان المرجحات الصدورية بينهما كغيرها من المرجحات هو الأنسب بإطلاقها.

هذا كله لو كان عموم العامين مستفادا من الوضع ، أما لو كان أحدهما أو كلاهما مستفادا من الإطلاق بمقدمات الحكمة فقد قرب بعض مشايخنا تعينه للسقوط ، لعدم جريان مقدمات الحكمة مع معارضة الإطلاق للعموم ، لصلوحه للبيان ، كما لا تجري في المطلقين المتعارضين لاستلزامها اجتماع المتنافيين ومع عدم جريانها لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين ، بل يقصر كل منهما عن مورد الاجتماع.

ويشكل : بأن البيان المعتبر في مقدمات الحكمة هو البيان المتصل بالكلام ، فمع عدمه ينعقد الظهور في الإطلاق ، ولذا اعترف بأن ورود البيان المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الإطلاق ، كما لا يخل بظهور العام في العموم ، فليس تعارض الإطلاقين وتعارض الإطلاق والعموم إلا كتعارض العمومين في تنافي الكلامين بحسب ظهورهما المانع من حجيتهما معا ، ويجري فيه ما سبق. وقد سبق في ترجيح العموم على الإطلاق من مباحث الجمع العرفي ما يتعلق بالمقام.

وأما ما قد يلوح من كلامه أو ينسب إليه من أن الإطلاق والسريان لما لم يكن مستفادا من اللفظ ، بل من مقدمات الحكمة فهو خارج عن مدلول الخبر الذي هو موضوع الأخبار العلاجية ، وليس مدلول كل من الخبرين بنفسه إلا ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة ، ولا تعارض بينهما مع ذلك.

ففيه أنه بعد تمامية مقدمات الحكمة فهي من سنخ القرائن المحتفة بالكلام الموجبة لظهوره في الإطلاق والسريان ، والمصححة لنسبته للخبر ، وبلحاظ ذلك يصدق التعارض بين الخبرين الذي هو موضوع الأخبار العلاجية.

٢٦٢

ثم إن لازم ما ذكره جريان التفصيل المذكور في المتباينين أيضا. فإذا كان أحدهما عموما والآخر إطلاقا لا تجري مقدمات الحكمة في الإطلاق ، فينقلب إلى قضية مهملة قابلة لتخصيص العموم عرفا ، من دون أن تجري عليهما أحكام التعارض ، وحيث يكون مورد التخصيص مجملا يكون العام بحكم المجمل. وإذا كانا معا إطلاقين لا تجري مقدمات الحكمة فيهما معا وينقلبان إلى قضيتين مهملتين مجملتين لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين.

مع أنه لم يذكر التفصيل المذكور في المتباينين. فلاحظ.

المسألة الثالثة : سبق في مقدمات مبحث التعارض أن التعارض قد يتحقق بين أكثر من دليلين ، فيشملها أحكام التعارض العامة.

أما أحكامه الخاصة التي تضمنتها نصوص العلاج فلا يبعد شمولها أيضا ، لأن جملة من تلك النصوص وإن اختصت بتعارض الخبرين ، إلا أن بعضها مطلق من هذه الجهة ، كمقبولة ابن حنظلة المفروض فيها اختلاف الحكمين ، لاختلافهما في الحديث ، لوضوح أن كلّا من الحكمين قد يستند في حكمه للجمع بين مضموني حديثين أو أكثر.

كما أن اختلاف الحديث كما يصدق مع تنافي مضموني حديثين يصدق مع تنافي مضامين أكثر من حديثين. وكذا مرسل الحارث بن المغيرة المتقدم في نصوص التخيير.

على أن إلغاء خصوصية الحديثين في أكثر النصوص قريب عرفا. ولا سيما مع مناسبته لنوع المرجحات ارتكازا ، ولما في بعض نصوص التخيير من كون الأخذ بكل منهما من باب التسليم.

هذا ، ولو كان أحد النصوص المختلفة قطعي المضمون كان التعارض بين الباقي منها. فقد يرجع للتعارض بين الحديثين.

لكنه يكون من التعارض العرضي لأمر خارج ، كما تقدم التنبيه عليه هناك.

٢٦٣

فيلحقه ما سبق في التعارض العرضي ـ في الأمر الرابع من التمهيد عند الكلام في توقف التعارض على تنافي المؤديين ـ من توقف شمول الأخبار العلاجية له على وضوح التنافي بين المؤديين بحيث يصلح دليل كل منهما لنفي مفاد الآخر عرفا ، دون ما إذا استند الى ملازمة اتفاقية خفية.

كما سبق هناك قصورها عما إذا علم بعدم صدور أحد الخبرين ـ وإن شملته أحكام التعارض العامة ـ لرجوعه إلى التعارض في الإخبار عنهم عليهم السّلام ، من دون تناف في الحكم لا إلى التعارض بين أخبارهم ، لتنافي الأحكام التي تضمنتها فراجع.

المسألة الرابعة : صرح بعض مشايخنا : بأن اختلاف النسخ في الأحاديث داخل في تعارض الاخبار. وظاهره جريان أحكامه الخاصة التي تضمنتها الأخبار العلاجية من التخيير وغيره.

لكن الظاهر قصور الأخبار العلاجية عن ذلك ، لأنه وإن كان راجعا إلى تعارض المخبرين عن واقع واحد ، إلا أنه ليس من اختلاف أخبارهم عليهم السّلام الذي هو موضوع نصوص العلاج ، بل من الاختلاف في الخبر المنقول عنهم عليهم السّلام ، فإن الحديث والخبر والرواية في عرف المتشرعة الذي جرت عليه النصوص هي الأمر المنقول عن المعصوم عليه السّلام ، واختلافه إنما يكون بتنافي المضامين المنقولة ، وبذلك يتحقق موضوع نصوص العلاج ، وهو لا يصدق مع فرض اتحاد الأمر المنقول عنه من قبل الراوي الواحد مع الاختلاف في بيان ما ينقله من قبل الوسائط المتأخرة ، كما هو الحال في اختلاف النسخ.

ومن هنا كان نسبة الاختلاف للأخبار ذات الأسانيد ليس باعتبار اختلاف الوسائط المتأخرة ، لعدم التكاذب بينهم وعدم التنافي بين مضامين أخبارهم ، بل باعتبار اختلاف المضامين التي يحكيها الرواة عن المعصومين عليهم السّلام مباشرة وتنافيها مع كونها موردا للأثر والعمل.

٢٦٤

وليس السند في كل من الروايات المتعارضة إلا حجة في إثبات نقل الرواة المذكورين ، ونسبة الاختلاف والتعارض لرواية رجال السند المتأخرين ـ لو وقعت ـ لمحض الطريقية والحكاية عما هو موضوع الاختلاف والآثار.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض مشايخنا من قياس ذلك على ما إذا اختلف السامعان لكلام الإمام عليه السّلام في مجلس واحد في حكايته ، لوضوح صدق الحديث على ما ينقله السامع لكلام الامام ، فاختلافهما فيه اختلاف في حديثهم عليهم السّلام ، بخلاف المقام ، فإنه من الاختلاف في ما رواه الراوي من حديثهم.

على أنه لا يبعد انصراف النصوص العلاجية عنه أيضا ، وظهورها في فرض احتمال اختلاف الواقعتين ، بنحو يمكن صدورهما معا ، ويرجع إلى الاختلاف بين أحاديثهم لا في حديثهم.

خصوصا ما تضمن الترجيح بمخالفة العامة ، لظهور أن مخالفتهم مرجح جهتي لأحد المضمونين المختلفين الصادرين عن الإمام عليه السّلام لظهور الحال في أن الموافق منهما صادر للتقية ، لا مرجح صدوري ، ليمكن فرضه في ما لو علم بعدم صدور أحد الكلامين ، لعدم غلبة مخالفتهم عليهم السّلام للعامة. بل لعل ما صدر عنهم عليهم السّلام موافقا لهم أكثر. فتأمل.

وكيف كان ، فلا مجال لإجراء الأحكام التي تضمنتها الأخبار العلاجية في اختلاف النسخ في متن الحديث ، فضلا عن سنده. إلا أن يتعدى عن مورد النصوص لغيرها من الطرق الخاصة ، على ما يأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة.

هذا ، وعن الفقيه الهمداني أن اختلاف النسخ من اشتباه الحجة باللاحجة ، وهو غير ظاهر ، لأنه وإن علم بعدم صدور أحد الكلامين وعدم كونه من أفراد الحجة واقعا ، إلا أن رواية كل منهما في فرض اعتبار سنده موجب لدخوله في

٢٦٥

قسم الحجة ظاهر ، ولتحقق التعارض بين السندين بلحاظ تنافي المضمونين المحكيين بهما عملا ، وإن لم يكن تعارض في كلام الامام واقعا ، لفرض واحدته.

والعلم الإجمالي بكذب أحد السندين في المضمون المحكي به لا يخرجهما عن التعارض ، كالعلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين المتعارضين في الحكاية عن الحكم الشرعي الواحد.

ومن هنا كان اللازم جريان حكم التعارض العام عليهما ، وهو التساقط في فرض تكاذبهما. نعم لا يبعد حجيتهما في نفي الثالث ، على ما سبق في آخر الكلام في المسألة المذكورة.

وأما الترجيح بالأوثقية فهو موقوف ..

إما على كونه من المرجحات المنصوصة في الأخبار العلاجية ، مع التعدي عن موردها ، وهو تعارض أخبارهم عليهم السّلام ، لإلغاء خصوصيته عرفا.

أو على كونه من المرجحات العقلائية العامة في تعارض المخبرين.

ويظهر ضعف الأول مما سبق في الترجيح بصفات الراوي من عدم كونها من المرجحات المنصوصة.

وأما الثاني فقد سبق هناك تقريبه في ما إذا رجعت الأوثقية إلى الأضبطية دون الأعدلية والأصدقية ، وذكرنا توجيه الرجوع إليه في اختلاف النسخ بما يغني عن الإعادة.

كما أنه يأتي في المسألة الآتية تقريب الترجيح بالشهرة.

وأما ما يتردد في بعض الكلمات من ترجيح النسخة المتضمنة للزيادة ، لاحتياج الزيادة إلى عناية ، بنحو يبعد الخطأ في إثباتها ، بخلاف النقيصة.

فلم يتضح بناء العقلاء عليه بنحو يخرج به عما تقتضيه القاعدة ، خصوصا مع قلة الزيادة.

٢٦٦

نعم ، يشكل الترجيح بالأضبطية مع كون راوي الزيادة غير الأضبط ، لأن احتياجها للعناية يبعد الخطأ فيها حتى من غير الأضبط ، ولا سيما مع أهميتها وكثرتها.

هذا ، ولو فرض عدم تكاذب النسختين خرج اختلافهما عن التعارض ، وكان الجميع حجة في فرض تمامية سنده. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في آخر الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث.

المسألة الخامسة : حيث سبق اختصاص النصوص العلاجية بتعارض أخبار الأئمة عليهم السّلام فلا مجال لاجراء الأحكام التي تضمنتها في تعارض غيرها من الطرق المعتبرة بخصوصها ، بل يلزم الرجوع فيها لأصالة التساقط ، كما سبق في أول الكلام في هذا المقام ، أو يثبت الترجيح بينها بالخصوص.

لكن شيخنا الأعظم قدّس سرّه مع اعترافه بقصور النصوص المذكورة عنها صرح بجريان جميع الترجيحات التي تضمنتها فيها ، بلحاظ عموم التعليل المستفاد من قوله عليه السّلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، وقوله عليه السّلام : «لأن الرشد في خلافهم» بدعوى : أن خصوص المورد لا يخصص الوارد.

وفيه .. أولا : أن ذلك لا يقتضي عموم جميع المرجحات التي تضمنتها النصوص العلاجية ، بل خصوص الترجيحين المعللين بالفقرتين المذكورتين. إلا أن يا بنى على التعدي عن المرجحات المنصوصة لأجل التعليلين المذكورين ، حيث يتعين التعدي في جميع الترجيحات لذلك بعد فرض التعدي عن مورد التعليلين ، وهو تعارض الأخبار. لكن سبق ضعفه.

وثانيا : أن المراد بالتعليل الأول لما كان هو خصوص الإجماع على الرواية فهو مختص بالأخبار ولا موضوع له في غيرها.

نعم ، قد يجري في اختلاف النسخ ، لأنها من سنخ الخبر ، إلا أنه ليس بملاك الترجيح بين الحجتين ، لأن واحدة الواقع فيه بنحو يعلم بكذب إحدى

٢٦٧

النسختين موجب للقطع أو الاطمئنان بصحة النسخة المشهورة دون الشاذة ، فتخرج الشاذة عن موضوع الحجية ، وإن كان راويها ثقة ، لقيام الأمارة على خطئه ، فلا يكون من باب تعارض الحجتين ، بل من باب معارضة غير الحجة لها.

ودعوى : أن المستفاد من التعليل المذكور ترجيح ما لا ريب فيه بالإضافة لبعض الجهات على ما فيه ريب بالإضافة إليها ، من دون خصوصية للشهرة في الرواية ، فيجري في غير الأخبار.

ممنوعة : لما تقدم في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة من أن المراد من نفي الريب عدم الريب في الصدور ، دون غيره من الجهات ، ولا موضوع له إلا في الخبر المبني على الحكاية.

وأما التعليل الثاني فهو إنما يستفاد من المرفوعة التي تكرر عدم صلوحها للاستدلال. على أنه سبق في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة أنه حكمة لا علة يدور الحكم مدارها.

هذا ، وأما التخيير لو قيل به في تعادل الأخبار المتعارضة فلا ريب في عدم التعدي به عنها لغيرها من الحجج ، لعدم الوجه له.

ولا سيما مع ما في بعضها من كون الأخذ بأحد الخبرين من باب التسليم لهم عليهم السّلام ، إذ لا موضوع للتسليم لهم في غير الأخبار المنقولة عنهم عليهم السّلام.

نعم ، قد يدعى صدق أخبارهم عليهم السّلام على الإجماع المنقول بناء على تضمنه نقل رأي المعصوم عليه السّلام مع المجمعين ، فتشمله الأخبار العلاجية ويجري على التعارض بين الإجماعين أو بين الإجماع والخبر ما تضمنته من الترجيح أو التخيير.

لكنه إنما يتم في نقل الإجماع المبتني على نقل رأي المعصوم عن حس ، الذي يبعد وقوعه ، وإلا فنقله عن حدس مما ينصرف عنه عنوان الخبر الذي هو

٢٦٨

موضوع الحجية ومورد النصوص العلاجية.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه جزم بجريان الترجيح الدلالي الراجع للجمع العرفي في الإجماع المنقول لو قيل بحجيته. وما ذكره يبتني على جريان الجمع العرفي في الكلام الصادر عن أكثر من متكلم واحد ، أو الكلامين الصادرين عن متكلم واحد يمكن في حقه العدول عما يحكيه عن حس أو حدس ، وقد سبق في الأمر الثاني من ملحقات الكلام في الجمع العرفي التعرض لمعيار ذلك. فراجع.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد لله رب العالمين.

٢٦٩

خاتمة

في مرجحات باب التزاحم

سبق في الأمر الخامس من الأمور التي ذكرناها تمهيدا للكلام في التعارض الفرق بين التعارض والتزاحم ثبوتا وإثباتا.

وذكرنا أن المعيار في التزاحم تمامية موضوع كل من التكليفين المستلزم لتمامية ملاكه ـ الذي هو بمعنى الغرض الداعي لجعله ـ بنحو يقتضي صرف القدرة إليه مع العجز عن الجمع بينهما في مقام الامتثال وانحصار القدرة بأحدهما.

وحيث لا بد من حفظ الغرض والملاك من قبل المولى بجعل التكليف فلا بد من عدم رفع اليد عن كلا التكليفين ، لما فيه من فوت أحد الملاكين في ظرف إمكان حصوله.

كما أنه حيث يمتنع التكليف مع العجز يمتنع عموم كلا التكليفين لحال التزاحم ، بل لا بد من قصور أحدهما بعينه ، أو قصور كل منهما عن حال امتثال الآخر ، كما سبق تفصيل الكلام في ذلك.

غايته أنه مع التفات المولى للتزاحم يكون مرجع القصور المذكور إلى رفعه اليد عن التكليف وتقييده بنحو لا يكون فعليا وإن تم ملاكه ، ومع غفلته يكون مرجعه إلى قصوره عن الفعلية عقلا ، بنحو لا يكون موضوعا لوجوب الإطاعة وقبح المعصية ، كما هو الحال لو عجز المكلف عن امتثال تكليف واحد معين.

إذا عرفت هذا ، فلا ريب في التخيير في الامتثال بين التكليفين مع عدم المرجح لأحدهما ، لامتناع الترجيح من غير مرجح في فرض تساوي الغرضين ، بملاك امتناع تحقق التكليف الذي هو فعل اختياري للمولى من دون غرض.

٢٧٠

ومرجعه إلى التخيير من قبل المولى مع التفاته للتزاحم ، فيجعل كلا التكليفين بنحو لا يمنع من امتثال الآخر ، وحكم العقل به في فرض غفلة المولى عن التزاحم ، فلا يلزم إلا باستيفاء أحد الفرضين تخييرا. كما لا ريب في لزوم حفظ الراجح منهما واستيفاء ملاكه ، لاختصاص الفعلية به.

ومن هنا كان المناسب النظر في المرجحات الملزمة باختيار أحدهما والمعينة لفعليته على نحو الإطلاق. والمذكور في كلماتهم أمور ..

الأول : الأهمية ولا إشكال في كونها من المرجحات في المقام ، لما في المحافظة على الأهم من تحصيل المرتبة الزائدة من الغرض. والترجيح بها عقلي بمعنى أن العقل؟؟؟ يستكشف ترجيح المولى للأهم مع التفاته للتزاحم ، ويحكم هو بوجوب امتثال الأهم مع غفلة المولى عنه.

ودعوى : أن ذلك إنما يتم مع حكمة المولى ، إذ بدونها قد يعين غير الأهم ، أو يخير بينهما.

مبنية على أن المراد من الملاك والغرض هو المصالح والمفاسد التي يكون مقتضى الحكمة جريان الأحكام عليها ، وقد سبق في مبحث الفرق بين التعارض والتزاحم أنه لا يراد به ذلك ، بل الجهة الداعية للحكم ولو لم تكن على طبق الحكمة ، ومن الظاهر امتناع ترجيح غير الأهم بلحاظها حتى من غير الحكيم كامتناع التخيير بينهما ، لأن التكليف فعل اختياري للمولى ، فكما لا يعقل صدوره منه مع عدم الداعي له وعدم صدوره مع فعلية الداعي له ، لا يعقل عدم تعيينه ما يقتضي الداعي فعلية تعيينه ، فضلا عن تعيينه لغيره. إلا أن يفرض عدول المولى وتبدل الحال عنده ، فيتجدد اهتمامه بما لم يهتم به سابقا ويقوى الداعي لما ضعف داعيه له سابقا ، فيكون الترجيح للأهم الفعلي ، ولا ينافي ما ذكرنا من الترجيح بالأهمية.

نعم ، لا بد من كون الأهمية بمرتبة ملزمة ، لكون المرتبة الزائدة من الغرض

٢٧١

مقتضية للإلزام ، وإلا كان الترجيح أولى ولم يكن لازما.

هذا ، ولو كان أحد التكليفين محتمل الأهمية دون غيره ، بحيث يدور الأمر بين تساويهما أو أهمية أحدهما المعين فهل يجب اختياره في مقام الامتثال أو لا؟ صرح بالأول غير واحد.

ولا يخفى أن وجوب اختياره ـ لو تم ـ ظاهري طريقي في طول ترجيح الأهم واقعا ، لا لعموم الجهة المقتضية لترجيح الأهم ، لأن مرجع ترجيح الأهم إلى فعليته وعدم فعلية التكليف المهم واقعا في حال التزاحم بينهما ، فلو كان ترجيح محتمل الأهمية واقعيا بملاك ترجيح الأهم لزم اختلاف التكليف الواقعي باختلاف حالي العلم والجهل بالأهمية ، بحيث يكون التكليف الواحد فعليا واقعا دون الآخر في حق من يعتقد بأهميته أو يحتملها ، وغير فعلي كذلك في حق من يعتقد بأهمية الآخر منه أو يحتملها ، مع التخيير بينهما في حق من لا يحتمل أهمية أحدهما أو يحتمل في كل منهما الأهمية ، ولا مجال للالتزام بذلك ، مع ما هو المعلوم من عدم دخل العلم والجهل في الأحكام الواقعية.

ومن هنا لا بد في ترجيح محتمل الأهمية إما من إحراز أهميته ظاهرا ، أو البناء على وجوب اختياره في مقام الامتثال ظاهرا ـ وإن لم تحرز أهميته ـ بمقتضى الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.

أما إحراز أهميته ظاهرا فربما يوجه في ما لو كان لأحدهما إطلاق دون الآخر بأن مقتضى إطلاق الأول فعليته في حال المزاحمة للآخر ، فيكشف عن أهميته منه ، ولا معارض لذلك في الآخر بعد فرض عدم الإطلاق له ولزوم الاقتصار فيه على المتيقن ، وهو غير حال المزاحمة. ومثله ما لو كان إطلاق أحدهما أقوى من إطلاق الآخر ، بأن يكون أظهر منه في شمول مورد المزاحمة.

نعم ، لا مجال لذلك في ما لو كانا متساويين من هذه الجهة ، أو لم يكن لكل منهما إطلاق.

٢٧٢

وفيه : أن عدم الإطلاق في الآخر إن كان مع الشك في ثبوت ملاكه وتمامية موضوعه في ظرف المزاحمة للأول ، خرج عن باب التزاحم ، لما سبق من توقفه على تمامية ملاك الحكمين.

وإن لم يك شك في ذلك ، بل قطع بتمامية موضوع كلام التكليفين وفعلية ملاكهما ، لم ينهض الإطلاق في أحدهما لاثبات فعليته من هذه الجهة ، ليدل على أهميته ، لانصراف الإطلاق إلى بيان فعلية الحكم من حيثية الموضوع والغرض ، لأن ذلك هو الذي يناط بالمولى ويحتاج إلى بيانه فيه.

وأما الفعلية من حيثية عدم المزاحمة الراجعة إلى حيثية القدرة فلا ينصرف الإطلاق غالبا إليها ، ولا يتكفل ببيانها ، ليدل على عدم صلوح التكليف الآخر للمزاحمة ، لعدم أهميته ، بل هي مما يستفاد من العقل في فرض إحراز القدرة وعدم المزاحمة.

نعم ، لما كانت فائدة بيان الغرض عرفا جعل المكلف مسئولا به ليسعى في تحصيله بامتثال التكليف ، بحيث يلغو الخطاب مع تعذره ، كان ظاهر الخطاب عرفا بضميمة حكمة المخاطب فعلية التكليف من حيثية القدرة أيضا.

إلا أنه لا يستلزم ظهور الإطلاق في عموم القدرة ، إذ يكفي في رفع اللغوية وترتب الغرض المصحح للخطاب بالمطلق غلبة القدرة عليه أو توقعها.

إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات. وهو محتاج إلى قرينة خاصة ومئونة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام ، كما سبق نظيره عند الكلام في الشك في الابتلاء من مباحث العلم الإجمالي.

ولذا لو كان لكل من التكليفين إطلاق لم يكن اجتماعهما في مورد التزاحم موجبا لتكاذبهما ودخولهما في باب التعارض ، المانع من إحراز ملاك كل منهما بل يبقى كل منهما ظاهرا في الفعلية من حيثية الغرض وتحقق موضوع التكليفين ، فلا يتكاذبان ، بل يدخلان في باب التزاحم ، كما هو المطابق

٢٧٣

للمرتكزات العرفية في فهم الكلام. وقد سبق عند الكلام في الفرق بين التعارض والتزاحم ما ينفع في المقام.

ومنه يظهر أن قوة إطلاق أحد الحكمين لا تقتضي رجحانه ، لعدم تصديه لهذه الجهة.

كما ظهر أنه لا مجال للبناء على وجوب اختيار محتمل الأهمية في مقام الامتثال ظاهرا وإن لم تحرز أهميته ، بدعوى : أنه مقتضى إطلاق التكليف به ، حيث لم يعلم بتقييده في حال التزاحم ، بخلاف الآخر ، للعلم بعدم اختياره ، لتقييده في الجملة ، إما لكونه مرجوحا أو مساويا له.

لوضوح أنه لا مجال للدعوى المذكورة مع عدم تكفل الإطلاق ببيان هذه الجهة ، مضافا إلى أن غير محتمل الأهمية وإن علم بتقييده إلا أنه إن كان مساويا لمحتمل الأهمية يلزم تقييد إطلاقه بالإضافة لحال التزاحم في خصوص حال امتثال محتمل الأهمية ، وإن كان مرجوحا بالإضافة إليه يلزم تقييده بالإضافة لحال التزاحم ، بنحو يستلزم خروج الحال المذكور عنه مطلقا ، فلا خطاب به فيه أصلا ، وحيث كان الثاني اكثر تقييدا كان مخالفا للأصل كاحتمال التقييد في محتمل الأهمية ، فلا مجال للرجوع لأصالة الإطلاق في محتمل الأهمية ، لمعارضتها باصالة عدم زيادة التقييد في الآخر.

نعم ، قد يتجه ذلك بناء على ثبوت الأمر الترتبي بالمهم عند عصيان الأهم ، أو بكل من الضدين مع تساويهما ، كما قد يظهر بالتأمل ، ولا مجال لإطالة الكلام فيه.

والأولى صرف النظر إلى مقتضى الأصل العملي في المقام.

وقد يقرب وجوب الاحتياط باختيار محتمل الأهمية بأنه مقتضى أصالة الاشتغال به ، للعلم بالتكليف به تبعا لتحقق موضوعه وتمامية غرضه ، والشك في تحقق المسقط له ، لتوقفه على مساواته للآخر ، وهي غير محرزة في المقام ،

٢٧٤

وهذا بخلاف الآخر ، للعلم بجواز تركه والاتيان بمحتمل الأهمية على كل تقدير.

وبذلك يفترق المقام عن مسألة الدوران في مقام الجعل بين التعيين والتخيير ، حيث قد يا بنى على الرجوع فيه للبراءة ، لأن التعيين كلفة زائدة يشك في جعلها ، أما في المقام فجعل محتمل الأهمية تعيينا محرز ، وإنما الشك في المسقط.

لكنه يشكل : بأن مرجع التخيير في المقام لما كان إلى تقييد التكليف ثبوتا ، لاستحالة إطلاق كل منهما مع العجز عن الجمع بينهما ، فالشك فيه بالإضافة لمحتمل الأهمية شك في شمول التكليف به لحال الإتيان بالآخر ، والمرجع فيه البراءة ، والاقتصار على مورده المتيقن ، وهو حال عدم الاتيان بالآخر.

وبذلك يفترق عن مسألة الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل التي قد يقال بوجوب الاحتياط فيها لعدم رجوع الشك هناك إلى الشك في شمول التكليف ، بل إلى كيفية جعل التكليف الواحد ، من دون متيقن في البين ، ليقتصر عليه في تنجز التكليف المعلوم.

ومن الغريب ما في تقرير درس بعض مشايخنا (١) من أن تفويت محتمل الأهمية لم يثبت جوازه ، لتوقفه على عجز المكلف عن تحصيله تكوينا أو تشريعا ، والمفروض قدرته عليه تكوينا ، كما هو قادر عليه تشريعا ، لعدم أمر المولى باتيان خصوص الطرف الآخر ، ليوجب عجزه عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته ، فلا يجوز تفويته.

إذ فيه : ـ مع أن مقتضى ذلك ثبوت عدم جواز تفويت محتمل الأهمية ، لا عدم ثبوت جوازه ـ أن جواز تفويت محتمل الأهمية لا يتوقف على العجز عنه بخصوصه تكوينا أو تشريعا ، بل يكفي فيه العجز عن الجمع بينه وبين الآخر

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ : ص ٤٠٨.

٢٧٥

تكوينا مع تساويهما في الأهمية ، حيث يجوز حينئذ تفويت كل منهما في ظرف الإتيان بالآخر ولو مع القدرة عليه بخصوصه ، وهو محتمل في المقام ، واحتماله مساوق للشك في التكليف ، الذي يكون المرجع فيه عندهم البراءة ، لا الاشتغال.

فالعمدة في وجه وجوب الاحتياط في المقام : أن سقوط التكليف في باب التزاحم وإن كان راجعا إلى تقييده لبا ، وعدم فعليته ، إلا أن مرجع تقييده وعدم فعليته لما لم يكن إلى قصور موضوعه المستلزم لعدم فعلية غرضه وملاكه ، بل إلى وجود العذر عنه عقلا بملاك التعذر والعجز ، فبناء العقلاء في مثل ذلك على الاحتياط حتى يثبت العذر المسوغ للتفويت ، ولذا كان بناؤهم على الاحتياط مع الشك في القدرة ، كما تقدم في التنبيه الخامس من تنبيهات مبحث الشك في التكليف.

وحيث يشك في مسوغية التزاحم لتفويت محتمل الأهمية وجب الاحتياط بتحصيله ، وتعين تفويت الآخر الذي يعلم بمسوغية التزاحم لتفويته تعيينا أو تخييرا وكونه عذرا فيه. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في آخر الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.

هذا كله من انحصار احتمال الأهمية بأحد الطرفين المعين ، أما مع احتمالها في كل منهما فلا موضوع للترجيح به ، بل يتعين التخيير عقلا بينهما ، لا بملاك التخيير مع التساوي في الأهمية المبني على تكافؤ الغرضين ، بل لتعذر الاحتياط بتحصيل ما يحتمل أهميته المانع من إلزام العقل به ، مع عدم جواز إهمالهما معا ، لإمكان تحصيل أحد الغرضين مع فعليته ، فلا عذر في تركه عقلا ، بل يجب تحصيله شرعا بناء على ثبوت الأمر الترتبي.

ولا ينبغي التأمل في ذلك مع تساوي الاحتمالين ، أما مع أقوائية أحدهما فهل يجب ترجيحه واختياره في مقام الامتثال أو لا؟

من الظاهر أنه لا مجال للبناء على وجوبه بملاك ترجيح محتمل الأهمية

٢٧٦

المتقدم ، وهو اليقين بالامتثال عند الدوران بين التعيين والتخيير ، لفرض احتمال أهمية الآخر أيضا ـ وإن كان ضعيفا ـ المستلزم لاحتمال كون تفويته مخالفة للتكليف الفعلي ، فالمقام من الدوران بين التعيينين لا بين التعيين والتخيير.

بل غاية ما يدعى توقف العقل عن الحكم بالتخيير ـ الراجع إلى معذريته في تفويت الأهم احتمالا ـ وحكمه بالترجيح لمنجزية الاحتمال الاقوى بنظره. ولا أقل من الشك في ذلك ـ حيث قد يضطرب العقل ويشتبه عليه الحال ـ فيجب الاحتياط ، لما سبق من لزومه في فرض العلم بتمامية موضوع التكليف وفعلية غرضه ما لم يعلم بتحقق العذر في تفويته ، وهو غير محرز في المقام.

ومرجع ذلك إلى أن عدم وضوح التخيير عند العقل موجب لإلزامه بالترجيح مع تمامية الموضوع وفعلية الغرض.

وهذا بخلاف الترجيح بقوة الاحتمال عند الدوران بين الوجوب والحرمة ، لأن عدم ثبوت منجزية الاحتمال الأقوى فيه موجب للرجوع للبراءة مع الشك في أصل التكليف من دون إحراز موضوعه ولا غرضه وملاكه. فتأمل جيدا.

تنبيهان

أولهما : ترجيح الأهم إنما هو مع اقتضائه صرف القدرة إليه ، بنحو ينافي تحصيل المهم ، لكونه تعيينيا مضيقا بالذات أو بالعرض ، أما لو كان تخييريا أو موسعا بنحو يمكن الجمع بين الامتثالين وجب الجمع بينهما ، عملا بإطلاق دليليهما من غير مانع ، وخرج عن باب التزاحم ، وهو واضح.

ومثله ما لو أمكن رفع موضوع التكليف الأهم من دون محذور شرعي ، كطلاق الزوجة الذي يرتفع به وجوب الانفاق عليها ، لأن إمكان رفع موضوع التكليف المانع من تعلق الغرض على طبقه مستلزم لعدم التزاحم بين الغرضين ،

٢٧٧

لامكان تجنب تفويتهما ، وإن تعذر تحصيلهما ، فيلزم عقلا ، دفعا لتفويت الغرض الآخر المفروض فعليته.

نعم ، مع عدم إطلاق التكليف الآخر بنحو يقتضي حفظ القدرة عليه من هذه الجهة يتجه جواز تفويته ، ويخرج عن باب التزاحم ، لأن مرجعه إلى عدم تمامية موضوع أحد التكليفين. وهو مما يشخصه الفقيه في كل مورد مورد.

ثانيهما : لما كان ترجيح الأهم غير موجب لسقوط غرض الآخر ولا لرفع موضوعه فلا يجوز للمكلف إيقاع التزاحم بينهما بمثل تضييق وقت الأهم ، لأنه وإن أوجب رفع المولى اليد عن الآخر مع قدرة المكلف عليه بخصوصه ، إلا أنه لما كان من جهة العجز عن استيفاء الغرضين مع فعليتهما لم يكن عذرا للمكلف عقلا ، كتعجيزه نفسه عن امتثال التكليف الواحد مع بقاء وقته وبقاء موضوعه وفعلية غرضه ، الذي هو موجب لرفع المولى اليد عنه. ومثله الحال في التخيير بينهما مع التساوي.

الثاني : من المرجحات المذكورة في كلماتهم ما إذا كان لأحد التكليفين بدل اضطراري في طوله ، دون الآخر ، فيقدم ما لا بدل له على ما له البدل وينتقل إلى بدله ، كما لو دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء للصلاة وصرفه في تطهير المسجد ، فيجب الثاني ويتعين التيمم للصلاة ، وقد ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من جملة مرجحات باب التزاحم.

لكن لا يخفى أن تشريع البدل الاضطراري إن كان بنحو يقتضي جواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار بأن لا يقتضي التكليف بالمبدل حفظ القدرة عليه ، فيجوز في بدلية التيمم عن استعمال الماء إراقة الماء ، اتجه ما ذكره قدّس سرّه ودخل في ما سبق في التنبيه الأول من المرجح السابق من أنه مع إمكان رفع موضوع أحد التكليفين يجب وإن كان أهم ، ويخرج عن باب التزاحم.

وإن لم يكن كذلك ، بأن كان المبدل مقتضيا لحفظ القدرة عليه كان من

٢٧٨

موارد التزاحم ، ولا وجه حينئذ لتعجيز المكلف نفسه عن المبدل والانتقال إلى بدله بامتثال التكليف الآخر الذي لا بدل له مع عدم المرجح له من جهة اخرى.

إلا ألا يراد بالاضطرار الرافع للتكليف بالمبدل خصوص الاضطرار الحقيقي ، بل ما يعم الاضطرار الشرعي الناشئ من المنافاة للتكليف الفعلي ، فيدخل في بعض صور المرجح الآتي ، ويخرج عن باب التزاحم ، حيث يكون التكليف الذي لا بدل له واردا على التكليف الذي له بدل ورافعا لموضوعه فلا يكون غرضه فعليا ، وقد سبق اعتبار فعلية كلا الغرضين تبعا لتمامية موضوع كلا التكليفين في باب التزاحم.

وبالجملة : لا وجه لعدّ هذا من مرجحات باب التزاحم ، لعدم العمل عليه في مورد التزاحم ، وعدم تحقق التزاحم في مورد العمل عليه.

الثالث : ترجيح ما تعتبر فيه القدرة عقلا على ما تعتبر فيه شرعا ، كما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه. فإن فعلية التكليف وإن كانت مشروطة بالقدرة إلا أن القدرة ..

تارة : تكون دخيلة في موضوعه شرعا ، بنحو لا يكون غرضه وملاكه فعليا بدونها.

واخرى : تكون خارجة عن موضوعه ، فيتم ملاكه وغرضه بدونها ، وإن تعذر استيفاؤه بالامتثال ، بنحو تمتنع فعليته عقلا. ومرجع هذا المرجح إلى لزوم امتثال الثاني دون الأول مع التزاحم بينهما.

لكن المراد بالقدرة الدخيلة في موضوع التكليف والغرض شرعا إن كان هو القدرة الخارجية والشرعية الراجعة إلى عدم لزوم محذور شرعي من تحقيق متعلقه ، كان التكليف الآخر الذي تعتبر فيه القدرة عقلا رافعا لموضوعه ومانعا من فعلية غرضه ، لعدم القدرة عليه شرعا معه ، حيث يلزم من الاتيان بمتعلقه مخالفة التكليف المذكور ، فيتجه تقديم التكليف المذكور التام الموضوع عليه وإن كان دونه في الأهمية. إلا أنه يخرج عن باب التزاحم ، لما تكرر من لزوم

٢٧٩

تمامية موضوع كلا التكليفين فيه نظير ما أشرنا إليه في المرجح السابق.

وإن كان المراد بها القدرة الخارجية التكوينية فلا وجه لترجيح الآخر عليه بعد فرض تحقق موضوعه أيضا ، للقدرة عليه بخصوصه تكوينا ، وليس المتعذر إلا الجمع بين التكليفين.

نعم ، قد يمكن رفع القدرة المعتبرة في موضوع التكليف بتعجيز المكلف نفسه بنحو لا ينافي مقتضاه بلحاظ أن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه ، كما سبق عند الكلام في حقيقة التزاحم ، وحينئذ يجب محافظة على امتثال التكليف الآخر الذي لا تعتبر فيه القدرة شرعا ، لما سبق في التنبيه الأول من المرجح الأول من أنه مع إمكان رفع موضوع أحد التكليفين يتعين ويرتفع به التزاحم.

وبذلك ظهر أن المرجح المذكور ـ كسابقه ـ ليس من مرجحات باب التزاحم.

ثم إنه تقدم في مبحث الفرق بين التعارض والتزاحم أن مقتضى إطلاق التكليف عدم دخل القدرة في موضوعه ، وإن كانت دخيلة في فعليته على كل حال. فلاحظ.

الرابع : سبق زمان الامتثال ، فقد التزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بترجيح السابق زمانا ، إلا أن يكون الآخر أهم منه ، بدعوى : أن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الآخر الموجب للعجز عنه ، فلا مسقط للتكليف المتقدم ، لعدم امتثال المتأخر بعد فهو مقدور عليه ، أما المتأخر فيسقط بامتثال المتقدم للعجز عنه به.

نعم ، لو كان المتأخر أهم فوجوب حفظ القدرة عليه يكون مسقطا للتكليف المتقدم. وقد تابعة على ذلك غير واحد من تلامذته.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في ترجيح محتمل الأهمية من أن المسقط لأحد التكليفين المتزاحمين ليس هو خصوص العجز عن امتثاله المسبب عن

٢٨٠