المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

عن رسالة العدد قال : «والمعروف قول أبي عبد الله عليه السّلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن ، فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، فإن كان فيه خلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة» (١).

وأما ما تضمن عرض الحديث عن الكتاب والسنة وأنه لا بد في العمل به من موافقته لهما أو وجود شاهد أو شاهدين منهما عليه ، وأنه يطرح ما خالفهما.

فهو يقتضي عدم حجية غير الموافق ذاتا لا بسبب المعارضة ، وقد سبق في مبحث حجية خبر الواحد عدم التعويل على هذه النصوص.

كما أن ما تضمن أن المخالف لهما زخرف وباطل لم يصدر عنهم عليهم السّلام بل مكذوب عليهم ، محمول على المخالف بنحو التباين ، بحيث لا يمكن تنزيلهما عليه عرفا بل يكون مصادما لمضمون الكتاب والسنة لا لظهورهما ، وإلا فيعلم بصدور المخالف بمثل العموم والخصوص والإطلاق والتقييد عنهم عليهم السّلام بنحو لا يناسب الألسنة المذكورة ، على ما تقدم في مبحث حجية خبر الواحد ، والمخالفة المذكورة موجبة لخروج المخالف عن موضوع الحجية ذاتا ، لا بسبب المعارضة.

ومن هنا يشكل الاستدلال بما في خبر العيون ـ الآتي عند الكلام في التخيير إن شاء الله تعالى ـ من قوله عليه السّلام : «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب موجودا فاعرضوه على سنن رسول الله صلّى الله عليه وآله فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام ومأمورا به عن رسول الله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمره ، وما كان في السنة

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ١١.

١٨١

نهي إعافة ...» (١).

وذلك لما تضمنه صدره من عدم مخالفتهم عليهم السّلام لنهي الكتاب والسنة التحريمي ، حيث قال عليه السّلام : «فما جاء في تحليل ما حرم الله أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بيّن قائم بلا ناسخ نسخ ذلك ، فذلك ما لا يسع الأخذ به ، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يكن ليحرم ما أحل الله وليحلل ما حرم الله ، ولا ليغير فرائض الله وأحكامه ... وما جاء في النهي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك ، وكذلك في ما أمر به ، لأنا لا نرخص في ما لم يرخص فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله إلا لعلة خوف ضرورة ، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله أو نحرم ما استحل رسول الله صلّى الله عليه وآله فلا يكون ذلك أبدا ...».

فإن ذلك قرينة على أن المراد بالمخالفة في الذيل المخالفة بنحو التباين الراجعة إلى تحريم ما أحل الله ورسوله صلّى الله عليه وآله أو تحليل ما حرّما.

ومثله في ذلك مرسلة الاحتجاج عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السّلام : «قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة. فقال : ما جاءك عنا فقس على كتاب الله عزّ وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يكن يشبههما فليس منا. قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق. قال : فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» (٢).

لظهور عدم المشابهة في إرادة كمال المنافاة وعدم الملاءمة ، ومثلها في ذلك مرسلته الاخرى (٣).

مضافا إلى أن مقتضى السؤال في ذيلها عن حكم اختلاف الحديثين عدم

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢١.

(٢) الوسائل ج : ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٨.

١٨٢

ورود الصدر لبيانه ، وذلك يوجب إجمال الصدر من هذه الجهة ، أو يلزم بحمل اختلاف الأحاديث فيه على اختلافها في الخصوصيات من دون أن يفرض أداء ذلك للتعارض بينهما ، كتباين مضامينها واختلاف خصوصيات رواتها ونحوهما ، ويكون مسوقا لبيان الضابط العام لأصل حجية الخبر مع قطع النظر عن التعارض ، فيخرج عما نحن فيه.

فالعمدة في الدليل على المرجح المذكور ما ذكرنا.

نعم ، قد يستشكل في إطلاق المخالفة في النصوص المذكورة بنحو يشمل المخالفة لا بنحو التباين ، وهي المخالفة لظاهر الكتاب بنحو يمكن تنزيل الظاهر عليه ، التي لا تسقط الخبر عن موضوع الحجية ، لبعد التفكيك بين النصوص المذكورة ونصوص طرح ما خالف الكتاب في معنى المخالفة ، بل من القريب تفسير النصوص المذكورة بتلك النصوص ، فترجع نصوص الترجيح إلى تعيين الحجة عن اللاحجة ، كما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه ووافقه شيخنا الاستاذ قدّس سرّه.

ولازم ذلك عدم الترجيح بموافقة عموم الكتاب ، بل بناء على التخيير يجوز اختيار المخالف المخصص له ، وعلى التساقط يسقط الخبران معا ويكون المرجع هو العموم ، دون الخبر الموافق له ، بل قد يشكل على ذلك ترجيح عموم الكتاب لو عارضه عموم الخبر لا بنحو التباين ، لأن ما سبق في آخر المقام الأول في وجه ترجيح عموم الكتاب يبتني على مرجحيته عند تعارض الخبرين.

ويندفع : بأن الاستبعاد المذكور لا يكفي في الخروج عن إطلاق المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة.

ولا سيما مع مقابلة المخالفة بالموافقة في المقبولة والصحيح ومرسل الكليني ، مع وضوح صدق الموافقة بموافقة العموم الكتابي ، وعدم اختصاصها

١٨٣

بالمطابقة ، بل لم يعبر في مرسل المفيد بالمخالفة ، بل اكتفي فيه بوجود الشاهد من الكتاب ، ولا ريب في صدق الشاهد بموافقة العموم الكتابي.

على أن ذلك لا يناسب تأخير الترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح بالشهرة في الرواية ، مع وضوح أن شهره الرواية إنما تقتضي عدم الريب في الخبر من جهة الصدور فقط في مقابل الشاذ الذي يرتاب في صدوره ، أما المخالفة للكتاب بنحو التباين فهي تقتضي القطع ببطلان مضمون الخبر وإن كان مشهورا ، بل مقتضى نصوص العرض أنه زخرف باطل مكذوب عليهم عليهم السّلام فالترجيح به أسبق.

بل ما فرض فيها أيضا من معرفة الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة لا يناسب المخالفة بنحو التباين ، لعدم التباين بين مضامين الكتاب المجيد في أنفسهما ، بل ولا بين مضامين السنة القطعية ، ولا بين مضامين كل منهما على الظاهر.

كما أن ظاهر صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله أن المرجح المذكور إنما يرتفع موضوعه بعدم وجدان مضمون كل من الخبرين في الكتاب ، وحمله على خصوص عدم الوجدان بنحو التنصيص بحيث يكون أحد الخبرين مخالفا بنحو التباين بعيد جدا.

فالبناء على عموم نصوص الترجيح للمخالفة بنحو العموم والخصوص وأمثالها قريب جدا ، بل هي كالمتيقن منها.

هذا ، وفي المعارج : «إذا تعارض خبران وأحدهما موافق لعموم القرآن أو السنة المتواترة أو لإجماع الطائفة وجب العمل بالموافقة لوجهين ، أحدهما : ان كل واحدة من هذه الأمور حجة في نفسه ، فيكون دليلا على صدق الخبر الموافق ، الثاني : أن المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض ، فما ظنك به معه!».

١٨٤

ويندفع الأول : بأن ما يوجب العلم بصدق مضمون الخبر من هذه الأمور هو الإجماع الموجب للعلم برأي المعصوم عليه السّلام وما عداه لما كان قابلا للتخصيص فليست دليليته على صدق الموافق إلا بلحاظ حجيته ، وحيث كان الدليل المخالف حجة أيضا بمقتضى عموم دليل الحجية كان تعيينه للسقوط ومرجحية الموافقة للعموم محتاجا للدليل.

نعم ، لو بني على تساقط المتعارضين تعين كون عموم الكتاب والسنة مرجعا بعد تساقطهما ، لا مرجحا لموافقه منهما.

وأما الثاني فهو إنما يتم في الإجماع المذكور ، حيث يعلم معه بكذب مضمون الخبر المخالف ، وأما في عموم الكتاب والسنة فهو مبني على عدم تخصيصها بخبر الواحد ، وهو خلاف التحقيق.

ثم إن مقتضى الجمود على قوله عليه السّلام في المقبولة : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ...» الاقتصار في مرجحية الكتاب على كون الموافق مخالفا للعامة ، دون ما إذا جهل حكمهم أو اختلف.

إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي كون الكتاب مرجحا مستقلا ، ولا سيما مع ما تضمنته بعد ذلك من مرجحية مخالفة العامة مستقلا في فرض موافقتهما معا للكتاب ، إذ لو لم تكن موافقة الكتاب مرجحا كذلك كان ضمها لمخالفة العامة لغوا.

كما قد يناسبه أيضا اكتفاء الراوي وعدم سؤاله عن صورة موافقة أحد الخبرين للكتاب دون الآخر مع موافقتهما للعامة التي هي صورة شايعة.

فكأن منشأ السؤال عن مرجحية مخالفة العامة مستقلا تخيل أن ضمها لموافقة الكتاب لمحض التأكيد بلحاظ معروفية مخالفتهم للكتاب بين الشيعة مع المفروغية عن مرجحية موافقة الكتاب مستقلا.

كما أن الظاهر أن ضم السنة للكتاب مبني على الترجيح بكل منهما

١٨٥

مستقلا أيضا ، لما هو المرتكز من ابتناء الترجيح بهما على مرجعيتهما للامة. كما قد يناسبه فرض السائل بعد ذلك أخذ الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة ، مع وضوح إرادة الرجوع إليهما في الجملة ولو بالأخذ من أحدهما للاستغناء به.

هذا كله مضافا إلى وفاء بقية نصوص المقام باستقلال مرجحية موافقة الكتاب ، وعمدتها صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله.

الرابع : موافقة السنة.

وينحصر الدليل عليه بمقبولة ابن حنظلة ، بناء على ما ذكرناه قريبا من أن ضم السنة للكتاب فيها مبني على استقلال مرجحية كل منهما.

والمنصرف منها وإن كان هو خصوص سنة النبي صلّى الله عليه وآله إلا أنه لا يبعد تعميمه لسنة الأئمة عليهم السّلام بعد ما تضمن رجوعها لسنة النبي صلّى الله عليه وآله بلحاظ قرب كون منشأ الترجيح بالكتاب والسنة هو مرجعيتهما للأمة.

كما أن الظاهر الاختصاص بالسنة المقطوع بها ، التي هي نظير الكتاب ، لأنها هي الصالحة ارتكازا للفصل في مورد الاختلاف ، دون غيرها مما يكون كأحد المتعارضين ولا يزيد عليه. فلاحظ.

الخامس : مخالفة العامة.

ويدل عليه جميع نصوص الترجيح السابقة ، ومنها مرسل الاحتجاج عن سماعة بن مهران ، ومرسل الكليني المتقدم عند الكلام في الإجماع على الترجيح ، ومرسل المفيد المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب.

مضافا إلى موثق عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السّلام : «قال : ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه» (١) فإنه وإن كان مطلقا شاملا لصورة عدم التعارض ، فيستلزم خروج الموافق لهم عن موضوع الحجية ذاتا ، إلا أن عدم إمكان البناء على عمومه لذلك ملزم بحمله

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٦.

١٨٦

على حال التعارض ، فينفع في ما نحن فيه.

ومن هنا قد يستشهد أيضا بمرفوع أبي إسحاق : «قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت : لا أدري. فقال : إن عليا عليه السّلام لم يكن دين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فاذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس» (١).

اللهم إلا أن يقال : المرفوع غير ظاهر في فرض وجود خبر مخالف لهم ، وإلا فمن الظاهر ان مخالفتهم بنفسها ليست شرطا في حجية الخبر ، ولا دخل لها فيها ، بل الأصل في خبر الثقة الحجية ، وغاية ما قد يدعى مانعية موافقتهم منها ، كما هو مقتضى إطلاق الموثق ، ولا يقتضيه المرفوع ، بل هو ظاهر في حجية نفس المخالفة.

نظير ما في خبر علي بن أسباط : «قلت للرضا عليه السّلام : يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك. قال : فقال : ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإن الحق فيه» (٢).

فلا بد من حمله ـ بعد فرض حجيته في نفسه ـ على حال الضرورة ـ كما تضمنه الخبر ـ ولا سيما مع عدم الإطلاق له ، لعدم وروده لبيان وجوب الأخذ بخلافهم ، بل لتعليله مع المفروغية عنه ، أو تأويله بما يناسب ما هو المعلوم من عدم وجوب مخالفتهم في كل شيء ، كما هو الحال في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام : «قال : ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ، ولا هم على شيء مما أنتم

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٤.

(٢) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٣.

١٨٧

فيه ، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء» (١) ، حيث لا يبعد حمله على الردع عن تهيب مخالفتهم بسبب كثرتهم وسيطرتهم ودعاواهم العريضة ، إذ قد يوجب ذلك قدسية لهم يستبعد معها اجتماعهم على الخطأ ويغافل عن ابتناء مذهبهم على الاصول الفاسدة والضلال عن الحق.

وأما الموثق فيشكل الاستدلال به بعدم كون المشابهة واللامشابهة عبارة عن محض الموافقة والمخالفة لينفع في ما نحن فيه ، بل الظاهر منهما معنى آخر راجع إلى نحو من المناسبة والمشاكلة بين كلامه عليه السّلام وقول العامة أو المباينة بينهما ، حيث قد يدرك المعاشر للعامة والمطلع على مذاهبهم والممارس لكلامهم وطرق استدلالهم نحوا من المعالم والمباني المميزة لها مضمونا أو استدلالا ، كمتابعة ولاة الجور واحترامهم والتسامح معهم واعتماد الأقيسة والاستحسانات في الأحكام ونحو ذلك ، ويكون جري كلامه عليه السّلام على ذلك معيارا في المشابهة لقول الناس والبعد عنها معيارا في عدمها ، ولا مانع من الالتزام بمانعية ذلك من حجية الكلام مع قطع النظر عن التعارض.

ومجرد صعوبة إدراك ذلك لنا ، لعدم ألفتنا لكلام العامة وبعدنا عنهم ، لا يمنع من حمل الموثق عليه مع قرب تيسره للمخاطب.

وبالجملة : الموثق بظاهره أجبني عما نحن فيه ، وليس هو من سنخ المطلق المنطبق عليه ، ليمكن حمله وقصره عليه.

فالعمدة في المقام : نصوص الترجيح المشار إليها المعتضدة بمعروفية الترجيح المذكور بين الأصحاب وجريهم عليه بنحو يقرب تحقق الإجماع منهم ، حيث يبعد جدا مخالفتهم لمفاد هذه النصوص مع كثرتها ومعروفيتها بينهم وقرب مضامينها لأذواقهم ولظروف صدور الروايات ، حتى لا يبعد كون المرجح المذكور ارتكازيا عند الطائفة المحقة مستغنيا عن الأخبار.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢.

١٨٨

لكن قال المحقق قدّس سرّه في المعارج : «قال الشيخ قدّس سرّه : إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة. والظاهر أن احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السّلام وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد ، وما يخفى عليك ما فيه. مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة ، كالمفيد وغيره».

وهو كما ترى! لاستفاضة النصوص بذلك بنحو يبعد احتمال عدم صدور شيء منها ، فهي أشبه بالمتواتر الإجمالي ، مع اعتضادها بما ذكرنا.

وكون المسألة علمية لا تثبت بخبر الواحد ، مبني على ما اشتهر من عدم ثبوت المسألة الأصولية بالأدلة الظنية ، وهو مختص بأصول الدين دون أصول الفقه.

وأما طعن المفيد فإن أراد به طعنه في التمسك بخبر الواحد في المسائل العلمية فقد عرفت حاله ، وإن أراد به طعنه في المرجح المذكور فلعله يشير إلى ما حكي عن رسالة العدد ، حيث قال بعد ذكر المرسل المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب : «وإنما المعنى في قولهم عليهم السّلام : خذوا بأبعدهما من قول العامة يختص ما روي عنهم في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان ، فقالوا عليهم السّلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان أحدهما في قول (تولي. ظ) المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السّلام والآخر في التبري منهم ، فخذوا بأبعدهما من قول العامة ، لأن التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون إليه من أئمتهم».

وهو كما ترى تكلف لا مجال لحمل النصوص عليه ، خصوصا المقبولة ، بل حتى المرسل ، لوضوح الاستغناء بالترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح بمخالفة العامة في المسألة المذكورة.

على أنه لو تم إرادة ذلك منها فإلغاء خصوصية موردها والتعدي إلى ما نحن فيه هو الأنسب بالجهة الارتكازية التي أشار إليها. فلا ينبغي التأمل في

١٨٩

المرجح المذكور.

هذا ، وقد حاول المحقق الخراساني قدّس سرّه تخريج المرجح المذكور على القاعدة بإرجاعه الى تمييز الحجة عن اللاحجة ، لا الترجيح بين الحجتين ، ليحتاج للنصوص الخاصة.

بتقريب : أن أصالة الجهة لا تجري في الخبر الموافق لهم بعد الوثوق بصدور الخبر المخالف ، للوثوق حينئذ بصدوره تقية. وأما ما ذكره المحقق قدّس سرّه في المعارج من احتمال أن يكون المخالف قد أريد به خلاف ظاهره لحكمة مصححة لذلك.

ففيه : أن الاحتمال المذكور غير معتد به بالإضافة لاحتمال التقية في الموافق. فما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه لا يخلو عن وجه ـ ولذا لم يبعد كون المرجح المذكور ارتكازيا عند الطائفة ، كما سبق ـ إلا أنه لا يبلغ من الوضوح حدا يستغنى معه عن الأخبار الخاصة أو الإجماع القولي أو العملي ، أو نحوهما من الأدلة التعبدية. بل قد ينافيه في الجملة نصوص الترجيح ، لظهورها في تأخر المرجح المذكور عن الترجيح بموافقة الكتاب.

وإن كان الأمر غير مهم بعد عدم ظهور أثر عملي : للنزاع المذكور ، لوجوب العمل بمخالف العامة وسقوط الموافق لهم عن الحجية على كل حال ، إما بمقتضى القاعدة ، لعدم جريان أصالة الجهة فيه حال المعارضة ، أو تعبدا لأدلة الترجيح المذكورة.

وأشكل من ذلك ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من عدم حجية موافق العامة ذاتا حتى مع عدم المعارض له ، إلا إذا احتف بقرائن ، كقبول الأصحاب له وعملهم به ، كما قد يستدل عليه برواية ابن أسباط المتقدمة.

لوضوح غرابة ما ذكره ومنافاته لأصالة الجهة المعول عليها بين العقلاء ، فإن مجرد ابتلاء المتكلم بمن قد يتقيه لا يقتضى سقوط كلامه عن الحجية ما لم

١٩٠

تقم أمارة على تقيته منه ، ولو لا ذلك لم تتأد التقية بالموافقة.

وأغرب من ذلك استدلاله برواية ابن أسباط ، فإنها ـ مع ضعف سندها ، وعدم ظهور انجبارها بالعمل ، واختصاصها بحال الضرورة في مقام العمل وانسداد باب العلم ـ أجنبية عن مدعاه ، إذ لا تدل على عدم حجية الخبر الموافق لهم ، بل على حجية مخالفتهم على إصابة الواقع ، فغاية ما يلزم تعارض الحجتين في مورد الخبر الموافق لهم ، فيلزم حملها على حال فقد الخبر الموافق لهم ، إما لاختصاصها به ـ كما ذكرنا ـ أو لأنه المتيقن من موردها.

وأما بقية ما تضمن الأمر بمخالفتهم ، كمعتبرة أبي بصير المتقدمة ، فهي وإن كانت مطلقة ، إلا أن اشتمالها على نفي كونهم من الحنيفية على شيء مع العلم باصابتهم لكثير من الأحكام الفرعية مانع من حملها على جعل طريقية مخالفتهم في الفروع للواقع بل لا بد من تنزيلها على ما سبق أو نحوه مما يلائم ذلك.

وكان الأولى له الاستدلال بموثق عبيد بن زرارة المتقدم لو لا ما عرفت من الإشكال في دلالته.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في حجية الخبر الموافق لهم ذاتا ، وتعينه للسقوط عن الحجية بوجود المعارض المخالف ، وإنما الكلام في أن تعينه للسقوط مقتضى القاعدة الأولية وقد جرت عليها النصوص ـ كما سبق من المحقق الخراساني ـ أو تعبدي مستفاد من تلك النصوص ـ كما لعله الأظهر ـ ولا أثر لذلك في مقام العمل.

بقي في المقام أمور ..

أولها : أن مقتضى أكثر نصوص المقام أن المعيار في المرجح المذكور على موافقة فتاوى العامة وآرائهم ومخالفتها ، كما هو مقتضى إطلاق الموافقة والمخالفة. ومقتضى صحيح عبد الرحمن أن المعيار على موافقة أخبارهم

١٩١

ومخالفتها.

والظاهر رجوعه للأول ، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن ذكر الأخبار بلحاظ كشفها عن رأيهم ، لأنه المناسب للتقية التي يبتني عليها المرجح المذكور ارتكازا ، ولا تعم أخبارهم التي لا يعولون عليها ولا يعملون بها ، كما يؤيده أن كثيرا ما يوجد في رواياتهم ما يوافق مذهب الحق ، وإن أهملوه.

وعلى هذا ينزل ما في خبر محمد بن عبد الله من قوله عليه السّلام : «فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه».

ثانيها : أن موضوع النصوص لما كان هو موافقة العامة والقوم ومخالفتهم ، فلا بد فيه من صحة نسبة الحكم لهم على عمومهم ، والمتيقن منه صورة اتفاقهم عليه.

وقد يلحق بذلك ما إذا كان الحكم شايعا بينهم مشهورا عندهم ، بحيث يعد المخالف فيه منهم لقلته وندوره شاذا ولا يخل بنسبة الحكم إليهم عرفا ، إذ لا يبعد شمول النصوص له ولو بقرينة عدم خلو المسائل غالبا من الأقوال الشاذة النادرة ، فلو حملت على الإجماع الحقيقي كان العمل بها نادرا ، ولا سيما مع عدم تيسر الاطلاع على الإجماع بالنحو المذكور ، حيث لا طريق غالبا لنفي الأقوال النادرة التي ليس من شأنها الظهور.

أما لو كان الخلاف بينهم ظاهرا ، لتكافؤ الأقوال أو تقاربها أشكل تحقق المرجح المذكور لو كان أحد الخبرين موافقا لأحد القولين أو الأقوال منهم في المسألة والثاني مخالفا لإجماعهم.

اللهم إلا أن يستفاد عمومه له من فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة والمرفوعة ، لظهوره في فهم السائل عموم الموافقة لموافقة بعضهم ، لامتناع موافقتهما معا لإجماعهم ، وهو المناسب لارتكاز ابتناء المرجح المذكور على تحكيم احتمال التقية في الموافق دون المخالف ، فإنه جار في الفرض

١٩٢

المذكور ، لعدم تأدي التقية مع اختلافهم إلا بموافقة بعض أقوالهم ، فيتعين البناء على الترجيح فيه.

نعم ، لا يعتد بموافقة الشاذ النادر ، كما لا يخل موافقته بترجيح الخبر الموافق له المخالف للأقوال الشائعة على الموافق لها. فلاحظ.

ثالثها : حيث سبق أنه يكفي في الترجيح مخالفة الخبر لإجماع العامة وموافقة الآخر لبعضهم فلا يفرق في البعض بين أن يكون معاصرا لصدور الخبر وأن يكون سابقا عليه ، ولا بين أن يكون منتسبا للسلطان بقضاء ونحوه وأن لا ينتسب له.

لإطلاق النص ، بل مقتضى فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة ثم الأمر فيها بترك ما حكامهم إليه أميل كون المراد من موافقة بعضهم ما يعم موافقة غير الحكام والقضاة.

مضافا إلى عموم الجهة الارتكازية المشار إليها ، لما هو المعلوم من أن مذهبهم في العصور السابقة على فتح باب الاجتهاد والاختلاف بمصراعيه فتتأدى التقية بموافقة أي منهم ، وإنما يخشى من الفتوى المخالفة لإجماعهم ، حيث تكون سببا للتشهير والتشنيع بمخالفة المسلمين والشذوذ عنهم الذي ابتليت به هذه الطائفة.

نعم ، يقصر الإطلاق عن الأقوال الحادثة لهم بعد صدور الخبر ، لعدم تأدي التقية بها.

ومنه يظهر عدم الخصوصية للمذاهب الأربعة ، لأن الحصر بها قد فرض عليهم في العصور المتأخرة عن عصور حضور الأئمة عليهم السّلام ، بل بعضها قد حدث في أواخر عصورهم عليهم السّلام وربما كان في ما قبل ذلك ما هو أكثر شيوعا وأجل قائلا عندهم.

رابعها : تضمنت مقبولة ابن حنظلة رجوع الترجيح المذكور إلى

١٩٣

ترجيحين طوليين : ترجيح مخالف العامة على موافقهم ـ الذي عرفت أن المراد به ما يعم موافق البعض ـ ثم ترك ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل لو وافقهم الخبران جميعا.

وبه ترفع اليد عن إطلاق المرفوعة لو كانت حجة في نفسها. وحيث يختلف ميل الحكام باختلاف العصور فالمناسبات الارتكازية تقتضي ملاحظة عصر صدور الخبر ، فلو وافق كل من الخبرين ما يميل إليه الحكام في عصر صدوره يسقط المرجح المذكور. وكذا لو جهل الحال. فلاحظ.

خامسها : الظاهر أن المراد بالعامة المخالفون الذين يتولون الشيخين ويرون شرعية خلافتهما على اختلاف فرقهم ، لأن ذلك هو المنصرف إليه العناوين المذكورة في النصوص.

نعم ، يشكل شمولهم للخوارج ، لأن تبرؤهم من سلاطين الجور المتأخرين وممن يدخل في جماعتهم ويمضي حكمهم على مرّ العصور أوجب نبذهم عند العامة ونظرتهم إليهم نظرة الشذوذ والمروق عن الجماعة ، فينصرف عنهم الإطلاق ، كما لا تتأدى التقية بموافقتهم. فمثلهم في ذلك الزيدية البترية الذين يتولون الشيخين.

وكذا الفرق المخالفة للحق من الشيعة ، لأن انتسابهم للشيعة أوجب عزلتهم عن جماعة المخالفين فلا يخشى جانبهم ولا يهتم بمجاملتهم ، واذا ورد الحث على مقاطعتهم ومباينتهم ، بخلاف العامة الذين لهم الحكم والسلطان. على أنه لم تسجل لهم غالبا آراء في الفروع يمتازون بها تكون معيارا في الموافقة والمخالفة في ما نحن فيه.

السادس : الإجماع.

ففي الاحتجاج : «وروي عنهم عليهم السّلام أيضا أنهم قالوا : إذا اختلفت أحاديثنا

١٩٤

عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا ، فإنه لا ريب فيه» (١).

وظاهر الاجتماع هنا هو الاجتماع على العمل بالخبر والتعويل عليه الراجع إلى الإجماع في الفتوى ، لا الإجماع على الرواية الذي قد يصاحب هجره عندهم ومفارقتهم له.

ولعله لذا لم يشر لاحتمال الاجتماع على الخبرين معا ، الذي هو ممكن في الإجماع على الرواية.

وحيث كان الإجماع على الفتوى من القرائن القطعية على مطابقة مضمون الخبر للواقع دون الآخر ، فيخرج عن موضوع الحجية ذاتا مع قطع النظر عن المعارضة فهو خارج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين.

ولعله إنما نبه على ذلك في الخبر لعدم وضوح هذا المعنى في الصدر الأول ، وتخيل إمكان اجتماع الشيعة على الخطأ بسبب اختلاف الأخبار وابتلائهم بالتقية ونحوهما مما يوجب خفاء الواقع عليهم ، على أن ضعف الخبر مانع من التعويل عليه لو كان مخالفا للقواعد.

السابع : الأحدثية.

فقد تضمنت جملة من النصوص لزوم الأخذ بالأحدث. كخبر المعلى بن خنيس الذي لا يخلو عن اعتبار : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله قال : ثم قال أبو عبد الله عليه السّلام : إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم» (٢).

وخبر أبي عمرو الكناني : «قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : يا أبا عمرو أرأيت

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ٤٣ ، والاحتجاج : ج : ٢ ص ١٠٩. طبع النجف الأشرف.

(٢) الوسائل ج : ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٨.

١٩٥

لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. فقال : قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن فعلتم إنه لخير لي ولكم ، أبى الله عزّ وجل لنا في دينه إلا التقية» (١).

ومرسل الحسين بن المختار عنه عليه السّلام : «قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال : كنت اخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله» (٢).

ومرسل الكليني : «وفي حديث آخر : خذوا بالأحدث» (٣).

ولم يتعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه للمرجح المذكور مع تعرضه لنصوصه ، وكذا من بعده من مشايخنا.

بل في الحدائق : «ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيحات ، فضلا عمن عمل عليه غير الصدوق طاب ثراه في الفقيه ...».

وقد أشار إلى ما ذكره في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما ، حيث ذكر حديثا عن العسكري عليه السّلام وأخر معارضا له عن الصادق عليه السّلام ثم قال : «لست افتي بهذا الحديث ، بل افتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه السّلام. ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليه السّلام ، وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس. وبالله التوفيق».

وفي الوسائل بعد أن ذكر مرسل الحسين بن المختار ، «أقول : يظهر من الصدوق أنه حمله على زمان الإمام خاصة ، فإنه قال في توجيهه : ان كل إمام

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٧.

(٢) الوسائل ج : ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧.

(٣) الوسائل ج : ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩.

١٩٦

أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس. انتهى. وهو موافق لظاهر الحديث. وعلى هذا يضعف الترجيح به في زمان الغيبة وفي تطاول الأزمنة. ويأتي ما يدل على ذلك. والله أعلم».

لكن حمل كلام الصدوق على ذلك لا يلائم رجوعه للمرجح المذكور في صدر كلامه.

كما أنه لا وجه لاستظهاره من الحديث المذكور ، فإن مقتضى إطلاق الخبر وجوب العمل على الأحدث حتى بعد وفاة الإمام ، بل هو كالصريح من خبر المعلى ، المتضمن وجوب العمل بقول الإمام السابق حتى يبلغ خلافه عن الحي.

فالذي ينبغي أن يقال : من الظاهر أن تأخر الزمان لا دخل له في أقربية الدليل المتأخر للواقع وقوة كاشفيته. ومن هنا لم يكن المستفاد من هذه النصوص الترجيح اثباتا بين الحجتين بلحاظ طريقيتهما للواقع ، بل الترجيح ثبوتا بين الحكمين المحكيين بهما من دون قصور في حجيتهما ، بلحاظ جريان الأحدث على طبق الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت ، سواء كانت هي الحكم الواقعي الثانوي ، لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبين بالدليل الأسبق ، أو لتبدل مقتضى التقية ، أم كانت هي الحكم الأولي ، لارتفاع سبب التقية التي كان الحكم الأسبق جاريا على مقتضاها.

كما هو مقتضى قوله عليه السّلام : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم ...» وقوله عليه السّلام : «أبى الله إلا أن يعبد سرا ...» ، لمناسبتهما لتوجيه اختلاف نفس الحكمين المحكيين بالدليلين ، لأنه هو الذي يسع الشيعة والذي يرجع إلى عبادة السر والتقية في مقام العمل ، لا لتوجيه اختلاف نفس الدليلين في بيان الواقع ، الراجع للتقية في الفتوى ، التي هي من شئون الإمام المختصة به.

كما يناسبه أيضا ما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار من

١٩٧

رجوع الراوي بطبعه للمرجح المذكور من دون أن ينبهه الإمام له ، ومن الظاهر أن الأمر الارتكازي هو العمل على الحكم الأحدث الذي يدركه إمام الوقت ، لا ترجيح الحجة الأحدث بلحاظ كاشفيتها.

وبالجملة : الترجيح بالأحدثية راجع للترجيح بين الحكمين ثبوتا ، لا بين الحجتين إثباتا الذي هو محل الكلام ، وعليه تجري المرجحات المتقدمة.

إذا عرفت هذا ، فاختلاف الدليلين في الحكم إن كان مع واحدة الحكم الذي يكونان حجة عليه ، وهو الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع غير القابل للتبدل في فرض عدم النسخ ، فلا موضوع معه للترجيح بين الحكمين ثبوتا ، بل يتعين التكاذب بين الدليلين الذي هو منشأ للتعارض بين الدليلين وموضوع للترجيح إثباتا بينهما ، كما تضمنته أكثر نصوص المقام.

وإن كان مع تعدد الحكم الذي يكونان حجة عليه ، للحكاية بهما عن الحكم الفعلي الثابت حين صدور كل منهما ، ولو كان ثانويا ، فلا موضوع معه للترجيح بينهما إثباتا ، لعدم التكاذب ولا التعارض بينهما ، بل يتعين معه الترجيح بين الحكمين ثبوتا بالأخذ بالأحدث ، كما تضمنته النصوص المتقدمة ، فلا يجري الترجيح بالأحدثية مجرى سائر المرجحات ، بل هو مختلف معها سنخا وموضوعا.

هذا ، وحيث لا ريب في ظهور النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السّلام في بيان الحكم الواقعي الثابت في أصل التشريع غير القابل للتغيير في فرض عدم النسخ ، دون الأحكام الفعلية الثابتة لأجل التقية ونحوها القابلة للتغير ، كان اختلافها في الموضوع الواحد موجبا لتعارضها في أنفسها وموردا للمرجحات الاثباتية المتقدمة ، ولا مجال فيها للترجيح بالأحدثية ، نظير ما سبق في مباحث الجمع العرفي من عدم التعويل على احتمال النسخ.

ويتعين حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتف الكلام بما

١٩٨

يناسب حمله على بيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية ، كالقطع بعدم كون مضمونه هو الحكم الأولي ، مع ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل ، نظير ما ورد من أمر الكاظم عليه السّلام علي بن يقطين بوضوء العامة ، حيث أدرك عليّ أن الأمر المذكور ثانوي لمخالفته لما عليه إجماع العصابة في كيفية الوضوء ، كما صرح به في الخبر (١).

وربما يشير إليه ما في خبر الخثعمي : «سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : من عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا ، فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه» (٢) ، فإن الفتوى التي تدفع عن المكلف هي الفتوى بالحكم الثانوي المطابق لمقتضى التقية في حقه ، لا الفتوى الصورية تقية غير المستتبعة للعمل مع العلم بحالها ، فإنها تدفع عن المفتي لا غير.

وذلك هو المناسب لما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار من ترجيح الراوي الأحدث بطبعه من دون أن ينبهه الإمام عليه السّلام له ، لاختصاص الجهة الارتكازية المقتضية لذلك بما إذا أحرز أن كلا من الخطابين متكفل بالوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية ، دون ما إذا كانا واردين لبيان الحكم الأولي غير القابل للتعدد ، لعدم الفرق بين الأحدث وغيره في احتمال مخالفة الواقع.

بل ما تضمنه خبر الكناني من فرض تعدد الاستفتاء من الشخص الواحد في الواقعة الواحدة مناسب لكون المسئول عنه هو الحكم الفعلي القابل للاختلاف في عامين ، إذ لا داعي غالبا لتكرار السؤال عن الحكم الأولي الذي لا يختلف.

وأما ما تضمنه هو ومرسل الحسين بن المختار من فرض اختلاف الحديثين المسموعين من الإمام ، مع ظهور الحديث في ما يحكيه الإمام عن

__________________

(١) الوسائل ج : ١ ، باب : ٣ من أبواب الوضوء حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج : ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣.

١٩٩

النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي مما هو ظاهر في الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع.

فلا بد من تنزيله لأجل ذلك على فرض قيام القرينة على كون نقل الإمام للحديث لبيان الوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية على خلاف ظاهره ، لعدم المصلحة بالتصريح فيه بالتقية ، فلا يمنع التعارض بين الحديثين من العمل بكل منهما نقله من الإمام.

نعم ، ذلك لا يناسب إطلاق خبر المعلى ، لظهوره في اختلاف الحديثين المحكيين عن الإمامين الشامل لما إذا كان كل منهما ظاهرا في بيان الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع ، وقد سبق أن ذلك هو الظاهر في عموم الأحاديث ، وهي التي تكون موردا للابتلاء والعمل.

ولا سيما مع توقف الراوي وسؤاله عن الوظيفة فيه ، مع أن العمل بالأحدث في فرض ظهور الحديث في بيان الوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية أمرا ارتكازيا لا يحتاج إلى سؤال ، فلا بد أن يكون منشأ السؤال ظهور الأحاديث المسئول عنها في بيان الحكم الأولي الموجب للتعارض والتحير.

ويكون الجواب بوجوب العمل بالأحدث كاشفا عن ورود تلك الأحاديث لبيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية ، وإن كان ذلك خلاف ظهورها الأولي.

ولا مجال لحمله على الترجيح إثباتا بالأحدثية بين الحجتين في فرض تعارضهما تعبدا ، لعدم مناسبته لقوله عليه السّلام : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم».

فالخبر المذكور كاشف عن حال اختلاف الأخبار ، وأنه ليس راجعا إلى تعارض الحجتين إثباتا في الحكم الواحد ، كما هو مقتضى ظهورها البدوي ، بل إلى تعدد الحكم ثبوتا بلحاظ العناوين الثانوية القابلة للتبدل ، الذي يلزم معه الأخذ بالأحدث والجري عليه حتى يصدر خلافه ، لأن إمام الوقت أعرف

٢٠٠