المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

وجوب ذلك.

ولذا كان المرتكز خطورة التصدي للاستنباط والفتوى ولزوم الحذر على من يزاولهما من التقصير.

وأما ما قد يظهر من صاحب المعالم من عدم وجوب الفحص عن قرينة المجاز وما نسب للعلامة من جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ونحوهما ، فاما أن تؤول بما لا ينافي ذلك بأن تحمل على الخطابات العرفية دون الشرعية ، أو تكون مستندة لشبهة مخرجة عما سبق ، فلا تنافي عموم لزوم الفحص في غير مواردها ، للإجماع الارتكازي المتقدم. فتأمل.

الثاني : العلم الإجمالي بقيام الأدلة التي يمكن الاطلاع عليها بالفحص على التكاليف ، حيث يكون العلم الإجمالي المذكور منجزا لاحتمال التكليف في مورد احتمال العثور على الدليل بالفحص ، ومع تنجز التكليف في الموارد المذكورة لا مجال للرجوع للطرق والاصول الترخيصية المعذرة ، لما تقرر من مانعية العلم الإجمالي من فعلية مؤداها.

وقد أشرنا للعلم الإجمالي المذكور في الاحتجاج لوجوب الاحتياط في الشبهة البدوية الحكمية ، وقد ذكرنا أنه موجب لانحلال العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف كثيرة ، فراجع.

ثم إن هذا الوجه إنما ينفع مع عدم انحلال العلم الإجمالي بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال ، دون ما إذا عثر على المقدار المذكور واحتمل وجود غيره ، كما يظهر وجهه مما سبق في مبحث انحلال العلم الإجمالي.

كما أنه يمنع من الرجوع للطرق والاصول الترخيصية دون الإلزامية. بل لا إشكال في جواز العمل بالطرق والاصول الإلزامية قبل الفحص احتياطا.

نعم ، لا مجال للفتوى بمضمونها لو علم إجمالا بوجود الأدلة الترخيصية المانعة من الرجوع إليها ، للعلم حينئذ بعدم فعلية مضامين بعضها وحرمة الفتوى

٤٠١

بمضمونه ، بل ولو لم يعلم إجمالا بذلك لبقية الوجوه الآتية ، على ما يتضح إن شاء الله تعالى.

الثالث : ما تضمن من النصوص الإنكار على بعض العامة في استنباط الحكم والتصدي للفتوى من دون معرفة تامة بالكتاب المجيد ولا تمييز للناسخ والمنسوخ. والخاص والعام منه ، مثل ما عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث : «قال لأبي حنيفة : أنت فقيه العراق؟ قال : نعم. قال : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم. قال يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ...» (١).

وموثق مسعدة بن صدقة عنه عليه السّلام في حديث احتجاجه على الصوفية لما احتجوا عليه بآيات من القرآن : «قال : ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الامة؟ ... إلى أن قال : فبئس ما ذهبتهم إليه وحملته الناس عليه من الجهل بكتاب الله ... وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ ، ... إلى أن قال : وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه ...» (٢).

ورواية إسماعيل ابن جابر عنه عليه السّلام في ذم الناس قال : «وذلك أنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في تأويلها ...» (٣).

ومرسل العياشي عن عبد الرحمن السلمي : «أن عليا عليه السّلام مرّ على قاض

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٧.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٣.

(٣) الوسائل ج ٨١ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٣.

٤٠٢

فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ...» (١).

ومرسله الآخر عنه عليه السّلام في الإنكار على عمر حين أفتى بالمسح على الخفين لدعوى أن النبي صلّى الله عليه وآله مسح ، حيث قال عليه السّلام : «قبل المائدة أو بعدها؟ قال : «لا أدري. قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفين» (٢).

لوضوح أن أصالة الظهور وعدم النسخ والتخصيص من الاصول العقلائية ، فإنكار العمل بالكتاب من دون معرفة تامة به ولا معرفة المنسوخ والخاص ظاهر في لزوم استفراغ الوسع في مقام الاستنباط وعدم الجري بدونه على مقتضى الدليل الواصل.

نعم ، هذه النصوص مختصة بالكتاب فاستفادة حكم غيره مبني على إلغاء خصوصية موردها. فلتكن مؤيدة للمدعى. فلاحظ.

الرابع : ما تضمن الأمر بطلب العلم ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٣).

ودعوى : أنه وارد لوجوب الاجتهاد كفائيا ، لا لوجوب تعلم الأحكام عينا الذي هو محل الكلام.

مدفوعة : بأن وجوب الاجتهاد كفائيا لأجل الإنذار راجع إلى تكليف الكل بتحصيل من يعلّم الجاهل منهم ، وهو راجع إلى وجوب التعلم على الكل عينا إما اجتهادا أو تقليدا. فلاحظ.

ومثله في الدلالة على وجوب التعلم قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥.

(٢) تفسير العياشي تفسير سورة المائدة حديث : ٤٦ ج ١ ص ٢٩٧.

(٣) سورة التوبة : ١٢٢.

٤٠٣

كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) والنصوص الكثيرة الواردة في تفسير الآيتين وغيرها مما تضمن وجوب طلب العلم ، والحث على السؤال ، والذم بتركه ، والأمر بمذاكرة الروايات على اختلاف ألسنتها (٢).

ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنه يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل فلا عملت ، وإن قال : لا ، قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل (٣).

وما ورد في المجدور والجريح يجنب فيغسّل فيموت ، من استنكار عدم السؤال ، وفي بعضها : «قتلوه قتلهم الله إنما كان دواء العي السؤال» (٤).

وما ورد في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء مستحلا له لأنه لم يأته ، وإنما سمعه ، حيث أنكر عليه السّلام عليه محتجا بقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٥) ، ثم قال : «قم فاغتسل وصل ما بدا لك ، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك» (٦).

فإن الظاهر من جميع ذلك وجوب التفقه في الدين ، ومقتضى المناسبات الارتكازية وسياق جملة من النصوص بل صريح بعضها كون وجوبه طريقيا في طول التكاليف الواقعية ، لأجل حفظها والقيام بمقتضاها ، ولذا لا يجب في غير الأحكام الإلزامية ولا فيها مع عدم فوت الواقع ، لعدم الابتلاء بها أو للاحتياط

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٤ ، ٧ ، ٨ ، ١١ من أبواب صفات القاضي واصول الكافي ج ١ كتاب العلم.

(٣) ...

(٤) الوسائل ج : ٢ ، باب : ٥ من أبواب التيمم حديث : ٦ وفي الباب نصوص أخر تتضمن له ذلك.

(٥) سورة الاسراء : ٢٦.

(٦) الوسائل ج : ٢ باب : ١٨ من أبواب الاغسال المستحبة المسنونة حديث : ١.

٤٠٤

فيها ، ومرجع الوجوب الطريقي إلى أن الواقع مورد للمسئولية ولا يكون الجهل به عذرا إذا استند للتقصير في الفحص.

وحيث كان مفادها وجوب الفحص المتعلق بعمل المكلف الدخيل في حفظ تكاليفه كان مقتضى إطلاقها وجوبه حتى في مورد الدليل المعتبر في نفسه إذا احتمل تبدل مقتضى الوظيفة بالفحص ، ولا يختص بصورة فقد الدليل. لصدق السؤال والتعلم والتفقه في الدين ونحوها من العناوين المأخوذة في الأدلة عليه ، بل هو صريح ما ورد في المجدور ، لوضوح كون التغسيل مقتضى عموم وجوب غسل الجنابة ، ومشروعية التيمم مع المرض من سنخ المخصص له.

ولازم ذلك قصور إطلاقات أدلة الحجج والاصول عن صورة عدم الفحص.

نعم ، يشكل شمولها للفحص عن المعارض المعادل للدليل الواصل ، أما بناء على التخيير بين المتعارضين فظاهر ، للعلم بجواز العمل بالدليل الواصل ، وأما بناء على تساقطهما والرجوع لما يترتب عليهما من الأدلة أو الاصول فلعدم صدق التعلم والتفقه عليه بعد عدم صلوحه لتشخيص الوظيفة وإن كان العثور عليه موجبا لانقلابها.

كما أن ما تضمن الأمر بالسؤال ظاهر في إرادة السؤال الموجب للمعرفة ، فلا موضوع له مع عدم صلوح ما يحصل بالسؤال لتحقيقها.

ومثله ما تضمن الأمر بمذاكرة الروايات وأخذها.

ومن هنا يتعين الاستدلال على وجوب الفحص عن الدليل المعارض بناء على التساقط بالإجماع المتقدم ، وبما تقدم في المسألة السادسة من أن التمسك بعموم حجية الدليل الواصل مع احتمال المعارض تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

٤٠٥

هذا ، إذا كان الفحص لعمل المكلف الفاحص ، أما إذا كان للفتوى بمضمون الدليل الواصل أمكن الاستدلال عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ بالنصوص المتقدمة في الوجه الثالث ، بل يمكن الاستدلال عليه أيضا بذلك حتى بناء على التخيير مع التعادل ، كما يظهر بالتأمل.

هذا ، وقد يدعى امتناع حمل أدلة وجوب التعلم على الوجوب الطريقي الراجع إلى عدم معذرية الجهل ، لشمولها لما إذا وقع العمل غفلة عن احتمال الحرمة ، بل قد يكون هو المتيقن من مواردها ، س فتنافي حكم العقل بقبح عقاب الغافل ، كما أنها تشمل التكاليف الموقتة التي لا تكون فعلية قبل الوقت ، ليجب تعلمها طريقيا ، ولا يمكن تعلمها بعد الوقت ، لضيقه عنه.

ومن هنا يتعين حملها على الوجوب النفسي المطلق غير الموقت ، فيكون العقاب على ترك التعلم بنفسه ، لفعلية التكليف به والقدرة عليه قبل الوقت ، كما حكي عن الأردبيلي وصاحب المدارك.

فلا ينافي معذرية الجهل من التكاليف الواقعية ولا تنهض أدلة وجوب التعلم بتقييد أدلة الطرق والاصول.

لكنه يندفع : بالمنع من حكم العقل بقبح العقاب مع الغفلة أو التعذر إذا كانا مستندين لاختيار المكلف وتقصيره ولو لعدم حفظه القدرة قبل دخول الوقت ، نظير ما يذكر في موارد المقدمات المفوتة.

على أن حمل الأدلة المتقدمة على وجوب التعلم نفسيا ـ مع إباء سياقها عنه ـ مستلزم إما لحملها على الاكتفاء بمسمى التعلم ولو لحكم واحد ، وهو خلاف المقطوع به منها ، أو على تعلم جميع الأحكام الإلزامية ولو مع عدم توقف حفظ الواقع عليه للاحتياط في العمل ، أو لعدم الابتلاء بالحكم ، بل الأحكام غير الإلزامية أيضا ، لصدق التفقه في الدين بذلك.

كما أن لازمه كون اختلاف التكاليف الفائتة ـ سبب ترك التعلم ـ في

٤٠٦

الأهمية غير دخيل في قدر العقاب ، لفرض عدم كون العقاب عليها ، ولا يظن من أحد البناء على جميع ذلك.

ودعوى : أن عدم البناء عليه للإجماع لا لورود الأدلة للوجوب الطريقي.

مدفوعة : بأنه لا منشأ للإجماع ـ لو تم ـ إلا الارتكازات الصالحة للقرينية على حمل الأدلة على الوجوب الطريقي.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في ما ذكرنا من كون وجوب التعلم طريقيا مانعا من الرجوع للأصول والأدلة الواصلة ، كما هو ظاهر الأصحاب.

بقي في المقام امور :

الأول : الظاهر عدم وجوب الفحص عن الدليل الموافق للدليل الواصل ، سواء كان في رتبته أم لا ، كالأصل مع الدليل ، لقصور جميع الوجوه المتقدمة عنه بعد عدم الأثر له في مقام العمل ، فلا دخل له في حفظ الواقع ، ليجب وجوبا طريقيا في طوله.

الثاني : الظاهر أن الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار الموجب لليأس من كون استمرار الفحص موجبا للظفر بالدليل ، وإن أمكن حصوله صدفة بوجه غير محتسب ، قد يحصل مع الفحص وبدونه.

أما فيما إذا لم يكن لدليل حجية الطريق الواصل إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص ، كبعض الطرق العقلائية ، فلاكتفاء العقلاء بالفحص بالمقدار المذكور بلا إشكال.

وأما فيما إذا كان له إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص فلقصور الوجوه السابقة عن إثبات وجوب ما زاد على ذلك. أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي فلما عرفت من أن المتيقن إجمالا هو وجود الأدلة التي يتوقف العثور عليها على الفحص ، وأما ما زاد على ذلك مما لا يتوقف على الفحص فالعلم بوجوده في موارد الأدلة التي يعثر عليها بالفحص لو تم لا أثر له في المنجزية ،

٤٠٧

والعلم بوجوده في غيرها غير حاصل ، ليكون منجزا في المقام ومانعا من الرجوع للطرق والاصول الواصلة.

وأما النصوص فلورود جملة منها مورد الإنكار على ترك الفحص ، والمنصرف منه مورد التقصير العرفي في تركه للاعتداد باحتمال الاطلاع بسببه على الواقع ، ولا يشمل فرض اليأس من ذلك.

وكذا الحال في ما أطلق فيه وجوب التعلم والتفقه والسؤال ، لما هو المرتكز في أذهان العرف من عدم فعل هذه الامور إلا برجاء تحصيل العلم ، لا مع اليأس من حصوله بسببها ، وإن احتمل حصوله بوجه غير محتسب.

والظاهر أن سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال والاستنباط على ذلك لا على حصول العلم أوس الاطمئنان بعدم الدليل ، إذ قد لا يتيسر ذلك. مع أنه لا دليل عليه.

نعم ، لو اريد الاطمئنان بعدم العثور على الدليل بالفحص كان راجعا لما ذكرنا. فلاحظ.

الثالث : لو تعذر الفحص لفقد المكلف لمقدماته فالظاهر عدم جواز الرجوع للطرق والاصول الترخيصية ، للأدلة المتقدمة.

أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي فلعدم دخل القدرة في أطرافه.

وأما النصوص وغيرها مما دل على وجوب طلب العلم فهي ظاهرة في توقف العمل على الفحص مع تحقق موضوعه ، ولا يرتفع موضوعه بفقد مقدماته ، بل باليأس من ترتب العثور على الدليل بسببه.

الرابع : أشرنا آنفا إلى أن وجوب الفحص لما كان طريقيا لحفظ التكاليف الواقعية فلا مجال مع عدم فوتها ، لعدم الابتلاء بالتكليف أو للاحتياط فيه عند الابتلاء به.

كما لا إشكال في وجوبه مع العلم بالابتلاء به ، فإن علم بالقدرة عليه بعد

٤٠٨

الوقت جاز تأخيره ، وإلا وجب تقديمه على الوقت لحفظ التكليف في وقته ، نظير المقدمات المفوتة ، كما سبق.

أما مع احتمال الابتلاء فالظاهر وجوب الفحص ، لا للعلم الإجمالي ، لعدم صلوحه لتنجيز احتمال المخالفة مع عدم إحراز الابتلاء بالتكليف ، بل لأدلة وجوب التعلم والتفقه ، لشمول العناوين المأخوذة فيها من التعلم والتفقه والسؤال للتكليف المذكور مع عدم محذور من شموله ، لأن وجوب التعلم لما كان طريقيا كفى في تحقق موضوعه وإمكانه الخوف من فوت الواقع بسبب الجهل ، سواء أحرز الابتلاء أم لم يحرز.

وأما استصحاب عدم الابتلاء فالظاهر عدم جريانه في نفسه ، لعدم أخذ الابتلاء في موضوع وجوب الفحص شرعا ، وإنما يقصر إطلاقه عن شمول صورة العلم بعدم الابتلاء لبا بنتيجة التقييد ، لعدم الموضوع له معه ، كما يقصر عن شمول العلم بعدم فوت الواقع بدونه ، للاحتياط أو لمصادفة الموافقة ، والمفروض عدم العلم به ودخوله في إطلاق الأدلة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (دامت بركاته) من أنه لا مانع من جريان استصحاب عدم الابتلاء ، بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

فهو غير ظاهر ، لأن المبنى المذكور إنما يقتضي جريان استصحاب عدم الابتلاء إذا كان العلم بعدم الابتلاء مأخوذا بعنوانه وبما هو أمر وجودي في موضوع وجوب الفحص ، لا ما إذا كان شرطا فيه بنتيجة التقييد ، نظير ما سبق عند الشك في الاختلاف من المسألة السادسة.

وإلا لجرى ـ مع العلم بالابتلاء ـ استصحاب عدم مخالفة التكاليف الواقعية ، لما أشرنا إليه من عدم وجوب الفحص مع العلم بعدم مخالفتها.

ومثله ما ذكره من أن المانع من جريان الاستصحاب إطلاق أدلة وجوب التعلم. وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء مستهجن ، لندرتها ، فإن

٤٠٩

الغالب في مسائل الشكوك ونحوها احتمال الابتلاء.

للإشكال فيه : بأن مانعية الإطلاق من الاستصحاب إن كانت باعتبار حكومة الإطلاق على الأصل فلا مجال بعد التسليم بجريان الاستصحاب ، لقيامه مقام القطع الموضوعي ، لوضوح أن القطع بعدم الابتلاء رافع لموضوع وجوب الفحص ، كما سبق ، فيكون الاستصحاب مثله.

وان كان باعتبار تعذر تنزيل الإطلاق على صورة العلم بالابتلاء ، لندرته ـ كما لعله الظاهر من كلامه ـ فيكون الإطلاق نصا في صورة الشك ومخصصا لعموم دليل الاستصحاب ، فهو في غاية المنع ، لكثرة التكاليف التي يعلم بالابتلاء بها ، والتي يجب الفحص عنها ، وليس الإطلاق واردا في خصوص الشكوك ونحوها مما ادعى ندرة العلم بالابتلاء بها.

ودعوى : أنه لا مجال للعلم بالابتلاء غالبا ، لاحتمال الموت والمرض المانع من فعلية التكاليف ونحوهما.

مدفوعة : بعدم التعويل على احتمال ذلك ، بل مقتضى أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء إحراز الابتلاء.

ولو غض النظر عن ذلك فالمتيقن شمول الإطلاق للشك في الابتلاء من هذه الجهة ، لا من جميع الجهات ، ولو للشك في تحقق الموضوع ، الذي هو محل الكلام ظاهرا.

الخامس : أن أكثر الأدلة المتقدمة كما تجري في حق المجتهد في مقام الاستنباط لعمله وللفتوى ، تجري في حق العامي ، فليس له العمل بمقتضى الاصول أو غيرها إذا احتمل قيام الأدلة على خلافها ، بل يجب عليه الفحص عن مفاد الأدلة بالسؤال من المجتهد ، لثبوت الإجماع في حقه ، ولتحقق العلم الإجمالي بالإضافة إليه بوجود الأدلة التي يمكن الاطلاع على مفادها ولو بالرجوع للمجتهد. وإطلاق النصوص السابقة في الوجه الرابع ، لوضوح صدق

٤١٠

التفقه والتعلم والسؤال في حقه.

السادس : لما كان مقتضى وجوب الفحص هو عدم جواز الرجوع للطرق والاصول الترخيصة مع عدمه ، بل يلزم الاحتياط ، كان ترك الاحتياط والاكتفاء بموافقتها من أفراد التجري ، على ما سبق في التنبيه الثاني من مبحث التجري.

فيبطل العمل واقعا لو كان عباديا واحتمل تحريمه تكليفا ، لامتناع التقرب في مورد التجري.

وأما في غير ذلك فلا مجال للبناء على بطلانه واقعا إلا في العبادات بناء على اعتبار الجزم بالنية فيها ، الذي هو خلاف التحقيق. كما لا مجال للبناء على صحته ظاهرا ، فضلا عن صحته واقعا ، بل يلزم البناء على عدم إجزائه ظاهرا ، لعدم إحراز صحته. فلو احرز بعد ذلك مطابقته للواقع تعين البناء على صحته. وكذا لو انكشف مطابقته لمقتضى الحجة القائمة حين إرادة التدارك ، كما لو كان مقلدا لمن يقول بصحته.

وأما مطابقته للحجة القائمة حين صدوره دون الحجة القائمة حين إرادة التدارك ـ كما لو قلد حين العمل من يقول بصحته من دون أن يعلم بفتواه وعدل بعد ذلك لمن يقول ببطلانه ـ فهل يجب التدارك أو لا؟

الظاهر ابتناؤه على ما تقدم في المسألة الثامنة من عموم حجية الحجة المتأخرة للوقائع السابقة بنحو يستلزم سقوط حجية الحجة المتأخرة عنها وعدمه ، فيتعين الإجزاء على الثاني ، أما على الأول فاللازم التدارك.

ولا مجال لما تقدم من الاجتزاء بمتابعة فتوى من يجب الرجوع إليه مطلقا وصحته معها واقعا. لاختصاص الدليل عليه بالسيرة ، والمتيقن منها صورة اعتماد المكلف على الحجة حين العمل ، ولا يحرز ثبوتها فيما لو لم يعتمد عليها وإن طابقها.

ثم إنه لو دل الدليل على الاجتزاء بالعمل المخالف للواقع في حال الجهل

٤١١

ولو كان تقصيريا تعين البناء على ذلك ، وإن كان على خلاف الأصل ، كما في الاتمام في موضع القصر والاخفات في موضع الجهر وعكسه بل جميع موارد حديث : «لا تعاد الصلاة ...» (١) ، بناء على عمومه للجهل بالحكم ، وغيرها.

نعم ، وقع الإشكال بينهم في الجمع بين ذلك وبين وجوب الفحص عن الواقع في الأحكام المذكورة ، الراجع لاستحقاق العقاب بفوته مع التقصير في الفحص.

بدعوى : أن المأتي به في حال الجهل إن كان وافيا بغرض الواقع الأولي كان مثله طرفا للتكليف ، ولا مجال لتعيين الواقع ، لتبعية التكليف للغرض ، فلا يفوت معه المكلف به ، فضلا عن ملاكه ، ليستحق العقاب بفوته بسبب الجهل ، ويجب الفحص فرارا عن ذلك وإن لم يكن المأتي به وافيا بغرض التكليف امتنع إجزاؤه.

وقد أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تأخر عنه في حل الإشكال بما لا يسع المجال إطالة الكلام فيه بعد عدم التنافي بين الأمرين وإمكان الجمع بينهما ظاهرا ، لأن الإجزاء كما يمكن أن يكون لوفاء المأتي به حال الجهل بملاك الواقع الأولي ، أو لتبدل الملاك ، المستلزم لعدم العقاب ، كذلك يمكن أن يكون لمانعية المأتي به من استيفاء ملاك الواقع من دون أن يستوفى به ، كما لو تعلق الغرض باطعام اللحم ، فأطعمه التمر حتى أشبعه ، ولم يكن التمر مفيدا فائدة اللحم إلا أنه لما أوجب الامتلاء يتعذر إطعام اللحم واستيفاء فائدته.

وقد ذكرنا نظير ذلك في التنبيه الرابع من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.

السابع : لا يخفى أن الأدلة المتقدمة على وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع بدونه للطرق والاصول الترخيصية مختصة بالشبهات الحكمية.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٢ من أبواب الوضوء حديث : ٨.

٤١٢

ولازم ذلك جواز الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية من دون فحص لو اقتضاه عموم أدلتها كما هو الظاهر فيها كلها أو جلها ، بل بعضها صريح في ذلك ، كصحيحة زرارة الثانية المذكورة في أدلة الاستصحاب المتضمنة عدم وجوب النظر في الثوب الذي يحتمل إصابة النجاسة له (١) ، وما دل على أن من تزوج امرأة ليس عليه الفحص عن أن لها زوج حتى بالسؤال منها (٢) ، وعدم وجوب السؤال عن ذكاة الجلود المأخوذة من المسلمين (٣) ، بل تضمّن بعض النصوص إثارة الاحتمالات البعيدة ليتمسك بالأصل ظاهر في الاكتفاء بالاحتمال وعدم وجوب التروي لدفعه الذي هو أخف من الفحص الخارجي.

والظاهر عدم الخلاف فيه في الجملة ، بل ربما ادعي الإجماع عليه. وإنما أوجب الفحص في بعض الموارد بعض القدماء والمتأخرين لدعوى توقف العلم بالحكم فيها على الفحص غالبا ، كالشك في المسافة المقتضية للقصر والإفطار ، والاستطاعة المقتضية للحج ، والنصاب الزكوي والربح الذي يجب فيه الخمس.

إلا أنه يشكل : بأن الكاشف عن وجوب الفحص كون المورد مما يندر العلم بالحكم فيه من دون فحص عن الموضوع حيث يستفاد عرفا من تشريع الحكم وجوب الفحص عن موضوعه تبعا ، وهو غير لازم في الموارد المذكورة ، وإنما اللازم فيها كثرة توقف العلم بالاحكم على الفحص ، وهو غير كاشف عن وجوبه ، لعدم لغوية جعل الحكم بدونه بعد كثرة الموارد غير المحتاجة له أيضا.

وإلا لوجب الفحص في كثير من موارد الطرق والاصول ، كاليد التي هي أمارة على الملكية والسلطنة ويد المسلم التي هي أمارة على التذكية وأصالة

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ٣٧ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٤ باب : ٢٥ من أبواب عقد النكاح وآدابه ، وباب : ١٠ من أبواب المتعة.

(٣) راجع الوسائل ج : ٢ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات.

٤١٣

الطهارة واستصحابها ، ولا يمكن الالتزام بذلك بالنظر لأدلتها.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن مقتضى اهتمام الشارع بالحكم عدم رضاه بكثرة مخالفته واقعا ولو خطأ ، وهو مستلزم لإيجابه الفحص في الأحكام التي تكثر مخالفتها بدونه.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه : أنه إذا تمت مقدمات العلم بالواقع للمكلف ولم يحتج حصوله إلا لمثل النظر والسؤال ممن هو إلى جنبه فلا بد منه ولا يجوز الرجوع للأصل الترخيصي بدونه ، لعدم صدق الفحص عليه ، واستثنى من ذلك باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيه ، ووافقه على ذلك شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من دون أن يشير للاستثناء المذكور.

وهو كما ترى! لعدم أخذ عنوان الفحص في أدلة الاصول ، ليهتم بصدقه على مثل النظر ، بل ليس موضوعها إلا الشك وعدم العلم ، وهو حاصل مع عدم النظر أو نحوه. بل عرفت صراحة بعض النصوص في عدم وجوب النظر والسؤال.

وما ذكره شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من مناسبة ذلك للارتكاز ، ممنوع ، بل المرتكز كونه احتياطا غير لازم.

فلا مخرج عما ذكرنا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم ، ومنه نستمد العون ، والتوفيق ، والعصمة ، والتسديد. والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إلى هنا انتهى الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد ، خاتمة لمباحث الاصول ، عصر الجمعة ، التاسع من شهر جمادى الاولى ، سنة ألف وثلاثمائة وتسع وتسعين لهجرة سيد المرسلين ، عليه وآله أفضل الصلوات ، وأزكى التحيات.

٤١٤

في النجف الأشرف ، ببركة الحرم المشرّف ، على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى محمد سعيد عفي عنه ، نجل العلامة الجليل ، حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).

ونسأله سبحانه أن يوفقنا جميعا لشكر نعمه ، ويتمها بالتوفيق للجد والاجتهاد في العلم والعمل ، مع القبول وخلوص النية ، وترتب نفع المؤمنين ، إنه أرحم الراحمين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ، ونعم النصير.

كما انتهى تبييضه بعد إعادة النظر فيه ، وتدريسه بقلم مؤلفه الفقير ليلة الأربعاء الرابع عشر من الشهر المذكور حامدا مصليا مسلما.

٤١٥
٤١٦

الفهرس

٤١٧
٤١٨

المقصد الثالث في التعارض

المعنى اللغوي للتعارض............................................................. ٩

المعنى الاصطلاحي للتعارض...................................................... ١١

لابد من تمامية موضوع الحجية في كلا المتعارضين ، فلا تعارض مع

رفع أحدهما لموضوع الحجة في الآخر ، كما في موارد الجمع العرفي...................... ١٥

لابد في التعارض من تنافي مؤدى الدليلين ، مع بيان ضابطه.......................... ١٧

الفرق بين التعارض والتزاحم...................................................... ٢١

الكلام في توقف التزاحم على تعذر امتثال التكليفين معا............................. ٢٣

هل يجتمع التعارض والتزاحم في مورد.............................................. ٢٤

حقيقة التزاحم الحكمي والملاكي والفرق بينهما...................................... ٢٧

وجه الترجيح بالأهمية والتخيير مع المساوي في التزاحم الحكمي........................ ٣٥

تحديد مورد التزاحم الحكمي...................................................... ٣٧

الكلام في اجتماع الأمر والنهي................................................... ٤١

قاعدة الجمع أولى من الطرح...................................................... ٤٢

منهج البحث.................................................................. ٤٣

الباب الأول : في الأدلة التي يكون لبعضها دخل في العمل بالآخر

بلا تمانع في مقام الحجية ، وفيه مقامان............................................ ٤٥

المقام الأول : في اقسام النسب ، وفيه فصول....................................... ٤٧

الفصل الأول : في التخصص والورود.............................................. ٤٨

٤١٩

توارد الحكمين مع الكلام في الترجيح بينهما بالسبق الزماني........................... ٥٢

الفصل الثاني : في الحكومة ، مع الكلام في تحديدها................................. ٥٩

الحكومة البيانية والحكومة العرفية ، ووجه تقديم الدليل الحاكم فيها..................... ٦٤

هل يتوقف تقديم الحاكم على أقوانية دلالة من المحكوم؟............................. ٦٩

هل يسري إجمال الحاكم للمحكوم؟............................................... ٦٩

تختص الحكومة بالأدلة اللفظية................................................... ٧١

الفصل الثالث : في الجمع العرفي.................................................. ٧٣

المدار في انعقاد الظهور على فراغ المتكلم من كلامه

لاعلى استيجاب القرائن المتفضلة من دون فرق بين كلام الشارع وغيره................. ٧٣

الجمع العرفي بين الكلامين والدليل على لزوم العمل به............................... ٧٧

المعيار في الجمع العرفي على إقوائية الظهور.......................................... ٧٨

مع تنافي صدر الكلام وذيله هل يتقدم ظهور الصدر أو الذيل؟....................... ٨١

تحديد موارد الجمع العرفي........................................................ ٨٢

هل يتعين الجمع العرفي مع احتمال النسخ؟ وبيان خصوصية

الظهورات الشرعية في ذلك...................................................... ٨٣

تقديم أصالة الصدور على أصالة الظهور........................................... ٨٧

تعارض العموم الوضعي والإطلاقي................................................ ٨٩

تعارض الاطلاق الشمولي والبدلي................................................. ٩٢

الكلام في انقلاب النسبة بين الظهورين بسبب ظهور ثالث........................... ٩٦

فروض انقلاب النسبة وصوره المذكورة في كلماتهم.................................. ١٠٠

المقام الثاني : في مراتب الأدلة.................................................. ١٠٩

تقديم الطرق والأمارات على الأصول............................................. ١١١

هل يجري الأصل الموافق للأمارة أو الطريق؟....................................... ١١٥

إذا لم يكن لدليل حجية الطريق إطلاق يشمل مورد الأصل......................... ١١٦

٤٢٠