التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعامين ، وهذه السورة مكية ، فالجواب عليه ـ كما ذكر الكلبي ـ بأن السورة مكية إلا هذه الآية ، فإنها مدنية ، وكانت الآية تنزل ، فيؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يضعها في سورة كذا ، فهذه الآية نزلت بالمدينة ، وإن الله تعالى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية ، في هذا الموضع المعين (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ عادى مشركو مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكذبوا كون القرآن نازلا من عند الله ، وكذبوا النبوة ، ووصفوا القرآن بأنه سحر واضح.

٢ ـ ولم يكتفوا بوصف القرآن بأنه سحر ، بل قالوا ما هو أشنع من ذلك ، قالوا : إن محمدا اختلقه وافتراه من عند نفسه ، لا من عند الله.

٣ ـ ردّ الله عليهم افتراءهم بأنه لو افتراه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الفرض والتقدير لعجّل الله له العقوبة في الدنيا ، ولم يقدر أحد أن يرد عنه عذاب الله ، والله أعلم بما يتقوّله ويخوض به من التكذيب هؤلاء المشركون ، وكفى بالله شاهدا على أن القرآن من عند الله ، وأنه يعلم صدق نبيه وأنهم مبطلون.

وبالرغم من ذلك فالله الغفور لمن تاب ، الرحيم بعباده المؤمنين ، فإذا آمن هؤلاء المشركون ، غفر لهم ما قد سلف منهم من الذنوب والمعاصي.

٤ ـ ليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول رسول يرسل ، بل هو خاتم الرسل الكرام ، قد كان قبله رسل ، فليست دعوته إلى التوحيد ، وإنكار عبادة الأصنام ، وعدم علمه بالغيب مقصورا عليه ، وتلك دعوة قديمة هي دعوة جميع الرسل.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٠

٢١

٥ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير عالم بالغيبيات إلا بطريق الوحي ، فلا وجه لطلب إخباره بمغيبات لا يعلم بها ، فهو لا يدري بما يفعل به ولا بالناس من أحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، من الأحكام والتكاليف وما يؤول أمر المكلفين إليه. وبه يعلم أن ما يدّعى من علم بعض الأولياء بالغيب هو أمر باطل وكذب مفترى.

لكن نظرا لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم كونه نبيا ، فهو يعلم أنه لا تصدر عنه الكبائر ، وأنه مغفور له ، وقد تأكد هذا بقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ٤٨ / ٢] وقوله سبحانه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الفتح ٤٨ / ٥] وقوله عزوجل : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٤٧].

٦ ـ لا نسخ في آية : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) لما ذكر الواحدي وغيره عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصّها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا ، ثم قال : «إنما هو شيء رأيته في منامي ، ما أتبع إلا ما يوحى إلي» أي لم يوح إليّ ما أخبرتكم به. قال القشيري : فعلى هذا لا نسخ في الآية.

٧ ـ دلت آية (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ..) على إنذار المشركين الظالمين بعذاب أليم إذا استمروا في تكذيبهم بالقرآن ، وتكبروا عن الإيمان به وعن اتباعه وطاعة الرسول المنزل عليه ، بالرغم من شهادة رجل منصف عارف بالتوراة بأن القرآن حق ، سواء أكان عبد الله بن سلام أم موسى عليه‌السلام. وعلى كل حال فهذه الآية بشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة وعلى لسان موسى عليه‌السلام

٢٢

ولسان علماء بين إسرائيل ، فهي كبشارة عيسى عليه‌السلام بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف ٦١ / ٦].

وفي الآية تقديم وتأخير ، تقديره : قل : أرأيتم إن كان من عند الله ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على ذلك ، أي على صدق القرآن ، فآمن هو ، وكفرتم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، أي الكافرين المعاندين.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تهديد ، وهو قائم مقام الجواب المحذوف للشرط : (إِنْ) والتقدير : قل أرأيتم إن كان من عند الله ، ثم كفرتم به ، فإنكم لا تكونون مهتدين ، بل تكونون ضالين.

شبهات أخرى للكفار

ـ ٢ ـ

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

الإعراب :

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً كِتابُ) : مبتدأ ، و (مِنْ قَبْلِهِ) : خبره ، و (إِماماً وَرَحْمَةً) : منصوبان على الحال من الضمير في الظرف ، أو من «الكتاب».

٢٣

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ هذا كِتابٌ) : مبتدأ وخبر ، و (لِساناً عَرَبِيًّا) : منصوبان على الحال من ضمير (مُصَدِّقٌ) أو من «الكتاب» لأنه قد وصف ب (مُصَدِّقٌ) أو من «ذا» والعامل فيه معنى الإشارة ، أي أشير إليه لسانا عربيا ، أو أنبه عليه لسانا عربيا. (وَبُشْرى) : إما مرفوع عطفا على كتاب ، أو منصوب على أنه مصدر.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها خالِدِينَ) : منصوب على الحال من (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) والعامل فيها معنى الإشارة في (أُولئِكَ) كقولك : هذا زيد قائما.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَزاءً) : إما مفعول لأجله ، أو منصوب على المصدر المؤكد ، أي جوزوا جزاء.

البلاغة :

(لِيُنْذِرَ وَبُشْرى) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هم قريش ، وقيل : بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع ، لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار ، وقيل : اليهود حين أسلم ابن سلام وصحبه.

(لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجلهم وفي حقهم ، وقيل : إليهم. (لَوْ كانَ) الإيمان. (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) فهم أناس أدنياء ، إذ عامتهم فقراء وموالي ورعاة. (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي حينما لم يهتد القائلون بالقرآن ، وإذ للماضي ظرف لمحذوف مثل : ظهر عنادهم. (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي القرآن كذب قديم ، مثل قولهم : أساطير الأولين.

(وَمِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن. (كِتابُ مُوسى) التوراة. (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي القرآن مؤيد لكتاب موسى. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم مشركو مكة ، وهو علة لقوله.

(مُصَدِّقٌ وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي والقرآن مبشر للمؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على الطاعة ، أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم ، والاستقامة في أمور الدين والعمل ، وقوله (ثُمَ) للدلالة على تأخير رتبة العمل وتوقفه على التوحيد. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه في المستقبل. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوات محبوب في الماضي ، والفاء في (فَلا) لتضمن جملة (إِنَّ الَّذِينَ) معنى الشرط. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اكتساب الفضائل العلمية والعملية.

٢٤

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أخرج الطبراني عن قتادة قال : قال ناس من المشركين : نحن أعزّ ، ونحن ونحن ، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان ، فنزل (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..).

وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها (زنّين) أو (زنّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنين ، فأنزل الله في شأنها : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً) الآية.

وقال عروة بن الزبير : إن زنّيرة ـ رومية كان أبو جهل يعذبها ـ أسلمت ، فأصيب بصرها ، فقالوا لها : أصابك اللات والعزّى ، فرد الله عليها بصرها ، فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنّيرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال ابن عباس والكلبي والزجاج : إن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع ، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم ، إذ نحن أعزّ منهم.

وقال أكثر المفسرين : إن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا ـ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ـ : لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه.

المناسبة :

هذه شبهة أخرى للقوم : المشركين أو اليهود ، في إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٢٥

تتعلق بإيمان جماعة من الفقراء كعمّار وصهيب وابن مسعود ، فقالوا : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. ثم رد الله تعالى عليهم بأن التوراة دلت على صدق القرآن ، وبشرت ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد تقرير دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبهات المنكرين والإجابة عنها ، ذكر تعالى جزاء المؤمنين العاملين عملا صالحا ، طبقا لما جاء به القرآن المجيد.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي قال كفار مكة أو اليهود لأجل إيمان بعض الفقراء والمستضعفين ، كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي‌الله‌عنهم : لو كان هذا الدين حقا وكان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيرا ما سبقونا إلى الإيمان به ، ظنا منهم أنهم سبّاقون إلى المكارم ، وأن لهم وجاهة عند الله ، وله بهم عناية.

وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا ، فإن الله سبحانه يصطفي للنبوة ولدينه من يشاء ، والآية كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام ٦ / ٥٣] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا.

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) معناه كما ذكر الزمخشري : لأجلهم ، يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه. ويصح أن يكون المعنى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا ، على وجه الخطاب ، كما تقول : قال زيد لعمرو ، ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس ١٠ / ٢٢].

ثم وصف الله تعالى حال أولئك الكفار بعد ذلك القول وأجاب عنه بقوله :

٢٦

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ، فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي وحين لم يهتدوا بالقرآن ، ظهر عنادهم ، وسيقولون بعدئذ : هذا كذب مأثور عن الناس الأقدمين ، كما قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) بقصد انتقاص القرآن وأهله. وهذا هو الكبر الذي قال عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود : «الكبر : بطر الحق ، وغمص ـ أو غمص ـ الناس» أي احتقارهم. وبطر الحق : دفعه ورده.

ثم ذكر الله تعالى دليلا على صدق القرآن وصحته ، فقال :

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على أن القرآن حق وصدق وأنه من عند الله : اعترافكم بإنزال الله التوراة على موسى ، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين ، وهو رحمة لمن آمن به ، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب الإلهية المتقدمة ، أنزله الله حال كونه بلغة عربية واضحة فصيحة يفهمونها ، من أجل أن ينذر به هذا النبي من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة ، ويبشر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا ، فهو مشتمل على النذارة للكافرين ، والبشارة للمؤمنين. وهو ليس إفكا قديما كما يزعمون ، بدليل توافقه مع التوراة.

وبعد ذكر شبهات المنكرين ، ذكر الله تعالى حال المؤمنين وجزاءهم قائلا :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن

الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة ، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل ، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي ، وجزاؤهم ما قال تعالى :

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله هم أهل الجنة ، ماكثين فيها على

٢٧

الدوام ، مقابل ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا ، أي أن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن شأن المتكبرين المقصرين تسويغ تقصيرهم بأتفه الأسباب وأسخف المقالات بدافع الكبر والاستعلاء ، لذا قال أهل مكة : لو كان هذا الدين حقا ما سبقنا إليه هؤلاء العبيد والمستضعفون ، وأضافوا إلى ذلك حينما لم يهتدوا افتراءهم بقولهم : هذا القرآن كذب متوارث ، وأساطير الأولين. ومن جهل شيئا عاداه.

٢ ـ مما يدل على صدق القرآن وأنه من عند الله توافقه في أصول العقيدة والشريعة مع التوراة كتاب موسى عليه‌السلام الذي يقرّون بأنه كتاب الله ، فهو قدوة ورحمة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، والقرآن مصدّق للتوراة ولما قبله من كتب الله في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول حقا من عند الله ، وهو بلغة عربية فصيحة بيّنة واضحة لكل من نظر فيه وتأمل ، يشتمل على إنذار الكافرين وبشارة المؤمنين.

وكأنه تعالى قال : الذي يدل على صحة القرآن : أنكم لا تنازعون في أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام ، وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به ، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا سلّمتم كون التوراة إماما يقتدى به ، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا حقا من عند الله تعالى.

٣ ـ إن الذين جمعوا بين الإيمان بالله وحده لا شريك له ، وبين الاستقامة على الشريعة في غاية السعادة النفسية والمادية ، فهم آمنون مطمئون مرتاحون لا يعكر صفوهم مخاوف المستقبل ولا أحزان الماضي ، وهم خالدون دائمون في جنات النعيم ، بسبب ما قدموا من عمل صالح في دار الدنيا.

٢٨

الوصية ببر الوالدين

ـ ١ ـ

وصف الولد البار بوالديه

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

الإعراب :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) وقرئ : حسنا وحسنا ، وإحسانا : منصوب على المصدر ، أي أن يحسن إحسانا. وحسنا : صفة لمفعول محذوف ، أي ووصينا الإنسان بوالديه أمرا ذا حسن ، وحسنا : تقديره : فعلا حسنا.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ثَلاثُونَ) : خبر مبتدأ الذي هو (حَمْلُهُ) وإنما رفع ، لأن في الكلام مقدرا محذوفا ، تقديره : وقدّر حمله وفصاله ثلاثون شهرا. وفي هذا ما يدل على أن أقل الحمل ستة أشهر ، مراعاة لآية أخرى هي : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] فإذا أسقط حولان من ثلاثين أشهرا بقي مدة الحمل ستة أشهر.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) حال ، أي كائنين في جملتهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لنفسه.

٢٩

البلاغة :

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) بعد قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) من قبيل ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية بالأم.

(حَمَلَتْهُ وَوَضَعَتْهُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَوَصَّيْنَا) من التوصية والإيصاء والوصية : وهي الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام ، أي أمرنا (إِحْساناً) أن يحسن لهما إحسانا : وهو ضد الإساءة ، والحسن ضد القبح ، أي أن يفعل معهما فعلا ذا حسن (كُرْهاً) مشقة. (وَحَمْلُهُ) مدة حمله. (وَفِصالُهُ) فطامه ، أي المدة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان ، وأقل مدة الحمل ستة أشهر ، والباقي أكثر مدة الرضاع. (حَتَّى إِذا) غاية لجملة مقدرة ، أي وعاش حتى (بَلَغَ أَشُدَّهُ) بلوغ الأشد : كمال العقل والرأي والقوة ، وأقله ثلاثون أو ثلاث وثلاثون سنة. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي تمامها ، وهو أكثر الأشد ، قيل : لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] بقي ذلك ، وبه قال الأطباء. ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما.

(أَوْزِعْنِي) ألهمني ووفقني ورغّبني. (نِعْمَتَكَ) نعمة الدين وغيرها من النعم. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) نكّر كلمة (صالِحاً) أي عملا صالحا للتعظيم ، أو أنه أراد أي عمل أو نوع من جنس الأعمال يحقق رضا الله عزوجل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم. (أُولئِكَ) أي قائلو هذا القول (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي حسن أعمالهم وطاعاتهم ، فإن المباح حسن ولا يثاب عليه وقرئ : يتقبل. (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لتوبتهم وقرئ : ويتجاوز. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي كائنين في عدادهم أو معدودين فيهم. (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [التوبة ٩ / ٧٢].

سبب النزول :

نزول الآية (١٥):

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : روى الواحدي عن ابن عباس قال : أنزلت في

٣٠

أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وذلك أنه صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ابن ثمان عشرة سنة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة ، وهم يريدون الشام في التجارة ، فنزلوا منزلا فيه سدرة (شجرة السدر) فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين ، فقال له : من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال : ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال : هذا والله نبيّ ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، وكان لا يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره وحضوره ، فلما نبّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ابن أربعين سنة ، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغ أربعين سنة قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ)(١).

وقال السدّي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي‌الله‌عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين ، فلا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا ، حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً).

وقال الحسن البصري : «هي مرسلة نزلت على العموم». وهذا هو الأولى ، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل ، وإن كانت العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة ، أمر ووصى ببر الوالدين ، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ والديه بعد بلوغه سن الأربعين ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري : ص ٢١٦ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ١٩٤

٣١

وبشّره بقبول أعماله الصالحة ، والتجاوز عن سيئاته ، وجعله في عداد أصحاب الجنة ، وعدا منجزا لا خلف فيه.

التفسير والبيان :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي وصيناه وأمرناه أن يحسن إليهما إحسانا في الحياة وبعد الممات بالحنو عليهما وبرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة والبشاشة عند لقائهما ، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ..) [الإسراء ١٧ / ٢٣] وقوله سبحانه : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان ٣١ / ١٤].

وجاءت الأحاديث النبوية الكثيرة المؤيدة للقرآن في هذا الأدب العظيم ، وجعل بر الأبوين من أفضل الأعمال ، وعقوقهما من الكبائر ، ووصل البر بعد الوفاة ، منها ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس» ومنها ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي‌الله‌عنه قال : «بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ جاءه رجل من بني سلمة ، فقال : يا رسول الله ، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال : نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما».

ثم ذكر سبب التوصية وخص الأم لزيادة العناية والاهتمام بها ، فقال تعالى :

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي حملته في بطنها بمشقة ، وولدته بمشقة ، فإنها قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم وغشيان وثقل وكرب ، ووضعته بمشقة أيضا من ألم الطّلق وشدته ، ووجع الولادة ثم الرضاع

٣٢

والتربية ، وكانت أيام الوحم تمتنع من الطعام والشراب ، وتعاف كل شيء ، مما يستدعي البر بها والإحسان الزائد إليها ، كما قال تعالى :

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي إن مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا ، أي عامان ونصف ، عانت فيهما الأم آلام السهر ، وعناء الرضاع والغذاء والتنظيف والتربية بمحبة وحنان ، دون ضجر ولا سأم.

وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب ، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته وحضنته ، وعنيت به بتعب وصبر ، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك ، وإن تعب في الكسب والإنفاق ، لذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم ، وتقدّمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب ، أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : أمّك ، قال : ثم من؟ قال : ثم أبوك».

وفي الآية أيضا إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر (نصف عام) وكان علي رضي‌الله‌عنه أول من استدل بهذه الآية وآية لقمان. (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [١٤] وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأن أكثر مدة الرضاع والفطام حولان كاملان ، فبقي للحمل من الثلاثين شهرا ستة أشهر.

وهو استنباط صحيح ، وافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوّج رجل منا امرأة من جهينة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي‌الله‌عنه ، فذكر ذلك له ، فبعث إليها ،

٣٣

فلما قامت لتلبس ثيابها ، بكت أختها ، فقالت : وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط ، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان رضي‌الله‌عنه أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا رضي‌الله‌عنه ، فأتاه ، فقال له : ما تصنع؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي‌الله‌عنه : أما تقرأ القرآن؟ قال : بلى ، قال : أما سمعت الله عزوجل يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فلم نجده بقي إلا ستة أشهر ، فقال عثمان رضي‌الله‌عنه : والله ما فطنت بهذا ، عليّ بالمرأة ، فوجدوها قد فرغ منها (١) ، فقال معمر : فو الله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه ، قال : ابني والله ، لا أشك فيه.

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر ، كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر ، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لستة أشهر ، فحولين كاملين ، لأن الله تعالى يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ، حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ).

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي حتى إذا قوي وشب وارتجل ، فاستحكم عقله وقوته ، وذلك بين الثلاثين والأربعين ، وتناهي عقله ، وكمل فهمه وحلمه ببلوغ الأربعين سنة. وقوله (حَتَّى) غاية لمحذوف تقديره : فعاش أو طالت حياته حتى إذا بلغ الأشد ، أي القوة ، وذلك يكون بكمال قوته المادية والعقلية ، لذلك قيل : إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما‌السلام.

(قالَ : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أي إذا بلغ الأربعين قال : رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي

__________________

(١) وفي رواية : أن عثمان رجع عن قوله ولم يحدّها ، أي أن الأمر تم قبل الحدّ.

٣٤

وعلى والدي من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد وغير ذلك من نعم الدنيا ، كسلامة العقل ، والصحة والعافية ، وسعة العيش ، وتمام الخلقة السوية ، وحنان الأبوين حين ربياني صغيرا.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) هذا معطوف على قوله : (أَنْ أَشْكُرَ) أي ألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني ، والعمل الصالح المرضي : هو ما يكون سالما من غوائل عدم القبول ، واجعل الصلاح ساريا في ذريتي (١) ، متمكنا راسخا فيهم ، حتى يكون لهم طبعا وخلقا.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إني تبت وأنبت إليك من جميع الذنوب ، والآثام ، وإني من المستسلمين لك ، المنقادين لطاعتك ، المخلصين لتوحيدك ، الخاضعين لربوبيتك.

قال ابن كثير : وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عزوجل ، ويعزم عليها (٢) ، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد : «اللهم ألّف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجّنا من الظلمات إلى النور ، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتمّها علينا».

ثم ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء الصالحين قائلا :

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ ، فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي أولئك الذين هذه

__________________

(١) أصلح : يتعدى بنفسه ، وإنما عدي بالحرف فِي هنا لإفادة الرسوخ والسريان.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٧ وما بعدها.

٣٥

طريقتهم ، الموصوفون بالصفات المتقدمة التائبون إلى الله المنيبون إليه ، هم الذين يكرمهم الله ، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل ، وأعمال الخير في الدنيا المنسجمة مع أوامر الله ، ويعفو عنهم ويغفر لهم سيئاتهم وذنوبهم ، فلا يعاقبهم عليها ، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤].

وهم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله عزوجل ، كما وعد الله من تاب إليه وأناب ، فهو وعد منجّز لا خلف فيه ولا شك في حصوله ، وهو الوعد الذي وعدهم الله به في كتبه وعلى لسان أنبيائه ، والله منجز ما وعد.

وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) وجمعه باعتبار أفراد الإنسان الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف من معرفة حقوق الوالدين ، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر ، وهو إيذان بأن هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة.

وقوله : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي حسن ما عملوا ، فيشمل الحسن والأحسن.

وقوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لما قبله ، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن الإحسان إلى الوالدين فرض في الإسلام ، لقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا) والتوصية : الأمر ، والأمر يقتضي الوجوب.

٣٦

٢ ـ إن سبب وجوب الإحسان إلى الأبوين واضح وهو كونهما كانا سببا لوجود الأولاد ، وتربيتهم وتنشئتهم ، وعلى التخصيص الأم التي تعاني من أجل الولد معاناة شديدة ربما تضحي بحياتها له ، فقد حملته بكره ومشقة ، ووضعته بكره ومشقة ، وسهرت على راحته الليالي الطوال ، وعانت في حضانته ورضاعته عناء لا يقدر.

٣ ـ إن حق الأم كما تقدم بدلالة الآية أعظم من حق الأب ، لأنه تعالى قال أولا : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) فذكرهما معا ، ثم خص الأم بالذّكر ، فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وذلك يدل على أن حقها أعظم ، وأن تحملها المشاق بسبب الولد أكثر.

٤ ـ دلت الآية أيضا كما تقدم على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا ، وكان أقصى مدة الرضاع حولين كاملين ، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر ، بعد إسقاط مدة حولي الرضاع ، وهي أربع وعشرون شهرا من الثلاثين. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه ، وكانت قد ولدت لستة أشهر ، فأمر برجمها ، فقال علي : لا رجم عليها ، وكذلك روي عن عثمان أنه همّ بذلك ، فأبان له علي أو ابن عباس ما دلت عليه الآيات كما تقدم ، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.

وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا ، حملته أمه تسعة أشهر ، وأرضعته إحدى وعشرين شهرا.

٥ ـ ودلت الآية أيضا على أن أكثر مدة الرضاع سنتان ، لأنه إذا دلت على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فإنها تدل في الباقي من الثلاثين شهرا على أن أكثر مدة الرضاع حولان كاملان ، وتأيّد هذا بآية : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة ٢ / ٢٣٣].

٣٧

٦ ـ إن بلوغ الأشد يكون قبل الأربعين سنة ، والآية تدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى رعاية الوالدين له إلى مدة قريبة من مدة الأربعين سنة.

٧ ـ على الإنسان أن يشكر نعمة الله عليه إذا بلغ أربعين سنة ، وهي مرحلة كمال العقل والبنية ، وأن يطلب من الله تعالى توفيقه للعمل الصالح الذي يرضيه ، وأن يجعل الصلاح ساريا في ذريته ، راسخا متمكنا فيهم.

قال علي رضي‌الله‌عنه : هذه الآية : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) نزلت في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه! أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره ، فأوصاه الله بهما ، ولزم ذلك من بعده.

ووالده : هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه : أم الخير ، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة : «قيلة». وامرأة أبي بكر الصديق اسمها «قتيلة» بنت عبد العزّى.

وقال ابن عباس عن قوله تعالى : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) : أجاب الله دعاء أبي بكر ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذّبون في الله ، منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده ، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وهذا دليل على استجابة دعاء أبي أبكر.

ومن فضائل أبي بكر : ما ذكر في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر : أنا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».

٣٨

٨ ـ دلت آية : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ..) على أن الآية التي قبلها : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ..) مرسلة ، نزلت على العموم ، وهو قول الحسن كما تقدم ، فتشمل أبا بكر وغيره.

٩ ـ وهذه الآية أيضا تدل على أن المتصف بالصفات التي قبلها هو أفضل الناس ، لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ، ويتجاوز عن كل سيئاته ، يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم.

وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ، لدلالة الآية عليه ، وأنه هو أولا المراد منها ، وتنطبق على أمثاله من بعده.

١٠ ـ وصف الله تعالى هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء : هي أن يوفقه الله للشكر على نعمته ، وأن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله ، وأن يصلح له في ذريته ، وبذلك جمع جوانب السعادة النفسية والبدنية والخارجية. ويلاحظ منها أنه تعالى قدم الشكر على العمل ، وأن طلب إلهام الشكر على نعم الله دليل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى ، وأنه لا يكفي كون الشيء صالحا في ظنه ، يل يكون صالحا عنده وعند الله تعالى.

١١ ـ دل آخر الآية : (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) على أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة والإسلام والانقياد لأمر الله تعالى.

٣٩

ـ ٢ ـ

وصف الولد العاقّ لوالديه منكر البعث

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

الإعراب :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ : أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي؟ .. الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) : في موضع رفع مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : وفيما يتلى عليكم الذي قال لوالديه أو خبره : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَ). و (أُفٍ) اسم فعل مضارع مبني على الكسر بمعنى أتضجر. و (أَتَعِدانِنِي) بكسر النون ، على الأصل في نون التثنية ، وهو الكسر ، في اللغة المشهورة الفصيحة ، وقرئ بالفتح على لغة بعض العرب تشبيها لها بنون الجمع ، كما كسروا نون الجمع تشبيها لها بنون التثنية ، حملا لإحداهما على الأخرى ، وقرئ أيضا بالإدغام.

(وَيْلَكَ آمِنْ وَيْلَكَ) : منصوب على المصدر ، وهو من المصادر التي لا أفعال لها ، وهي ويحك ، وويسك ، وويبك. والأجود في هذه المصادر إذا كانت مضافة النصب ، والرفع فيها جائز ، والأجود فيها إذا كانت غير مضافة الرفع ، والنصب جائز فيها.

البلاغة :

(ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) بصيغة الحصر.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) فيها استعارة ، استعار الدرجات للمراتب.

٤٠