المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

الثالث ، لأنه المتيقن من مدلولهما ، كالكلام الواحد المجمل المردد بين وجهين الذي هو بيان على نفي الثالث. ولعله يأتي التعرض له في محله.

نعم ، إذا لزم من تقديم كلا الخاصين على العام كثرة التخصيص المستهجن له كان التعارض بينه وبينهما مستحكما ، كما هو الحال في سائر موارد التخصيص ودخل في التعارض بين أكثر من دليلين ، الذي يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا مجال لدعوى انقلاب النسبة في المقام ، بدعوى : أنه بعد تخصيص العام بأحد الخاصين تكون النسبة بينه وبين الخاص الآخر العموم من وجه.

وذلك لعدم دخل أحد الخاصين في قرينية الآخر على العام بعد عدم صلوح كل منهما لتفسير الآخر ، لفرض كون النسبة بينهما العموم من وجه.

على أن ما سبق من الوجه لانقلاب النسبة إنما يقتضيه في فرض سقوط العام عن الحجية في مورد أحد الخاصين في رتبة سابقة على ملاحظة النسبة بينه وبين الآخر ، ولا مجال لذلك في المقام بعد عدم تقدم أحدهما على الآخر رتبة ، ليكون التخصيص به سابقا على التخصيص بالآخر ، بل هما في رتبة واحدة في مقابل العام.

ولا وجه لترجيح مقطوع المضمون أو الصدور منهما بعد مشاركة المظنون له في الحجية ، فإن القطعي إنما يقدم على الظني عند تعارضهما ، لا في مقام تأثيرهما في الدليل المعارض.

وكذا ترجيح الأسبق زمانا ، لعدم الأثر لسبق الخاص زمانا في استكشاف مراد المتكلم من العام.

ولا فرق في ذلك بين ما صدر عن الأئمة عليهم السّلام وما صدر عن النبي صلّى الله عليه وآله بعد فرض كونه مخصصا ، خلافا لما يظهر من بعض مشايخنا من توجه انقلاب

١٠١

النسبة في فرض اختلاف الزمان في ما صدر عنه صلّى الله عليه وآله ، وأنه يتعين تخصيص العام أولا بالخاص الأسبق فتنقلب النسبة بينه وبين الخاص المتأخر.

غاية الأمر البناء على النسخ في ما صدر عنه صلّى الله عليه وآله بالوجه المتقدم في الأمر الثاني ، فيتعين العمل بالمتأخر على كل حال. فلاحظ.

نعم ، لا إشكال في انقلاب النسبة إذا كان أحد الخاصين متصلا ، لمنعه من انعقاد ظهور العام في العموم ، بل ليس هو من انقلاب النسبة حقيقة ، إذ النسبة بين العام والخاص الآخر هي العموم من وجه من أول الأمر ، إلا أنه لا يبعد غلبة أقوائية ظهور الخاص الآخر في شمول مورد الاجتماع من ظهور العام المخصص حينئذ ، فيقدم عليه ، كما لو كان أخص منه مطلقا ، ولا أثر لانقلاب النسبة.

الثاني : ما إذا ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للآخر ، وهو ثاني الفرضين المتقدمين في صدر المسألة.

والظاهر صلوح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين وقرينة على حمل الموافق له على مورده ، والمخالف له على غير مورده ، كما لو ورد دليل مفصل بين أفراد العامين ، لأن الخاص وإن لم يوجب أقوائية ظهور العام المخالف له في غير مورده من العام الموافق له فيه ، إلّا ان يكون قرينة عرفا على حمل العام المخالف على غير مورده ، فيصلح العام المذكور بضميمته لأن يكون قرينة على حمل العام الموافق على مورد الخاص ، فيرتفع التعارض بينهما بسببه ولا يستحكم.

وهو أولى عرفا من سقوط العامين في تمام أفرادهما والرجوع للخاص في مورده ، وللقواعد الأخر في بقية أفراد العامين ، ولا سيما إذا كان الخاص مشعرا بخصوصية عنوانه في الحكم بمناسبة ارتكازية ونحوها حيث يسهل تنزيل كلا العامين عليه جدا.

١٠٢

وهذا من موارد انقلاب النسبة عندهم ، لأن العام المخالف للخاص بعد أن كان في نفسه معارضا للعام الموافق يصلح بسبب الخاص لأن يكون مخصصا له. فتأمل.

نعم ، إذا كان مقتضى الجمع المذكور كثرة التخصيص لأحد العامين بنحو مستهجن ، إما لقلة أفراد الخاص ، بنحو يلزم من الجمع المذكور كثرة التخصيص للعام الموافق ، أو لكثرتها ، بنحو يلزم كثرة التخصيص للعام المخالف ، لم يصلح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين ويستحكم التعارض بينهما. بل في الثاني يكون الخاص معارضا للعام المخالف له ، كالعام الآخر ، كما هو ظاهر.

هذا ، ولو فرض مخالفة الخاص لكلا العامين في الفرض لم يصلح لأن يكون شاهد جمع بينهما ، وتعين استحكام التعارض بينهما ، فيرجح الأقوى أو يخيّر أو يتساقطان ويكون الخاص في مورده حجة على كل حال ، لكونه مرجعا بعد تساقطهما أو مخصصا للحجة منهما ، ويخرج عن محل الكلام في انقلاب النسبة ، لعدم الأثر للخاص في النسبة بين العامين ، كما هو ظاهر.

الثالث : ما إذا وردت أدلة ثلاثة أحدها أخص من الآخر مطلقا.

والظاهر تخصيص الخاص منها لما فوقه مما خالفه في الحكم مطلقا ، سواء اختلفت كلها في أحكامها أم اتفق اثنان منها وخالفهما الثالث ، كان المخالف هو الأعم أو المتوسط أو الأخص ، كل ذلك لملاك التخصيص في سائر الموارد وعدم دخل تعدد الأدلة في ذلك. كما أن المتفقين لا تنافي بينهما ملزم بالتخصيص بل يتعين العمل بالأعم منهما إذا لم يخصص بمخالف.

وقد يتوهم انقلاب النسبة في بعض الصور المتقدمة ، كما لو اتفق المتوسط والأخص في الحكم على خلاف الأعم ، بدعوى : تخصيص الأعم بالأخص أولا ، فتنقلب النسبة بينه وبين المتوسط للعموم من وجه.

ويندفع : بأن تخصيص الأخص للأعم لا أثر له عرفا في قرينية المتوسط

١٠٣

عليه بنحو لا يشمله ملاك التخصيص.

مضافا إلى عدم الوجه لتخصيص الأعم بالأخص أولا قبل تخصيصه بالمتوسط ، بل هو مخصص بهما معا في رتبة واحدة ، نظير ما سبق في الفرض الأول.

نعم ، إذا كان الأخص متصلا بالأعم في الفرض تعين انقلاب النسبة بينه وبين المتوسط ، نظير ما سبق ، ويتوقف تقديم أحدهما في مورد الاجتماع على أقوائية ظهوره ، ولا ضابط لذلك ، بل هو موكول لخصوصيات الموارد حسبما يدركه الفقيه عند النظر في الأدلة.

كما أنه لو كان الأخص ظاهرا في الحصر كان بمنطوقه مخصصا للأعم وبمفهومه مخصصا للمتوسط أو معارضا له ، فيقتصر في الخروج عن الأعم على مورد الأخص ، ولا يبقى للمتوسط أثر.

هذا كله إذا لم يلزم من التخصيص محذور مانع ككثرة التخصيص ، وإلا تعين التوقف أو الجمع بوجه آخر حسبما تقتضيه خصوصية المقام ، وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا يسعنا مجاراتهم فيه بعد ما عرفت من الضابط في المقام.

الرابع : ما إذا ورد عامان بينهما عموم من وجه ، وخاص لهما معا في محل الاجتماع.

ولا إشكال في تقديمه عليهما معا والعمل بكل منهما في ما ينفرد فيه. وقد جعله غير واحد من موارد انقلاب النسبة ، بدعوى انقلابها بينهما بسبب الخاص المذكور إلى التباين ويرتفع التعارض بينهما ، لتعدد الموضوع ، كما لو اختص كل منهما ابتداء بما ينفرد فيه.

لكن الظاهر عدم توقف تقديمه في مورد الاجتماع والعمل بهما في مورد الانفراد على ذلك ، بل لو فرض عدم انقلاب النسبة واستحكام التعارض بينهما للزم العمل به ، لكونه مخصصا للأقوى منهما لو كان ، ومرجعا بعد تساقطهما لو

١٠٤

تساويا.

نعم ، انقلاب النسبة هو الأقرب للمرتكزات العرفية في مقام الجمع بين الأدلة ، لأن الخاص المذكور صالح للقرينية عرفا عليهما بملاك التخصيص الجاري في كل عام وخاص ولا تصل النوبة للتعارض.

ومجرد كونه مخصصا للعمومين لا لعام واحد لا أثر له في ذلك ، نظير ما تقدم في الفرض الثاني.

ومنه يظهر الحال لو كان الخاص مخصصا لأحد العامين المذكورين في مورد الافتراق ، حيث يكون قرينة على حمل العام المذكور على مورد الاجتماع وتقديمه على العام الثاني فيه ، لئلا يبقى بلا مورد ، وحمل العام الثاني على مورد انفراده.

وإليه يرجع ما قيل من أن الخاص المذكور سبب لانقلاب النسبة بين العامين الى العموم المطلق ، وهو أولى من بقاء العامين على ما هما عليه من التعارض في مورد الاجتماع والعمل بالخاص في مورده ، وبالعام الآخر في مورد انفراده ، المستلزم لسقوط العام المخصص عن الحجية مطلقا في مورد انفراده لتخصيصه ، وفي مورد الاجتماع لمعارضته بالعام الثاني.

وأما لو ورد خاصان في الفرض ، كل منهما مخصص لأحد العامين في مورد الافتراق فمن الظاهر أنهما لا يصلحان للقرينية على العامين ورفع التعارض بينهما ، لأن تخصيصهما بهما مستلزم لحملهما معا على مورد الاجتماع ، فيتعارضان فيه ، كما هو الحال قبل ورود الخاصين ، وإنما الكلام في أن التعارض يختص بالعامين مع حجية الخاصين في موردهما ، أو يشاركهما الخاصان أيضا ، فتسقط الأدلة الأربعة؟

وجهان .. اختار أولهما بعض الأعاظم قدّس سرّه في ما حكي عنه ، لدعوى : أن الخاصين غير متعارضين ، لا بأنفسهما ، لتعدد موضوعيهما ، ولا بالنظر للعامين ،

١٠٥

لفرض كونهما مخصصين لهما.

وفيه : أن كلا من الخاصين وإن كان مخصصا لأحد العامين وحمله على مورد الاجتماع بالنظر لنفسه ، إلا أنه لا مجال للبناء على ذلك فيهما معا في المقام ، لاستلزامه حمل كلا العامين على خصوص المورد المذكور ، وهو ممتنع ، فلا يكون تحكيم الخاصين عليهما جمعا عرفيا.

وبعبارة أخرى : تقديم الخاص على العام لما لم يكن تعبديا ، بل بملاك الجمع العرفي وبيان الخاص للمراد من العام فلا مجال له في المقام ، للعلم بكذب أحد الجمعين.

ودعوى : أن تعارض العامين في مورد الاجتماع لازم على كل حال عمل بالخاصين أم لم يعمل بهما ، فهما ساقطان عن الحجية في نفسيهما ، فلا ينهضان بمعارضة الخاصين.

مدفوعة : بأن مرجع تعارضهما في نفسيهما صلوح كل منهما للقرينية على الآخر وحمله على مورد الانفراد مع حجية كل منهما في مورد الانفراد ، ولا مجال لذلك بالنظر للخاصين ، لاقتضائهما إخراج موردي الانفراد عنهما وحملهما معا على مورد الاجتماع ، وهو ممتنع ، كما ذكرنا.

فيتعين كون التعارض بين مجموع الأدلة ، للعلم الإجمالي بكذب بعضها ـ كما ذكره بعض مشايخنا ـ من دون مجال للجمع العرفي بينها ، ولا مرجح للخاصين.

اللهم إلا أن يقال : كل من الخاصين وإن اقتضى صرف العام المخالف له إلى مورد الاجتماع ، إلّا أنه لا يقتضي استيعابه له ، وإنما هو مقتضى عموم العام ، وكما يمكن التنزل عن عموم العام بالإضافة لمورد الانفراد لأجل الخاص يمكن التنزل عن ظهوره في استيعاب أفراد مورد الاجتماع بلحاظ مجموع الأدلة.

وعليه يمكن الجمع عرفا بين مجموع الأدلة بحمل كلا العامين على مورد

١٠٦

الاجتماع ، مع التنزل عن ظهور كل منهما في استيعابه ، وإن تعين سقوطهما معا فيه ، لعدم القرينة على تعيين ما يراد بكل منهما من أفراده.

نعم ، ذلك ـ مع توقفه على إمكان التفكيك بين أفراد مورد الاجتماع في الحكم ـ مشروط بأن يكون مورد الاجتماع كثير الأفراد بحيث لا يلزم من حمل كل من العامين على خصوص بعض أفراده التخصيص المستهجن ، بأن يكون ظهور كل من الخاصين في مورده أقوى من ظهور كل من العامين في الاستيعاب لمقدار أفراد مورد الاجتماع ، بنحو يكون قرينة عرفا على صرفهما عن الظهور المذكور.

هذه بعض الفروض المذكورة في كلماتهم لانقلاب النسبة ، وهناك فروض أخرى لا مجال للتعرض لها ، كما لا مجال للتعرض لغيرها مما يمكن فرضه في المقام ، لتعذر استيعاب موارد انقلاب النسبة ، ولا سيما بعد ما سبق من عدم اختصاصه بالعام والخاص ، وأنه يجري في سائر موارد الجمع العرفي. بل يتعين الاكتفاء بما سبق من الضابط المتقدم له مع إيكال تشخيص صغرياته لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة المتنافية.

والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتسديد.

١٠٧
١٠٨

المقام الثاني

في مراتب الأدلة

من الظاهر ان استنباط الحكم والوظيفة العملية عن الأدلة التفصيلية كما يتوقف على معرفة الأدلة والوظائف الظاهرية يتوقف على معرفة النسب ، بينها وتعيين مراتبها في ما بينها كي لا يرجع للمتأخر مع وجود المتقدم ، لرجوع ذلك لتشخيص دليلة الدليل ومعرفة موردها.

ومن هنا كان البحث عن ذلك من مقدمات الاستنباط المهمة ، كالبحث عن نفس الأدلة.

وقد سبق تعيين الأدلة والوظائف الظاهرية في المباحث السابقة من دون بحث عن النسب بينها وتشخيص مرتبة كل منها ، عدا الاستصحاب ، حيث تقدم الكلام في مرتبته ، لخصوصية في دليله لا تجري في أدلة غيره.

ولما كان البحث في المقام الأول عن أصول النسب الأربع ـ وهي التخصص والورود والحكومة والجمع العرفي ـ وتعيين ضوابطها ، وبيان وجه العمل عليها كان المناسب إلحاق ذلك بالبحث عن تشخيص النسب بين الأدلة والوظائف الظاهرية على ضوء ما تقدم ، وقد عقدنا هذا المقام لذلك.

هذا ، وحيث لا ريب في تقدم الأدلة القطعية رتبة ، للغوية جعل الحجة على طبق القطع ، واستحالة جعلها على خلافه ـ على ما تقدم في مباحث القطع ـ فيقع الكلام في غيرها مما لا يقطع معه بالحكم الشرعي الواقعي ، إما لعدم تعرضه له ـ كما في الأصول ـ أو لعدم إفادته القطع به وإن كان متعرضا له ،

١٠٩

كالطرق والأمارات.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر لزوم الرجوع للطرق والأمارات في المرتبة الأولى ، ثم للأصول والقواعد الشرعية الإحرازية ـ كالاستصحاب ـ ثم للاصول الشرعية غير الإحرازية تعبدية كانت كأصالة الطهارة أم غيرها كالبراءة والاحتياط ، ثم للاصول العقلية العملية.

كما أن الظاهر تقدم الأصول التعبدية الموضوعية ، التي يحرز بها الحكم بضميمة الكبريات الشرعية وإن لم تكن إحرازية ، على الأصول الحكمية وإن كانت إحرازية ، وهو مرادهم بتقدم الأصل السببي على المسببي.

وعلى هذا جرى الأصحاب في مقام الاستدلال ، بنحو يظهر منهم المفروغية عنه ، بل صرح بعضهم بذلك.

نعم ، قد يظهر من بعضهم الخروج عن ذلك في بعض الموارد ، حيث يجمع في مقام الاستدلال بين المترتبين أو يعارض بينهما.

إلا أن الظاهر كون منشئه الغافلة عن الحال أو محض الاستظهار في مقام الاستدلال ، وإلا فمن البعيد جدا خلافهم في ذلك.

وكيف كان ، فاللازم التعرض لوجه ما ذكرنا.

وحيث كانت الأصول الإحرازية الجارية في الشبهات الحكمية منحصرة بالاستصحاب كان بيان نسبتها هنا مستغنى عنه بما تقدم في الاستصحاب في توجيه تقديم الطرق عليه وتقديمه على بقية الأصول المأخوذ في موضوعها محض الشك.

وأما بقية الأصول والقواعد الإحرازية ـ كقاعدة اليد والفراغ والفراش وغيرها ـ فهي قواعد فقهية لا تجري إلا في الشبهات الموضوعية ، الخارجة عن محل الكلام ، ولا يسعنا استقصاء حالها ، وإنما تقدم في خاتمة الاستصحاب التعرض لبعضها ، وتقدم أنها مقدمة على الاستصحاب ، فتقدم على ما تأخر عنه

١١٠

من الأصول بالأولوية.

كما لا مجال للتعرض لنسبتها مع الطرق والأمارات والقواعد الأخر ، بل يوكل للفقه.

كما لا ينبغي التأمل في تأخر الأصول العقلية عن الطرق والقواعد والأصول الشرعية ، لورودها عليها ، حيث لا يحكم العقل بالوظيفة الظاهرية إلا عند التحير وعدم تصدي الشارع لبيانها ، وإلا استغنى ببيانه ، فيرتفع به موضوع حكمه.

وعلى هذا لا يبقى في المقام إلا الكلام في وجه تقدم الطرق والأمارات على الأصول ، وفي وجه تقدم الأصل السببي على المسببي ، فيقع البحث في أمرين ..

الأمر الأول : في تقدم الطرق والأمارات على الأصول الشرعية.

من الظاهر أن إطلاق أدلة الأصول شامل لصورة قيام الطرق والأمارات بعد فرض عدم إفادتها العلم بالحكم الواقعي ، فهي بنفسها مع قطع النظر عن دليل حجيتها لا ترفع موضوع الأصول ، وإلا لزم قصورها في فرض عدم حجية الطرق والأمارات أيضا ، وهو خارج عن محل الكلام.

كما أنه لا إشكال في أن مفاد الطريق والأمارة لا ينافي مفاد الأصل ، لتعدد الموضوع ، بسبب حكايتهما عن الواقع ، وعدم تعرض الأصل له ، بل للوظيفة الظاهرية في ظرف الجهل به لا غير ، وإنما التنافي بين دليل حجيتها ومفادها ، لتعرض كل منهما للوظيفة الظاهرية الفعلية.

ومن هنا كان محل الكلام في المقام هو النسبة بينهما ، لا بين الأصل ونفس الطريق والأمارة ، وإن أوهمه عنوان المسألة.

إذا عرفت هذا ، فربما يدعى ورود أدلة الطرق والأمارات على أدلة الأصول ..

١١١

إما لدعوى : أن المراد من الشك والجهل في موضوعها هو عدم الحجة ، فيرتفع موضوعها بقيام الطرق أو الأمارات بضميمة دليل حجيتها.

أو لدعوى : أن المراد به ما يقابل العلم ولو بالوظيفة الظاهرية ، فيرتفع موضوعها بقيامها بضميمة دليل حجيتها أيضا. وكلاهما مخالف للظاهر جدا ، بل ظاهر الجهل والشك في موضوع أدلة الأصول الشرعية هو الأمر النفسي المقابل للعلم بالواقع ، الباقي حتى مع قيام الطرق والأمارات وحجيتها ، كما سبق نظيره في الاستصحاب.

وإنما يتجه الثاني في ما سيق من الأدلة مساق الأصول العقلية ومؤكدا لمفادها وهو خارج عن محل الكلام وقد تقدم توضيح الفرق بين المفادين في أول الكلام في أدلة البراءة.

هذا ، والذي ادعاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجملة ممن تأخر عنه هو حكومة أدلة الطرق والأمارات على أدلة الأصول ، لرفعها لموضعها تعبدا أو تنزيلا ، بسبب تقييد موضوع الأصول شرعا بالشك والجهل ، وإطلاق موضوع أدلة حجية الطرق والأمارات من هذه الجهة. وهي وإن كانت قاصرة عن صورة العلم ، إلا أن قصورها لما كان عقليا بملاك استحالة جعل الحجية معه ، ومختصا بالعلم ، الوجداني ، فلا مجال لفرض الحكومة فيه ، لما سبق من عدم جريانها في الأدلة اللبية لتحديد موضوعها بنحو لا يقبل البيان والتفسير ، بخلاف تقييد أدلة الأصول بالجهل ، فإنه لما كان مستفادا من تقييدها به شرعا في الأدلة اللفظية أمكنت حكومة أدلة الطرق والأمارات عليها وبيانها لمفادها.

وقد اشير في كلامهم لتقريب حكومة الطرق والأمارات ، بدعوى : أنها بضميمة دليل حجيتها تكون رافعة لموضوع الأصول ـ وهو الجهل ـ تعبدا أو تنزيلا وإن كان باقيا حقيقة ، لفرض عدم إفادتها القطع.

وقد سبق أن ذلك موجب للحكومة عندهم ، وذكرنا أنه لا يوجب

١١٢

الحكومة البيانية بل العرفية ، التي هي من صغريات الجمع العرفي.

لكن ما ذكروه من ارتفاع الجهل تعبدا أو تنزيلا مبني على مختارهم في مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من تنزيلها منزلة العلم ، أو جعلها علما تعبدا ، وهو ممنوع ، بل ليس مفادها إلا حجية الطرق والأمارات اعتبارا بنحو تصلح لأن يعتمد عليها في البناء على ثبوت مؤداها عملا كالعلم ، على ما سبق الكلام فيه مفصلا في مباحث القطع. فراجع.

وأما مجرد حجية الطرق والأمارات من دون أن تكون بلسان تنزيلها منزلة العلم أو جعلها علما تعبدا فهو لا يكفي في الحكومة العرفية ، فضلا عن البيانية ، لأن الحجيّة وإن اقتضت متابعة الحجة في مقام العمل بنحو تكون معذرة أو منجزة على خلاف الأصل ، إلا أن الأصل بإطلاق دليله يقتضي التعذير والتنجيز المستتبعين للعمل على خلافها ، ولا أولوية لأحدهما بعد فرض تحقق موضوع كل منهما. وقد سبق نظير ذلك في مبحث الاستصحاب.

ومن هنا فالظاهر أن تقديم الطرق والأمارات على الأصول مقتضى الجمع العرفي بين أدلتها والمناسبات الارتكازية ، مع التنافي بينها بدوا ، الذي عرفت رجوع الحكومة العرفية له ، فإنه وإن كان بين إطلاق كل منها عموم من وجه ، إلا أن المتعين تنزيل أدلة الأصول على ما لا ينافي أدلة الطرق والأمارات.

وتقريب ذلك بوجوه ..

الأول : ما سبق في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية ، حيث يجري هنا ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ بتقريب أن مقتضى إطلاق أدلة الأصول هو فعلية مقتضاها والعمل عليه ولو مع قيام الطرق والأمارات المستلزم لعدم حجيتها ، إلا أن مقتضى الجمع بينها وبين أدلة الحجية هو حملها على ثبوت مقتضاها وهو الشك ، وإن لم يكن فعليا لطروء أمر زائد على ذلك مقتض لخلافه وهو قيام الطرق والأمارات ، كما هو الحال في سائر موارد الجمع بين أدلة

١١٣

الأحكام الأولية والثانوية.

وليس ذلك من مورد الحكومة البيانية ولا العرفية ، لعدم نظر أدلة الحجية لأدلة الأصول ولا لمؤدياتها ، ولذا لا تلغو حتى مع فرض عدم جعل الأصول شرعا والبقاء على الأصول العقلية ، كما فصلنا الكلام في نظيره هناك.

إن قلت : هذا لا يناسب ما تضمنه غير واحد من نصوص الأصول من إناطتها بعدم العلم وجعله رافعا لها ، بعد ما سبق من ظهوره في العلم بالواقع لا بما يعم الوظيفة الظاهرية ، ولا في مطلق قيام الحجة ، ولذا لم تكن الطرق والأمارات واردة عليها.

قلت : المتعين تنزيل ذلك بملاحظة الجمع المذكور على أن ذكر العلم ليس بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق كاشف عن الواقع ودليل عليه ، فيقوم مقامه سائر الطرق والأمارات المعتبرة ، وهو راجع في الحقيقة إلى كون الرافع لموضوع الأصول هو ثبوت الواقع ولو بغير العلم ، وأن ذكر العلم بما أنه الفرد الظاهر ، كما سبق عند الكلام في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع.

ويناسبه ما في موثق مسعدة بن صدقة من الاقتصار على العلم في صدره ثم قوله عليه السّلام في الذيل : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١).

الثاني : أن تقديم أدلة حجية الطرق والأمارات على الأصول لا يوجب إلغاء دليل الأصول عرفا ، لكثرة موارد فقد الحجة ، بخلاف العكس ، فإنه موجب لإلغاء أدلة الحجية عرفا ، إذ لا يبقى تحتها الا الموارد التي تطابق فيها الأصل فيستغنى به عنها ، والموارد التي لا يجري فيها الأصل الترخيصي كالبراءة ، أو الإلزامي ، كالاحتياط في الشبهة التحريمية عند الأخباريين ، وهي نادرة.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٣ ، باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث ٤.

١١٤

ولا مجال للتفكيك بين الموارد ، فتقدم الحجج على الأصول في بعضها ، وتقدم الأصول في بعض ، لعدم الفرق عرفا بين الموارد من هذه الجهة ، وعدم المرجح لبعضها بالإضافة للإطلاقات ، بل لا بد إما من تقديم الأصول في الجميع أو تقديم الحجج كذلك.

ومثله التفكيك بين الأصول ، فتقدم الحجج على البراءة دون الاحتياط مثلا ، لعدم الفرق بين أدلة الأصول في ذلك بعد كون موضوعها محض الشك.

الثالث : أن النظر في مجموع أدلة حجية الطرق والأمارات وأدلة الأصول شاهد بتقديم أدلة الحجية ، إما للتصريح بذلك في أدلتها ـ كموثق مسعدة بن صدقة المصرح باستثناء صورة قيام البينة من عموم قاعدة الحل وغيره ـ أو لأنه المتيقن من بعض مواردها ، لورودها في مورد الأصول الترخيصية أو الإلزامية.

ولا مجال لاستقصاء ذلك في المقام بعد وضوحه وقضاء المرتكزات العرفية به وجري الأصحاب عليه بمقتضى طبعهم من دون تكلّف أو تعمّل. فلاحظ.

تنبيهات

الأول : بناء على ورود أدلة الحجية على أدلة الأصول ورفعها لموضوعها حقيقة لا مجال لجريان الأصل في مورد قيام الحجة حتى لو كان موافقا لها ، لعدم الموضوع له معها.

وكذا بناء على الحكومة المبتنية على رفع الحجة لموضوع الأصل تعبدا أو تنزيلا ، لرجوعها لبا إلى قصور موضوع الأصل عن صورة قيام الحجة وإن كان شاملا لها لفظا بمقتضى عموم دليله.

أما بناء على ما ذكرنا من وجوه الجمع العرفي فقيام الحجة إنما يمنع من جريان الأصل المخالف لها دون الموافق. أما على الوجهين الأخيرين فظاهر ،

١١٥

وأما على الأول فلأن العنوان الثانوي الاقتضائي إنما يمنع من تأثير العنوان الأولي غير الاقتضائي مع تنافي أثريهما ، لا مع اتفاقهما ، وإن كان الاستناد في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته أولى ارتكازا من الاستناد فيه إلى مجرد عدم المقتضي لخلافه.

نعم ، لو ابتلت الحجة الموافقة للأصل بمعارضة حجة أخرى مخالفة له لم يكن الأصل طرفا للمعارضة بل يكون مرجعا بعد تساقط الحجتين ، لما هو المرتكز من أن اللامقتضي لا يكون طرفا للمصادمة مع المقتضي وإن لم يكن أثره فعليا معه ، بل ينحصر التصادم بالمقتضيين ، وبعد سقوطهما يكون الأثر على طبق اللامقتضي لعدم المانع من فعليته.

وإن شئت قلت : اللامقتضي وإن لم يكن متأخرا رتبة عن المقتضي الموافق له ، إلا أنه متأخر عن المقتضي المخالف له لمانعيته من تأثيره ، ففي مرتبة تعارض المقتضيين لا يكون اللامقتضي فعلي التأثير ، لصلوح المقتضي المخالف له لمنعه ، لعدم سقوطه في المرتبة المذكورة ، وإنما يكون فعلي التأثير بعد سقوط المقتضيين في المرتبة الثانية للتعارض ، لعدم المانع منه حينئذ.

الثاني : ما سبق من وجوه التقديم إنما يتجه في ما إذا كان لدليل الحجية عموم لفظي شامل لمورد الأصل ، أما لو أخذ في موضوعها عدم الوظيفة الشرعية كان الأصل واردا عليها.

كما أنه لو كان دليلها لفظيا لا عموم له أو لبيا ، كحجية الظواهر ونحوها مما كان حجة ببناء العقلاء أو الإجماع فلا يجري فيه ما تقدم على إطلاقه ، بل ينبغي التفصيل بين ما ثبتت حجيته بدليل تعبدي ـ كالإجماع والأدلة اللفظية التي لا عموم فيها ـ وما ثبتت حجيته ببناء العقلاء الذي لا بد من عدم الردع عنه.

أما الأول فإن قطع بشمول دليله لمورد الأصل وجب العمل به وتقديمه إما بالورود ـ لو تم تقريبه المتقدم ـ أو بتنزيل عموم دليل الأصل عليه ، نظير ما

١١٦

سبق في الجمع العرفي ، ولا مجال لفرض الحكومة فيه إذا كان لبيا ، لما ذكرناه عند الكلام فيها من أنه لا بد في الحاكم من أن يكون دليلا لفظيا متميزا بلسان الشرح والنظر ، ولا يتجه في اللبي الذي لا يفيد إلا واقع الحكم. نعم ، قد يتجه فرضها في الأدلة اللفظية التي لا عموم فيها.

وإن لم يقطع بشموله لمورد الأصل لزم العمل بالأصل ، لا لتقديمه عليه ، بل لانفراده بالحجية بعد فرض الشك في حجية الطريق أو الأمارة ، ولذا يعمل بالأصل حينئذ حتى بناء على ورود الطرق والأمارات ـ بلحاظ دليل حجيتها ـ على الأصول ، لأن ورودها فرع الدليل على حجيتها.

وأما الثاني فإن قلنا بورود الطرق والأمارات على الأصل لم ينهض دليل الأصل للردع عن السيرة ، لتأخره عن مفادها رتبة لرفعها لموضوعه.

وإلا كان دليل الأصل صالحا للردع عنها ، على ما تقدم نظيره في مبحث حجية خبر الواحد عند الكلام في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

إلا أن يثبت إمضاء السيرة ، فيكون دليل الإمضاء هو المقدم على دليل الأصل ، ويلحقه ما سبق من التفصيل بين الدليل اللفظي واللبي ، أو تكون السيرة من الوضوح بحدّ يغافل العرف عن شمول عموم دليل الأصل لموردها ، على ما تقدم في مبحث حجية الظواهر وخبر الواحد. وقد تقدم نظير ذلك في الاستصحاب.

الثالث : تقديم الطرق والأمارات على الأصول مختص بما إذا اتحد موضوعها ، بحيث يكون الطريق أو الأمارة بيانا شرعيا في مورد الأصل ، أما مع تعدد الموضوع وتباين الواقعتين مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الجعلين عملا لمقتضى الواقع ، فإن كان الطريق أو الأمارة حجة في لازم المؤدى كان بيانا في مورد الأصل.

١١٧

وإلا فإن لزم من العمل بكل منهما محذور في مخالفة العلم الإجمالي سقطا معا عن مقام العمل من دون مرجح للطريق أو الأمارة ، لاختصاص الوجوه المتقدمة بما إذا كانا بيانا في مورد الأصل ، وإلا لزم العمل بكل منهما في مورده ، نظير ما يذكر في الأصلين المعلوم كذب أحدهما إجمالا.

الرابع : الظاهر أنه لا فرق في الأصول غير الإحرازية بين التعبديّة المبنية على التعبد بالمضمون والمقتضية للبناء عليه عملا ـ كأصالة الطهارة والحل ـ وغيرها مما لا يتضمن إلا محض التعذير أو التنجيز في مقام العمل ـ كالبراءة والاحتياط ـ ولا تتقدم الاولى على الثانية ، لعدم الموجب لذلك بعد عدم تضمن الاولى إحراز المؤدى وبيانه ، ليتوجه تقديمها بملاك تقديم الأصل الإحرازي الذي اشير إليه في وجه تقديم الاستصحاب على غيره من الأصول ، بل هي مشتركة في أن موضوعها محض الشك.

الأمر الثاني : في تقديم الأصل السببي على المسببي.

والمراد بالأصل المسببي هو الأصل الجاري رأسا في الأثر الذي يترتب عليه العمل ، أما السببي فهو الذي يقتضي التعبد بالأثر بتوسط التعبد بموضوعه وسببه الشرعي ، لما سبق عند الكلام في الأصل المثبت من أن التعبد بالموضوع مستلزم للتعبد بأثره الشرعي عرفا ، فيتفرع التعبد بالأثر في مورد الأصل المسببي على ضم الصغرى المتعبد بها بمقتضى الأصل السببي للكبرى الشرعية المتضمنة للتلازم بين الموضوع والأثر.

ومنه يظهر أنه لا بد في الأصل السببي من كونه أصلا تعبديا مقتضيا للبناء على مضمونه الذي هو موضوع الأثر ، ليترتب عليه البناء على الأثر ، أما الأصل المتمحض في التعذير والتنجيز ـ كالبراءة والاحتياط ـ فهو لا يصلح للتعبد بالأثر بعد عدم تضمنه التعبد بموضوعه ، ليكون مقدما على الأصل المسببي الجاري في الأثر رأسا.

١١٨

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن جريان الاحتياط عند الشارع في التكليف قبل الفحص لا يقتضي ترتب آثار ذلك التكليف المنافية للاحتياط ، بنحو يكون الاحتياط في التكليف منافيا للاحتياط في أثره ، فلو وجب الاحتياط عند الشك في وجوب الانفاق لم يسقط الاحتياط في التكليف المترتب على عدم وجوبه ، كوجوب الحج.

فما ذكره بعض مشايخنا من فرض مثل أصل البراءة سببيا غير ظاهر.

نعم ، لو كان للسعة أو الحرج في مقام العمل اللذين هما مقتضى الأصل التعذيري والتنجيزي لازم شرعي أو عقلي تعين ترتبه واقعا ، لتحقق موضوعه كذلك ، كقابلية الفعل للتقرب مع جريان البراءة فيه وإن كان محرما واقعا ، وعدم قابليته له مع جريان الاحتياط فيه وإن لم يكن محرما ، وهو خارج عن محل الكلام.

وأما الأصل المسببي فلا يعتبر فيه شيء من ذلك ، كما لا يعتبر في السببي أن يكون إحرازيا بل يقدم وإن لم يكن إحرازيا على المسببي وإن كان إحرازيا ، كأصالة الطهارة في الماء التي يرفع اليد بها عن استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، كما يرفع بها اليد عن أصالة البراءة من وجوب تطهير المسجد به لو انحصر به الماء.

نعم ، مفروض كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدّس سرّهما في السببي والمسببي هو الاستصحاب ، ونظرهما في استدلالهما على تقديم السببي لدليل الاستصحاب.

لكن الظاهر أنه ناشئ من تحريرهما للمسألة في الاستصحاب ، لا من اختصاص ملاك التقديم عندهما به. ومن ثمّ صرح غير واحد ممن تأخر عنهما بالتعميم.

اذا عرفت هذا ، فما يستفاد من كلماتهم في تقريب تقديم السببي وجوه ..

١١٩

الأول : ما يظهر من شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدّس سرّهما من أن تقديم السببي لا يستلزم تخصيص دليل الاستصحاب ، بخلاف العكس ، حيث يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن السببي وارد على المسببي ، لارتفاع موضوعه معه ، دون العكس.

فإن كان ذلك منه مبنيا على أن موضوع المسببي هو عدم الدليل على ما يعم الوظيفة الظاهرية ، والسببي صالح لبيان الوظيفة الظاهرية في مورد المسببي ، بخلاف العكس ، لأن التعبد بالأثر لا يقتضي التعبد بموضوعه إلا بناء على الأصل المثبت.

فهو في غير محله ، بل موضوع المسببي ـ بمقتضى ظاهر دليله ـ هو الشك بالواقع ، كما سبق في الأمر الأول ، وهو باق مع جريان السببي.

وإن كان مبنيا على أن نقض اليقين السابق في مورد المسببي بالسببي ليس نقضا بمحض الشك ، بل بتعبد زائد عليه في مورده ، فلا يشمله النهي عن نقض اليقين بالشك ، الذي تضمنه دليل الاستصحاب. أما نقض اليقين في مورد السببي فهو نقض بمحض الشك ، لعدم صلوح التعبد بالمسببي لنقض اليقين في مورد السببي ، إلا بناء على الأصل المثبت.

فهو ـ مع عدم كونه ورودا بالمعنى المتقدم ـ مختص بما إذا كان المسببي استصحابا ، على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيحه. على ان ما ذكره ـ لو تم ـ جرى في الطرق والأمارات ، مع أنه قدّس سرّه صرح ببقاء موضوع الأصل معها ، وأنّ وجه تقديمها منحصر بالحكومة ، كما سبق.

نعم ، لا مجال للنقض بذلك على المحقق الخراساني قدّس سرّه فإنه وإن ذكر أن نقض اليقين في مورد المسببي بالسببي ليس من نقض اليقين بالشك ، بل باليقين ، بخلاف العكس ، إلا أنه التزم بذلك في الطرق والأمارات أيضا ، على ما تقدم في الاستصحاب. لكن تقدم الإشكال عليه هناك أيضا. مضافا إلى ما أشرنا

١٢٠