المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

وقد تقدم في الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد الكلام في بعض الجهات الراجعة للاستدلال بها مما ينفع في المقام.

كما تقدم الإشكال في الاستدلال بآيات أخر قد استدل بها على حجية الفتوى أيضا كآيتي الذكر والكتمان ـ حيث يظهر بمراجعة ذلك ضعف الاستدلال بها على حجية الفتوى.

الثالث : النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم وتعليمه وتعلمه والانتفاع به والرجوع للعلماء في القضاء وأخذ الأحكام منهم ونحو ذلك (١) ، حيث يظهر من مجموعها المفروغية عن جواز الاعتماد على العلماء في معرفة الأحكام والعمل عليها ، لكن لا عموم للنصوص المذكورة ، لعدم التصدي فيها لبيان الحجية ، وإنما استفيد منها المفروغية عنها تبعا لسيرة العقلاء المشار إليها ، فتدل على إمضائها ، ويستفاد العموم من السيرة لا منها.

نعم ، يستفاد العموم من قوله عليه السّلام في التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢) ، وقوله عليه السّلام في ما كتبه لأحمد بن حاتم وأخيه «فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (٣)

(٣) وقول الصادق عليه السّلام في مرسل الاحتجاج : «فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه» (٤).

اللهم إلا أن يستشكل في الأول باحتمال الرجوع لأخذ الرواية ، لا الفتوى ، فتدل على حجية خبر الواحد. فتأمل.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ ، ٥ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

٣٢١

وفي الثاني بوروده لبيان اشتراط الإيمان في المرجع ، من دون تعرض لمن يرجع إليه ، ليؤخذ بعمومه ، فهو نظير ما في كتاب أبي الحسن عليه السّلام لعلي بن سويد من قوله : «لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين ...» (١).

مضافا إلى الإشكال في الكل بضعف السند ، وعدم وضوح انجبارها بعمل الأصحاب ومفروغيتهم عن الحكم ، لقرب احتمال اعتمادهم على الأدلة الاخرى.

الرابع : ما تضمن حث أبان بن تغلب على الجلوس للفتوى (٢) وتقرير معاذ بن مسلم على ذلك (٣) لوضوح أن مبنى استفتاء الناس لهما على العمل بما يفتيان لهم ، كما هو مقتضى السيرة.

ولا يقدح في ذلك احتمال خصوصيتهما في نظرهم عليهم السّلام.

لوضوح أن خصوصيتهما إنما تكون دخيلة في الأمر بالفتوى والتقرير عليها ، لا في عمل المستفتي بفتواهما ، لعدم ابتناء استفتائهم لهما على الاطلاع عليها رأسا ولا بتوسط اطلاعهم على أمر الإمام وتقريره ، بل على الرجوع لهما لمحض ثقتهم بهما ـ كسائر أهل العلم بمقتضى السيرة ، فيدل على إمضائها. فتأمل جيدا.

وأما الاستدلال بالنصوص الكثيرة المتضمنة إرجاع الأئمة عليهم السّلام إلى آحاد أصحابهم كأبي بصير ومحمد بن مسلم والحارث بن المغيرة والمفضل بن عمر ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم والعمري وابنه (٤).

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٢.

(٢) ذكر في ترجمة ابان من كتاب النجاشي ص : ١٨ الطبعة الثانية والفهرست ص : ٤١ طبع النجف الأشرف ، والخلاصة ص ٢١ طبع النجف الأشرف.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٦.

(٤) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ولم يذكر فيه الارجاع للمفضل ، وإنما ذكر في ترجمته من كتاب الكشي ص : ٢٧٧ طبع النجف الأشرف.

٣٢٢

بدعوى : أنها وإن وردت في موارد خاصة ، إلا أنه يقرب فهم عدم الخصوصية لمواردها والتعدي لجميع موارد السيرة الارتكازية. ولا سيما مع تضمن جملة منها التنبيه إلى أن ملاك الارجاع الوثاقة والأمانة.

فيشكل : بأن ملاك الارجاع الذي تضمنته هو وثوقهم عليهم السّلام بدين الشخص وعلمه ، وهو لا يستلزم جواز التقليد لكل من يثق به المكلف حسبما يسعه ويتوصل إليه ، مع قطع النظر عن شهادتهم عليهم السّلام الذي هو محل الكلام ومورد السيرة ، فليست تلك النصوص في مقام إمضاء سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة ، ولا يستفاد منها تبعا ، بل هي متكفلة ببيان موارد ثقتهم عليهم السّلام التي يرتفع صاحبها إلى أسمى المراتب ، لكشفها عن كماله بمرتبة عالية لا تحرز في غيره.

ولذا يمكن الإرجاع بالنحو المذكور مع الردع عن السيرة ، لسدّ الخلل والتعويض عن النقص الحاصل بالردع عنها.

هذا ، وقد استدل بعض مشايخنا بما دل على حرمة الفتوى بغير علم من النصوص الكثيرة (١) ، حيث يقتضي مفهومها ـ ولو بقرينة الحكمة ـ جواز الفتوى عن علم الملازم عرفا لجواز العمل به.

لكن لا يخفى أن المفهوم المذكور لما كان من سنخ مفهوم القيد فالأولى الاستدلال بالنصوص الدالة بالمنطوق على جواز الفتوى عن علم (٢).

نعم ، الاستدلال بكلتا الطائفتين على جواز التقليد إنما يتم في ما كان منها ظاهرا في الفتوى لأجل العمل ، كما هو حال بعضها ولا يتم في كثير منها ، لإمكان

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حيث يوجد فيها كثير من النصوص المذكورة ويوجد في غيره من الأبواب بعض النصوص المتفرقة في ذلك.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ٢٨ ، وباب ٨ من الأبواب المذكورة حديث ١٨ ، ٥٢ ، ٨٢ وباب : ١٠ في الأبواب المذكورة حديث : ١١ ، ١٥ وباب : ١١ من الأبواب المذكورة حديث : ١١ وغيره.

٣٢٣

تحريم الفتوى بغير علم وجوازها عن علم بلحاظ حرمة القول في الدين بغير علم وإن لم يستتبع العمل ، كما لو صدر ممن ليس أهلا للتقليد بنظر السامع.

وقد ظهر من جميع ما تقدم : أن النصوص الظاهرة في جواز العمل اعتمادا على فتوى أهل العلم كثيرة جدا على اختلاف ألسنتها وتباين مضامينها.

وهي وافية بإحراز إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على ذلك كسيرة المتشرعة وآية النفر. ومن هنا كان جواز التقليد من الواضحات الملحقة بالضرورات الفقهية لو لم يكن من الضرورات الدينية.

وإنما أطلنا الكلام فيه واستقصينا أدلته للتنبيه على أن عموم الحجية تابع لعموم السيرة الارتكازية المذكورة. بمعنى أنه لا مجال للبناء عليه في غير موردها ، لعدم نهوض الأدلة الشرعية بذلك ، لأن المعتبر منها غير متكفل ببيان الحكم بوجه عام ، ليؤخذ به وإن قصرت السيرة عنه ، بل هو إما ظاهر في المفروغية عنه بسبب السيرة المذكورة أو غيرها من دون أن يتصدى لحدوده ، أو مجمل من حيثية سعة الحكم ، أو وارد في موارد خاصة لا مجال للتعدي عنها بفهم عدم الخصوصية في غير موارد السيرة.

كما أن الأصل عموم الحكم تبعا للسيرة بعد ما سبق من الاكتفاء في حجيتها بعدم ثبوت الردع. وبعد ظهور الأدلة في إمضائها ، حيث يفهم منها بسبب ارتكازية مورد السيرة إمضاء الأمر الارتكازي على سعته للغفلة عن خصوصية الموارد والتفريق بينها ، بل هو محتاج للتنبيه.

نعم لو دل الدليل على عدم الحجية في بعض الموارد كان صالحا للردع عن السيرة فيها ومخصصا لعموم الحجية لو كان.

وحيث اتضح ذلك فلا مجال لتحقيق موارد الردع الخاصة في المقام ، بل يتعين إيكاله للفقه ، كما سبق عند بيان منهج البحث ، وإنما المناسب للبحث هنا تحديد موارد السيرة وما يتعلق بذلك ويناسبه ، وهو يكون في ضمن مسائل ..

٣٢٤

المسألة الاولى : لا ريب في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة في جواز الرجوع إليهم بمقتضى السيرة ، بأن يوثق بكونهم في مقام إعمال خبرتهم واجتهادهم وبيان ما انتهى إليه نظرهم من دون تسامح.

إلا أن المعروف من مذهب الأصحاب اعتبار الايمان والعدالة في مرجع التقليد ، وادعي عليه إجماعهم ، بل الظاهر من حالهم ومن بعض كلماتهم المفروغية عنه ، على خلاف ما هو المعروف منهم في الخبر الحسي ، حيث يكتفي كثير منهم بالوثوق بالمخبر على مقتضى السيرة.

وتحقيق صلوح الإجماع المذكور للاستدلال كبعض الوجوه الخاصة الاخرى لا يناسب نهج البحث الذي التزمناه على أنفسنا ، بل يوكل للفقه ، لخروجه عن تحديد مورد السيرة ، فالعمدة توجيهه على ما يطابق السيرة ويناسبها.

أما الإيمان فلما سبق من أن الرجوع للمجتهد لمعرفة مؤدى الحجج الثابتة في حق العامي مما هو مقتضى دينه الحق ، وذلك لا يصدق في حق غير المؤمن إذا اعتمد الطرق والحجج التي يقتضيها مذهبه دون مذهبنا كأخبار العامة وقياساتهم واستحساناتهم ، أو أهل الطرق التي هي حجة عندنا ، لأنه ليس من أهل الخبرة في ما يهم المكلف معرفته ، بل في أمر آخر لا يترتب عليه عمله.

وأما لو أحرز كونه في مقام اعتماد الطرق التي يعتمدها أهل الحق والجري على ما يقتضيه مذهبهم في الاستنباط فهو وإن كان من أهل الخبرة بنظر في ما يهمّ المكلف معرفته ويترتب عليه عمله ، إلا أنه يشكل اعتماده عليه بلحاظ عدم انضباط الطرق المذكورة ، لأن كثيرا من القرائن لا تتهيأ لغير المؤمن ، كإجماعات الخاصة وشهرة الحكم بينهم ، وهجرهم للأخبار وعملهم بها ، وتوثيقهم للرواة وجرحهم لهم ، وسيرة المتشرعة ومرتكزاتهم ، ونحو ذلك مما يكون دخيلا في استنباط المجتهد المؤمن بسبب حسن ظنه بالمؤمنين واعتقاده

٣٢٥

بعلمائهم وعوامهم ، وبأنهم في مقام تلقي الأحكام وأخذها من أئمتهم عليهم السّلام والاحتياط لها وعدم التساهل فيها ، ولا التعصب والعناد في قبال أدلتها الذي هو ديدن أهل الباطل ، ولا يتهيأ ذلك للمخالف ، لعدم قدسيتهم في نفسه ولا يحسن الظن بهم.

كما أنه لا ضابط لذلك ليمكن فرض جريه على قواعده وإن لم يحسن الظن فعلا.

ومرجع ذلك إلى نقص خبرته ، لعدم إحاطته بمقدمات الاستنباط المتيسرة للمؤمن ، فلا يعتمد على استنباطه. وهذا بخلاف الرواية المستندة للطرق الحسية المنضبطة التي لا دخل للإيمان بها.

ونظير ذلك يجري في العدالة ، إذ بسبب عدم انضباط مقدمات الاستنباط يكون تمييز موارد الحجة عن غيرها محتاجا إلى مرتبة عالية من الدين والورع ، ولا سيما في الأحكام المرتبطة ببعض العواطف والاعتبارات ، حيث يكون للتدين والورع وشدة الخوف من الله تعالى والحذر من أليم عقابه أعظم الأثر في مراقبة النفس ومحاسبتها في أداء الوظيفة ، كي يميز المجتهد الحجج عن غيرها ، فلا يركن للشبه ويسوق ما ليس دليلا مساق الدليل ، ولا يؤمن الفاسق على ذلك ، وإن كان ثقة في نقله ، بل لا بد من العدالة بمرتبة عالية ، نظير ما تضمنه مرسل الاحتجاج المتقدم ، وارتكز في أذهان متشرعة الفرقة الناجية والطائفة المحقة ، حتى امتازت بذلك بين فرق المسلمين كما امتاز أئمتها وأولياؤها عليهم السّلام بواقعيتهم وطهارتهم ، فكان ذلك من شواهد حقيتها وواقعيتها ومتابعتها لأئمتها عليهم السّلام وتأثرها بهم.

ونسأله تعالى أن يثبتها على ذلك ويعينها عليه ويعيذها من مضلات الفتن ، لتبقى علما للحق ، ومنارا للهدى ، ومثالا حيّا للدين القويم ، وحجة على الأمم. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، وله الشكر

٣٢٦

على توفيقه.

نعم ، هذا إنما يقتضي اعتبار الايمان والعدالة حين الاستنباط والفتوى ، لا بقاءهما حين التقليد بعد ذلك ، بل يحتاج المنع من تقليد من عرضت له فتنة أزالته عن الإيمان أو العدالة بعد صدور الفتوى منه إلى دليل آخر لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا ، ويوكل للفقه.

ثم إن هذا الوجه لو تم كان صالحا لإثبات اعتبار البلوغ في المفتي لو فرض توقف الورع عليه ، وإن كان الفرض المذكور غير خال عن الإشكال ، اذ لا يبعد عن بعض الأطفال من أهل التمييز والإدراك والتربية الدينية والرياضة النفسية التهيؤ للمراتب العالية من الورع والالتزام باللوازم الدينية والبعد عن مخالفتها ، ولو مع الأمن من العقاب على المعصية ، فيحتاج المنع من تقليدهم إلى دليل آخر مخرج عن مقتضى السيرة ، من إجماع أو نحوه مما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

المسألة الثانية : لا إشكال في اعتبار العقل في مرجع التقليد بالمقدار الذي يتوقف عليه حصول الرأي الذي هو موضوع الحجية ، كما لا يعتد بالرأي الحاصل للمجنون ، لخروجه عن مورد السيرة الارتكازية في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة ، ولو فرض حصول الظن باصابته للواقع ، فهو ظن مجرد لا يدخل في موضوع الحجية عندهم.

وأما مانعية الجنون من التقليد حدوثا أو بقاء مع طروئه بعد حصول الرأي والفتوى فلا تقتضيه السيرة المذكورة في المجنون المطبق ، فضلا عن الادواري ، لما هو المرتكز عندهم من أن الاعتماد على الفتوى بملاك كاشفيتها نوعا ، ولا دخل لطروء الجنون في ذلك ، كما هو الحال في الرواية.

وذهاب الرأي لا أثر له في بقاء حجيته كنسيان الرواية غير المانع من حجيتها ، وإنما المانع من حجيته عندهم عدول صاحبه عنه ، نظير عدول الراوي

٣٢٧

عن روايته. وهو غير لازم في الجنون ، ولو فرض تحققه فحيث لا يعتد برأيه الأخير ـ كما سبق ـ لا يصلح للمنع من حجية رأيه الأول ، نظير عدول المجنون عن روايته التي رواها حال عقله.

هذا ، وربما يستدل على مانعية الجنون من التقليد حدوثا ، بل بقاء ببعض الوجوه الاخرى التي لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لضعفها ، وقد تعرضنا لها في الفقه ، كما يأتي التعرض عند الكلام في مانعية الموت لما ينفع في المقام.

نعم ، الظاهر أن الجنون المطبق عندهم ليس أخف من الموت ، فلو فرض الإجماع منهم على اعتبار الحياة في المفتي فليس المراد منها إلا الحياة الملازمة لفعلية الرأي عرفا غير الحاصلة معه ، فيلحقه ما يأتي في تقليد الميت. بخلاف الجنون الأدواري ، لأنه من سنخ المرض الذي لا ينافي نسبة الرأي لصاحبه عرفا ، بل لا يبعد شمول ادلة التقليد الشرعية له ، لصدق عنوان العالم والفقيه ونحوهما مما أخذ فيها عرفا عليه.

فالبناء على جواز تقليده هو الأنسب بالأدلة. ولعله لذا حكي القول به عن بعض متأخري المتأخرين ، كصاحبي المفاتيح والاشارات.

المسألة الثالثة : قد ذكروا جملة من الشرائط في المفتي ، كالرجولية وطهارة المولد والحرية والحياة والبلوغ وغيرها.

ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق من أنّا هنا بصدد تحديد موارد سيرة العقلاء ، التي لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الأمور المذكورة بحسبها ، وأنه لا بد في البناء على مانعيتها من أدلة خاصة صالحة للردع عن السيرة ، ولا يسعنا استقصاؤها ، بل توكل للفقه.

إلا أنه لا بد من الكلام في وجه ما هو المعروف بين الأصحاب من اعتبار الحياة في المفتي ، لشيوع الابتداء بذلك وشدة الحاجة إليه ، فلا ينبغي الاتكال فيه على ما ذكرناه في الفقه ، ولو لملاحظة حال حضار درسنا ، حيث لم يطلع جملة

٣٢٨

منهم على تلك المباحث.

فنقول : ـ بعد الاتكال على الله تعالى والاستعانة به ـ لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الموت من التقليد بمقتضى سيرة العقلاء الارتكازية على رجوع الجاهل للعالم في سائر الأمور النظرية ، لعدم دخل الحياة في ما هو المناط في حجيته ، وهو كاشفيته نوعا.

ودعوى : أن موضوع الحجية هو الرأي ، ولا رأي للميت.

مدفوعة : ـ بعد تسليم عدم الرأي للميت ـ بما تقدم في اعتبار العقل من أن بقاء الرأي لا دخل له بحجيته ، بل لا بد من عدم العدول عنه.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني من أنه لا شبهة في اعتبار بقائه في جواز التقليد شرعا ، إذ لا إشكال في عدم جوازه لو زال الرأي بجنون أو هرم أو مرض أو تبدل رأي.

إذ لا مجال لقياس ما نحن فيه بتبدل الرأي بعد ما سبق. وعدم جواز التقليد مع الجنون والهرم ونحوهما ـ لو تم ـ مستند للإجماع ونحوه مما يختص بمورده ، ولو تم نظيره في المقام كان الاستدلال به لا بالوجه المذكور.

إلا أن يريد قيام الإجماع على اعتبار القدر المشترك بين الجميع ، نظير ما ذكرناه آنفا ، ويتضح حاله عند الاستدلال بالإجماع.

وبالجملة : لا بد في عدم جواز تقليد الميت من دليل مخرج عن مقتضى السيرة المذكورة.

والمذكور في كلماتهم أمور ..

الأول : أن أدلة التقليد الشرعية مختصة بصورة فعلية الرأي ،

ولا تشمل صورة زواله بالموت ونحوه ، فإن العناوين التي تضمنتها ـ كالإنذار والفقاهة والعلم والنظر في الحلال والحرام ـ لا تشمل مثل الميت ، ولا تصدق عليه.

وفيه .. أولا : أنه إن اريد بذلك أن الأدلة المذكورة رادعة عن السيرة في

٣٢٩

الميت ونحوه ـ كما قد يظهر من بعض مشايخنا ـ فمن الظاهر عدم ظهورها في حصر الحجية بمواردها ونفيها عن غيرها ، لتنافي السيرة فيها وتصلح للردع عنها.

وإن أريد به أن اختصاصها بذلك ملزم بالاقتصار عليه ، لعدم إحراز إمضاء السيرة في غيره.

فيظهر اندفاعه مما سبق من عدم توقف حجية السيرة في المقام على احراز الإمضاء بل يكفي عدم إحراز الردع.

بل تقدم أن المستفاد عرفا من مجموع الأدلة الشرعية إمضاء السيرة الارتكازية على سعتها ، وإن قصرت عن بعض مواردها لفظا. فراجع.

وثانيا : أن ظهور الأدلة في الجري على مقتضى السيرة والمفروغية عن ذلك موجب لانصرافها إلى بيان حجية الرأي الصادر عن العالم وإن زال علمه بعد ذلك ، على ما هو مقتضى السيرة ، حيث لا مجال مع ذلك للجمود على أخذ العناوين المذكورة الظاهر في لزوم بقائها حين العمل ، كما هو الحال في نظائر المقام ، كالرواية والشهادة والاقرار وغيرها ، مما اعتبر فيه عناوين خاصة ، كالوثاقة والعدالة والعقل وغيرها ، حيث يكفي تحقق العناوين المذكورة حين صدورها ، لا حين العمل بها ، بقرينة ظهور أدلتها في الإشارة إلى موضوع السيرة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من الفرق بين أدلة الفتوى والرواية بظهور الأولى في كون المرجع هو الفقيه لا رأيه ، فيلزم صدق العنوان عليه حين الرجوع إليه ، لا حين انعقاد الرأي له ، وظهور الثانية في حجية رواية الثقة ، فيكفي وثاقته حين صدور الرواية.

فهو غير ظاهر ، لظهور بعض أدلة التقليد في ترتب العمل على فتوى الفقيه ، كآية النفر المتضمنة مطلوبية الحذر بعد إنذاره.

على أنه لا فرق بينهما بعد ملاحظة ظهورهما معا في إمضاء مؤدى السيرة

٣٣٠

الارتكازية التي يكون موضوع الحجية فيها هو الرأي والرواية الصادرين من الفقيه والثقة وإن خرجا عن ذلك وقت العمل.

ولو لا ذلك أشكل الأمر في الرواية ـ وإن تم ما ذكره في لسان أدلتها ـ لان مقتضى الجمود على اللسان المذكور لزوم صدق النسبة بين الرواية والثقة حين العمل بالرواية ، لا حين صدورها ، نظير ما لو قيل : أطع أمر جارك وأجب التماس صديقك ، فإنه ظاهر في لزوم بقاء نسبة الأمر والالتماس للجار والصديق حين إطاعة الأول وإجابة الثاني. فلاحظ.

الثاني : أنه لو جاز تقليد الميت لوجب لو كان أعلم ـ لما هو الظاهر من مرجحية الأعلمية ـ فيمتنع تقليد أعلم أهل العصر لو كان في الأموات من هو أعلم منه ، وهو التزام شنيع ، كما عن الشهيد في رسالته في المسألة.

وفيه : أنه لا موجب لشناعته مع إحراز أعلميته ، بل هو عين الدعوى.

ومثل ما عن المحقق الثاني من تعسر الاطلاع على الأعلم في جميع العصور.

إذ هو كتعسر الاطلاع على الأعلم في العصر الواحد في كثير من الأزمنة ، يلزم الرجوع فيه إلى ما تقتضيه القواعد والأدلة في مثل ذلك مما هو محرر في محله.

ويقرب منهما ما ذكره بعض مشايخنا من أن لازم ذلك الفحص عن الأعلم من بين علما جميع العصور ، وهو ضروري البطلان في مذهب الإمامية.

لاندفاعه .. أولا : بأنه إن اريد أنه ضروري المذهب ، فهو كما ترى ، لعدم الالتفات إليه.

وإن اريد أنه من الضرورات الفقهية بعد النظر في الأدلة ولو بلحاظ سيرة المتشرعة فلعل سيرتهم في العصور المتأخرة والمتوسطة مبنية على شيوع القول بعدم جواز تقليد الميت وشهرته بين الأصحاب ، وفي العصور الأولى

٣٣١

المقاربة لعصور المعصومين عليهم السّلام مبنية على غفلة العوام عن الاختلاف بين العلماء ، خصوصا مع عدم تعارف تدوين الفتاوى ، كما قد يغفلون عنه في العصور المتأخرة ، والفحص عن الأعلم إنما يحتاج إليه مع العلم بالاختلاف.

كما قد تكون مبنية على عدم وجوب ترجيح الأعلم ، لعدم كونه اتفاقيا.

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في عدم اهتمام كثير بالفحص عن الأعلم من العلماء المعاصرين لهم ، بل يسألون كل من يبتلون به ويتيسر لهم سؤاله.

وثانيا : بأن عدم وجوب الفحص عن الأعلم من الأموات لا ينافي حجية فتوى الميت ووجوب تقليده مع العلم بأعلميته ، إذ لعل عدم الفحص ناشئ من تعسر الاطلاع على الأعلم من الأموات ولو نوعا ، نظير تعسر الاطلاع على حال بعض الأحياء ممن لم يتصد للتقليد ، ولم يظهر ما يكشف عن مرتبته العلمية ، أو سكن البلاد النائية ، حيث قد يدعى سقوط الفحص عنه حينئذ ، ولو بضميمة السيرة الكاشفة عن عدم تكليف الشارع بذلك.

والذي ينبغي أن يقال : من كان من الأموات غير معلوم الفتوى لا أثر لأعلميته ، لأن ترجيح الأعلم فرع الاختلاف ، وهو غير معلوم ، وما كان منهم معلوم الفتوى يتعسر بل يتعذر غالبا الاطلاع على حالهم حين صدور الفتوى منهم ، لعدم الإحاطة بطريقتهم في الاستدلال وكيفية فهمهم الأدلة وجمعهم بينها ، ليعلم بذلك مدى خبرتهم ، فينبغي الرجوع فيه للقاعدة المذكورة فيما إذا تعذرت معرفة الأعلم ، فإن بني على التخيير ، فحيث يحتمل مانعية الموت من أصل التقليد يدور الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، فلا يجوز اختياره اقتصارا على المتيقن فيها ، وان بني على الاحتياط كان طرفا له.

إلا أن يعلم أو يطمئن بأنهم دون المتأخرين نوعا كما قد يشهد به التأمل في حال من تيسر الاطلاع على طريقتهم في الاستدلال ، حيث تظهر متانة المتأخرين وضبطهم لقواعد الاستدلال وسيطرتهم على إعمالها ، تبعا لتطور

٣٣٢

العلم.

غاية الأمر أنه يعلم في الجملة تيسر بعض الأدلة والقرائن للقدماء ، لقرب عصرهم من عصور المعصومين عليهم السّلام كمعرفة حال الرواة وصحة الكتب ونحو ذلك مما خفي بعضه على المتأخرين.

إلا أن عدم انضباط ذلك أوجب عدم تيسر إدراك حالهم فيه.

نعم ، لو دار الأعلم بين أشخاص محصورين من الأحياء والأموات يتيسر الاطلاع على حالهم وعلى فتاواهم فوجوب الفحص عنه بينهم هو المتعين لو قيل بجواز تقليد الميت ووجوب تقليد الأعلم ، وقيام السيرة على ذلك بالنحو الكاشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام في حيز المنع.

الثالث : ما أشار إليه العلامة في المبادي من انعقاد الإجماع بموت المخالف المستلزم لعدم الاعتداد برأي الميت.

وهو مبني على حجية إجماع أهل العصر الواحد ، لقاعدة اللطف أو نحوها ، وقد تحقق في محله عدم تمامية ذلك.

الرابع : الإجماع ، فإن المنع هو المعروف من مذهب الأصحاب ، وفي الجواهر أنه مفروغ منه وادعى الإجماع عليه غير واحد.

وقد تعرض في التقريرات لنقل كلمات غير واحد الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كابن أبي جمهور الأحسائي والمحقق الثاني في شرح الألفية والشهيد الثاني في المسالك وفي رسالته في المسألة والوحيد البهبهاني.

وفي المعالم : «العمل بفتوى الموتى ... بعيد عن الاعتبار غالبا مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحي ، بل قد حكى الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب».

وقال سيدنا الأعظم قدّس سرّه : «فإن الحاكين للإجماع وإن كانوا جماعة خاصة لكن تلقي الأصحاب لنقلهم له بالقبول من دون تشكيك أو توقف من أحد

٣٣٣

وتسالمهم على العمل به يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة الإجماع المذكور من أعاظم علمائنا وأكابر فقهائنا ولهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان والتثبت. قدس الله تعالى أرواحهم ورفع منازل كرامتهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء».

لكن لا مجال للاعتماد على دعوى الإجماع في ذلك بنحو تنهض بالحجية ، لصدورها من المتأخرين مع عدم تحرير المسألة في العصور الأولى المقاربة لعصور المعصومين عليهم السّلام ، ليكشف عن أخذها خلفا عن سلف منهم ، وعدم وضوح نحو الابتلاء بها في تلك العصور ، لتستند دعوى الإجماع لوضوح الحكم بين الطائفة بسبب سيرتهم العملية ، بل يحتمل عملهم بآراء الموتى ، كما يأتي تقريبه في الجملة.

ولو فرض عدم عملهم بها فلعله لغلبة عدم اطلاعهم عليها ، لعدم تعارف تحرير الفتاوى وضبطها ، بل تصدر الفتاوى مشافهة ، فلا يتيسر الاطلاع عليها بعد موت المفتي لغير من شافهه بها من نقلها له إذا لم يطرأ عليهم النسيان والتضييع ، إلى غير ذلك مما يمنع من الاطمئنان ، بل من الظن ، باستناد دعوى الإجماع من المتأخرين إلى تسالم العلماء على الحكم ، أو سيرة المتشرعة بنحو يكشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

ولا سيما مع ظهور بعض كلماتهم في وجود الخلاف في المسألة أو عدم تحقق الإجماع بوجه قاطع ، فعن الشهيد الأول في الذكرى نسبة الخلاف للبعض.

وحمله على العامة ـ كما عن الشهيد الثاني ـ بعيد جدا ، ولا سيما مع كونه المعروف بينهم ، فلا يناسبه التعبير بالبعض.

ومثله قول المحقق الثاني في الجعفرية في بيان ما يجب على المكلف : «والرجوع إلى المجتهد ـ ولو بواسطة ، وإن تعددت ـ إن كان مقلدا. واشترط

٣٣٤

الأكثر كونه حيا ...» وعن الشهيد الثاني في المسالك دعوى عدم تحقق الخلاف له ممن يعتد بقوله ، وفي رسالته في المسألة عدم العلم بمخالف ممن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه.

وأما تلقي الأصحاب لدعواهم بالقبول فهو قد يتم في جملة من متأخري المتأخرين الدّين لا يكشف قبولهم عن ثبوت الإجماع ، لإمكان استنادهم لحسن ظنهم بالناقلين له ، أو لبنائهم على حجية الإجماع المنقول ، لا لاطلاعهم على قرائن تشهد بثبوته.

بل لعل استناد جملة منهم في المنع عن تقليد الميت لوجوه اخرى غير الإجماع المدعى.

على أن ظاهر كلام السلطان في حاشيته على المعالم التردد في ثبوت الإجماع. كما هو المناسب لخروج المحقق القمي عليه مدعيا أنه لا يوجب الظن فضلا عن اليقين ، لعدم تداول المسألة بين أصحاب الأئمة عليهم السّلام بل هي مسألة حادثة.

كما خرج الأخباريون عليه ، فإن خروجهم وإن كان مبنيا على دعوى أن الفتوى من سنخ الرواية المنقولة التي تقبل وإن كان ميتا ، إلا أن موضوع كلامهم لما كان هو التقليد بواقعه الخارجي ـ وإن خالفوا في توجيهه ـ فلو كان عدم حجية قول الميت واضحا عند الشيعة متسالما عليه بينهم لما وسعهم البناء على حجيته.

والمظنون أن الحكم قد ذكر في كلام بعض قدماء أصحابنا الاصوليين مستندين فيه إلى بعض الوجوه الاعتبارية التي تقدم بعضها حتى اشتهر بينهم من دون أن يبلغ مرتبة الإجماع ، كما قد يشير إليه قول المحقق الثاني في شرح الشرائع : «وقد صرح جمع من الاصوليين والفقهاء باشتراط كون المجتهد حيا ليجوز العمل بفتواه ، فلا يجوز العمل بقول المجتهد بعد موته. وهو متجه. ويدل

٣٣٥

عليه وجوه ....» ثم جاء بعدهم من حسب أن ذلك إجماع صالح للاحتجاج لقول المشهور ، على ما هو المعلوم من طريقة جماعة في الاستدلال بالإجماع وتسامحهم فيه.

ولعل مما أوجب وضوح انعقاد الإجماع عندهم مخالفته لطريقة العامة التي التزموا بها ، حيث قد يتخيل بسببه كونه من مميزات الطائفة المحققة التي عرفت بها في قبالهم.

ولا سيما مع خروج الأخباريين عليه الذين عرفوا بالخروج عما عليه الأصحاب في بعض الموارد والتجاهل لأعاظمهم والاستهوان بأكابرهم ، بنحو أوجب النفرة عما يتميزون به في قبال المشهور بين الأصحاب.

وكان نتيجة ذلك الركون لدعاوى الإجماع المذكورة ، والغفلة عن تحقيق حالها والنظر في ما ينافيها.

وكيف كان ، فلا مجال لدعوى الإجماع المتقدمة ، ولا سيما مع قرب مخالفته لسيرة المتشرعة في العصور الاولى يوم لم يكن للتقليد عنوان يقتضي العناية به والاهتمام بأحكامه ، بل تجري الناس فيه على مقتضى طبائعهم.

إذ يبعد جدا أن يكون أخذ المكلف الحكم من العالم والراوي ليعلم به هو وأهله ما دام حيا ، فإذا مات رجع إلى غيره وسأله عن نفس الحكم الذي علمه ، لما في ذلك من الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية ، ولو كان لظهور بان ولم يخف على انسان.

ومثله احتمال أنه يعمل به بعد موته هو وأهله ومن يتبعه ممن عملوا به في حياة المفتي ، دون من تجدد تكليفه منهم أو اتصل بهم بعد موته ، بل يرجع هؤلاء الى مفت آخر حي ، لئلا يكون عملهم بفتوى الأول تقليدا ابتدائيا منهم للميت ، بحيث يعمل أهل البيت الواحد على وجهين ، بعضهم على رأي الميت وبعضهم على رأي الحي ، لما في ذلك من الكلفة الظاهرة والخروج عن الوضع

٣٣٦

المتعارض بالنحو الذي لو كان لظهر وبان.

بل يبعد جدا تحقق ذلك من ورود أدلة تعبدية نقلية خاصة صالحة عندهم للردع عن مقتضى السيرة ، ولو ورد شيء منها لم يخف عادة لتوفر الدواعي لنقله وحفظه عن الضياع.

ثم إنه ينبغي الكلام في مقتضى الأصل في المسألة ليرجع إليه لو فرض قصور الأدلة الاجتهادية عن إثبات الجواز أو المنع.

والكلام فيه في مقامين.

المقام الأول : في الأصل العقلي.

ولا إشكال في أن مقتضاه عدم جواز تقليد الميت وعدم حجية فتواه ، لأصالة عدم الحجية في كل ما شك في حجيته.

لكن هذا إنما يقتضي تعين الحي للتقليد وإن كان مفضولا لو كان لدليل تقليده إطلاق يشمل حال الاختلاف بينه وبين الميت ، كما هو الحال بناء على اختصاص العناوين المأخوذة في أدلة التقليد الشرعية المطلقة بالحي.

وأما لو لم يكن كذلك ، بل كان الدليل عليه الإجماع ، أو كونه المتيقن من الأدلة اللفظية التي لا إطلاق لها ، فإنما يتعين للتقليد لو كان أعلم من الميت ، للقطع بحجيته.

وكذا لو كان مساويا له ، بناء على ما هو المعروف بينهم من التخيير مع تساوي المجتهدين ، للقطع بحجيته تعيينا أو تخييرا.

أما بناء على سقوط قولهما معا بالاختلاف ووجوب الاحتياط ، فلا مجال لتقليده ، لعدم إحراز حجيته بعد احتمال جواز تقليد الميت المستلزم لاحتمال صلوحه لمعارضة قول الحي وإسقاطه عن الحجية.

وكذا لو كان الميت أعلم ، لأن احتمل جواز تقليده مستلزم لاحتمال وجوبه ـ بناء على ما هو الظاهر من مرجحية الأعلمية مع الاختلاف ـ فتتردد

٣٣٧

الحجية بين الحي والميت ولا متيقن في البين ، فيتعين التخيير أو الاحتياط ، على الكلام في الوظيفة عند عدم المرجح لأحد المجتهدين.

لكن أصر غير واحد على تعيين الحي المفضول حينئذ لوجوه.

أولها : ما في التقريرات من أن تعيين الحي مع التساوي ـ لما تقدم ـ مستلزم لتعيينه مع كونه مفضولا ، لعدم القول بالفصل.

وفيه : أن مجرد عدم القول بالفصل لا ينفع ما لم يرجع إلى الإجماع على عدم الفصل وعلى التلازم بين الأمرين ، وهو غير ثابت في المقام. فتأمل.

مع أنه إنما ينفع لو كان الدليل على الملزوم اجتهاديا لفظيا أو نحوه مما يكون حجة في لازم مؤداه ، ولا ينفع مع انحصار الدليل عليه بالأصل ، لاختصاص موضوع الأصل بمورده ، والتعدي منه للازم مبني على الأصل المثبت الذي هو غير حجة. ولا سيما مع كون الأصل عقليا لا يبتني على التعبد بالملزوم ، كما في المقام.

وإلا أمكن العكس ، بأن يستدل بالأصل المقتضي ـ كما تقدم ـ لعدم جواز تقليد الحي المفضول على عدم وجوب تقليد الحي المساوي للميت.

ثانيها : ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن الاقتصار على الحي ليس لأقربيته للواقع ، ليتخيل أن الميت الأفضل أقرب ، بل لعدم اليقين بالبراءة بتقليد الميت ولو كان أعلم.

لكنه إنما يمنع من ترجيح الميت الأعلم ، ولا يقتضي تعيين الحي المفضول ، لعدم اليقين بالبراءة معه أيضا ، لما سبق ، فلا وجه لترجيحه على الميت الأعلم.

ثالثها : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من أن احتمال اعتبار الحياة حاكم على اعتبار الأعلمية ومضيق لموضوعه عن شمول الميت ، لأن الشك في حجية قول الميت يوجب اليقين بعدم حجيته ، كما هو الحال في سائر موارد الشك في

٣٣٨

الحجية ، فتنحصر مرجحية الأعلمية بالأحياء.

وفيه : أنه لا معنى لكون الشك في الحجية موجبا لليقين بعدمها ، غاية ما يدعى أنه بحكم اليقين بعدمها في عدم جواز ترتيب الأثر على محتمل الحجية ، وهو قول الميت الأعلم في المقام ، مع بقاء احتمال الحجية فيه المستلزم لاحتمال ترجيحه وعدم حجية قول الحي المفضول ، فلا يكون الحي متيقن الحجية أيضا ، ليتعين العمل على قوله.

نعم ، لو كان دليل اعتبار الحياة لفظيا كان حاكما على دليل الترجيح بالأعلمية ، لتوقف الترجيح بها على وجود مقتضي الحجية في أطراف الترجيح ، وظاهر دليل اعتبار الحياة عدم وجود مقتضي الحجية في قول الميت ، فيخرج عن موضوع الترجيح بالأعلمية ، وينحصر الترجيح بها في غيره ممن هو واجد لمقتضى الحجية. وهذا لا يجري إذا استند عدم تقليد الميت للأصل مع احتمال وجود مقتضي الحجية فيه من دون إحراز لعدمه.

وبالجملة : لم يتحصل من كلماتهم ما يمكن الخروج به عما عرفت من تردد الحجة بين الميت الأفضل والحي المفضول ، فاللازم البناء إما على التساقط والرجوع للأصول العملية من الاحتياط أو غيره في مورد الخلاف ، أو على التخيير بينهما ، لما هو المشهور من أنه المرجع عند الدوران بين مجتهدين لا مرجح لأحدهما.

المقام الثاني : في الأصل الشرعي.

ومن الظاهر أنه لا مجال له بالإضافة للأحكام التي أفتى بها الميت ، لعدم تحقق ركني الاستصحاب فيها.

أما اليقين فظاهر ، لعدم الحقيقي منه مع احتمال خطأ المفتي ، ولا التعبدي ، لعدم الحجة عليها ، لانحصار الطريق إليه بفتوى الميت المفروض عدم ثبوت حجيتها.

٣٣٩

وأما الشك فللعلم ببقائها على تقدير ثبوتها وعدم احتمال ارتفاعها بموت المفتي. فلا بد من النظر في جريان الاستصحاب إما في الحكم الظاهري المترتب على الفتوى حين المفتي والمشكوك في بقائه بعد وفاته ، أو في الحكم الوضعي ، وهو الحجية الثابتة لرأي المفتي قبل موته.

أما استصحاب الحكم الظاهري فيبتني على جعل الأحكام الظاهرية المماثلة لمؤديات الطرق ، والتحقيق عدمه وأنه ليس مفاد الطرق إلا جعل حجيتها ، وليس الحكم الظاهري إلا منتزعا من ذلك من دون أن يكون مجعولا ، ليمكن استصحابه ، كما أوضحنا ذلك عند الكلام في مؤديات الطرق في مبحث قيامها مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع فراجع.

مضافا إلى أنه لا مجال له في الأحكام الكلية التي لم يتم موضوعها في حياة المفتي ، وإنما يفتي بها بنحو القضية الحقيقية الراجعة للقضية التعليقية ، حيث تحقق في محله عدم جريان الاستصحاب التعليقي ذاتا لا بالمعارضة بالاستصحاب التخييري ، ليختص المنع بالأحكام الاقتضائية ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

نعم ، قد يتم في الأحكام التنجيزية الثابتة في حياته ، سواء كان موضوعها جزئيا خارجيا ، كنفوذ العقود الواقعة في حياته ونجاسة الفقاع الموجود قبل وفاته ، أم كليا كالأحكام التكليفية الفعلية ، كحرمة شرب الفقاع ووجوب الفريضة التي دخل وقتها قبل وفاته ، فإن موضوعها وهو فعل المكلّف كلي يتعلق الحكم به على شيوعه وعمومه ، لا بافراده بعد وجودها ، كي لا تكون فعلية قبل وجودها ، بل يكون وجودها مسقطا للحكم مع فعليته قبله ، فيمكن استصحابه.

ودعوى : أنه لا مجال لاستصحاب الأحكام التكليفية ، لأن متعلقها وموضوعها كلي قابل للتقييد بحياة المفتي ، ومع احتمال تقييده به لا يحرز بقاء الموضوع بعد موته ليستصحب ، فمتيقن الحرمة هو شرب الفقاع حال حياة

٣٤٠