المحكم في أصول الفقه - ج ٦

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٥

إليه هنا من اختصاص الوجه المذكور بالاستصحاب.

الثاني : ما يظهر من غير واحد من تقريب حكومة الأصل السببي على المسببي على اختلاف منهم في وجوه تقريبها ..

أولها : ما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي لكلام بعض الأعاظم قدّس سرّهما من دعوى : أن الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ـ وهو الشك ـ في عالم التشريع ، لأن التعبد بمؤدى السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك في مورد المسببي ، لأن التعبد بالشيء يقتضي التعبد بأثره ، ولا معنى له إلا ذلك ، بخلاف التعبد بمؤدى المسببي ، فإنه لا يقتضي ذلك مطابقة ، بل بضميمة الملازمة بين الأثر وموضوعه ، ولا أثر لها إلا بناء على حجية الأصل المثبت.

فارتفاع موضوع السببي بالمسببي ـ مع ابتنائه على حجية الأصل المثبت المعلوم عدمها ـ موقوف على بقاء موضوعه معه ، وقد فرض عدمه وأن ارتفاعه به مقتضى مدلوله المطابقي ، ولا يكفي فيه البناء على حجية الأصل المثبت ، لوضوح أن حجية الأصل في لازم مؤداه فرع جريانه في نفسه وتحقق موضوعه.

لكن لا يخفى أنه مبني ..

أولا : على كفاية الالغاء والرفع الشرعي التعبدي في الحكومة.

وثانيا : على أن مفاد الأصول التعبدية والإحرازية إلغاء الشك شرعا بمعنى رفعه تعبدا.

وقد تقدم في آخر الكلام في الحكومة الكلام في الأول.

كما تقدم في مبحث القطع الموضوعي إنكار الثاني ، وأنه ليس مفادها إلا عدم العمل بأحد طرفي الشك في ظرف وجوده ، وهو لا يكفي في الحكومة ، لوضوح أن كلا التعبدين السببي والمسببي يقتضي العمل على خلاف ما يقتضيه الآخر ، من دون مرجح لأحدهما بعد تحقق موضوعهما ، وهو الشك.

وبالجملة : بعد فرض بقاء موضوع كلا الأصلين ـ وهو الشك ـ كما ذكرنا

١٢١

يدور الأمر بين إلغاء السببي في بعض آثاره وإلغاء المسببي بالمرة ، وتعيين الثاني يحتاج إلى مرجح.

على أن ما ذكره من عدم جريان المسببي حتى بناء على حجية الأصل المثبت في غاية المنع ، إذ لو فرض حجية الأصل المثبت فكل من الأصلين متحقق الموضوع مع قطع النظر عن الآخر ، فيجري في نفسه ويرفع موضوع الآخر ، ويكون من موارد توارد الأصلين ، ولا وجه لفرض جريان السببي أولا ورفعه لموضوع المسببي ، لعدم تعرضه لمرجح له.

وكون التعبد بالأثر مقتضى المدلول المطابقي للأصل السببي ـ مع عدم وضوحه في نفسه ـ لا يصلح مرجحا بعد فرض حجية الأصل في المدلول المطابقي والالتزامي معا.

كما أن مجرد الترتب شرعا بين موردي الشك في السببي والمسببي لا يقتضي الترتب بينهما في الدخول تحت عموم دليل الأصل ، لوضح أن الترتب بين الشيئين لا يقتضي الترتب بين الشكين المتعلقين بهما اللذين هما الموضوعان للأصلين الجاريين في كل منهما ، بحيث يكون الشك في السبب سابقا رتبة على الشك في المسبب ليكون سابقا عليه في الدخول تحت عموم الأصل ، بل هما متلازمان ، كالعلم بكل منهما ، بل قد يكون العلم بالمسبب علة للعلم بالسبب وسابقا عليه رتبة. فلاحظ.

ثانيها : ما يظهر من تقرير بعض مشايخنا لكلامه ، من دعوى : أن الأصل السببي رافع حقيقة لا تعبدا لما هو الموضوع للأصل المسببي في لب الأمر والواقع.

بدعوى : أن موضوع الأصل ليس هو الشك بما هو صفة خاصة ، بل من حيثية كونه موجبا للتحير والتردد والوقفة ، ومع التعبد بالمشكوك بمقتضى الأصل السببي تتعين الوظيفة العملية ويرتفع التحير الذي هو الملاك في

١٢٢

موضوعية الشك ، فالأصل السببي وإن لم يرفع الشك بذاته ، إلا أنه يرفع قيده وملاك موضوعيته للأصل حقيقة.

وفيه : أنه إن رجع ذلك إلى كون موضوع الأصل حقيقة هو التحير المسبب عن الشك والمصاحب له طبعا ، لا نفس الشك ، فلا يبقى مع بيان الوظيفة العملية وارتفاع التحير بمقتضى الأصل السببي ، وإن بقي الشك.

فهو خروج عن ظهور الأدلة في كون الموضوع هو مجرد الشك وعدم العلم ، المستلزم لعدم حجية ما عداه ، ولذا ذكرنا في محله أن مقتضى أدلة الأصول عموم عدم حجية غير العلم ، بل هو خلاف ما اعترف به في بعض كلماته من أن ظاهر دليل الاستصحاب انحصار الناقض لليقين باليقين ، وأن المراد بالشك مطلق عدم اليقين.

وإن رجع إلى أن الموضوع هو الشك بنفسه ، لكن لا بما هو صفة خاصة ، بل من حيثية عدم صلوحه لرفع التحير ، نظير ما يذكر في القطع الموضوعي من أنه قد يؤخذ بما هو طريق ، لا بما هو صفة خاصة.

فمن الظاهر أن بيان الوظيفة العملية بالأصل السببي لا يوجب صلوح الشك في مورد المسببي لرفع التحير ، لوضوح أن ارتفاع التحير حينئذ بدليل الأصل المذكور لا بمحض الشك المفروض بقاؤه.

على أن هذا خروج عن مصطلحهم في الحكومة ، بل مخالف لضابط الحكومة في الأحكام الواقعية عنده ، حيث اعتبر فيها ارتفاع الموضوع تعبدا لا حقيقة ، بل هو بل هو من الورود ، بناء على ما سبق من أن المعيار فيه ارتفاع الموضوعي اللبي ، لا ارتفاع عنوانه الذي تضمنته الأدلة اللفظية ، وإن حاول قدّس سرّه الفرق بين ما ذكره هنا وبين الورود بما لا يهم التعرض له لعدم المشاحة في الاصطلاح.

ثالثها : ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الأصل السببي وإن لم يكن رافعا لموضوع الأصل المسببي وهو الشك ـ لا حقيقة ، ولا تعبدا ولا

١٢٣

تنزيلا ـ إلا أنه حاكم عليه بملاك النظر ، الذي هو المعيار في الحكومة مطلقا ، لأن التعبد بالموضوع بمقتضى الأصل السببي ناظر لإثبات آثاره التي هي مؤدى الأصل المسببي ، بخلاف التعبد بالأثر بمقتضى الأصل المسببي ، فإنه لا يتكفل بالنظر للتعبد بالموضوع ، ولا ينفي نظر الأصل السببي لمؤداه.

وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا في ما إذا لم يكن الأصل السببي إحرازيا ـ كأصالة الطهارة ـ حيث لا إشكال عنده في عدم تكفله بإلغاء الشك تعبدا ، وإنما يختص ذلك عنده بما إذا كان إحرازيا ، فيجري فيه ما تقدم في الوجه الأول.

ويندفع : بأن ملاك الحكومة هو النظر للدليل أو لمؤداه ، حيث يكون منشأ لحكومة الناظر على ذلك الدليل في الأول حكومة بيانية ، وفي الثاني حكومة عرفية ، كما سبق ، والأصل السببي الجاري في الموضوع المقتضي للتعبد بآثاره لو كان ناظرا لتلك الآثار فهو حاكم على أدلتها الواقعية لا على دليل التعبد الظاهري بها ، الذي هو مفاد الأصل المسببي ، لعدم نظره لنفس التعبد ولا لدليله ، وإنما يكون منافيا له ، لامتناع التعبد بالمتنافيين ، وهو لا يقتضي الحكومة ، بل محض المعارضة.

وبعبارة اخرى : التعبد بالموضوع لو اقتضى النظر فهو يقتضي النظر لآثاره الواقعية ـ التي هي مفاد أدلتها الواقعية ـ والتعبد بها ، لا النظر للتعبد الظاهري بالآثار المذكورة ، الذي هو مفاد الأصل المسببي.

ولعل الأولى في وجه تقديم السببي على المسببي الرجوع إلى ما سبق في تقريب تقديم الطرق على الاستصحاب وغيره من الأصول.

توضيحه : أن المسببي إن كان استصحابا فقد سبق في وجه تقديم الطرق والأمارات على الاستصحاب أن دليل الاستصحاب المتضمن عدم نقض اليقين بالشك إنما يقتضي عدم صلوح الشك بنفسه لرفع اليد عن مقتضى اليقين

١٢٤

السابق ، لا عدم نقض اليقين بغير الشك مما قارنه ، ورفع اليد في مورد المسببي عن مقتضى اليقين السابق ليس بمحض الشك ، بل بالأصل السببي المبتني على خصوصية زائدة على الشك مقارنة له صالحة للعمل ، وقد سبق هناك ما يتعلق بذلك من النقض والإبرام. فراجع.

ومن ذلك يظهر عدم الفرق في السببي بين الاستصحاب وغيره ، كقاعدة الطهارة ، لأن غير الاستصحاب ـ أيضا ـ يبتني في مورد المسببي على خصوصية زائدة على الشك مقارنة له هي التي يكون بها نقض اليقين.

فهو وإن لم يكن إحرازيا بالإضافة لمضمونه ، للحكم به بمجرد الشك الذي لا اقتضاء له في الإحراز إلا أنه إحرازي بالإضافة لأثره في مورد المسببي ، لابتنائه على خصوصية زائدة على الشك صالحة للإحراز ، وهي القياس الناشئ من ضم الصغرى المتعبد بها بالأصل السببي للكبرى الشرعية.

وإن لم يكن المسببي استصحابا فمقتضى دليله وإن كان هو التعبد بمضمونه بمجرد الشك الشامل لحال تحقق موضوع الأصل السببي ، إلا أن التعبد بمقتضى السببي في مورده لما كان مبنيا على خصوصية زائدة على الشك مقتضية له كانت نسبته للمسببي نسبة الحكم الثابت بالعنوان الثانوي الاقتضائي للحكم الثابت بالعنوان الأولي اللااقتضائي ، نظير ما سبق منا في الوجه الأول للجمع العرفي في توجيه تقديم الطرق والأمارات على الأصول غير الإحرازية.

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في ارتكاز تقديم السببي عرفا في مقام إعمال الأدلة الواردة في مقام التعبد ، حيث لا يلتفت العرف إلى تطبيق الأدلة المذكورة على نفس الأثر في مقابل تطبيقها على موضوعه ، بل يكون تقدم الموضوع على أثره طبعا في مقام الثبوت منشأ لتقدم التعبد به على التعبد به في مقام الإثبات بحيث يستغني به عنه لو كان موافقا ، ويقدم عليه لو كان مخالفا. ومن ثمّ كان مفروغا عنه بينهم ، بحيث لو خرج عنه لزم تأسيس فقه جديد.

١٢٥

ثم إنه لو كان ملاك تقدم السببي على المسببي وروده عليه أو حكومته عليه بملاك رفع الموضوع حقيقة أو تعبدا أو تنزيلا فلا مجال لجريان المسببي حتى لو كان موافقا للسببي ، لعدم الموضوع له معه ، نظير ما سبق في تقديم الطرق والأصول غير الإحرازية.

أما بناء على ما ذكرنا فاللازم الاقتصار في التقديم على صورة الاختلاف بينهما عملا أما مع الاتفاق بينهما فيجريان معا ، لتحقق موضوعيها. وإن كان الاعتماد على السببي أولى ارتكازا.

أما إذا كان المسببي استصحابا فلأن الاعتماد في إحراز بقاء الشيء على ما يحرز عدم ارتفاعه ـ وهو السببي ـ أولى من الاعتماد فيه على عدم إحراز ارتفاعه في فرض أنه من شأنه البقاء ـ كما هو مفاد المسببي ـ لأن نسبة الأول للثاني نسبة المقتضي للامقتضي.

وأما إذا لم يكن استصحابا فلأن الاستناد في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته المحرز له ـ وهو السببي الذي عرفت أنه إحرازي في مورد المسببي مطلقا ـ أولى من الاستناد فيه إلى عدم المقتضي لإحراز خلافه.

نعم ، لو أبتلي الأصل السببي الموافق للمسببي بمعارض يمنع من جريانه لم يكن المسببي طرفا للمعارضة معه ، بل يكون مرجعا بعد تساقط السببيين ، لما هو المرتكز من أن التصادم إنما يكون بين المقتضيين ، ولا يكون اللامقتضي الموافق لأحدهما عملا طرفا للمصادمة معهما ، كما ذكرنا نظيره بتوضيح في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة تقديم الطرق والأمارات على الأصول غير الإحرازية. فراجع وتأمل.

١٢٦

تتميم

لا يخفى أن تعارض التعبدين الظاهريين الموجب لتساقطهما إنما يقتضي الرجوع للثالث إذا كان متأخرا عنهما رتبة ، كالأصلين عند تعارض الأمارتين ، والأصل غير الإحرازي عند تعارض الإحرازيين.

أما إذا كان في رتبتهما فالمتعين كونه طرفا للمعارضة معهما ، فإن كان موافقا لأحدهما كان المورد من موارد معارضة الدليلين للدليل الواحد ، وإن خالفهما معا كان من موارد تعارض أكثر من دليلين ، لمشاركته لهما في الدخول تحت عموم دليل التعبد لو لا المعارضة ، وفي كونه طرفا لها بالنحو المانع من شمول دليل الحجية له معهما ، بل يقصر عن الكل ، فلا بد من جريان حكم المعارضة من الترجيح أو التخيير أو التساقط ، والرجوع للتعبد المتأخر عنها رتبة. ولا وجه لانحصار التعارض بهما ويكون الثالث مرجعا في فرض تساقطهما.

لكن لا إشكال ظاهرا بين أهل الاستدلال ـ تبعا للمرتكزات ـ في كون العام مرجعا مع تعارض الخاصين وتساقطهما ، مع مشاركته لهما في ملاك الحجية وهي الظهور ، وفي كونه من الطرق التي هي في مرتبة واحدة ، كما تقدم.

وربما علل ذلك بأقوائية ظهورهما من ظهوره ، بأن يكون المعيار في خروج الثالث عن التعارض ومرجعيته بعد سقوط المتعارضين كونه أضعف ظهورا منهما ، فيكون متأخرا رتبة عنهما ، حيث يلزم تنزيله على ما هو الأقوى دلالة لو عارضه ، فيكون ملاك الترتب في المقام أقوائية الظهور. فمثلا : لو تعارض دليلان نصان في الوجوب وعدمه ، وكان هناك دليل ظاهر فيه ، كان هو المرجع بعد تساقطهما ، لا طرفا للمعارضة معهما.

ويشكل : بأن تاخر الأضعف دلالة على الأقوى رتبة ولزوم حمله عليه إنما يكون عرفا من باب ترجيح أقوى الحجتين وقرينية الأظهر على الظاهر في

١٢٧

الكشف عن مراد المتكلم ، وهو إنما يكون مع حجية الأقوى في نفسه ، ومع معارضته بمثله لا وجه للحكم بحجيته ، بل هو كالأضعف داخل في عموم حجية الظهور لو لا المعارضة ، وخارج عنه بملاحظتها. على أن المعيار المذكور بعيد عن المرتكزات وعن سيرة أهل الاستدلال.

ولا يبعد أن يكون المنشأ في خصوصية العام ومرجعيته بعد تساقط الخاصين أن تميزهما عنه ليس بمحض أقوائية الظهور ، بل بدلالتهما على خصوصية زائدة على مفاده ، وهي خصوصية موردهما في ثبوت الحكم وعدمه ، لا من حيثية كونه فردا للعام ، فمع تكاذبهما في ذلك وسقوطهما بالمعارضة لا يبقى مخرج عن مفاده ، وهو ثبوت الحكم في موردهما من حيثية كونه فردا للعام ، بل يبقى على حجيته في ذلك. فلاحظ.

ثم إن الكلام في مرجعية العام أو غيره من الأدلة مع تعارض الدليلين المساويين لهما في الرتبة إنما هو في فرض اقتضاء التعارض التساقط ـ الذي يأتي أنه الأصل في المتعارضين ـ أما في فرض عدم اقتضائه لذلك ، إما للبناء على التخيير ، أو لكون الثالث مرجحا لأحد المتعارضين ، كموافقة الكتاب الشريف في تعارض الخبرين فلا موقع لما سبق ، حيث يكون أحد المتعارضين بنفسه مرجعا في المورد.

١٢٨

الباب الثاني

في الأدلة المتعارضة

وهي التي يكون تعارضها بلحاظ عموم دليل الحجية ، لتنافي مفادي الدليلين مع تمامية عموم دليل التعبد في كل منهما.

ولا يكفي فيه تنافي مضمونيهما إذا استلزم قصور عموم دليل الحجية عن أحدهما بخصوصه ، كما في موارد الجمع العرفي ، بل يدخل ذلك في الباب الأول ، كما سبق.

وينبغي تقديم امور تنفع في المقام ..

الأمر الأول : أن الكلام يجري في كل تعبدين متنافيين في مقام العمل ـ كما سبق في الأمر الرابع من التمهيد لبحث التعارض ـ من دون فرق بين الأدلة الاجتهادية والأصول العملية ، ولا يختص بالاولى ، فضلا عن أن يختص بالأخبار ، وإن اختصت بها بعض الأحكام تبعا لاختصاص أدلتها بها.

نعم ، لما كان منشأ استفادة التعبد الظاهري من الأصل منحصرا بتطبيق عموم دليل التعبد به على المورد كان مرجع التعارض بين الأصلين إلى التعارض في تطبيق عموم دليل التعبد ، وينحصر علاجه برفع اليد عن أحد التطبيقين الراجع إلى تخصيص عموم دليل التعبد.

أما الدليل الاجتهادي فحيث كانت استفادة التعبد الظاهري منه مبتنية على كل من أصالة الصدور والظهور والجهة ، كان مرجع التعارض بين الدليلين

١٢٩

الاجتهاديين إلى التعارض بين الأصول المذكورة بمجموعها في كل منهما ، ويمكن علاجه برفع اليد عن أحدها في أحد الدليلين.

ومن ثمّ اختلفت المرجحات المذكورة في النصوص سنخا.

ومنه يظهر أنه يمكن فرض التعارض في الدليل المقطوع صدورا أو دلالة أو جهة ، فإن القطع من بعض الجهات إنما يمنع من جريان الأصل الجاري في تلك الجهة ، فينحصر التعارض في الجهات الأخر.

نعم ، يمتنع فرضه في الدليل القطعي المضمون ، والذي يكون قطعيا من جميع الجهات المذكورة ، لاستحالة جعل الحجة في قبال القطع ، كما يستحيل القطع بالمتنافيين ، ومن ثمّ لا تكون الأدلة اللبية معارضة بمثلها ولا بغيرها.

الأمر الثاني : أنه لا يعتبر في دخول الأدلة اللفظية في محل الكلام تعذر الجمع بينها لنصّيتها ، بل يكفي عدم وضوح كيفية الجمع وإن كان ممكنا بنظرهم ، لإمكان حمل كل منهما بنظرهم على ما لا ينافي الآخر.

وبعبارة اخرى : تعارض الدليلين يكون ..

تارة : مع وضوح كيفية الجمع بينهما للعرف ، كالعام والخاص.

واخرى : مع تعذره بنظرهم ، لنصّية كل منهما في خلاف مفاد الآخر.

وثالثة : مع إمكانه بنظرهم ، من دون أن يتضح وجهه عندهم ، بل يتردد بين وجهين أو أكثر ، كالعامين من وجه.

ولا إشكال في خروج الأول عن محل الكلام ودخوله في الباب الأول ، كما سبق في بحث الجمع العرفي.

كما لا إشكال في دخول الثاني في محل الكلام. وهو الظاهر في الثالث أيضا ، لأن توقف العرف عن الجمع راجع إلى عدم ارتفاع موضوع أصالة الظهور في كل منهما بسبب الآخر ، فيتعارض الظهوران.

وما قيل : من أن الجمع بين الدليلين مهما امكن أولى من الطرح ، قد سبق

١٣٠

الكلام فيه في الأمر السادس من التمهيد لبحث التعارض. فراجع.

نعم ، قد يختلف هذا القسم عن القسم الثاني في بعض الخصوصيات ، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث : الكلام في الأدلة المتعارضة لما كان من حيثية حجيتها بعد فرض التعارض ، فالمناسب الكلام ..

أولا : في مقتضى الأصل في المتعارضين بلحاظ أدلة الحجية الأولية ، وأنها هل تقتضي التساقط أو التخيير أو الترجيح.

وثانيا : في مقتضى الأدلة الخاصة الدالة على حكم التعارض بين الأدلة وفي تحقيق مفادها.

فيقع الكلام في مقامين ..

١٣١
١٣٢

المقام الأول

في مقتضى الأصل في المتعارضين

والظاهر أن مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين التساقط ، لا التخيير ولا الترجيح.

ووجهه ظاهر في ما إذا كان دليل حجيتهما لبيا أو لفظيا لا إطلاق له يشمل صورة التعارض ، حيث يكون المرجع فيها أصالة عدم الحجية في كل منهما ، سواء كان دليل الحجية تعبديا كالإجماع ، أم ارتكازيا كسيرة العقلاء على حجية الظواهر وأصالة الجهة ، فإن الثاني وإن أمكن أن يحرز به تحقيق مقتضي الحجية في حال التعارض ، إلا أن الغرض المهم في المقام لما كان هو إحراز الحجية الفعلية لزم الرجوع لدليلها فمع فرض عدم وفائه بها في فرض التعارض يلزم البناء على عدمها.

نعم ، إذا كان مقتضى دليل الحجية في خصوص مورد التخيير أو الترجيح لزم البناء على ذلك ، وخرج عن محل الكلام من فرض الشك ، نظير ما سبق في موارد الجمع العرفي من ترجيح أقوى الظهورين.

وأما إذا كان دليل الحجية لفظيا له عموم أو إطلاق يشمل صورة التعارض فلامتناع حجية كلا المتعارضين لاستلزامه التعبد الظاهري بالضدين ، بل بالنقيضين بلحاظ المدلول الالتزامي لكل منهما ، وهو ممتنع بملاك امتناع جعلهما واقعا ، لتقوم الأحكام التكليفية بنحو اقتضائها للعمل ، وتضادها إنما هو بلحاظ اختلافها في ذلك ، ومن الظاهر أن اقتضاء التعبد الظاهري بالحكم للعمل

١٣٣

مماثل لاقتضاء نفس الحكم له ، وإن كان في طوله بلحاظ طريقيته له ، فيستحيل حجية كلا المتعارضين.

كما لا مجال لاختصاص الحجية بأحدهما ، لعدم المرجح بالإضافة لعموم دليلها بعد فرض اشتراكهما في الدخول تحته لتحقق عنوانه في كل منهما ، وفي الجهة المانعة من فعلية حكمه فيهما معا ، وهو التعبد بالضدين أو النقيضين ، على ما يأتي توضيحه في التنبيه الثاني ، فيتعين سقوطهما معا عن الحجية الراجع لخروجهما عن عموم دليلها تخصيصا.

وليس منشأ ذلك العلم الإجمالي بكذب أحد التعبدين ، إذ هو لا يوجب ارتفاع موضوع التعبدين وهو الشك ، ولا يمنع منهما إلا في ظرف لزوم مخالفة تكليف معلوم بالإجمال كما ذكر في محله.

وبالجملة : كما يمتنع جعل النقيضين أو الضدين في مقام الثبوت يمتنع التعبد بهما ظاهرا في مقام الإثبات.

إن قلت : هذا إنما يمنع من حجية كل منهما والتعبد بمضمونه تعيينا في فرض التعارض دون حجيتهما والتعبد بكل منهما تخييرا ، فيتعين البناء على ذلك أخذا بعموم دليل الحجية والتعبد بالقدر الممكن ، واقتصارا في الخروج عنه على ما يتعذر البناء عليه وهو الحجية والتعبد التعيينيان.

قلت : لما كان مفاد أدلة الحجية والتعبد هو الحجية والتعبد تعيينا ، فالبناء على الحجية والتعبد التخييرين يبتني على أحد أمرين لا مجال للبناء عليهما ..

الأول : كون التخيير في الحجية والتعبد شرعيا وفي مقام الجعل راجعا إما إلى تقييد إطلاق الحجية في كل من المتعارضين بما إذا اختاره المكلف أو لم يختر الآخر ، بحيث لا يكون حجة مع عدم اختياره أو مع الأخذ بالآخر المعارض له.

وإما إلى جعل كل منهما حجة للمكلف في مقام التعذير ومجموعهما

١٣٤

حجة عليه في مقام التنجيز ، فله العمل على كل منهما وليس له الخروج عنهما.

فإن التعبد والحجية وإن كانا نحو نسبة اعتبارية بين المولى والعبد تقتضي التنجيز والتعذير معا بمقتضى إطلاقها ، إلا أنه لا يمتنع التفكيك بينهما في مقام الجعل ، بأن تتمحض في التعذير فتكون حجة للعبد فقط ، أو التنجيز فتكون حجة للمولى كذلك.

كما لا يمتنع الاختلاف بين الأمرين سعة وضيقا ، كما هو المدعى في المقام ، بأن يكون التعذير منوطا بكل من المتعارضين استقلالا ، فيجوز اعتماد المكلف عليه ، والتنجيز منوطا بمجموعهما فلا يجوز له الخروج عنهما معا ، وإن جاز له الخروج عن كل منهما مع متابعة الآخر ، مع كون الحجية على هذا النحو من التفكيك فعلية غير منوطة باختيار المكلف للحجة ولا بعدم أخذه بغيرها.

ولعل هذا أقرب من الأول ارتكازا في معنى الحجية التخييرية لو دل الدليل عليها ، لعدم مناسبة الحجية التي هي من شئون المولى للتقييد باختيار المكلف ارتكازا. بل الظاهر فعليتها وإن لم يختر لغافلته عن المتعارضين أو جهله بثبوت الحجية التخييرية لهما.

وربما يأتي عند الكلام في دلالة الأدلة الخاصة على الحجية التخييرية تمام الكلام في ذلك.

وكيف كان ، فحيث كان عموم دليل الحجية ظاهرا في الحجية التعيينية كانت استفادة الحجية التخييرية في المتعارضين بأحد وجهيها منه موقوفة على كون امتناع حجيتهما تعيينا معا قرينة عرفية على تنزيله على الحجية التخييرية فيهما ، التي هي نحو من التقييد في الحجية.

لكنه غير ظاهر ، بل الأقرب عرفا خروج كلا المتعارضين عن الحجية الفعلية مع ثبوت الحجية الاقتضائية لكل منهما الراجعة إلى حجية كل منهما لو لا المانع ، لأن ذلك هو الأنسب بالقياس للحجج العرفية.

١٣٥

ومجرد كون الحجية التخييرية أقل تخصيصا منه لما فيها من إعمال عموم الحجية الفعلية في المتعارضين في الجملة. لا يقتضي تعينها بعد أن لم يكن التنزيل عليها عرفيا ، وإلا أمكن إعماله فيهما بوجوه أخرى ، كإناطة تعيين الحجة منهما باختيار غير المكلف ، أو بالقرعة ، وإخراج أحدهما عن الإطلاقات وإبقاء الآخر تحتها بنحو يكون هو الحجة تعيينا ، وإخراج أحدهما في بعض الأحوال والآخر في أحوال أخر ، إلى غير ذلك مما يرجع إلى إعمال العموم في المتعارضين في الجملة وعدم خروجهما معا عنه رأسا ، ولا معين للحمل على الحجية التخييرية من بينها مع اشتراكها في كون الحمل عليها غير عرفي ، بل المتعين ما ذكرنا.

الثاني : كون التخيير في العمل بالحجة عقليا ، بدعوى : أنه لما كان العمل بالحجة واجبا وتعذر العمل بكلتا الحجتين المتعارضتين تعين عقلا التخيير بين العمل بكل منهما ولم يجز إهمالهما معا ، كما هو الحال في سائر موارد التزاحم بين التكليفين.

وفيه : أن وجوب العمل بالحجة ليس شرعيا ، بل هو عقلي طريقي تابع لمنجزيتها ، متفرع على حجيتها ، ولا مجال لثبوته في المتعارضين بعد ما سبق من امتناع حجيتهما معا.

ولو لا ذلك لزم اختصاص التخيير بما إذا تعذرت موافقة كلا المتعارضين ، دون ما إذا أمكن الاحتياط بموافقتهما معا ، لكون أحدهما ترخيصيا لا يقتضي العمل ، حيث لا يصلح اللااقتضائي لمزاحمة الاقتضائي ، بل يتعين فعلية الاقتضائي ومتابعة الحجة التي دلت عليه ، وكذا لو كانا اقتضائيين وكان أحدهما إلزاميا دون الآخر ـ كما لو دل أحدهما على حرمة شيء والآخر على استحبابه ـ حيث يقدم الإلزامي عند التزاحم.

هذا ، ولا يفرق في ما ذكرنا بين القول بالطريقية المحضة ، والقول بالسببية

١٣٦

بأنحائها من التصويب المنسوب للأشاعرة ، والتصويب المنسوب للمعتزلة ، والمصلحة السلوكية الراجعة إلى أن في متابعة الطريق مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في فرض الخطأ.

ومجرد كون قيام الطريق على السببية موجبا لحدوث ملاك مقتض للعمل على طبقه. لا يقتضي التزاحم ـ الموجب للتخيير عقلا ـ عند تعارض الطريقين ، لأن السببية بجميع وجوهها لا تقتضي لزوم متابعة الطريق بذاته ، بل في فرض حجيته والتعبد الشرعي بمضمونه ، فمع فرض استحالة حجية المتعارضين وقصور دليل الحجية عن شمولهما لا مجال لفرض السببية التي يبتني عليها التزاحم المدعى.

ودعوى : أن الالتزام بالسببية إنما هو لتصحيح الأمر بسلوك الطريق والعمل على طبقه ، إذ مع فرض حجية الطريق ووجوب العمل به في مرتبة سابقة على السببية لا يبقى ملزم بالسببية وموجب للبناء عليها ، فلا بد من كون موضوع السببية هو الطريق بذاته لا من حيثية حجيته ، فامتناع حجية المتعارضين واستحالة التعبد بمضمونهما لا ينافي السببية في كل منهما التي هي المنشأ لفرض التزاحم.

مدفوعة : بأن الالتزام بالسببية وإن كان لتصحيح حجية الطريق والأمر بسلوكه ومتابعته ، إلا أنه لدفع محذور تفويت الواقع من العمل به مع فرض إمكان حجيته ثبوتا وقيام الدليل عليها إثباتا لو لا ذلك ، فمع فرض امتناع حجية المتعارضين مع قطع النظر عن محذور تفويت الواقع لا مجال لإحراز السببية ليحرز كون المورد من موارد التزاحم.

هذا ، ولو غض النظر عن ذلك تعين كون المورد من موارد التزاحم الملاكي ، بناء على السببية الراجعة لتصويب الأشاعرة أو المعتزلة المبنية على كون الملاكات والأحكام الواقعية على طبق الطرق. من دون فرق بين اتحاد

١٣٧

موضوع المتعارضين ـ كما لو دل أحدهما على حرمة شيء والآخر على وجوبه أو عدم حرمته ـ وتعدده ـ كما لو دل أحدهما على وجوب القصر والآخر على وجوب التمام ـ لرجوع الثاني للأول ـ بلحاظ الدلالة الالتزامية لكل منهما ، وقد سبق عند الكلام في التزاحم أنه مع اتحاد الموضوع يتعين كون التزاحم ملاكيا.

أما بناء على السببية بمعنى المصلحة السلوكية فيكون التزاحم حكميا مطلقا ، لأن موضوع الملاك هو متابعة الطريق والتعبد الشرعي ، لا الواقع المحكي به ، والمفروض تعدد الطريقين وإن اختلفا في حكم الموضوع الواحد.

ولازم ذلك تعين الطريق المؤدي للحكم الاقتضائي للعمل لو عورض بما يؤدي للحكم غير الاقتضائي ، وتعين الطريق المؤدي للحكم الإلزامي لو عورض بما يؤدي للحكم غير الإلزامي ، لأن متابعة الاقتضائي والإلزامي لا تنافي متابعة الا اقتضائي وغير الإلزامي. وينحصر التخيير بما إذا اشتركا في الاقتضاء والإلزام أو عدمهما.

هذا بناء على عموم المصلحة السلوكية واقتضائها العمل على طبق الطريق ، أما بناء على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته ، حيث يكون بها تداركه دون غيره مما لا يفوت به الواقع ، لموافقته له او لعدم متابعته ، فالمتعين التخيير مطلقا ، لكن لا بملاك التزاحم ، بل لأن متابعة كل من المتعارضين وإن لم يكن مضمونه اقتضائيا إما موجبة لتحصيل الواقع أو لتداركه ، من دون أن تكون هناك مصلحة اخرى مزاحمة له.

ودعوى : أن ذلك لازم حتى على فرض عموم المصلحة السلوكية واقتضائها العمل على طبق الطريق ، فيتعين التخيير مطلقا.

مدفوعة : بأن تدارك فوت الواقع بالطريق إنما يقتضي التخيير بين الطريقين من حيثية الواقع المفروض دوران الأمر بين تحصيله وتداركه. أما من حيثية مصلحة السلوك المفروض تحققها في كل من المتعارضين فالمتعين

١٣٨

البناء على التزاحم المستلزم لترجيح الإلزامي والاقتضائي ، لما سبق.

ومن هنا لا يتجه البناء على التخيير العملي بين المتعارضين مطلقا إلا على الوجه الذي ذكرناه ، المبتني ..

أولا : على السببية الراجعة للمصلحة السلوكية.

وثانيا : على أن موضوعها ذات الطريق مع قطع النظر عن حجيته.

وثالثا : على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته.

والأولان مخالفان للتحقيق ، والثالث متفرع على الأول. ومن ثم لا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بتعقيب ما ذكروه في المقام.

وقد تحصل مما تقدم أن عموم الحجية يقصر عن المتعارضين ، وأن مقتضى المرتكزات العرفية البناء على ثبوت مقتضي الحجية فيهما ، لتحقق موضوعها بالنظر للعموم المذكور ، وإن كان التعارض مانعا عن فعليتها في كل منهما ، لاشتراكهما في المانع المذكور من دون مرجح لأحدهما ، وهو الحال فيما إذا كان دليله لبيا ارتكازيا ، وأما إذا كان لبيا تعبديا فلا طريق لإحراز المقتضي فيه ، إلا أنه ليس منه شيء من الحجج التي بأيدينا.

هذا ، وقد أشار المحقق الخراساني قدّس سرّه لتقريب أصالة التساقط في المتعارضين بأنه حيث يمتنع حجية معلوم الكذب من الطرق ، وكان تعارض الطريقين مستلزما للعلم بكذب أحدهما إجمالا ، لزم العلم بقصور عموم الحجية عن أحدهما دون الآخر ، وحيث كان معلوم الكذب مرددا بينهما كان المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة ، الموجب لسقوط كل منهما عن الحجية في خصوص مؤداه ، وإن وجب ترتيب الأثر المشترك لحجية كل منهما ، لفرض حجية أحدهما.

وبذلك يختلف عن الوجه الذي ذكرناه. كما يختلفان في أن عدم حجيتهما معا على ما ذكرنا لوجود المانع مع تمامية المقتضي فيهما معا ، كما

١٣٩

سبق ، أما على ما ذكره فلعدم تمامية المقتضي في أحدهما ، لخروجه موضوعا عن عموم دليلها.

ويشكل : بأن مرجع العلم الإجمالي بكذب أحدهما إلى كون معلوم الكذب هو أحدهما على ما هو عليه من ترديد وإبهام من دون أن ينطبق على كل منهما بخصوصيته ، بل كل منهما بخصوصيته محتمل الكذب لا غير.

وبعبارة اخرى : المتصف بالكذب وإن كان هو مصداق أحدهما بخصوصيته وواقعه ، وهو قابل للجهل والاشتباه ، إلا أن معلوم الكذب منهما ليس كذلك ، بل هو لا ينطبق على كل منهما بخصوصيته لتعلق العلم الإجمالي بعنوان أحدهما على ما هو عليه من التردد والإبهام بنحو لا يقبل الانطباق على كل من الخصوصيتين ، كما اعترف قدّس سرّه به في الجملة في مبحث الواجب التخييري ، ومن الظاهر أن عموم الحجية إنما يقتضي حجية كل فرد من أفراد الطريق بخصوصيته من دون إبهام وترديد ، فلا ينطبق معلوم الكذب إجمالا على شيء من أفراد العام ليمتنع شمول العموم له ، وإنما ينطبق عليه الكاذب واقعا.

ومجرد الكذب من دون أن يكون معلوما لا يمنع عن الحجية ، ليلزم تخصيص عموم الحجية وقصوره عن الفرد المذكور ، ويكون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة. وإلا لزم قصور موضوع الاستصحاب عن بعض أطراف العلم الإجمالي وإن لم يكن منجزا ـ لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء ـ مع أنه قدّس سرّه اعترف بتحقق موضوعه فيها مطلقا وإن كان منجزا.

ثم إن ما ذكره قدّس سرّه لو تم مختص بما إذا احتمل كذب كلا المتعارضين ، أما إذا علم بصدق أحدهما وكذب الآخر فاللازم خروجهما معا عن عموم دليل الحجية ، إذ كما يمتنع حجية معلوم الكذب يمتنع حجية معلوم الصدق ، فإذا فرض انطباق معلوم الكذب على أحدهما كان معلوم الصدق منطبقا على الآخر ، فلا يشملهما العموم معا.

١٤٠