التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم ذم الله تبارك وتعالى الذين ينادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلف أو قدام الحجرات ، وهي بيوت نسائه ، كما يفعل أجلاف الأعراب ، فقال تعالى مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل :

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من بعيد ، من وراء حجرات (بيوت) نسائك ، وهم جفاة بني تميم أكثرهم جهال لا يعقلون الأصول والآداب والأشياء ، ولا يدركون ما يجب لك من التعظيم والاحترام. وقوله : (أَكْثَرُهُمْ) إما أن يراد به الكل ، لأن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام ، أو يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد ، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة ، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورعاية جانبه الشريف ، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال ، والله غفور لذنوب الشريف ، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال ، والله غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم ، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب. وهذا حث على التوبة والإنابة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب طاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقديم حكم القرآن والسنة على ما سواهما.

٢ ـ تعليم العرب وغيرهم مكارم الأخلاق وفضائل الآداب ، إذ كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقيب الناس.

٣ ـ قال القرطبي وابن العربي : قوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء

٢٢١

به. وربما احتج نفاة القياس بهذه الآية ، وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته ، فليس في فعله تقديم بين يديه ، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشريعة ، فليس فيه تقديم بين يديه (١).

٤ ـ الأمر بالتقوى وإيجابها عام في كل الأوامر والنواهي الشرعية ، ومنها التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنهي عنه ، والله يراقب الناس ، فهو سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم.

٥ ـ يجب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته ، وإلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس المراد النهي عن الجهر مطلقا بحيث يلزم الهمس ، وإنما النهي عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب عنها.

٦ ـ ويجب أيضا على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : يا محمد ، ويا أحمد ، ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له.

والهدف من هذين الواجبين تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته.

٧ ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به ، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٠٢ وما بعدها ، أحكام القرآن : ٤ / ١٧٠١ وما بعدها.

٢٢٢

[الأعراف ٧ / ٢٠٤] وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه (١).

٨ ـ إن النهي المذكور عن رفع الصوت هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ويوقّر الكبراء. أما الصوت المرفوع الذي يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، فلا شك أنه كفر. وأما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو ونحو ذلك ، فليس منهيا عنه ، لأنه لمصلحة ، ففي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا ، يروى أن غارة أتتهم يوما ، فصاح العباس : يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته.

٩ ـ إن مخالفة النهي في الآية برفع الصوت أكثر من الحالة المتوسطة المعتادة يؤدي إلى إحباط الأعمال وإبطال الثواب. وليس قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ويكون قوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به.

١٠ ـ إن الذي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تكلموا إجلالا له ، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له ، أولئك الذين اختص الله قلوبهم للتقوى ، وطهرهم من كل قبيح ، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى ، ولهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب عظيم وهو الجنة.

١١ ـ إن أعراب بني تميم الذين وفدوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلوا مسجد المدينة ، ونادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا ، فإن مدحنا زين ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٧٠٣.

٢٢٣

وذمّنا شين ، هم قوم جهلة ذوو طباع جافة قاسية. وكانوا سبعين رجلا ، وكان المنادي منهم الأقرع بن حابس ، في رواية الترمذي عن البراء بن عازب ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نام للقائلة ، جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر ، فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصفهم ، وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء.

وقال مقاتل : كانوا تسعة عشر : منهم قيس بن عاصم ، والزّبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هاشم ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن ، وهو الأحمق المطاع.

١٢ ـ لو انتظروا خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه ، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.

١٣ ـ قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حث على التوبة والإنابة إلى الله تعالى.

الآداب العامة

ـ ١ ـ

وجوب التثبت من الأخبار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

٢٢٤

الإعراب :

(فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أَنْ تُصِيبُوا) : في تقديره وجهان : إما كراهية أن تصيبوا ، أو لئلا تصيبوا. و (بِجَهالَةٍ) : حال من فاعل تبينوا ، أي جاهلين.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أن وما بعدها سادّ مسدّ مفعولي (اعْلَمُوا).

(فَضْلاً مِنَ اللهِ) إما مفعول لأجله ، أو مصدر مؤكد لما قبله.

البلاغة :

(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) التفات عن الخطاب للغيبة بعد قوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ).

بين (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وبين (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) ما يسمى بالمقابلة.

المفردات اللغوية :

(فاسِقٌ) خارج عن حدود الدين أو الشرع ، مأخوذ من قولهم : فسق الرطب : إذا خرج من قشره ، والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه (بِنَبَإٍ) خبر (فَتَبَيَّنُوا) أي اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب ، وقرئ : فتثبتوا من الثبات (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً) أي خشية ذلك أو كراهة إصابتكم (فَتُصْبِحُوا) تصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) من الخطأ بالقوم (نادِمِينَ) مغتمين غما لازما ، متمنين أنه لم يقع.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي فلا تقولوا الباطل ، فإن الله يخبره بالحال (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) الذي تخبرون به على خلاف الواقع (لَعَنِتُّمْ) لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ..) استدراك ببيان عذرهم ، وهو أنهم من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم الكفر ، حملهم على ذلك لما سمعوا قول الفاسق (وَزَيَّنَهُ) حسّنه (الْكُفْرَ) تغطية نعم الله تعالى بجحودها (الْفُسُوقَ) الخروج عن الحد (الْعِصْيانَ) المخالفة (أُولئِكَ) البعض المتبينون (هُمُ الرَّاشِدُونَ) الثابتون على دينهم ، وهذه جملة معترضة ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مأخوذ من الرشاد : وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) تعليل لقوله : (حَبَّبَ وَكَرَّهَ) فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل (حَكِيمٌ) في إنعامه عليهم بالتوفيق.

٢٢٥

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) : ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة. أخرج ابن جرير وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس : أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق مصدّقا (١) ، وكان بينهما إحنة (٢) ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع فقال : إن القوم همّوا بقتلي ، ومنعوا صدقاتهم ، فهمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغزوهم ، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم ، وقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك ، فخرجنا نكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاتهمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي ، يقاتل مقاتلتكم ، ويسبي ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف علي رضي‌الله‌عنه ، فقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد ، فوجدهم منادين بالصلاة ، متهجدين ، فسلموا إليه الصدقات ، فرجع.

ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبإ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت ، وترك الاعتماد على قول الفاسق ، قال الحسن البصري : فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة ، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ، ما نسخها شيء.

وأكد الرازي ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد ، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقا ، كيف والفاسق في أكثر المواضع : المراد به

__________________

(١) المصدّق : الذي يأخذ صدقات (زكوات) الغنم.

(٢) الإحنة : الحقد ، جمع إحن.

٢٢٦

من خرج عن ربقة الإيمان ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٦] وقوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف ١٨ / ٥٠] وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة ٣٢ / ٢٠] (١).

لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار فاسقا بكذبه ، والظاهر أنه سمي فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت ، فهو متأول ومجتهد ، وليس فاسقا على الحقيقة.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بأمرين : وهما طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخفض الصوت عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لبيان وجوب احترامه ، أردفه بأمر ثالث وهو وجوب التثبت من الأخبار ، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال ، منعا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعتهم. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة ، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد ، فتبينوا الحقيقة ، وتثبتوا من الأمر ، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر ، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى ، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه ، وأنتم جاهلون حالهم ، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك ، مغتمين له ، متمنين عدم وقوعه.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١١٩

٢٢٧

وفي تنكير (فاسِقٌ) و (بِنَبَإٍ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء ، كأنه قال : أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول الفاسق ، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه (١).

والآية دالة على أن خبر الواحد العدل حجة ، وشهادة الفاسق لا تقبل.

ثم ذكّرهم بوجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ليعظموه ويسألوه ، فقال :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي اعلموا أن معكم رسول الله ، فعظموه ووقروه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم ، ولا تقولوا قولا باطلا ، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبين حقيقة الخبر ، ولو أطاعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار ، وتشيرون عليه من الآراء غير الصائبة ، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت ، وهو التعب والإثم والهلاك ، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل اتضاح الأمور ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر والتأمل فيه.

وإنما قال : (يُطِيعُكُمْ) بلفظ الاستقبال دون : أطاعكم ، للدلالة على استمراره في التثبت والتحقق مما ينقل إليه من الأخبار ، بدليل قوله : (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء ، فلو أرادوا منه الاستمرار في طاعته لهم ، لوقعوا في الإثم والهلاك.

وفي قوله (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب ، وإشارة إلى تصويب رأي بعضهم ، ولهذا استدرك مشيرا إلى رأي بعضهم في ضرورة التريث إلى أن يتبين أمر بني المصطلق ، فقال :

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٤٩

٢٢٨

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي ولكن الله حبّب أي قرّب الإيمان إلى بعضكم ، وإلا لم يحسن الاستدراك ب (لكِنَ) فلم يقع في ورطة التسرع في الأخبار ، وعدم التثبت فيها ، وكانوا أبرياء من اتهام الآخرين ، لأن الله جعل الإيمان أحب الأشياء إليكم ، وحسّنه بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبكم ، وجعل كلا من الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) مكروها عندكم.

وهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين استقاموا على طريق الحق ، ومقتضى الشرع ، وأدب الدين ، فلم ينزلقوا في اتهام غيرهم دون تثبت.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إن الله حبّب إليكم الإيمان ، وكرّه إليكم الأمور الثلاثة المتقدمة تفضلا منه عليكم ، وإنعاما من لدنه ، والله عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة ، حكيم في تدبير شؤون خلقه ، وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية ، أخذا بالحيطة والحذر ، ومنعا من إيذاء الآخرين بخطإ فادح ، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادما على العجلة وترك التأمل والتأني. لذا كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «التأني من الله ، والعجلة من الشيطان»(١).

٢ ـ في هذه الآية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) دليل على قبول خبر الواحد إذا

__________________

(١) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن انس بن مالك ، وهو ضعيف.

٢٢٩

كان عدلا ، لأنه إنما أمر المسلم في الآية بالتثبت عند نقل خبر الفاسق ، ومن ثبت فسقه ، بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة ، والفسق قرينة يبطلها ، فالفسق علة التبين ، فإن لم يوجد لم يكن علة. واستثنى الإجماع والدعاوي والإنكار والإقرار لغيره بحق على نفسه وإثبات حق مقصود على الغير أي أمور المعاملات ، كأن يقال : أرسل فلان إليك كذا أو هذا مالي ، ولو كان المخبر كافرا. أما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون الكافر وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها ، فيلي تزويجها ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفّرة ، وبها يحمي الحريم. ويرى الحنفية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والخلاصة : أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق وإثبات أحكام الدين في غير الاعتقاد.

٣ ـ استدل بعضهم بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة ، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، كما قال الألوسي. ومذهب الحنفية : أن الفاسق لا تقبل شهادته ، وإن كان أهلا لها ، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا ، وينفذ قضاؤه (١).

٤ ـ استدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال ، لأن الآية دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت والتبين ، فيقتصر فيه على محل وروده ، ويبقى ما وراءه على الأصل ، وهو القبول.

٥ ـ في الآية أيضا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم (أي اليقين) بدليل وجوب التثبت فيه ، إذ لو كان يوجب العلم بحال ، لما احتيج فيه إلى التثبت (٢).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٩٨

(٢) المرجع السابق : ص ٣٩٩

٢٣٠

٦ ـ قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبّة مال ، كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين؟! ومن صلّى خلف الفاسق تجب عليه الإعادة سرا في نفسه ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة (١).

٧ ـ إذا كان الفاسق واليا ينفذ من أحكامه ما وافق الحق ، ويردّ ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال.

٨ ـ لا خلاف في قبول قول الفاسق إذا كان رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه ، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه. لكن لا يقبل قوله فيما إذا تعلق بقول الفاسق حق للغير.

٩ ـ استدل بعضهم بالآية على أن من الصحابة من ليس بعدل ، لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة ، فإنها نزلت فيه ، ولا يمكن إخراج سبب النزول من اللفظ العام ، وهو صحابي بالاتفاق. وقال أكثر العلماء : الصحابة كلهم عدول.

١٠ ـ الفاسق نوعان : فاسق غير متأول ، وهذا لا خلاف في أنه لا يقبل خبره. وفاسق متأول كالجبرية والقدرية ، ويقال له : المبتدع بدعة واضحة ، وفي هذا خلاف ، فمن الأصوليين كالشافعي : من ردّ شهادته وروايته معا ، ومنهم من قبلهما وهم جمهور الفقهاء والمحدثين ، لأن رد شهادته لتهمة الكذب ، والفسق اعتقاد لا يمنع الصدق ، وأما الرواية فمن احترز عن الكذب على غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد تحرزا.

١١ ـ إن قضى الفاسق بما يغلب على الظن ، كالقضاء بالشاهدين العدلين ، لم

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧٠٣ وما بعدها.

٢٣١

يكن ذلك عملا بجهالة ، وإنما العمل بجهالة : قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقوله.

١٢ ـ إن وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن ، فيمنع التسرع في إصدار الأحكام ، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه ، لكان خطأ ، ووقع في العنت (الإثم والمشقة والهلاك) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ويكون المراد من قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) ألا تكذبوا ، فإن الله تعالى يعلم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنباءكم ، فتفتضحون.

١٣ ـ ذكر الله الإيمان وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم وهي الكفر والفسوق والعصيان ، والإيمان اسم لثلاثة أشياء : التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح (الأعضاء). والكفر : هو الإنكار وهو يقابل الإذعان بالجنان ، والفسوق يقابل الإقرار باللسان ، والعصيان يقابل العمل البدني ، فهو ترك العمل بالطاعات والأحكام الشرعية ويشمل جميع المعاصي وهذا يعني أن المؤمن المتثبت لا يكذب.

١٤ ـ استدلت الأشاعرة بقوله (حَبَّبَ وَكَرَّهَ) على مسألة خلق الأفعال ، أي أن الله تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم ، لا شريك له ، لقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٦]. وهذا رد على القدرية (١) والإمامية والمعتزلة الذين يقولون : إن الإنسان يخلق

__________________

(١) الجبرية والقدرية : فرقتان شاذتان في العقيدة خرجا عما عليه جمهور العلماء ، تقول الأولى : إن الله تعالى مجبر للعبد على فعله ، وليس لإرادة الإنسان واختياره دخل حقيقي فيها وتقول الثانية : إن العبد خالق لأفعاله ، دون أن يكون لله عليه سلطان فيها (الشافي شرح أصول الكافي للشيخ عبد الله المظفر : ٢ / ٢٣٦ ، والكافي تأليف العلامة محمد بن يعقوب الكليني الرازي).

٢٣٢

أفعال نفسه. ويؤولون آية (حَبَّبَ ... وَكَرَّهَ) على اللطف والتوفيق.

١٥ ـ إن الذين وفقهم الله ، فحبّب إليهم الإيمان ، وكرّه إليهم الكفر ، أي قبّحه عندهم هم الراشدون ، والله فعل ذلك بهم فضلا منه ونعمة من لدنه ، والفضل : ما في خزائن الله من الخير ، وهو مستغن عنه ، والنعمة : ما يصل من الفضل إلى العبد ، وهو ما يحتاج إليه.

وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتزموا إرشاده ، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم ، فاستحقوا الرشد ، وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.

١٦ ـ إن الله تعالى عليم بكل شيء ، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه ، ومن يريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده ، وهو فوق هذا يعلم الأشياء ، ويعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ويأمره بما تقضي به الحكمة ، فيجب الوقوف عند أمره ، واجتناب الاقتراح عليه.

١٧ ـ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه يدعو دائما بمضمون الآية [٧] أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم أحد ، وانكفأ المشركون ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استووا حتى أثني على ربي عزوجل ، فصاروا خلفه صفوفا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرّب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت.

اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

٢٣٣

اللهم أسألك النعيم يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا.

اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.

اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدّون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق».

ـ ٢ ـ

وسائل فض المنازعات الداخلية حكم البغاة

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

الإعراب :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا طائِفَتانِ) : مرفوع بفعل مقدر ، تقديره : وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، ولا يجوز أن يحذف الفعل مع كلمات الشرط العاملة إلا مع «إن» لأنها الأصل في حروف الشرط ، ويثبت للأصل ما لا يثبت للفرع.

٢٣٤

والقياس : اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عيلة ، أو اقتتلا كما قرأ عبيد بن عمير ، على تأويل الرهطين أو النفرين ، وإنما قال : اقتتلوا في قراءة حفص حملا على المعنى دون اللفظ ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ، فكل طائفة جماعة ، والطائفة أقل من الفرقة.

البلاغة :

(اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بينهما طباق.

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) بينهما جناس الاشتقاق.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) تشبيه بليغ ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه ، وأصله المؤمنون كالإخوة في التراحم.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتحضيض.

المفردات اللغوية :

(طائِفَتانِ) تثنية طائفة : الجماعة من الناس (اقْتَتَلُوا) جمع الفعل ، لأن الطائفتين في معنى القوم أو الناس ، أو لأن أقل الجمع اثنان. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصح والدعوة إلى حكم الله ، وامنعوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب (بَغَتْ) تعدت وتجاوزت الحد وجارت ، من البغي : الظلم (تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) الحق (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أزيلوا آثار النزاع بضمان المتلفات بالإنصاف (وَأَقْسِطُوا) اعدلوا في كل الأمور من الإقساط : إزالة القسط وهو الجور ، والقاسط : الجائر ، كما في آية : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن ٧٢ / ١٥] يقال : أقسط : عدل ، وقسط : أخذ حق غيره ، والمقسط : العادل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين ، أي يحمد فعلهم بحسن الجزاء.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين والعقيدة والإيمان الموجب للحياة الأبدية ، فالأخوة في الدين أقوى وأدوم من أخوة النسب والصداقة ، وهو تعليل للأمر بالإصلاح ، لذا كرر الإشارة إلى الإخاء مرتبا عليه الأمر بالإصلاح ، فقال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا تنازعا ، وخص الاثنين بالذكر ، لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق ، وقرئ : إخوتكم وإخوانكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة حكمه والإهمال فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على تقواكم.

٢٣٥

سبب النزول :

نزول الآية (٩):

(وَإِنْ طائِفَتانِ ..) : أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه : «أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا نبي الله ، لو أتيت عبد الله بن أبيّ ، فانطلق إليه على حمار ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فبال الحمار فقال : إليك عني ، فو الله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال عبد الله بن رواحة : والله ، إن بول حماره أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنّعال ، فأنزل الله فيهم : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..)».

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال ما قال ، فرد عليه عبد الله بن رواحة ، فتعصب لكل أصحابه ، فتقاتلوا ، فنزلت ، فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاصطلحوا ، وكان ابن رواحة خزرجيا ، وابن أبيّ أوسيا.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها ، وجعلها في علّية له ، لا يدخل عليها أحد من أهلها ، فبعثت المرأة إلى أهلها ، فجاء قومها ، وأنزلوها لينطلقوا بها ، واستعان الرجل بقومه ، فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا وكان بينهم معركة ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى.

وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعون إلى الحكم ، فيأبوا أن يجيبوا ، فأنزل الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ ..).

٢٣٦

وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار ، كانت بينهما مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعا ليحاكمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى ، فلم يزل الأمر ، حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف.

والخلاصة : يمكن أن تتعدد أسباب النزول ، والوقائع المذكورة متشابهة.

المناسبة :

بعد أن حذر الله تعالى المؤمنين من نبأ الفاسق ، أبان هنا ما يترتب على خبره من الفتنة والنزاع ، وربما الاقتتال ، فطلب تعالى الإصلاح بالوسائل السلمية بين المتنازعين كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم ، فإن بغت إحدى الفئتين على الأخرى ، فتقاتل الباغية الظالمة. ثم علل الأمر بالصلح بوجود رباط الأخوة بين الفريقين ، ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى الله وطاعة أوامره.

التفسير والبيان :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين ، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم الله والإرشاد وإزالة الشبه وأسباب الخلاف.

والتعبير بإن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين ، وأنه إن وقع ، فإنما هو نادر قليل. والخطاب في الآية لولاة الأمور ، والأمر فيها للوجوب.

وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من

٢٣٧

الإيمان ، خلافا للمعتزلة والخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار.

وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوما ، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما ، فجعل ينظر إليه مرة ، وإلى الناس أخرى ، ويقول: «إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى ، ولم تذعن لحكم الله وللنصيحة ، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية ، حتى ترجع إلى حكم الله وما أمر به من عدم البغي. والقتال يكون بالسلاح وبغيره ، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة ، وهي الفيئة ، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة ، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي رجعت الفئة الباغية عن بغيها ، بعد القتال ، ورضيت بأمر الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم ، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى ، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى.

واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما ، إن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور.

أخرج ابن أبي حاتم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما قال : إن

٢٣٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ ، بين يدي الرحمن عزوجل بما أقسطوا في الدنيا» (١).

وأخرج مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور ، على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا».

ثم أمر الله تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف ، فقال :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي تتميما للإرشاد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين ، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان ، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين ، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر الله بالتقوى ، والمعنى : فأصلحوا بينهما ، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى الله وخشيته والخوف منه ، بأن تلتزموا الحق والعدل ، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين ، فإنهم إخوانكم ، والإسلام سوّى بين الجميع ، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق ، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.

ويلاحظ أنه قال : اتقوا الله عند تخاصم رجلين ، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين ، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة ، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل.

وكلمة (إِنَّمَا) للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين ، ولا أخوة بين المؤمن والكافر ، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه ، وتفيد أيضا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام ، لا بين الكفار. فإن كان

__________________

(١) إسناده جيد قوي ، ورجاله على شرط الصحيح.

٢٣٩

الكافر ذميا أو مستأمنا وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه ، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقا إن كان خصمه حربيا.

وجاءت أحاديث كثيرة تؤيد أخوة الدين ، جاء في الصحيح : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه» وفي الصحيح أيضا : «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» وفي الصحيح كذلك : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» «المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشدّ بعضه بعضا ، وشبّك بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وأخرج أحمد عن سهل بن سعد الساعدي رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المؤمن من أهل الأديان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان ، كما يألم الجسد لما في الرأس».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ يجب على ولاة الأمور وحكام الدول الإسلامية الإصلاح بين فئتين متقاتلتين مسلمتين ، بالدعوة إلى كتاب الله لهما أو عليهما ، وبالنصح والإرشاد ، والجمع والتوفيق بين وجهات النظر.

٢ ـ فإن تعدّت إحدى الفئتين ولم تستجب إلى حكم الله وكتابه ، وتطاولت وأفسدت في الأرض ، فيجب قتالها باستعمال الأخف فالأخف حتى الفيئة إلى أمر الله ، أي الرجوع إلى كتابه ، فإن رجعت وجب حمل الفئتين على الإنصاف والعدل ، فإن الله يحب العادلين المحقين ، ويجازيهم أحسن الجزاء.

والفئة الباغية في اصطلاح الفقهاء : فرقة خالفت الإمام بتأويل سائغ في

٢٤٠