المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ربِّ اشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي ، أنت حسبي ونعم الوكيل ، ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه أنيب.

٥
٦

المقصد الثّالث

في التّعارض

٧
٨

المقصد الثّالث

فى التعارض

أشرنا في تمهيد الكلام في الوظائف العملية الظاهرية إلى أنه لا وجه لجعل مبحث التعارض خاتمة لمباحث الأصول ، أو لقسم الوظائف الظاهرية ـ كما صنعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ لعدم خروجه عن المقصد المهم بعد تضمنه تنقيح الكبريات للوظائف الظاهرية التي تقع في طريق الاستنباط ، الذي هو معيار المسألة الأصولية.

ومثله إلحاقه بمباحث الطرق ـ كما صنعه بعض المعاصرين في اصوله ـ لعدم اختصاص بعض مسائله بها ، بل يجري في الأصول أيضا ، كمسألة مقتضى الأصل في المتعارضين.

ومن هنا كان الأنسب جعله مقصدا في قبال المقاصد السابقة ، كما جرى عليه المحقق الخراساني قدّس سرّه.

كما أن ما جرى عليه من جعل عنوان البحث هو التعارض أنسب مما جرى عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من جعل عنوانه التعادل والتراجيح ، لأنه أخص.

ولا سيما مع عدم كون البحث في التراجيح عن أحكامها ، بل عن تشخيص مواردها التي هي من أحكام التعارض.

ومن ثمّ جرينا على ذلك ، كما جرى عليه غير واحد ممن تأخر عنه.

وينبغى التمهيد لمحل الكلام بذكر أمور ..

الأول : التعارض تفاعل من العرض. وقد ورد في استعمالات كثيرة

٩

بانحاء مختلفة ، وذكر له معاني متعددة قد يرجع بعضها إلى بعض. ولعل الأصل لغير واحد من تلك المعاني هو العرض المقابل للطول ، حيث قد يرجع إليه استعماله بمعنى السعة في مثل قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١). وقوله سبحانه : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٢).

كما قد يرجع إليه استعماله بمعنى المنع ، تشبيها للمانع بما يقف في عرض الطريق ويصد عن النفوذ والمضي ، كالخشبة المعترضة في النهر المانعة من جريان الماء فيه ، كما تضمنه حديث سراقة : أنه عرض لرسول الله صلّى الله عليه وآله وأبي بكر الفرس. قال ابن الأثير : «أي اعترض به الطريق يمنعهما من المسير».

ولعله لذا سميت الخشبة التي تمسك عضادتي الباب عارضة ، وسمي الإيراد على المطالب العلمية والاستشكال فيها اعتراضا.

وهذا هو المناسب لإطلاق التعارض في المقام ، بلحاظ أن كلّا من المتعارضين يمنع من العمل بالآخر ، فكأنه مانع له من تأثيره لمقتضاه ، وهو المطابق للمرتكزات العرفية في وجه إطلاق التعارض في أمثال المقام.

ولا وجه مع ذلك لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم المناسبة بين المعنى المقصود في المقام والمعنى اللغوي ، حيث فسر المعنى اللغوي للعرض بالإظهار ، ومثل له بعض الأعيان المحققين ب : عرض المتاع للبيع.

على أن تفسير العرض بالإظهار لا يخلو عن إشكال ، بل الظاهر أن المراد به نحو من الملابسة بين الشيئين ترجع إلى تهيئة أحدهما للآخر وإعداده له ، كما في المثال وفي قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣) ،

__________________

(١) سورة الحديد : ٢١.

(٢) سورة فصلت : ٥١.

(٣) سورة الأحزاب : ٧٢.

١٠

أو إلى نحو من الاتصال بينهما كما في قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها)(١) ، أو غير ذلك مما قد يستلزم الاظهار ولا يطابقه مفهوما.

ولا يبعد رجوع ذلك المعنى للمعنى المذكور آنفا ، لمناسبة ما يكون في عرض الطريق له جدا. والأمر سهل.

الأمر الثاني : عرف شيخنا الأعظم قدّس سرّه التعارض في الاصطلاح بأنه تنافي مدلول الدليلين على وجه التناقض والتضاد ، وظاهره وصريح بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن ذلك هو المشهور في تعريفه.

وعرّفه المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية بأنه : تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا.

وعلى ضوء هذين التعريفين يقع الكلام في جهات ..

الاولى : أنه حيث تقدم أن إطلاق العرف للتعارض في أمثال المقام مبني على ملاحظة التمانع بين المتعارضين ، فالتنافي بالتناقض أو التضاد لا يطابق التعارض بما له من المفهوم العرفي ، بل هو منشأ له بلحاظ امتناع حجية المتنافيين والتعبد بهما وعدم صلوحها للعمل ، حيث يكون كل منهما بسبب ذلك مانعا من ترتب مضمون الآخر والعمل به.

والظاهر أن إطلاقه في كلام أهل الفن مبني على الجري على المعنى العرفى المذكور ، لا على اختراع معنى خاص له مباين لذلك المعنى مفهوما مناسب له يكون هو المصطلح في المقام ، لاحتياجه لعناية يبعد ارتكابها مع الاستغناء عنها. غايته أن محل الكلام مختص بالطرق الظاهرية من أدلة أو أصول ، تبعا لاختصاص الغرض بذلك.

فالتعريفان المذكوران مبنيان على التسامح من هذه الجهة ، وهما بضبط موارد التعارض أنسب منهما بتحديد مفهومه.

__________________

(١) سورة غافر : ٤٦.

١١

الثانية : ذكر التناقض والتضاد في التعريفين إن كان لأجل التعميم للتضاد بلحاظ ظهور التنافي بدوا في خصوص التناقض ، لأن النقيض نفي لنقيضه ، دون الضد وضده ، فمن الظاهر أن العدم نفي الوجود دون العكس ، فلا بد أن يراد من التنافي محض التعاند ، وهو حاصل في الضدين.

وإن كان لأجل تخصيص التنافي في محل الكلام بالقسمين المذكورين دون غيرهما من أنحاء التنافي فلا وجه له.

وإرادة مطلق التعاند من التضاد ـ كما هو ظاهرهم ـ مستلزم للاكتفاء بذكر التنافي. على أن جميع أنحاء التنافي مستلزمة للتناقض بلحاظ الدلالة الالتزامية لكل من الدليلين التي هي حجة كالدلالة المطابقية.

وأما في الأصول التي هي غير حجة في لازم مؤداها فلا يكفي التضاد في تحقق التعارض ، لأن العلم بكذب أحد الأصلين لا يخرجهما عن الحجية إلا لمحذور خارج كلزوم الترخيص في المعصية ونحوه.

وبالجملة : ذكر التناقض يكفي في المقام ، بل يكفي ذكر التنافي.

الثالثة : ذكر غير واحد أن اختلاف التعريفين في نسبة التنافي ، حيث نسب للمدلول في الأول وللدلالة في الثاني ، يوجب كون وصف الدليلين بالتعارض على الثاني حقيقيا ، وعلى الأول مجازيا ، من باب وصف الشيء بحال متعلقه.

ويشكل : بأنه لا مانع من كون تنافي المدلولين منشأ لاتصاف الدليلين اصطلاحا أو عرفا بالتعارض. بل ليس هو بأبعد من كون تنافي الدلالتين علة لذلك ، مع وضوح كونهما من شئون الدليلين أيضا لا عينهما.

كما أنه ذكر غير واحد أيضا أن اختلافهما في ذلك يوجب الفرق بينهما في دخول موارد الحكومة والجمع العرفي في التعارض على الأول ، لاستقرار ظهور كل منهما في مدلوله بنحو ينافي الآخر ، وخروجها على الثاني ، لعدم

١٢

حجية أحدهما إلا في ما لا ينافي الآخر.

وهو كما ترى! لوضوح أن الدلالة من سنخ العرض للمدلول ، ولا يعقل اختلاف العرض والمعروض سعة وضيقا فيمتنع تحقق التنافي بلحاظ المدلول دون الدلالة.

وحمل الدلالة في الثاني على خصوص مورد الحجية ليس بأولى من حمل المدلول في الأول عليه. ولذا كان ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه كصريح المحقق الخراساني قدّس سرّه خروج الموردين المذكورين عن التعارض ، مع اختلافهما في تعريفه. ويأتي الكلام في ذلك.

ثم إن نسبة التنافي للدلالتين في الثاني إنما هو بلحاظ تنافي المدلولين ، وإلا فلا تنافي بين الدلالات المختلفة على المدلولات المتنافية ، لتعدد الموضوع.

إلا أن يراد بالدلالة ما يساوق الحجية ، فيتحقق التنافي بين الدلالتين ، لاستحالة التعبد بالمتنافيين.

لكن التنافي حينئذ ليس بالتناقض ، لكون طرفيه وجوديين ، كما نبه له غير واحد.

الرابعة : عمم المحقق الخراساني قدّس سرّه في تعريفه المتقدم التعارض لما يكون بين أكثر من دليلين ، كما لو دل دليل على وجوب القصر والآخر على وجوب الصيام ، وثالث على الملازمة بين الاتمام والصيام.

وهو المناسب للمعنى المتقدم للتعارض ، ولعموم الغرض من البحث في المقام ، وإن اختصت بعض نصوص التعارض بالخبرين.

غايته أنه لا بد من الكلام في عموم الأحكام التي تضمنتها تلك النصوص لذلك وعدمه.

ثم إن فرض التعارض الذي هو محل الكلام والغرض بين أكثر من دليلين

١٣

إنما يتم لو لم يكن أحدها قطعيا ، وإلا كان التعارض مختصا بغيره ، لحجيته على كل حال ، ويدخل حينئذ في التعارض لأمر خارج الذي يأتي الكلام فيه ، كتعارض دليلي وجوب الظهر ووجوب الجمعة ، بضميمة العلم بعدم وجوب الجمع بينهما.

كما أنه لو كان مفاد كل من الدليلين في الفرض تعيين الصلاة الواجبة المفروض واحدتها بكل من الظهر والجمعة ، لا محض الأمر بكل منهما ، كانا متعارضين ذاتا ، لامتناع اتحاد الصلاة الواحدة مع كل منهما. غايته أن التنافي بينهما بنحو التضاد الذي تقدم الكلام فيه.

الخامسة : تقدم في تعريف المحقق الخراساني تعميم التنافي الذي يكون منشأ للتعارض للحقيقي والعرضي.

وقد حمل بعض شراح كلامه الأول على ما إذا كان التنافي عقليا ، والثاني على ما إذا كان بواسطة مقدمة شرعية خارجية ، كتنافي دليلي وجوب الظهر والجمعة بضميمة العلم بعدم وجوب الجمع بينهما.

أما سيدنا الأعظم قدّس سرّه فقد جعل القسمين من التنافي الحقيقي ، وخص التنافي العرضي بما إذا علم بعدم ثبوت أحدهما مع إمكان ثبوتهما معا شرعا وعقلا.

ويناسبه قول المحقق الخراساني مفرعا على ذلك : «بأن علم بكذب أحدهما إجمالا ، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا» ، كما يناسبه في الجملة ما في حاشيته على الرسائل ، من دخول ذلك في التعارض وإن عبر عنه بالتعارض العلمي ، لا العرضي.

وربما يحمل العرضي على التنافي لأمر خارج من مقدمة شرعية ، أو علم إجمالي ، ويخص الحقيقي بالتنافي الذاتي العقلي ، وربما يناسبه ما في حاشيته على الرسائل ، على اضطراب في كلامه. فراجع. ويأتى الكلام في ذلك إن شاء

١٤

الله تعالى.

الأمر الثالث : لا بد في تحقق التعارض في محل الكلام من تمامية موضوع الحجية في كل من المتعارضين ، فلو فقد في أحدهما أو في كليهما فلا تعارض.

وتوضيح ذلك : أنه حيث تقدم أن إطلاق التعارض مبني على فرض التمانع بين الدليلين في ترتب مقتضاهما ، ففرض التمانع مبني على المفروغية عن تمامية المقتضي في الممنوع للعمل ، ومع فرض قصوره وعدم تحقق مقتضي العمل فيه لا تصل النوبة للمانع عرفا ، لتصدق المعارضة بما لها من المعنى المتقدم.

كما أن محل الكلام في المقام هو بيان حكم المتعارضين من حيثية التعارض ، بعد الفراغ عن صلوحهما للعمل في أنفسهما ، كما هو ظاهر الأدلة الخاصة الواردة في المقام.

نعم ، لا يعتبر ذلك في تحقق التعارض من حيثية الكشف والبيان ، لتمامية المقتضي في الكاشف والحاكي لذلك ، وإن لم يكن حجة صالحة للعمل ، ولذا يصدق التعارض بين مثل أخبار المؤرخين التي لا يراد منها إلا التعرف على الواقع والوصول إليه ولو ظنا ، فالتعارض أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة المقصودة من المتعارضين.

إلا أن ذلك خارج عن محل الكلام في المقام ، لاختصاص غرض الأصولي بتنقيح الأدلة وتشخيصها ، فالمنظور له هو تعارضها من حيث هي أدلة صالحة للعمل. ومن ثمّ اختص الكلام بتعارض الوظائف الظاهرية لا غير.

ودعوى : أن لازم ذلك عدم صدق التعارض في فرض علاجه بالتخيير أو الترجيح ، لفرض عدم التمانع بين الدليلين حينئذ وإن كان بينهما تمانع وتناف في مقام الكشف والدلالة.

١٥

مدفوعة : بأن العلاج المذكور لما كان من أحكام التعارض ، فلا بد من كون التعارض الذي هو محل الكلام هو التعارض في الرتبة السابقة عليه ، لا اللاحقة له ، وهو التعارض بالإضافة لعموم دليل الحجية ، لا بالنظر للأدلة الخاصة.

ثم إنه لا يفرق بين كون ما فقد شرط الحجية معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالإجمال ، وسقوط كل منهما عن الحجية في خصوص مؤداه في الثاني ليس بملاك التعارض ، بل لاشتباه الحجة باللاحجة ، ولذا لا يسقط ما هو الحجة منهما عن الحجية في خصوص في مؤداه الإجمالي لو كان لحجيته فيه أثر عملي ، كما لو كانا تكليفين ، حيث يتنجز كل منهما بملاك العلم الإجمالي.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا يتحقق التعارض الذي هو محل الكلام لو كان أحد الدليلين واردا على دليل حجية الآخر ، بأن يكون رافعا لموضوع حجيته ، وإن لم يكن رافعا لموضوع الحكم الذي تكفله ، كما هو الحال في موارد الجمع العرفي ـ كالجمع بين الظاهر والأظهر ، ومنه بعض أقسام الحكومة ، وهو ما لا يكون فيه أحد الدليلين ناظرا للدليل الآخر ، بل لحكمه ، على ما يأتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى ـ لأن مرجع الجمع بين الدليلين وتقديم أحدهما على الآخر حينئذ إلى أن حجية أحدهما في المورد مشروطة بعدم ورود الآخر ، فمع وروده يسقط الأول عن موضوع الحجية ، وإن انعقد ظهوره وبقي موضوع حكمه.

إذ التعارض بين الدليلين على هذا ليس في مرتبة حجيتهما ، بل في مرتبة كشفهما وبيانيتهما لا غير ، وقد عرفت خروج ذلك عن التعارض الذي هو محل الكلام.

ولا مجال لقياسه على ارتفاع التعارض بأدلة العلاج الذي تقدم أنه لا يوجب خروج المورد عن التعارض الذي هو محل الكلام.

لأن ارتفاع التعارض هنا بالنظر لعموم دليل الحجية ، لانحصار دليل حجية الظواهر ببناء العقلاء الذي يقصر في مورد الجمع العرفي ، بخلافه هناك ، حيث

١٦

يكون المنشأ فيه الأدلة الخاصة ، مع بقاء التعارض بالنظر لعموم دليل الحجية ، كما سبق.

وعلى هذا جرى شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغير واحد ممن تأخر عنه ، كما سبق.

ولازم ذلك كون البحث في شئون الجمع العرفي وضوابطه وما يتعلق بذلك من مبادئ مبحث التعارض ، لرجوعه إلى تشخيص مورده وتنقيح صغرياته ، لا إلى بيان حكمه ، فيناسب جعله مقدمة للبحث المذكور ، لا من مقاصده.

إلا أن أهمية البحث المذكور ومناسبته للمقام ووقوع نتائجه في طريق الاستنباط ملزم بجعله من مقاصد هذا المبحث ، لتبعية سعة البحث لسعة الغرض ، وليس ذلك الموضوع إلا لتحديد الغرض ، فاذا كان الموضوع قاصرا عن استيفائه لزم التخطي عنه محافظة على استيعاب الغرض.

ويأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكلام في تمهيد البحث في المقام التعرض لمنهج البحث وتعيين موضع الكلام في ذلك منه.

الأمر الرابع : لا ريب في توقف التعارض على تنافي المؤديين ، بحيث يمتنع التعبد بهما ظاهرا ، كما يمتنع جعلهما واقعا ، ولا يكفي مجرد العلم بقصور دليل الحجية عن أحدهما لا من جهة تنافي مضمونيهما ، كما في الماء النجس المتمم كرا بطاهر ، بناء على أن مقتضى الاستصحاب في كل منهما نجاسة الأول وطهارة الثاني وعدم اختلاف حكم أجزاء الماء الواحد ظاهرا ، كما لا يختلف واقعا ، فإن مرجع ذلك إلى العلم بتخصيص عموم الاستصحاب بنحو لا يشملهما معا ، من دون أن يمتنع اجتماع مضمون كلا الاستصحابين ، فإن أصالة العموم في دليل الاستصحاب وإن كانت تسقط في كل من الفردين ، إلّا أنه ليس بملاك التعارض بينهما ، لعدم دخل كل منهما في سقوط الآخر ، بل للعلم بكذبها الراجع للتخصيص وعدم تمامية موضوع الحجية الذي عرفت خروجه عن

١٧

محل الكلام.

نعم ، قد يصدق التعارض في إعمال أصالة العموم بالإضافة لكل منهما ، بخلاف فرض التنافي بين المؤديين المانع من التعبد بهما ظاهرا ، لأن إثبات كل من المتنافيين مستند لدليله ، وحيث كان التنافي مانعا من التعبد بالمضمونين معا كان سقوط كل منهما مستندا للآخر ، فصح نسبة المعارضة له عرفا.

هذا ، وعنوان التعارض إن لم يؤخذ في أكثر أدلة الأحكام الخاصة من التخيير والترجيح ، إلا أنه قد أخذت فيها عناوين مشابهة له كعنوان الاختلاف ونحوه مما هو كالتعارض لا يصدق إلا مع التنافي.

كما أنه ربما يشارك التخصيص بالنحو المذكور التعارض في بعض الأحكام كأصالة التساقط أو التخيير ، على ما لعله يتضح في محله.

ثم إن كون التنافي بين المؤديين منشأ للتعارض حيث كان بسبب امتناع التعبد بالمتنافيين للتنافي بينهما عملا ، كان المعيار فيه تحقق التنافي العملي بين المؤديين ، وحيث كان موضوع العمل عقلا هو الأحكام التكليفية ثبوتا ، والتعبد بها ـ بقيام الحجة ونحوه ـ إثباتا ، توقف التنافي ـ الذي هو منشأ للتعارض ـ على تنافي المؤديين في الحكم التكليفي أو التعبد به أو التضاد في ذلك ، إما لكون المؤدى هو الحكم التكليفي أو التعبد رأسا ، كما لو كان مفاد أحد التعبدين وجوب شيء ، ومفاد الآخر عدم وجوبه أو حرمته ، أو كان مفاد أحدهما حجية شيء ومفاد الآخر عدم حجيته ، أو لكون المؤدى موضوعا لذلك ، كما لو كان مفاد أحد التعبدين الملكية ، المقتضية لجواز التصرف ، ومفاد الآخر عدمها أو الوقفية ، المقتضيين لحرمته ، أو كان مفاد أحدهما عدالة الشاهد ، المقتضية لحجية شهادته ، ومفاد الآخر فسقه المقتضي لعدمها. من دون فرق في ذلك بين كون التعبدين مفاد طريق حاك عن الواقع وكونها مفاد أصل لا حكاية له.

أما إذا لم يكن بين المؤديين تناف في مقام العمل فلا يتحقق التعارض ـ

١٨

الذي هو محل الكلام ـ وإن علم بكذب أحدهما وعدم مطابقة مؤداه للواقع. ومن ثمّ أمكن التفكيك بين المتلازمات في الأصول العملية ـ وإن لم يسقطهما عن الحجية ـ إلا لمحذور خارجي ، كمخالفة تكليف معلوم بالإجمال أو التفصيل ، وإنما لم يمكن في الطرق كالبينات لأجل حجيتها في لازم المؤدى ، فيلزم التناقض بين المؤديين ، ولذا لا يجري ذلك في ما لا يكون حجة في اللازم ، كاليد ونحوها.

وكأنّ هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه من التنافي العرضي ، فإن منشأ التنافي أمر خارجي ، وهو العلم بعدم اجتماع المؤديين ، المستلزم لتعارض الدليلين بلحاظ لازم المؤدى المفروض حجية الدليل فيه.

كما لعله هو المراد من التنافي الخارجي في كلام بعضهم ، والتنافي الشرعي في كلام آخرين ، بلحاظ أن عدم اجتماع المؤديين لمقدمة خارجية مستفادة من الشارع.

وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل أن المراد بالتنافي الشرعي أمر آخر في قبال ذلك داخل في التنافي الحقيقي.

ولعل المراد به ما إذا كان مقتضى الدليلين التفكيك بين الموضوع وحكمه ، حيث يكون التلازم بينهما شرعيا ، كما لو قامت إحدى البينتين على طهارة الثوب والاخرى على ملاقاته للنجاسة ، فإن التنافي بين الطهارة والملاقاة ليس إلا شرعيا تابعا لملازمة شرعية مجعولة للشارع ، وليس ناشئا من مجرد العلم الإجمالي بعدم ثبوت أحد الأمرين.

لكنه راجع للتنافي العقلي ، لأن التعبد بالملاقاة يستتبع التعبد بالنجاسة ، لرجوع التعبد بالموضوع للتعبد بحكمه ، وهي مضادة للطهارة ، بلحاظ تضاد أحكامهما التكليفية ، فيمتنع اجتماعهما عقلا.

وكيف كان ، ففي فرض حجية الدليل في لازم المؤدى يكفي العلم بعدم

١٩

ثبوت أحد المؤديين في تحقق التنافي الذي هو معيار التعارض في المقام ، لما تقدم.

ولا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من خروجه عن التعارض ودخوله في اشتباه الحجة باللاحجة ، لعدم تحقق التنافي.

بل هو لا يجتمع مع ما اعترف به من تحقق التعارض بين دليلي الظهر والجمعة ، لامتناع اجتماع مؤدييها لأمر خارج ، وهو العلم بأن الواجب هو إحدى الصلاتين ، لعدم تعقل الفرق بينه وبين ما مثل به للأول ، وهو ما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ومؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبّر ، وعلم بكذب مضمون أحدهما.

إلا أن يكون مراده بدليلي الظهر والجمعة ليس مجرد ما تضمن الأمر بكل منهما ، بل ما تضمن تعيين الصلاة الواحدة الواجبة بكل منهما. لكنه يدخل في التنافي الذاتي ، لاستحالة اتحاد الأمر الواحد بالمتباينين ، كما أشرنا إليه في الجهة الرابعة من الأمر الثاني.

نعم ، مجرد العلم بعدم صدور أحد الخبرين لا يكفي في تنافي مدلوليهما الموجب لتعارضهما ، لأن مضمون كل منهما هو الحكم غير المنافي لصدور الآخر ، ليكون بمدلوله الالتزامي مكذبا له.

إلا أن التعارض يكون بين دليلي صدور كل منهما ، وهو إخبار الراوي عن المعصوم عليه السّلام بلحاظ الملازمة المذكورة ، فلا يشملهما دليل الحجية ، لما تقدم من تحقق التنافي العملي مع الاختلاف فيها.

لكن هذا كله إنما يقتضي جريان أحكام التعارض العامة العقلية ، أما الأحكام الخاصة المستفادة من الأدلة اللفظية فالظاهر قصورها عن التعارض في الصدور ، لظهور أدلتها في التعارض في المضمون ، لما هو المعلوم من أن موضوعها التعارض في خصوص أخبار المعصومين عليهم السّلام المتضمنة للأحكام ،

٢٠