المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

قطعه ، فضلا عن حجية رأي غيره عليه ممن يخالفه ويكون جاهلا بنظره.

وأما في ما يعجز عن تشخيص الوظيفة فيه فلا مانع من البناء على جواز تقليده لغيره فيه ، لدخوله في كبرى رجوع الجاهل للعالم. إلا أن يخطئ الغير في مستنده ، لقصور الكبرى المذكورة عن صورة ثبوت خطأ المستند.

بل لا يبعد ذلك فيما لو كان قادرا على تشخيص حال المستند لنضوجه العلمي وعدم لزوم الحرج منه ، وإن لم ينظر فيه فعلا.

هذا ، وأما الرجوع للمتجزئ وتقليده في ما وصل إليه فالكلام فيه موكول لمبحث التقليد.

تنبيه

أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات الكلام في المتكافئين إلى أن المكلف لو كان قادرا على بعض مقدمات الاستنباط دون بعض كان عليه الاستقلال في ما علم والرجوع للغير في ما جهل ويكون تشخيص الوظيفة تابعا للمجموع وإن خالف فيها المجتهد الذي يرجع إليه ، وهو نحو من تجزي الاجتهاد ، مرجعه للتجزي في المسألة الواحدة بلحاظ أدلتها لا بلحاظ مجموع المسائل الذي هو محل كلامهم في المقام.

المسألة الثانية : اتفقت كلماتهم ـ كما قيل ـ على التخطئة في العقليات ، من دون فرق بين العقليات المحضة التي لا دخل لها بالأحكام الشرعية ، ككون الكل أعظم من الجزء ، والمرتبطة بالأحكام الشرعية ، كاستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده.

لأن وظيفة العقل ليس إلا إدراك الواقع ، ولا مجال لتبعية الواقع للإدراك ، لتفرع مقام الاثبات عن مقام الثبوت وتأخره عنه رتبة ، فكيف يكون مقام الثبوت تابعا لمقام الإثبات ، بل ليس الواقع الذي يتناوله الادراك إلا أمرا واحدا يصيبه من

٣٠١

يصيبه ويخطئه من يخطئه.

نعم ، خص بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ذلك بالعقل النظري المتمحض في الادراك ، دون العقل العملي الذي يكون في باب التحسين والتقبيح ، لتقوم التحسين والتقبيح بملاءمة الشيء للقوة العاقلة ومنافرتها له ، ويمتنع تطرف التخطئة في مثل هذه الادراكيات الوجدانية ، إذ ليس لها واقع محفوظ وراء حصول الانبساط والاشمئزاز.

وهو مبني على أن التحسين والتقبيح نفس الملاءمة والمنافرة المستلزمين للمدح والذم ، حيث يكونان من الامور الإضافية المختلفة باختلاف الاشخاص كالالتذاذ والتألم ، أما لو كانا عبارة عن إدراك واقع في الفصل مقوم لحسنه أو قبحه ، كان للحسن والقبح واقع محفوظ ، وكان التحسين والتقبيح متمحضين في الإدراك القابل للخطإ والصواب. والظاهر الثاني وتمام الكلام في محله.

وأما الشرعيات فقد تكرر نقل إجماع أصحابنا على التخطئة فيها ، وأن لله تعالى في كل واقعة حكما واحدا تابعا لموضوعه الواقعي يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه.

بل الظاهر المفروغية عنه بينهم. وما قد ينافيه مما يظهر من بعض عباراتهم في حكم مفاد الأخبار وفي حقيقة الحكم الظاهري والجمع بينه وبين الحكم الواقعي ونحوها ، ناشئ عن الغفلة عن منافاة ذلك للتخطئة ، ولذا تكرر منهم النقض على بعض الوجوه المذكورة باستلزامها التصويب ، حيث يناسب ذلك المفروغية عن بطلانه.

وكيف كان ، فالتصويب يتردد في كلمات القائلين به والناقلين له بين وجوه ثلاثة ..

الأول : أن الحكم في حق كل مجتهد تابع لاجتهاده ، بحيث لا حكم لله

٣٠٢

تعالى في الواقعة قبل تحقق اجتهاده.

الثاني : أن له تعالى أحكاما متعددة بعدد ما يعلم حصوله من آراء للمجتهدين ، فكل مجتهد قد جعل في حقه الحكم الذي سوف يؤدي إليه اجتهاده.

وبأحد هذين الوجهين قد يفسر التصويب المنسوب للأشاعرة ، وإن كان الأظهر من بعض الكلمات المنقولة عنهم الأول.

الثالث : أن له تعالى حكما واحدا أوّليا يشترك بين العالم والجاهل يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه ، إلا أن من أدى اجتهاده لخلافه ينقلب الحكم في حقه وحق من يقلده على طبق اجتهاده ، فالاجتهاد من سنخ العنوان الثانوي الموجب لتبدل الحكم الأولي.

ولعل أهون الوجوه المذكورة وأبعدها عن الخطأ هو الوجه الثالث ، لأن تبدل الأحكام الأولية بالعناوين الثانوية غير عزيز.

إلا أنه لا مجال للبناء عليه مع منافاته لاطلاقات أدلة الأحكام الواقعية القاضية بفعليتها تبعا لفعلية موضوعاتها.

مضافا إلى النصوص الكثيرة الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي في صورة عدم إصابته.

منها : ما تضمن أن الحكم حكمان حكم الله عزّ وجل وحكم الجاهلية وأن من أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم الجاهلية (١).

ومنها : ما تضمن تفسير ما ورد في أن اختلاف الأمة رحمة بالاختلاف في طلب العلم ، وأن الدين واحد (٢).

ومنها : ما تضمن من النصوص الكثيرة الاهتمام بحفظ الأحاديث ومدح

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧ ، ٨ وباب ٥ منها حديث ٦.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٠.

٣٠٣

رواتها الأمناء عليها (١) ، حيث يظهر منه أن ضياعها المستلزم لضياع الواقع محذور لا يتدارك بتشخيص المجتهد للوظيفة الفعلية خطأ .. إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة أو المشعرة بأن الأحكام الواقعية باقية على ما هي عليه من الفعلية ، ولا تختلف باختلاف الاجتهادات والانظار.

ولا ملزم بالخروج عن ذلك الا توهم أنه مقتضى الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، التي يختلف مفادها باختلاف الأنظار والاجتهادات.

لكن ذلك إن رجع إلى دعوى : ظهور أدلة الحجج والأصول الظاهرية في تبعية الحكم الفعلي لها ، بحيث تكون موضوعاتها عناوين ثانوية رافعة للحكم الأولي.

ففيه .. أولا : أن ظاهر أدلتها محض الطريقية الظاهرية ، التي هي في طول الأحكام الواقعية من دون أن تكون دخيلة فيها.

وثانيا : أن ذلك إنما يستلزم التصويب في مؤدى الأمارة الشرعية كفتوى المجتهد في حق العامي ، وأدلة الأحكام في حق المجتهد ، لا في تشخيص مؤدى الامارة لو فرض الخطأ في تشخيصه ، كما لو أخطأ العامي في تشخيص فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده ، أو أخطأ المجتهد في تشخيص مؤدى أدلة الأحكام ، لاستناد الخطأ في ذلك إلى القطع الذي هو طريق محض بحكم العقل ، من دون أن يكون حجه شرعية كي يكون ظاهر دليل حجيته تبدل الحكم الواقعي تبعا له.

وإن رجع إلى دعوى : أن بقاء الأحكام الواقعية على ما هي عليه من الفعليّة في حال خطأ الاجتهاد مستلزم لكون فتح باب الاجتهاد وترخيص الشارع فيه وتهيئة مقدماته ببيان الأحكام بالطرق الظنية القابلة للخطإ في نفسها وفي تشخيص مفادها ، مفوتا للواقع الذي هو قبيح منه تعالى ، فلا بد من البناء على

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ ، ١١ من أبواب صفات القاضي.

٣٠٤

تبدل الحكم الواقعي فرارا عن المحذور المذكور ، وإن كان مخالفا لظاهر أدلة الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها من الأخبار المذكورة.

فيظهر اندفاعه مما تقدم في أول مباحث الحجج في حقيقة الأحكام الظاهرية ، ووجه عدم منافاتها للأحكام الواقعية ، حيث يستغنى به عن التصويب بل مقتضى ما سبق هناك عن ابن قبة من استحالة التعبد بغير العلم لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، كون بطلان التصويب أظهر من نصب الطرق الظنية ، لوضوح ابتناء المحذور المذكور على عدم التصويب.

على أن منافاة الحكم الظاهري لو كانت ملزمة بالتصويب للزم البناء عليه في التعبد الظاهري بموضوعات الأحكام ، مع أن المحكي عن الفصول نفي الخلاف في عدمه فيها. فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر ضعف الوجه الثاني للتصويب ، لصلوح ما سبق لرده ، لأن مقتضى إطلاق أدلة الأحكام الواقعية اشتراكها بين جميع المكلفين وعدم اختصاصها بمن يؤدي اجتهاده إليها.

كما أن ذلك هو مقتضى النصوص الاخرى المشار إليها آنفا. كما يظهر بأدنى تأمل.

بل هو مقتضى نصوص كثيرة اخرى ..

منها : ما تضمن أن من يقضي بالحق وهو لا يعلم فهو في النار (١) ، وأن من قال برأيه فأصاب لم يؤجر (٢) ، وأن من أخذ بالقياس كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (٣) ، حيث فرض فيها إصابة الحق مع عدم اجتهاد معذر.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦ ، ٣٥.

(٣) لم أعثر على هذا المضمون عاجلا في الوسائل ، وإنما ذكره شيخنا الأعظم في أواخر التنبيه الثاني من شبهات دليل الانسداد عند الكلام في حكم القياس من الوجه السابع من وجوه الاستدلال عليه.

٣٠٥

ومنها : ما تضمن أن الدين كله مبين في الكتاب والسنة وأن عملهما عند الأئمة عليهم السّلام (١) ، لوضوح أن مدعى القائل بالتصويب اختصاص أحكام الكتاب والسنة بمن يصل إلى مضامينهما ، دون من أخطأها ، بل له أحكام أخرى غير حكمهما ، هي الدين المطلوب منه.

ومنها : ما تضمن أن العلم مخزون عند أهله وكل ما لم يخرج من أهل البيت فهو باطل وأنه يجب سؤالهم عنه وطلبه منهم (٢) ، لظهورها بمجموعها في وحدة التكليف الواقعي وعمومه لكل أحد ، ولذا يجب طلبه من مظانه.

إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في وحدة التكليف الواقعي.

بل هو المطابق لارتكازيات المتشرعة القطعية ، والملحقة لذلك بالبديهيات غير القابلة للأخذ والرد والنقض والابرام ، بحيث يقطع لأجلها بأن البناء على التصويب لشبهة ضاق حلها.

وأما ما استشكل به غير واحد في الوجه المذكور من استلزامه اجتماع الظن واليقين بالحكم في زمان واحد ، لأنه باعتبار ظنه بالواقع يكون مظنونا ، وباعتبار أن مؤدى ظنه هو حكم الله تعالى المجعول في حقه يكون متيقنا.

فيمكن دفعه بأن حصول الظن مع قطع النظر عن كبرى التصويب لا ينافي انقلابه لليقين بعد الالتفات للكبرى المذكورة. فالعمدة ما سبق.

وأضعف وجوه التصويب هو الوجه الأول ، لمنافاته لجميع ما تقدم ، ولما هو المعلوم من الكتاب والسنة وضرورات المتشرعة من جعل الأحكام الشرعية ، بل إكمال الدين مع قطع النظر عن الاجتهاد فيها ، ولذا يجب الفحص

__________________

(١) تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام ضبطها تفصيلا.

(٢) تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام ضبطها تفصيلا.

٣٠٦

عن الأحكام بالاجتهاد أو التقليد ، مع وضوح عدم وجوب شرط التكليف.

كما يمكن حصول العلم الإجمالي بالتكليف ، قبل تناول الاجتهاد له بخصوصيته ، مع أن ثبوت أحد الاطراف بخصوصيته راجع إلى سبق التكليف للاجتهاد وإمكان خطأ الاجتهاد في تعيينه ، إذ لا مجال للالتزام بثبوت أحدهما المردد لاستحالة جعل المردد ، ولا التخييري للقطع بعدمه ، بل قد يستحيل جعله ، كالتخيير بين الوجوب والحرمة أو بين الاستحباب والوجوب.

هذا مضافا إلى استحالة الوجه المذكور من التصويب في نفسه ، لأن الاجتهاد لما كان راجعا إلى مقام إثبات الأحكام كان متأخرا عنها رتبة ومترفعا عليها تفرع مقام الاثبات على مقام الاثبات ، فلا يتحقق موضوع الاجتهاد إلا في فرض احتمال جعل أحكام يجتهد فيها ، لا مع العلم بعدم جعل حكم في الواقعة.

والرجوع إلى بعض ما ينقل من كلماتهم في وجه البناء على ذلك شاهد باختلاط مقام الاثبات عليهم بمقام الثبوت ومقام التنجيز بمقام الجعل ، فحيث كان إثبات التكليف وتنجيزه متفرعا على الاجتهاد في الجملة تخيلوا إناطة الجعل به. ووهنه ظاهر.

تنبيه

ربما يدعى اختصاص التخطئة بالأحكام الواقعية ، مع لزوم التصويب في الأحكام الظاهرية ، للعلم معها بالوظيفة الفعلية.

والذي ينبغي أن يقال : إن كان المراد بالوظيفة الفعلية ما يترتب عليه العمل بلا واسطة ، وهو القطع بالحكم الواقعي أو الوظيفة الظاهرية العقلية أو الشرعية فلا ريب في عدم الخطأ فيه ، لأنه أمر وجداني غير قابل للخطإ ، وإن كان المراد بها الوظيفة الظاهرية المجعولة شرعا كأصالة البراءة والاستصحاب

٣٠٧

ونحوهما مما يترتب عليه العمل بواسطة وصوله أمكن الخطأ فيها ، لتبعية الوظيفة الشرعية لجعلها كبرويا ولتحقق موضوعها ، وكلاهما أمر واقعي قابل للخطإ وجودا وعدما ، كما لو اعتقد المجتهد جريان الاستصحاب التعليقي ، وكان غير جار واقعا ، أو عدم جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي وكان جاريا واقعا ، أو اعتقد بتحقق موضوع الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث المستند لما يراه دليلا ، والشك في البقاء ، وكان مخطئا في اعتقاد دليلية دليل الحدوث ، أو بعدم تحقق موضوع الاستصحاب ، لخطئه في اعتقاد دليلية دليل الارتفاع ، حيث يكون مع ذلك مخطئا في تشخيص الوظيفة الظاهرية ، وإن كان معذورا في عمله عليها ، لاعتقاد بتماميتها.

نعم ، لا يبعد البناء على عدم الخطأ في تشخيص الوظائف العقلية ، لأن موضوعها واقعا عدم وصول الدليل ، لا عدم الدليل المجعول واقعا ، وأن كبرياتها وجدانية غير قابلة للخطإ.

اللهم إلا أن يلتبس الأمر على الوجدان ، ولذا يقع الاختلاف فيها. فلاحظ.

المسألة الثالثة : لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد بالحكم الشرعي الواقعي مع العلم الحقيقي به ، لضرورة أو إجماع أو غيرهما.

وكذا مع قيام الحجة عليه بناء على جواز الإخبار بالواقع اعتمادا على الحجة.

لكن الظاهر عدم جوازه وأنه لا بد معه من ابتناء الخبر على بيان مفاد الحجة ، لا على التعهد بالمخبر به مطلقا ومع قطع النظر عنها ، وهو الظاهر من حال أهل الفتوى ، لعدم تعلق غرض المستفتي ببيان الحكم الواقعي ، بل ببيان ما ينبغي العمل عليه ، ولو كان هو مفاد الأصل الشرعي أو العقلي.

نعم ، لما كان الغرض من الفتوى ترتب عمل المستفتي لزم تحقق موضوع الوظيفة العملية في حقه ، ولا يكفي ، بل لا يعتبر تحققها في حق المفتي ،

٣٠٨

بخلاف ما لو كان المصحح للفتوى قيام الحجة على الحكم الواقعي ، حيث يلزم تحقق موضوع الحجية في حق المفتي ، لأن جواز الإفتاء أثر عملي متعلق به ، فيتبع قيام الحجة عنده ، وإن كان ترتب عمل المستفتي على الفتوى مشروطا بتحقق موضوع الحجية في حقه أيضا.

وتمام الكلام في ذلك في مباحث التقليد إن شاء الله تعالى.

٣٠٩
٣١٠

المقام الثاني

في التقليد

المستفاد من بعض كلمات اللغويين واستعمالات أهل اللغة أن التقليد عبارة عن جعل الشيء في عنق الغير ، وبلحاظ ذلك يستعمل في إلزام الشخص بشيء وتحميله مسئوليته ، لأن العنق مورد لتحمل المسئولية عرفا.

ومنه قول الصديقة عليها السّلام : «لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها». قال في لسان العرب : «والقلد إدارتك قلبا على قلب من الحلي ، وكذلك لي الحديدة الدقيقة على مثلها ... وكل ما لوي على شيء فقد قلد. والقلادة ما جعل في العنق يكون للإنسان والفرس والكلب والبدنة التي تهدى ونحوها ... ومنه التقليد في الدين ، وتقليد الولاة الأعمال ... وقلده الأمر ألزمه إياه ... وتقلد الأمر احتمله ، وكذلك تقلد السيف ...».

وأطلق في العرف على متابعة الغير في العمل. ولعله بلحاظ أن التابع قد حمّل المتبوع مسئولية عمله ، كأنه جعله في عنقه ، لتحمل المفتي مسئولية الفتوى ارتكازا ، كما يناسبه ما في صحيح ابن الحجاج : «كان أبو عبد الله عليه السّلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه فلما سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئا ... فقال أبو عبد الله عليه السّلام هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكل مفت ضامن» (١) وخبر ابي بصير : «دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله عليه السّلام وأنا عنده فقالت : جعلت

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب آداب القاضي حديث : ٢.

٣١١

فداك إنه يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق. فقال : ما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلدتك ديني ، فألقى الله عزّ وجل حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد عليهما السّلام أمرني ونهاني. فقال : يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل. لا والله لا آذن لك في قطرة منه ...» (١) وغيرهما.

لكن الظاهر أن الجهة المذكورة وإن كانت هي المنشأ في إطلاق التقليد على ذلك ، إلا أن الاستعمال بعد ذلك قد جرد عنه ولحظ فيه محض التابعة والمحاكاة مع قطع النظر عنها ، ولذا صح إطلاقه في ما لا مسئولية فيه من الأعمال ، وعدّي ب «في» فيقال : قلّده في عمله ، لا : قلّده عمله.

وعليه جرى ظاهرا استعمال التقليد في غير واحد من الروايات ، كخبر البزنطي : «قلت للرضا عليه السّلام : إن بعض أصحابنا يقولون : نسمع الأمر يحكى عنك وعن آبائك فنقيس عليه ونعمل به. فقال : سبحان الله ما هذا من دين جعفر ... فأين التقليد الذي كانوا يقلدون جعفرا وأبا جعفر عليهما السّلام قال جعفر : لا تحملوا على القياس ...» (٢) وخبر محمد بن عبيدة قال : «قال لي أبو الحسن عليه السّلام : يا محمد أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟ قال : قلت : قلدنا وقلدوا ... فقال أبو الحسن عليه السّلام : إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته وقلدوه ، وإنكم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه ، فهم أشد منكم تقليدا» (٣) وغيرهما.

ولا يبعد جريان اصطلاحهم على ذلك في التقليد وعدم خروجهم عنه لمعنى آخر ، فإنهم وإن عرفوه ..

تارة : بالعمل بقول الغير.

واخرى : بالأخذ به.

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب الاشربة المحرمة حديث : ٢ مع ملحقه في الهامش.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢.

٣١٢

وثالثة : بقبوله ، إلا أن من القريب رجوع الجميع لمعنى واحد لعدم تعرضهم للخلاف من هذه الجهة ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه وذلك المعنى هو المتابعة في العمل ، لمطابقته لما عرفت من المعنى العرفي المطابق لبعض الاستعمالات الشرعية ، فهو في الامور الشرعية كالتقليد في غيرها من الأعمال والأفعال ، لاحتياج خروجهم عنه إلى عناية يبعد وقوعها.

وعليه يكون من العناوين المنتزعة من صدور العمل تبعا لفتوى الغير وطبقا لها.

لكن يظهر من غير واحد من المتأخرين أنه سابق على العمل ، فهو ..

إما الأخذ بقول الغير والالتزام به على أنه الحكم الظاهري اللازم المتابعة ، كما قد يظهر من الفصول والمحقق الخراساني قدّس سرّه.

أو البناء على متابعته في مقام العمل ، كما يظهر من العروة الوثقى.

وقد يناسب ذلك قولهم : عمل عن تقليد ، لظهوره في سبق التقليد على العمل.

إلا أنه لا مجال للخروج به عما ذكرنا.

وكيف كان ، فلا ثمرة في تحقيق مفهوم التقليد الاصطلاحي ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

كما لا ثمرة مهمة في تحقيق مفهومه العرفي واللغوي ، لعدم أخذ عنوانه في أدلة أحكامه ، وإنما أخذ في مرسل الاحتجاج (١) ، المتضمن لاعتبار العدالة في مرجع التقليد التي كان وضوح اعتبارها مغنيا عن النظر في المرسل المذكور.

ومن هنا يتعين تحديد موضوع تلك الأحكام تبعا لأدلتها ، بلا حاجة الى تحديد مفهوم التقليد.

فالمهم هو النظر في أحكام التقليد واستحصال الدليل عليها ، وهو ما

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

٣١٣

يتكفله البحث في المقام.

وقد تعارف في عصرنا وما قاربه تعرض الفقهاء لجملة من مسائل التقليد في مقدمة رسائلهم العملية وكتبهم الفتوائية ، واستيفاء جملة وافية من فروعه الدقيقة التي هي مورد الابتلاء. وممن تعرض لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه في كتابه (منهاج الصالحين) ، وقد سبق منّا تحرير الاستدلال على الفروع التي ذكرها عند الشروع في تدريس الكتاب المذكور ، حيث أفضنا في شرح كلامه واستدلال له مع ما يناسبه من القواعد والفروع. وقد استغرق ذلك زمنا طويلا.

ومن هنا لا نرى التعرض هنا لتلك الفروع ، بل الأولى الانشغال بما لم يسبق منا التعرض له ، لأن الوقت لا يسع الاعادة والصدر يضيق عنها.

فنحاول الاقتصار على تنقيح مقتضى القواعد الأولية في التقليد والاشارة لأدلتها العامة ، لأنه الأنسب بمباحث الأصول ، والاكتفاء في الفروع والخصوصيات بما حرر في الفقه. ونسأله تعالى أن يعيننا في ذلك ويسددنا فيه ، حتى يكون البحث متناسقا منتظما مفيدا مثمرا.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن المعروف من مذهب الأصحاب اجتزاء العامي بالتقليد. بل الظاهر أنه مما أطبق عليه المسلمون في الجملة ، كما تشهد به سيرتهم على اختلاف مذاهبهم.

والظاهر أن خلاف بعض الأخباريين فيه معنا لفظي ، لأن المحكي عنهم الذي تشهد به في الجملة بعض كلماتهم دعوى أن ما صدر من معاصري الأئمة عليهم السّلام وجرت به سيرة الإمامية خلفا عن سلف ليس من التقليد ، بل هو نظير قبول الرواية المنقولة بالمعنى ، الذي لا إشكال في جوازه ، وأنه لا يجوز تقليد من يجتهد في استنباط الحكم برأيه ، بل يجب أخذ أحكام الدين من المعصومين عليهم السّلام.

ونحن متفقون معهم في حرمة أخذ الحكم من غير المعصومين عليهم السّلام

٣١٤

ممن يستنبطه بإعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مع الإعراض عنهم عليهم السّلام ، كما هو دأب العامة الذين استفاضت النصوص بالانكار عليهم والردع عن طريقتهم ، وأن مرجع التقليد الجائز هو الرجوع للعلماء في معرفة الحكم الصادر من أهل البيت عليهم السّلام الذي جعلوه نظير قبول الرواية بالمعنى الذي اعترفوا بجوازه.

نعم ، مع تعذر معرفة حكمهم عليهم السّلام الواقعي والظاهري يجوز للعالم بيان الوظيفة العقلية الظاهرية القطعية. فإن أنكروا ذلك كنا مخالفين لهم.

إلا أن إنكارهم إن رجع إلى دعوى تعذر حصول القطع ، خرج عما نحن فيه ، ورجع للخلاف في الصغرى ، كالخلاف في كثير من المباني الاصولية.

وإن رجع إلى دعوى عدم حجية القطع المذكور ، فقد سبق ضعفها في مباحث القطع.

وإن رجع إلى دعوى عدم جواز التقليد فيها وإن جاز للمجتهد العمل بها ، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى بعد الفراغ عن أصل جواز التقليد في الجملة.

هذا ، وقد حكي عن الحلبيين وجوب الاجتهاد عينا. وهو غريب.

وكيف كان ، فقد أطالوا الكلام في دليل جواز التقليد من الكتاب والسنة والإجماع وسيرة المتشرعة والعقلاء وكثر منهم النقض والابرام في ذلك.

وينبغي قبل ذلك تقديم أمر ، وهو أن التقليد لما كان مورد عمل العامي فلا بد من انتهاء العامي فيه إلى حجة يدركها ، ولا يكفي قيام الدليل عليه عند المجتهد. وحينئذ إن غفل العامي عن الخلاف في جوازه وقطع به فلا اشكال ، حيث يستغني بقطعه عن الرجوع للمجتهد فيه. وكذا إن التفت للخلاف وقطع بخطإ أحد الطرفين. وإن شك فيه لم ينفع التقليد فيه ، لعدم انتهاء جواز التقليد فيه للعلم.

٣١٥

ومن هنا قد يقال : إنه لا ينفع قيام الدليل على جوازه أو عدم جوازه عند المجتهد ، بل لا أثر له ، لعدم كونه موردا لعلمه وعدم رجوع العامي له فيه.

بل هو المتعين بناء على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن مشروعية التقليد للعامي من البديهيات الجبلية الفطرية المستغنية عن الدليل ، ولو لا ذلك لانسد باب الامتثال في حقه ، لتعذر الرجوع عليه للأدلة الشرعية التفصيلية من الكتاب والسنة ، وتعذر تقليده فيه ، لما سبق.

إلا أنه كما ترى لا مجال للبناء عليه ، لوضوح أن التقليد كسائر الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء الارتكازية القابلة للإمضاء والردع.

ولذا جرت سيرة الأصحاب على الاستدلال بالأدلة الشرعية الظاهرة في الامضاء ، وكثر النقض والابرام منهم في ذلك ، ولم يعهد منهم دعوى امتناع الردع عنه ، ولا الانكار على المخالف فيه بأنه خارج عن البداهة.

بل لا ريب في شيوع الخلاف في بعض خصوصياته ، كتقليد الميت والأعلم ، مع أنها مشاركة لأصل التقليد في طبيعة الحكم وملاكه ، فلو لا كونه أمرا محتاجا للدليل غير مستغن عنه بالبداهة لما وقع ذلك.

وأما انسداد طريق الامتثال على العامي بدونه ، فهو ممنوع ، لإمكان جعل الشارع ما يخلفه على تقدير ردعه عنه ، يصل إليه العامي بنفسه.

إلا أن يريد به انسداده في الواقع القائم ، حيث يعلم بعدم جعل شيء آخر يقوم مقامه ، فيرجع إلى بيان أثر منع التقليد الخارجي لا محذوره العقلي فهو أشبه بالإشكال النقضي ، الذي لا تنحل به الشبهة.

ومن ثمّ ذكر شيخنا الاستاذ قدّس سرّه أن ما هو البديهي الفطري هو مسألة وجوب التقليد ، وهو الذي يدركه العامي بنفسه من غير حاجة للدليل التفصيلي والتقليد ، وأما التقليد في الأحكام الفرعية ـ الذي هو محل للكلام ـ فهو نظري محتاج للاستدلال ، ويختص بمعرفته المجتهد بعد النظر في الأدلة من الكتاب

٣١٦

والسنة وغيرهما ، ويرجع العامي إليه فيه.

لكنه يشكل : بأن المسألتين من باب واحد ، لاتحاد الملاك فيهما واتحاد أدلتهما ، وعمدة الدليل فيهما الذي يدركه كل أحد هو المرتكزات العقلائية وسيرتهم على رجوع الجاهل للعالم ، التي هي كسائر سيرهم قابلة للإمضاء والردع.

فالعمدة في حل الإشكال : أنه سبق في الاستدلال بسيرة العقلاء على حجية خبر الواحد أن سيرة العقلاء إذا كانت من سيرهم الارتكازية التابعة لمرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وفطرهم عليها لا لمؤثرات خارجية ، فهي تقتضي العمل على طبقها بنحو يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها من دون حاجة لإحراز عدم الردع ، فضلا عن إحراز الإمضاء.

وحيث كان التقليد مقتضى سيرة العقلاء ، وكانت السيرة المذكورة ارتكازية ، لابتناء نظام المعاد والمعاش على رجوع الجاهل العالم في كل شيء ، كانت السيرة المذكورة حجة في إثبات مشروعية التقليد ما لم يثبت الردع عنها ، وحيث لا يتيسر للعامي الاطلاع على الردع بنفسه كانت حجة له وعليه في إثبات مشروعيته ، بالنظر الأول ولذا كان تقليده مقتضى طبعه الأولي.

ولو فرض تشكيكه في مشروعيته بعد التفاته للخلاف فيه ، المثير لاحتمال الردع عنه ، تعين عليه تقليده في جواز التقليد ، لمشروعية التقليد المذكور له ، لتعذر اطلاعه على الردع عليه ، فإن أفتاه المجتهد بالجواز قلد في الأحكام الفرعية ، وإن أفتاه بعدمه لم يجز له التقليد فيها ، لوصول الردع له عنه بتقليده المذكور.

وكذا لو غفل عن حرمة التقليد ، فقلد في الأحكام الفرعية رأسا بمقتضى طبعه ، وكان رأي المجتهد الذي قلده ، والذي هو حجة عليه بالنظر الأولي ، عدم

٣١٧

جواز التقليد ، حيث يجب عليه تنبيهه لذلك بمقتضى وجوب تعليم الأحكام ، فتسقط فتاواه عن الحجية في حقه بعد ذلك.

إن قلت : إذا كان المجتهد يرى عدم جواز التقليد ، لنهوض الأدلة بنظره للردع عنه فلا فرق بين التقليد في جواز التقليد والتقليد في الأحكام الفرعية ، فكما لا يجوز الثاني لا يجوز الأول.

ولازم ذلك عدم حجية فتواه بعدم جواز التقليد أيضا ، فلا تصلح لإحراز الردع عن السيرة على جوازه. بل يعلم تفصيلا بعدم حجيتها إما لخطأ المجتهد فيها أو لإصابته في عدم جواز التقليد.

قلت : لا وجه لعدم الفرق بين التقليدين لإمكان الفرق بينهما في نظر الشارع ، بل هو المتعين بعد انحصار وصول الردع عن التقليد الثاني بالتقليد الأول ، حيث يستحيل معه اشتراكهما في ملاك الحجية أو عدمها ، بل يتعين اختلافهما في ذلك ، وحيث كان مقتضى الحجية حاصلا في الأول بمقتضى السيرة ، ولم يصل الردع عنه ، لعدم صلوحه للرد عن حجية نفسه ـ حيث يلزم من حجيته وصلوحه للردع عدمهما ـ تعين حجيته وصلوحه للردع عن التقليد في الأحكام الفرعية.

وقد ظهر مما ذكرنا ترتب الثمرة على نظر المجتهد في أدلة التقليد ، حيث يتسنى له تشخيص الوظيفة للعامي الذي يرجع إليه في ذلك بمقتضى السيرة التي هي حجة في حقه ، لعدم الردع عنها.

نعم ، لو قلنا بتوقف حجية السيرة على ثبوت الإمضاء تعذر رجوع العامي للمجتهد في ذلك ولم يكن نظر المجتهد في الأدلة المذكورة مثمرا ، كما قرر في الإشكال ، إلا أن يوجب قدرته على إقناع العامي على خلاف ما يكون عليه بدوا ، بحيث يوجب تشكيكه أو قطعه ، كما قد يوجب قدرته على اقناع المجتهد المخالف له من دون أن يكون رأيه حجة على أحدهما. ولا ضابط لذلك.

٣١٨

إذا عرفت هذا ، فالظاهر أنه لا طريق لإحراز الردع عن مقتضى السيرة المذكورة ، لعدم الأدلة الخاصة على الردع عن التقليد ، لاختصاص ما ورد بتقليد أهل الخلاف ونحوهم ممن لا يرجع في أحكامه لأهل البيت عليهم السّلام بل يعتمد فيها على غيرهم أو على إعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مما لم ينزل الله سبحانه وتعالى به من سلطان أو بتقليد الجهال ممن لا داعي لتقليدهم الا العصبية العمياء والحمية الجاهلية ، كما اشير إليه في مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١).

وعدم صلوح ما دل على عدم حجية غير العلم له ، لعدم ثبوت عموم له ينهض ببيان عدم الحجية لكل ما لا يفيد العلم ، فضلا عن أن ينهض بالردع عن مثل التقليد مما كان موردا للسيرة العقلائية ، ولا سيما مثل هذه السيرة الارتكازية المستحكمة التي ابتنى عليها نظام معاش العباد ومصادرهم لاحتياج الردع عنها إلى بيان خاص ملفت للنظر ، ولا يكتفى بمثل العموم الذي ينصرف عن موردها بسبب استحكامها.

وقد سبق في أول الكلام في مباحث الحجج عند الكلام في أصالة عدم الحجية ، وعند الاستدلال على حجية خبر الواحد بسيرة العقلاء ما ينفع في المقام. فراجع.

بل الظاهر استفادة إمضاء السيرة المذكورة من أمور ..

الأول : سيرة المتشرعة خلفا عن سلف وإجماعهم العملي على الاجتزاء بأخذ الأحكام من المجتهدين ، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاجتهاد لغالب المسلمين ، فلو لم يشرع لهم ذلك ولم يجر عملهم عليه لزم الهرج والمرج واختل نظام معاشهم ومعادهم.

__________________

(١) المائدة : ١٠٤.

٣١٩

قال في التقريرات : «وبالجملة : فجواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة للعامي وغيره ، وليس علم العامي بوجوب الصلاة عليه في الجملة أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتحاد طريقهما في حصول العلم من مسيس الحاجة وتوفر الدواعي عليه واستقرار سيرة المعاصرين للأئمة عليهم السّلام والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا ...».

والظاهر تفرع السيرة المذكورة على سيرة العقلاء المشار إليها ، فتكشف عن إمضائها.

ولو فرض اشتباه الحال على بعض العوام لبعض الشبه والتشكيكات التي لا يحسنون دفعها فهو لا يشتبه على أهل العلم ممن يلتفت للسيرتين المذكورتين ويحسن دفع الشبه بالأدلة الضرورية.

الثاني : قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) ، فإن التفقه عبارة عن تعلم الأحكام وأخذها عن أدلتها ، وظاهر الانذار هو الانذار بما تفقهوا فيه ، فيدخل فيه بيان الأحكام الإلزامية المستتبعة للعقاب والفتوى بها ، وحيث كان ظاهر جعل الحذر غاية للإنذار مطلوبيته تبعا له كان ظاهرا في حجية الفتوى بالأحكام الإلزامية ، ويتم في غيرها بعدم الفصل ، بل يفهم عدم الخصوصية بسبب ظهور في كون ترتب الحذر على الانذار طبيعيا ، لا تعبديا محضا ، حيث لا يكون ذلك إلا بلحاظ سيرة العقلاء التي ارتكز مضمونها في الأذهان ، حيث يكون ظاهرا في إمضاء السيرة المذكورة التي لا يفرق فيها بين الأحكام الإلزامية وغيرها.

بل ربما يدعى شمول الإنذار لبيان الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية ، لما يتضمنه من بيان فوت الثواب بالتخلف عن متابعتها. فتأمل.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

٣٢٠