المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

صلاة» (١) أو المضيقة له ، مثل قوله عليه السّلام : «لا سهو في نافلة» (٢) لوضوح ابتناء التنزيل بين المتباينين على ملاحظة أحكام المنزل عليه والتشريك فيها ، وابتناء نفي العنوان عن فرده على ملاحظة حكمه ونفيه عنه. وكذا أدلة الرفع الثانوية مع الأحكام الأولية ، كأدلة رفع الضرر والحرج والاكراه ونحوها ، لوضوح ابتناء الرفع على فرض ثبوت الحكم اقتضاء ، فهو يبتني على النظر للحكم المذكور وبيان حاله وأنه ليس فعليا في حال وجود العنوان الثانوي المذكور.

وهو كسابقه يكون نظره للحكم تفصيليا تارة ، وإجماليا أخرى ، كما يمكن تقدمه عليه زمانا لأجل ذلك ، بأن يكون مبيّنا لحاله على تقدير تشريعه ، كما هو الحال في أدلة أحكام العناوين الثانوية الرافعة.

وإنما يختلف عنه في أنه حيث كان النظر فيه لنفس الحكم الذي تضمنه الدليل دون الدليل بما هو دليل فلا يكون متكفلا ببيان المراد من الدليل وشرح مؤداه ولا يتصدى لذلك ، وإن كان قد يستفاد منه تبعا ، بلحاظ أن كون الحكم بوجه خاص ثبوتا مستلزم لعدم إرادته على خلاف ذلك الوجه من دليله بعد فرض عدم النسخ.

نعم ، الاستفادة المذكورة مختصة بالأدلة المضيقة إما للموضوع كدليل نفي السهو في النافلة ، أو للحكم كأدلة الرفع الثانوية ، ولا تتم في أدلة التنزيل الموسعة ، لوضوح أن ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل لا تستلزم عموم أدلة أحكام المنزل عليه له ، فمشاركة الطواف للصلاة في وجوب الطهور مثلا لا يستلزم كون المراد بالصلاة في قوله عليه السّلام : «لا صلاة إلا بطهور» ما يعم الطواف.

هذا ، ولازم الفرق المذكور بين هذا القسم وما قبله في كيفية النظر رجوع

__________________

(١) حكي عن سنن البيهقي : ج ٥ ص ٨٧ وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٠ رقم ٢٠٦ وذكره في الخلاف والمسالك ومرسلا في مسألة مس المحدث للقرآن.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٥ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٨.

٦١

هذا القسم إلى بيان قضية تشريعية تستند للحاكم بالحكم المنظور إليه ، كجريان أحكام الصلاة على الطواف وعدم جريان أحكام السهو على السهو في النافلة ورفع الأحكام الضررية ، ولا أثر لها لو استندت لغيره ، بخلاف القسم الأول ، فإن مرجعه إلى بيان أمر واقعي يمكن أن يكشف عنه كل أحد من دون خصوصية للحاكم فيه.

الثالث : أن يستقل كل من الدليلين في بيان ما يتكفله من دون نظر من أحدهما للآخر ولا للحكم الذي تضمنه ، ويكون مدلول أحدهما منافيا لمدلول الآخر بدوا ، وإن امتاز أحدهما بخصوصية تقتضي أقوائية دلالته بنحو يكون قرينة عرفا على المراد من الآخر ـ وإن لم يسق لذلك ـ فيقدم عليه في مقام العمل ، فيخرج الآخر معه عن الحجية في مورد التنافي ، ليخرج بذلك عن التعارض على ما سيأتي توضيحه ، كالعام والخاص وغيرهما من موارد تعارض الظاهر والأظهر.

وتقديم الأقوى وإن كان راجعا إلى تفسير الأضعف به وتعيين المراد الجدي منه بسببه ، إلا أنه ليس لسوقه لتفسيره ـ كما في القسم الأول ـ ولا لنظره لمدلوله ـ كما في القسم الثاني ـ بل لمحض بناء العرف على ذلك ، تبعا لمرتكزاتهم المعول عليها في فهم مراد المتكلم من كلامه والعمل عليه.

إذا عرفت هذا ، فلا إشكال في خروج القسم الثالث عن الحكومة ، وإنما هي مرددة بين القسمين الأولين ، لاضطراب كلماتهم في تحديدها ولا سيما شيخنا الأعظم الذي هو الأصل لهذا المصطلح ، فقد قال قدّس سرّه في مبحث التعارض : «وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبنيا لمقدار مدلوله ومسوقا لبيان حاله متفرعا عليه».

وقد يظهر من ذلك اختصاصها بالقسم الأول ، بل ببعض أفراده ، وهو

٦٢

خصوص ما كان مسوقا لشرح الموضوع وتفسيره ، إلا أن تمثيله بأدلة أحكام الشكوك بالإضافة لما دل على أنه لا حكم للشك في النافلة ، أو مع حفظ الإمام ، أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل ، وتعرضه لنظير ذلك في تقريب حكومة أدلة نفى الحرج والضرر على أدلة الأحكام الأولية ، وجعله تقديم الأمارة على الأصل بملاك الحكومة يأبى ذلك جدا ، بل يناسب كون القسم الثاني منها ، كما هو الظاهر من كلام جمع ممن تأخر عنه بل صريح بعضهم.

وقد حاول بعض الأعاظم توجيه العبارة بما يناسب ذلك بحمل التفسير فيها على نتيجة التفسير بلحاظ ما أشرنا إليه آنفا من أن كون الحكم الذي تضمنه الدليل المحكوم بالوجه الخاص الذي بيّن في الحاكم يستلزم ارادته من الدليل المحكوم على ذلك الوجه ، فيكون شارحا له تبعا وإن لم يسق لشرحه.

وربما استشهد لذلك بأنه قدّس سرّه فرض التفسير بنحو يرجع إلى عدم ثبوت الحكم لبعض أفراد الموضوع ـ كما هو الحال في القسم الثاني ـ لا بنحو يرجع إلى بيان المراد بالموضوع ، كما هو الحال في القسم الأول ، وبأنه قدّس سرّه ذكر بعد ذلك أن مفاد الدليل الحاكم تخصيص بعبارة التفسير.

ومن هنا قد يدعى اختصاص الحكومة عنده بالقسم الثاني ، كما يناسبه ما صرح به بعضهم وقد يظهر من آخرين من أن مبنى التقابل بين الورود والحكومة على فرض ارتفاع الموضوع فيه حقيقة ، وفرض بقائه فيها ، وإن كان مرتفعا ادعاء أو تعبدا.

لكن كلامه قدّس سرّه آب عن ذلك جدا ، لأن فرض كون الحاكم متعرضا لحال المحكوم بمدلوله اللفظي ومسوقا لبيان حاله صريح في ارادة القسم الأول.

ومجرد فرضه رافعا لحكمه عن بعض أفراد موضوعه لا ينافيه ، لأن التفسير قد يتضمن ذلك ، حيث قد يتعرض المفسر صريحا لإرادة الخاص من العام ، على خلاف ظاهر الكلام.

٦٣

ومن ثم ذكر بعض المحشين ـ في ما حكي عنه ـ أنه قدّس سرّه ضرب في الدورة الأخيرة على العبارة الدالة على إرادة القسم الأول.

ولعل منشأ ما ذكره قدّس سرّه من كون الحاكم مفسرا للمحكوم بمدلوله اللفظي ومسوقا لذلك هو اختلاط ورود أحد الدليلين لتفسير الآخر بما إذا استفيد شرحه منه تبعا ، والخلط بين نظره إليه ونظره لمدلوله ، كما اختلط ذلك على غيره ، حيث يظهر منهم المفروغية عن لزوم نظر الحاكم للمحكوم ، مع عدم النظر في الموارد المذكورة ونحوها من موارد التنزيل ـ التي هي من أظهر موارد الحكومة عندهم ـ إلا لحكم أحد الدليلين ، دون الدليل نفسه.

هذا ، وحيث لا مشاحة في الاصطلاح فالمناسب تعميم الحكومة للقسمين معا ، لاشتراكهما في لزوم العمل بالحاكم ، ولأنه أنسب بالجمع بين تحديد الحكومة وأمثلتها في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه الذي هو الأصل في الاصطلاح.

وعليه فالمعيار في الحكومة على كون أحد الدليلين ناظرا للدليل الآخر بنفسه أو بمدلوله ، ومسوقا لبيان حال أحدهما.

ولتخصّ الأولى باسم الحكومة البيانية ، لسوق الحاكم فيها لبيان حال نفس الدليل المحكوم ، والثانية باسم الحكومة العرفية ، لأن منشأ التحكيم فيها هو العرف ، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وليس هذا بمهم بعد أن كان راجعا لمحض الاصطلاح. وإنما المهم ما رتب عليه من الأثر العملي ، وهو لزوم تقديم الدليل الحاكم على المحكوم من دون نظر للمرجحات ، حيث ذكر ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه وتسالم عليه من بعده.

ولا ينبغي التأمل في ذلك في الحكومة البيانية ، لعدم التنافي بين الحاكم والمحكوم في المضمون أصلا ، لفرض عدم تكفل المحكوم ببيان الجهة التي يبتني عليها استفادة الحكم منه ، والتي فرض تعرض الحاكم لها ، بل المتكفل بها

٦٤

طرق أخر من اصول عقلائية أو غيرها ، فلا مانع من شمول إطلاق دليل الحجية لهما معا ، مع تقديم الحاكم ، لتقدمه رتبة.

نعم ، قد يكون مفاد الحاكم منافيا لمقتضى الطرق الاخرى التي يرجع إليها في استفادة الحكم من المحكوم لو لا الحاكم ، كأصالة عدم القرينة ، أو عدم النقل ، أو الجهة ، أو نحوها.

فإن كان واردا عليها ـ كما هو الحال في الاصول المذكورة ـ فلا إشكال ، وإلا كان معارضا لها بدوا ولزم الرجوع للقواعد المرعية من الجمع بينها وبينه أو ترجيح أحدهما أو التساقط ، كما هو الحال لو تضمن أحد الخبرين تكذيب الآخر وعدم صدوره عن المعصوم عليه السّلام فإن الكلام وإن لم يتضمن صدور نفسه ، فلا ينافي الدليل المكذب لصدوره ، إلا أن سنده لما كان متكفلا باثبات صدوره كان منافيا للدليل المكذب لذلك ، ومن الظاهر أن الدليل المكذب لا ينهض برفع موضوع السند ، ولا برفع موضوع حجيته ، فيتعارضان.

وتوهم عدم التعارض بينهما ، لأن التكذيب لما كان صادرا عن المعصوم الذي يقطع بصدقه ، فلا مجال معه لحجية السند الحاكي عن الصدور.

مدفوع بأن القطع بصدق المعصوم لا يوجب القطع بكذب ما ورد تكذيبه عنه ، لأن صدور التكذيب وإرادة ظاهره ليسا قطعيين ، فينهض سند الخبر الذي ورد تكذيبه بمعارضتهما ، ويتعين التساقط. فلاحظ.

وأما الحكومة العرفية التي هي موضوع تمثيلهم ومحل كلامهم فقد وقع الكلام في وجه التقديم فيها في فرض اختلاف مقتضى الحاكم عن مقتضى المحكوم.

وقد وجهه بعض الأعاظم قدّس سرّه بعدم التنافي بين مفاد الحاكم ومفاد المحكوم ، لأن المحكوم إنما يثبت الحكم على تقدير وجود موضوعه ـ كما هو مفاد القضية الحقيقية ـ من دون أن يتكفل باثبات الموضوع ، لينافيه الدليل

٦٥

الحاكم النافي للموضوع.

لكنه ـ كما ترى ـ إنما يصلح أن يكون وجها للتقديم في الورود بقسميه المتقدمين ، وهما الواقعي والظاهري ، ولا يجري في ما نحن فيه مما فرض فيه رفع الموضوع ادعاء وتنزيلا مع بقائه حقيقة ، فإن مقتضى إطلاق الدليل المحكوم ثبوت الحكم حينئذ تبعا لثبوت موضوعه حقيقة ، فيكون الدليل الحاكم منافيا للإطلاق المذكور.

على أن ذلك مختص ببعض أفراد الحكومة ، وهي المبنية على سلب عنوان الموضوع ، دون حكومة مثل أدلة الرفع الثانوية على أدلة الأحكام الأولية ، لوضوح عدم تكفل الحاكم برفع موضوع حكم الدليل المحكوم ادعاء ، فضلا عن رفعه حقيقة.

ومن ثمّ أكمل بعض مشايخنا وجه تقديم الحاكم ـ بعد ذكره لما سبق من بعض الأعاظم ـ بوجه التقديم في مثل ذلك ، وهو أن الأدلة المذكورة لما كانت ناظرة للأدلة الأولية وشارحة للمراد بها وأن الأحكام الضررية والحرجية غير مجعولة في الشريعة المقدسة ، فلا يقع التصادم بينهما أصلا.

ويظهر الإشكال فيه مما سبق ، من أن الأدلة المذكورة غير ناظرة لأدلة الأحكام الأولية ، لتكون شارحة لها ورافعة لمقتضى أصالة الظهور فيها ، بل هي ناظرة لما تضمنته من الأحكام وحاكمة بقصورها عن حال طروء العناوين المذكورة ، فينافي إطلاق أدلة تلك الأحكام ، ويقع التصادم بينها ، وإنما يتم ذلك في الحكومة البيانية ، كما لا يخفى.

ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه الفرق بين التخصيص والحكومة ، بنحو يرجع لخصوصية الحكومة في التقديم. قال : «والفرق بينه وبين التخصيص أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعد جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، وهذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام ، فهو

٦٦

تخصيص في المعنى بعبارة التفسير».

ولعله إليه يرجع ما قيل من أن تقديم الأظهر على الظاهر في موارد الجمع العرفي يبتني على كون الأظهرية قرينة عرفية نوعية على تحديد المراد من الظاهر ، من دون إعداد من المتكلم نفسه ، بخلاف تقديم الحاكم ، فإنه ناشئ من إعداد منه له للقرينية على المحكوم وبيان المراد الجدي منه ، وللمتكلم تحديد مراده من كلامه متى شاء.

فإنه يظهر بما تقدم أن ذلك يتم في الحكومة البيانية ، دون العرفية التي هي محل كلامهم.

هذا ، وقد يدعى أن الملزم بتقديم الحاكم على المحكوم بعد اشتراكهما في التعرض للحكم والتنافي فيه هو اشتمال الحاكم على الخصوصية الزائدة ، المقتضية لنظره للحكم الذي تضمنه المحكوم وتحديده وشرحه ، ككونه بلسان رفعه في فرض وجود مقتضيه أو بلسان رفع موضوعه أو نحوهما.

لكنه لم يتضح صلوح الخصوصية المذكورة بنفسها للتقديم مع قطع النظر عن الأظهرية الملزمة بالتقديم في سائر موارد الجمع العرفي.

ودعوى : أن تقديم الحاكم لا يبتني على أظهريته ، لأن النسبة بينه وبين المحكوم غالبا هي العموم من وجه الموجب للتعارض والتساقط.

مدفوعة بأن كون النسبة بين الدليلين هي العموم من وجه لا ينافي أظهرية أحدهما بنحو ملزم بتقديمه عرفا. فالمناسب الكلام في وجه أظهرية الحاكم.

ولا يبعد أن يكون منشؤه أحد أمرين ..

أولهما : كون ظهور الدليل الحاكم في خصوصية عنوانه أقوى من ظهور الدليل المحكوم.

وتوضيح ذلك : أن الألسنة التي تتضمنها الأدلة الحاكمة واردة غالبا في مورد خصوصية ارتكازية مناسبة لمقتضاها ، فإن لساني التنزيل والنفي اللذين

٦٧

هما من مورد الحكومة العرفية وإن كانا متقومين بالمشاركة في الحكم والمخالفة فيه ، ولذا كانا مبنيين على النظر له ـ كما سبق ـ إلا أنهما كثيرا ما يردان في الأفراد المشتملة على خصوصية تناسب أحد الأمرين ، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة المناسب لمسانخته لها في نحو العبادية ، وتنزيل المطلقة رجعيا منزلة الزوجة ، المناسب لبقاء العلقة فيها ، ونفي العلم عن غير العامل بعلمه المناسب لانتفاء الأثر المقصود من العلم عنه ، ونفي السهو في النافلة المناسب لعدم أهميتها ، أو عن كثير الشك المناسب للزوم العسر من جريان أحكامه فيه ، أو عن الامام أو المأموم مع حفظ الآخر ، المناسب لوجود الأمارة المرجحة لأحد طرفي الشك وغير ذلك مما يشتمل مورده على خصوصية مناسبة لعموم الحكم أو قصوره.

وكذا الرفع في مثل الصبا والحرج والضرر والاكراه مما يكون مناسبا عرفا للتخفيف ، فإن الأدلة المذكورة حيث كانت منبهة للمناسبة المذكورة ولجري الشارع على مقتضاها كان ظهورها في خصوصية موردها أقوى من ظهور الدليل المحكوم في خصوصية عنوانه في فعلية الحكم ، المستلزم لثبوته في مورد الدليل الحاكم.

ولو فرض ورود الألسنة المذكورة في مورد خال عن المناسبة العرفية ، بحيث يكون مقتضاه تعبديا متمحضا في نفي الحكم أو ثبوته ، فلا يبعد فقده للخصوصية المقتضية للتقديم ، بل يكون كسائر موارد التخصيص أو التقييد ، كما لعله في مثل قولهم عليهم السّلام : «لا صلاة إلا بطهور» (١) ، و : «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» (٢). بل لعله غير منظور لهم في اصطلاح الحكومة ، ويختص نظرهم بالقسم السابق.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٤ باب : ٢ من أبواب القيام من كتاب الصلاة حديث : ١.

٦٨

ثانيهما : أن الحاكم ليس طرفا للنسبة مع دليل حكم واحد ، بل مع أدلة أحكام متعددة ، والنسبة بينه وبين كل منها وإن كانت العموم من وجه ، إلا أن النسبة بينه وبين مجموعها هي العموم والخصوص المطلق ، ولا مجال لتقديمه على بعضها دون بعض ، لأنه بلا مرجح عرفي ، ولا لتقديمها بأجمعها عليه ، لأنه موجب لإلغائه رأسا ، فيتعين تقديمه عليها بأجمعها ، وإعمالها في غير مورده من دون أن يلزم إلغاؤها ، كما هو الحال في أدلة الرفع الثانوية.

وربما تكون هناك بعض الجهات الأخر الموجبة لأقوائية ظهوره غير ما ذكرنا تحتاج لاستقصاء الأدلة والنظر فيها بنحو لا يسعه المقام.

وبالجملة : الظاهر أن التقديم في مورد الحكومة العرفية مبني على الجمع العرفي بين الحاكم والمحكوم بلحاظ خصوصية في الحاكم تقتضي أقوائية دلالته وتقديمه ، لا بلحاظ عدم التنافي بين الحاكم والمحكوم ولا بلحاظ تقدم الحاكم رتبة ، بخلاف الحكومة البيانية. ومن ثم أطلقنا على الحكومة المذكورة اسم الحكومة العرفية ، كما أشرنا إليه آنفا.

بقي في المقام أمور ..

الأول : أنه مما تقدم يتضح عدم توقف الحكومة البيانية على كون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم ، لعدم التعارض بينهما في مقام البيان ، بسبب عدم التنافي بين مؤدييهما ، كي يحتاج للمرجحات الدلالية ، بخلاف الحكومة العرفية ، فإنها حيث كانت مبنية على قرينية الحاكم عرفا على المحكوم مع التنافي بينهما بدوا ، بملاك الجمع العرفي ، فلا بد من فرض أقوائية دلالة الحاكم ، ليتعين للقرينة على المحكوم دون العكس.

الثاني : أنه قد أشير في كلماتهم إلى أن إجمال الحاكم هل يسري للمحكوم ، فلا يعمل به في مورد الإجمال ، أو لا ، بل يقتصر في الخروج عنه على المتيقن الذي يكون الحاكم حجة فيه ، كما هو الحال في إجمال الخاص

٦٩

بالإضافة للعام؟

الظاهر اختلاف الحال باختلاف الموارد ، من دون فرق بين قسمي الحكومة.

فإن كان مقتضى الحاكم انقلاب ظهور المحكوم إلى مقتضاه ، إما لتبدل المفهوم أو لقرينة محتفة بالكلام ، تعين سريان الإجمال للمحكوم ، لعدم حجيته بسبب الحاكم في ما هو ظاهر فيه بدوا ، ليكون متبعا في مورد الإجمال ، نظير حمل الرطل الذي يفرض ظهوره في العراقي على الرطل المكي ، أو حمل الكلام الظاهر في الجنس على العهد.

وإن كان مقتضى الحاكم التفكيك بين مراتب الظهور في المراد الجدي ، نظير العام والخاص ، تعين عدم سريان الإجمال للمحكوم ، بل يكون حجة في مورد الإجمال ، ويقتصر في الخروج عنه على مورد اليقين الذي يكون الحاكم حجة فيه.

وأولى بذلك ما لو كان مرجع إجمال الحاكم إلى الشك في مقدار الأدلة التي يحكم عليها وينظر إليها ، حيث لا إشكال حينئذ في حجية أدلة تلك الأحكام ، للشك في حكومته عليها.

نعم الظاهر عدم ارتفاع إجمال الحاكم في القسمين ، بنحو ينفع في الأحكام الاخرى ، لأن ترتب حكم المحكوم في مورد وإن كان مستلزما لقصور الحاكم عنه ثبوتا ، إلا أن ملاك ترتبه إثباتا في المقام خروج المورد عن المتيقن من دليل الحاكم ، لا عن المراد الواقعي به ، فهو لا ينهض بإثبات الخروج عنه واقعا.

هذا كله في ما إذا كان الدليل الحاكم منفصلا بعد انعقاد ظهور المحكوم ، أما لو كان متصلا به فهو يمنع من انعقاد ظهوره في مورد الإجمال ، فلا يكون حجة فيه بلا إشكال ، كما هو الحال في إجمال الخاص المتصل.

٧٠

وكذا لو كان منفصلا مع رجوع الإجمال للتردد بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر.

الثالث : لما كانت الحكومة بقسميها مبنية على نظر أحد الدليلين للآخر أو للحكم الذي تضمنه ، بنحو يقتضي تبدل مفاده ، فهي تختص بالأدلة اللفظية المتميزة بلسان خاص يبتني على النظر والشرح ، والتي تكون ظنية الدلالة بنحو تخضع للبيان والتفسير.

أما الأدلة اللبية فلا مجال لفرض الحاكم فيها ، لأن المنظور فيها واقع الحكم ، من دون أن تكون ذات لسان صالح للشرح والبيان بالإضافة للأدلة الاخرى.

كما لا مجال لفرض المحكوم فيها ، لأنها قطعية المضمون. ومثلها في ذلك الأدلة اللفظية القطعية الدلالة.

نعم لو كان إحراز الموضوع ظاهرا من صغريات الحكومة ـ كما ذكره في الجملة بعض الأعاظم ـ اتجه وقوعها في الأدلة اللبية ، لأن الدليل اللبي قد ينهض بالتعبد بموضوع حكم غيره وإحرازه ظاهرا. كما أن موضوعه قد يحرز ظاهرا بدليل آخر.

لكن سبق منا إلحاقه بالورود وتخصيصه باسم الورود الظاهري. فراجع.

الرابع : حيث كانت الحكومة العرفية مبنية على تحكيم العرف الحاكم على المحكوم ، لأقوائية دلالته ، فهي من صغريات الجمع العرفي ، فيلحقها ما يأتي في الفصل الثالث من الكلام في وجه العمل عليه وعدم لزوم التعارض بالنظر لعموم أدلة الحجية معه ، فليس الكلام فيها إلا صغرويا بعد الفراغ عن حكمه كبرويا.

الخامس : أشرنا في ما سبق إلى تحقق النظر الذي هو المعيار في الحكومة في موارد التزيل الشرعي الحاصل بحمل أحد المتباينين على الآخر ، كالحكم

٧١

بأن المطلقة رجعيا زوجة ، أو نفي العنوان عن بعض أفراده ، كنفي الشك عن النافلة لتقوّم التنزيل بالأحكام المستلزم للنظر إليها وإثباتها أو نفيها.

ويظهر مما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في مفاد الطرق والأصول الاحرازية وفي وجه حكومتها على ما تأخر عنها من الأصول تحقق الحكومة أيضا في مورد اعتبار الشارع للعنوان وجعله في مورد مباين له ذاتا او نفيه والغائه عن بعض أفراده تعبدا كجعل الأمارة علما وإلغاء الشك معها تعبدا بتتميم كشفها وطريقيتها للواقع ، فتترتب عليها أحكام العلم وترتفع عنها أحكام الشك.

لكنه إن رجع إلى جعل أحكام العنوان أو نفيها بلسان حمله أو نفيه رجع إلى التنزيل الذي سبق الكلام فيه. وليس مورد الجعل والتعبد في الحقيقة حينئذ هو العنوان بل أحكامه.

وإن رجع إلى جعله بنفسه أو نفيه اعتبارا ، بحيث يكون المورد حقيقة من أفراده أو مباينا له حقيقة بسبب الجعل والتعبد. فهو ـ مع اختصاصه بالماهيات الجعلية غير المتأصلة ، كالملكية ، دون الحقيقيّة المتأصلة كالعلم والشك ، كما سبق عند الكلام في مفاد الطرق ـ يكون من صغريات الورود ، ويخرج عن الحكومة حيث لا يتوقف على النظر لأحكام العنوان الشرعية ، بل لو فرض كون العنوان مما يترتب عليه الأثر بنفسه وإن لم يكن له أحكام شرعية ـ كالعلم والشك ـ صح جعله أو نفيه تعبدا ولم يكن لاغيا. فلاحظ.

٧٢

الفصل الثالث

في الجمع العرفي

تمهيد

من الظاهر أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن في مقام بيان مراده ، وإن كانت على خلاف مقتضى الظهورات الأولية العامة المستندة للأوضاع أو الانصرافات الناشئة من كثرة الاستعمال أو نحوها ، فتمنع من انعقاد الظهور الشخصي للكلام على طبقها ، بل يكون على طبق القرائن التي اشتمل عليها الكلام.

من دون فرق بين ما يعده المتكلم للقرينية كتوصيف المشترك بما يعيّن معناه ، وما يعده لغرض آخر ولو مع الغافلة عن قرينيته ودخله في بيان المراد ، كالحكم عليه بما يناسب أحد معانيه ، كالإخبار عن العين بأنها تدمع ، الملزم بحملها على الباصرة.

فإذا فرغ المتكلم من كلامه انعقد ظهوره في بيان مراده الجدي على ما يناسب الجمع بين الظهورات الأولية العامة ومقتضى القرائن الخاصة المقالية والحالية التي يحتف بها الكلام ، ويستقر الظهور المذكور ولا يرتفع بظهور المعارض له في المدلول وإن كان أقوى منه ظهورا ، فلا بد من النظر في مقتضى القاعدة عند تصادم الظهورات التي ينفصل بعضها عن بعض.

هذا ، ولكن يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه في غير موضع من كلامه المنع من ذلك في بيانات الشارع الأقدس ، لدعوى : استقرار طريقته على إبراز مقاصده

٧٣

بالقرائن المنفصلة ، كما يظهر بملاحظة النصوص المروية عن الأئمة عليهم السّلام لمصالح هم أعرف بها ، فقبل الفحص عن القرائن المذكورة لا مجال للجزم بظهور الكلام التصديقي ، وهو الظهور في المراد الجدي ، وإن علم بظهور الكلام التصوري الذي هو مفاد حاق الكلام ، والذي لا يكون موضوعا للحجية ، كظهور صدر الكلام قبل الفراغ منه. كما أنه بالعثور على القرائن المذكورة لا يلزم التعارض بين الظهورين ، بل منع القرينة المنفصلة عن الظهور الأولي للكلام ، كما هو الحال في القرائن المتصلة.

ويشكل .. أولا : بأن كثرة التخصيصات والقرائن المنفصلة لا تستلزم كون طريقة الشارع الاعتماد عليها ، بنحو لا يتم الظهور التصديقي بدون الفحص عنها ، لقرب رجوع ذلك إلى اختفاء القرائن المتصلة الكاشفة عن مراد المتكلم بكلامه ، أو عدم كون المتكلّم في مقام البيان من بعض الجهات ، أو نحو ذلك مما يوجب مخالفة الظاهر للمراد ، فالقرائن المنفصلة تكشف عن ذلك لا عن قصور بيان المتكلم حين صدوره لاعتماده على القرائن المنفصلة.

وإلا فمن البعيد جدا خروج الشارع عن الطريقة العرفية واعتماده في بيان مراده على القرائن المنفصلة مع عدم الضابط لها ثبوتا وإثباتا ، لتوقف حصولها على تحقق الدواعي لبيانها ، كسؤال السائل المتفرع على التفاته وحاجته لمعرفته حكم المسألة ، وتحقق المناسبة المقتضية للبدء بالبيان ، وعدم حصول الشبه الموجبة للخلاف في المسألة بنحو يستلزم وضوح المراد وانعقاد الإجماع الصالح للخروج به عن مقتضى الظهور الأولي التصوري للكلام ، ونحو ذلك مما لا ضابط له ، وتوقف وصولها على تقدير حصولها على تحقق دواعي النقل ، وضبط الناقل ، وثبوت وثاقته ليكون نقله حجة صالحا للبيان ، وعدم ضياع الرواية بتلف الكتاب أو نحوه ، وغير ذلك مما لا ضابط له أيضا.

ومع ذلك كيف يخرج الشارع عن الطريقة العرفية في بيان مراده ويتكل

٧٤

على القرائن المنفصلة. ولا سيما مع انفصالها عن الكلام بعشرات السنين ، إذ قد يرد العام عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أو الوصي عليه السّلام ، ويراد الخاص عن الأئمة المتأخرين عليهم السّلام أو يستند للإجماع الحاصل من اتفاق العلماء بعد الغيبة.

وهل يمكن الالتزام بعدم البيان في تلك المدة الطويلة وأن الشارع قد تعمد بيان الحكم على خلاف الواقع؟!

نعم ، لا إشكال في كثرة بيان المراد لتقية أو نحوها ، إلا أنه ليس للخروج في البيان عن طريقة العرف والاعتماد على القرائن المنفصلة ، بل لطروء المحذور المانع من بيان الواقع والملزم ببيان خلافه حتى مع تعذر إقامة القرينة المنفصلة ، كما قد يتحقق ذلك في بيانات العرف من دون أن يمنع من انعقاد الظهور أو يسقطه عن الحجية.

ومجرد كثرة ذلك ونحوه مما يرجع لعدم إرادة الظاهر في بيانات الشارع الواصلة لنا.

لا يصلح للفرق بينها وبين بيانات العرف بنحو يمنع من انعقاد ظهورها ، لعدم تبعية الظهور والحجية لموافقة الواقع ، بل لموافقة الطرق العقلائية في البيان الحاصلة بمجاراة أهل اللسان ، أو بيان الخروج عن طريقتهم من قبل المتكلم نفسه ، وحيث لم يثبت الثاني من الشارع ، بل يعلم بعدم صدوره ، وإلا لظهر وبان لتكثر الدواعي لحفظه وتوافر الأسباب لانتشاره ، تعين الأول. على أن الكثرة بمجردها لو كانت مانعة من الظهور لزم توقفه على عدم المعارض المستحكم المعارضة والذي لو اجتمع معه في كلام واحد كان مجملا ، لأنه كثير في كلام الشارع أيضا ، فيلزم جريان حكم المجمل بالعثور عليه ، لا حكم التعارض ، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

وثانيا : بأن لازم ذلك عدم حجية العموم ونحوه حتى بعد الفحص ، لاحتمال ضياع القرائن التي اعتمد المتكلم عليها ، فلا يحرز الظهور التصديقي

٧٥

للكلام إلا بعد القطع بعدم القرينة المنفصلة.

وقد أطال قدّس سرّه في تقريب اندفاع هذا الإشكال ، حيث ادعى أنه بعد الفحص يصح للعبد أن يحتج على المولى بذلك الظهور ، لأنه حجة ما لم يجد قرينة على خلافه ، فلو لم يطابق الظهور المراد الواقعي كان ذلك ناشئا من عدم إلقاء المولى كلامه بنحو يفي ببيان المراد ، لا من تقصير العبد في فحصه عن بيان المولى لمراده.

لكنه كما ترى! لأن لازم ما ذكره من خروج الشارع عن الطريق العرفي احتمال استيفاء بيان الشارع لمراده ، لضياع القرائن التي اعتمد عليها ، ولا مجال للرجوع لما وصل من كلامه ، لعدم إحراز ظهوره التصديقي.

كما لا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة المنفصلة لاحراز الظهور المذكور ، لأن أهل اللسان إنما بنوا على الأصل المذكور في بياناتهم التي يتم ظهورها التصديقي ، وتكون البيانات المنفصلة المنافية لها من سنخ المعارضات ، ولم يثبت بناؤهم عليه في بيانات الشارع المفروض عدم إحراز ظهورها التصديقي ، لكون البيان المنفصل المحتمل مقوما لظهورها لا معارضا له ، بل هو نظير ما لو شك في فراغ المتكلم عن كلامه ، أو صرح باعتماده على القرائن المنفصلة واحتمل عدم استيفائها بالفحص ، حيث لا مجال للبناء على أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول والمنفصلة في الثاني ، لاحراز الظهور التصديقي. فلاحظ.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أنه بعد فراغ المتكلم من كلامه ينعقد ظهوره التصديقي ويستحكم ، ولا يكون ورود البيان المنفصل مانعا من ظهوره ولا رافعا له ، إلا مع تصريح المتكلم باعتماده على القرائن المنفصلة وخروجه في كلامه عن طريقة العرف في استيفاء البيان بالظهور ، وهو خارج عن محل الكلام.

٧٦

ومن هنا يكون الكلامان المتنافيان بحسب ظهور كل منهما متعارضين بحسب الدلالة والبيان.

إذا عرفت هذا ، فالظاهران وإن كانا متنافيين بحسب المؤدى ومتعارضين في مقام البيان ، إلا أن العرف قد يجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر وتنزيله عليه ، لكونه بنظرهم قرينة صارفة له عن ظاهره ، وكاشفا عن عدم مطابقة ظاهره لمراد المتكلم الجدي ، لا بمعنى أنه معد للقرينية من قبل المتكلم نفسه ، حيث قد يقطع بعدم إعداده له ، لعدم نظره لذي القرينة ، أو غفلته عنه ، أو اعتقاده وفاءه بالبيان. بل بمعنى تعويل العرف وأهل اللسان عليه في فهم المراد منه ، كما يعوّلون على القرائن المتصلة المسوقة لغرض آخر غير القرينية.

وحيث كان دليل العمل بالظهور واستكشاف المراد الجدي به منحصرا بسيرة العرف الارتكازية ـ كما تقدم في مبحث حجية الظواهر ـ كان توقفهم عن العمل به وتنزيله على ما يطابق الظهور الآخر في موارد الجمع العرفي مانعا من حجيته وملزما بحجية مجموع الكلامين على مقتضى الجمع المذكور.

ولازم ذلك عدم التعارض بينهما في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها. ومن ثم ذكرنا آنفا خروج ذلك حقيقة عن التعارض ، لأن المهم من التعارض ليس هو التعارض في مقام البيان ، بل في مقام الحجية بالنظر لأدلتها العامة.

ومما ذكرنا يظهر أن القرينة الموجبة لرفع اليد عن الظاهر عرفا وتنزيله على مقتضاها رافعة لموضوع حجية الظاهر حقيقة ، لقصور دليل حجيته ـ وهو السيرة الارتكازية ـ عن صورة وجود القرينة ، فتكون واردة عليه ، لكون ارتفاع الموضوع بسبب التعبد بمؤداها.

نعم ، لو كانت القرينة موجبة للقطع بعدم إرادة المتكلم للظاهر كان ارتفاع موضوع حجيته تكوينيا لا تعبديا ، فيكون من صغريات التخصص. كما أنه لو فرض كون دليل صدور القرينة ظنيا لا قطعيا كان واردا على دليل حجية ظهور

٧٧

ذي القرينة ورودا ظاهريا ، لارتفاع موضوع الدليل به ظاهرا.

ولا مجال لتوهم حكومة دليل حجية القرينة على دليل حجيّة ذي القرينة ، لما سبق من أن الحكومة لا تكون بين الأدلة اللبية القطعية المتعرضة لواقع الحكم ، من دون أن تتميز بلسان خاص يتضمن النظر والشرح.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن تقديم القرينة في موارد الجمع العرفي ليس لارتفاع موضوع حجية ذي القرينة ، لعموم حجيته لحال وجودها ، بل من باب تقديم أقوى الحكمين ملاكا اللازم عند تزاحمهما في فرض عموم دليليهما وتحقق ملاكيهما ، وذلك لأن ملاك حجية كل من القرينة وذيها ليس إلا الكشف عن مراد المتكلم نوعا ، وحيث كانت القرينة أقوى كشفا لزم تقديمها عند التزاحم.

وفيه : أن امتناع التعبد بالحجتين المتنافيتين مضمونا ليس من جهة تعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال مع تمامية ملاك الحجية في كل منهما ، ليكون من صغريات التزاحم ، ولذا يمتنع وإن لم يكن أحدهما اقتضائيا ، بل لاستحالة الجمع بين المتعارضين في الحجية ، لاستلزامه التعبد بالنقيضين ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ ولازم ذلك قصور موضوع حجية أحدهما عن صورة فعلية حجية الآخر ، المستلزم لوروده عليه ، كما هو الحال في القرينة مع ذيها.

غاية ما يدعى أن قصور موضوع حجية ذي القرينة في مورد ورود القرينة ليس لعدم المقتضي رأسا ، بل لوجود المانع ، وهو لا ينافي الورود. ولعل ذلك هو مراده ، بأن يريد بالتزاحم التزاحم الملاكي. والأمر سهل.

وحيث انتهى الكلام إلى هنا فالمناسب التعرض لأمور ..

الأمر الأول : الظاهر أن المعيار في الجمع العرفي على تقديم الأظهر على الظاهر وتنزيله على ما يطابقه ، فتعين أحد الدليلين للقرينية على الآخر عرفا منوط بأظهريته منه دلالة ، وما اشتهر من تقديم الخاص على العام والمقيد على

٧٨

المطلق وغيرهما راجع إلى ذلك ، فلو فرض أظهرية العام من الخاص لزم تنزيل الخاص عليه ، مثلا لو كان ظهور العام في عموم الرخصة أقوى من ظهور الخاص في الإلزام تعين تقديم العام وتنزيل الخاص عليه بحمله على الاستحباب أو نحوه.

لكن صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه بلزوم تقديم الخاص مطلقا وإن كان أضعف ظهورا ، لأن الخاص بمنزلة القرينة على العام ، كما يتضح بفرض وقوعهما في مجلس واحد ، وأصالة الظهور في القرينة حاكمة على أصالة الظهور في ذيها ، فلا يحتاج تقديمها لملاحظة الترجيح الدلالي ، كما يظهر من قياس ظهور «يرمي» في قولنا : «رأيت أسدا يرمي» ، في رمي السهام على ظهور «أسد» في الحيوان المفترس ، حيث لا إشكال في أقوائية الثاني من الأول ، لأنه بالوضع وذاك بالإطلاق ، مع أنه لا تأمل في حكومة أصالة الظهور في الأول على أصالة الظهور في الثاني ، ولا وجه له إلا كون الأول قرينة على الثاني.

ويشكل : بأن تعين أحد الكلامين للقرينية على الآخر إنما يتجه في ما لو كان ناظرا إليه ومسوقا من قبل المتكلم لبيان المراد منه ، فيكون حاكما عليه حكومة بيانية ، ولا يحتاج تقديمه عليه لأقوائية ظهوره ، كما ذكرناه في الفصل الثاني ، وأما في سائر موارد تعارض الظاهرين في مقام البيان فلا يتعين أحدهما للقرينية على الآخر إلا بقوة ظهوره ، حيث يكون رفع اليد عن الظاهر لأجل الأظهر متعينا عرفا.

بل ذلك هو المعيار في تعيين القرينة المتصلة أيضا من أجزاء الكلام الواحد ، حيث سبق في أول الفصل أن المراد بها ليس خصوص ما يعده المتكلم للقرينية.

وخصوصية الخاص بدون ذلك في القرينيّة ممنوعة حتى مع ورودهما في مجلس واحد.

٧٩

وكذا ما ذكره من تعين «يرمى» للقرينية ، وتحكيم ظهوره على ظهور «أسد» مع أقوائية الثاني.

للمنع من عموم أقوائية الظهور الوضعي من الظهور الإطلاقي ، بل يختلف الحال باختلاف الموارد ، حيث قد يضعف الظهور الوضعي بمألوفية الخروج عن الوضع ، كما يقوى الظهور الإطلاقي لو لم يرجع لإرادة الشياع والسريان من الماهية ، بل لإرادة خصوص بعض الإفراد لكونه الفرد الظاهر المتعين عند حذف المتعلق ، لوضوح أن إرادة الفرد الخفي الذي لا يشيع الاستعمال فيه حينئذ بعيدة جدا ، ومنه المقام.

على أن المثال المذكور ليس من الأمثلة العرفية ، بل شاع بين أهل الفن التمثيل به للمجاز من دون أن يهتموا بتحديد ظهوره العرفي.

وبالجملة : لا وجه لتعيين الخاص للقرينية ، بل هي تابعة إما لتعيين المتكلم ، لخصوصية في كلامه ـ كما في موارد الحكومة البيانية ـ أو لأقوائية الظهور ، حيث يكون الأقوى ظهورا قرينة عرفية صالحة لرفع اليد عن الأضعف ، وإن لم تعد من قبل المتكلم لذلك.

نعم ، الظاهر عدم الاكتفاء بمجرد الأظهرية في الجمع العرفي ، بل لا بد معها من كون الأضعف ظهورا صالحا عرفا للتأويل والتنزيل على طبق الأظهر ، بحيث يكون مفاد الجمع بينهما ملائما لهما معا عرفا ، ولو لم يصلح لذلك فليس بينهما جمع عرفي ، بل يتعين التوقف وإجراء حكم التعارض لو لم يكشف الأظهر عرفا عن خلل في الظاهر ، وإلا تعين العمل بالأظهر وإهمال الظاهر ، لصيرورته بحكم المجمل.

ويتوقف توضيح ذلك بالأمثلة على استيعاب الأدلة والنظر في خصوصياتها ، ولا تسعه هذه العجالة ، بل يوكل للفقه عند الابتلاء بذلك. والله سبحانه ولي التوفيق.

٨٠