التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا : أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي واذكر أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك يا محمدا نفرا من الجن ، وبعثناهم إليك ، لهداية قومهم ، فلما حضروا القرآن عند تلاوته ، أمروا بعضهم بعضا بالإنصات والإصغاء لكي يسمعوا سماع تدبر وتأمل وإمعان ، وكان ذلك ببطن نخلة على بعد ليلة من مكة على طريق الطائف ، وكانوا من أشراف جنّ نصيبين أو من نينوى بالموصل ، بعد عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف حينما خرج يدعوهم إلى الإسلام.

فلما فرغ من تلاوة القرآن في صلاة الفجر ، رجعوا قاصدين إلى قومهم ، مخوفين إياهم من مخالفة القرآن ، ومحذرين لهم من عذاب الله.

والآية دالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مرسلا إلى الجن والإنس ودلت روايات السنة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة في الليلة الأولى ، وإنما استمعوا قراءته ، ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا ، قوما بعد قوم ، وفوجا بعد فوج.

من تلك الروايات الدالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بحضورهم : ما ذكر سابقا عن ابن مسعود في سبب النزول ، ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان الجن يستمعون الوحي ، فيسمعون الكلمة ، فيزيدون فيها عشرا ، فيكون ما سمعوا حقا ، وما زادوا باطلا ، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ، فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث ، فبثّ جنوده ، فإذا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض.

٦١

وأما ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال : «سألت ابن مسعود ، من آذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن قال : آذنته بهم الشجرة» فهو مؤيد لما سبق ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي أعلمته باجتماعهم.

وهناك روايات كثيرة دالة على لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجن وتبليغهم رسالته وتلاوة القرآن عليهم (١) ، منها ما أخرجه أحمد ومسلم في صحيحة عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه : هل صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة ، فقلنا : اغتيل؟! استطير؟! ما فعل؟ قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال : في السحر ـ إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، فذكروا له الذي كانوا فيه ، فقال : «إنه أتاني داعي الجن ، فأتيتهم ، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

وفي رواية عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون».

وسورة الجن قاطعة الدلالة على استماع الجن القرآن ومطلعها : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ، فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [١ ـ ٢].

وقال الله تعالى هنا :

(قالُوا : يا قَوْمَنا ، إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) قالت الجن : يا قومنا الجن : إنا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى ، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير : ٤ / ١٦٤ ـ ١٦٩

٦٢

الرسل ، يرشد إلى الدين الحق ، وإلى طريق الله القويم في العقائد والعبادات والأعمال والأخبار.

ولم يذكروا عيسى عليه‌السلام إما لأنه كما قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا ، وإما لأن عيسى أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ ورقائق أدبية إنسانية ، وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة في التشريع لليهود والنصارى على السواء هو التوراة ، فلهذا قالوا : أنزل من بعد موسى.

وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة بدء نزول الوحي عليه ونزول جبريل عليه‌السلام أول مرة ، فقال : «هذا الناموس (١) الذي نزّل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا (٢) إذ يخرجك قومك».

والخلاصة : أنهم خصوا التوراة ، لأنها مصدر الشرائع والأحكام في الماضي ، ولأنها متفق عليها عند أهل الكتاب.

(يا قَوْمَنا ، أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا الجن ، أجيبوا رسول الله خاتم النبيين أو القرآن إلى توحيد الله وعبادته وطاعته ، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من حقوق الله ، أما حقوق العباد فلا تسقط إلا بتنازل أصحابها عنها ، وكذلك يحميكم ويقيكم وينقذكم من عذاب موجع مؤلم هو عذاب النار ، ويدخل المؤمن منكم الجنة ، لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ٥٥ / ٤٦ ـ ٤٧].

وفي الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الثقلين : الجن والإنس ، حيث دعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب

__________________

(١) ناموس الرجل : أمين السر ، أو صاحب السر الذي يطلعه على باطن أمره ويخصّه بما يستره عن غيره ، وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه‌السلام النّاموس.

(٢) أي شابا جلدا قويا.

٦٣

الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم.

ولا فرق في الثواب والعقاب والأوامر والنواهي واستحقاق الجنة والنار بين الإنس والجن ، لأن التكليف واحد ، ولأن عموم آيات خطاب الفريقين يشمل كلا منهما ، فلا يصح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما يجأرون فقط من عذاب النار يوم القيامة. ومما يدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف ١٨ / ١٠٧].

ثم حذروا قومهم من المخالفة ، فقالوا :

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ومن لا يجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التوحيد وطاعة الله ، فلا يفوت الله ولا يسبقه ، ولا يفلت منه ، ولا يقدر على الهرب منه ، لأنه في أرض الله ، وليس له من غير الله أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله ، أولئك الذين لا يجيبون داعي الله في خطأ ظاهر واضح.

وهذا تهديد ووعيد ، وبذلك جمعوا على وفق نهج القرآن بين الترغيب والترهيب ، ولهذا جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفودا وفودا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن المقصود من الآيات توبيخ مشركي قريش على عدم إيمانهم ، فإن الجن سمعوا القرآن ، فآمنوا به ، وعلموا أنه من عند الله ، فما بالكم أيها المشركون وأمثالكم تعرضون وتصرون على الكفر؟!

٢ ـ وهناك قصد آخر وهو تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن

٦٤

دعوته ، حتى إنه ذهب إلى الطائف لدعوة ثقيف وأهلها إلى الإسلام ، فسلطوا عليه غلمانهم وسفهاءهم ، فرموه بالحجارة وأدموه ، فاتجه داعيا إلى الله في خشوع وتضرع واستنصار قائلا ـ كما روى محمد بن إسحاق في سيرته ـ : «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت أرحم الراحمين ، ورب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى عدو بعيد يتجهّمني (١) ، أم إلى صديق قريب ملّكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي.

أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك».

٣ ـ وفي عودته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف حينما كان يصلي الفجر أو قيام الليل في موضع يسمى «نخلة» من ضواحي مكة ، جاءه وفد من الجن سبعة أو تسعة من جن نصيبين أو من نينوى بالموصل ، فاستمعوا إلى تلاوته القرآن ، وهو لا يشعر بهم ، فكانت هذه الآيات تطييبا لخاطره ، وشد عزيمته وتقوية روحه.

٤ ـ كان أدب الجن عظيما حين سماعهم القرآن ، فينبغي التأسي بهم ، فإنهم لما حضروا القرآن واستماعه أو حضروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال بعضهم لبعض : اسكتوا لاستماع القرآن ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلاوة القرآن ، انصرفوا قاصدين من وراءهم من قومهم من الجنّ ، منذرين لهم مخالفة القرآن ، ومحذّرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا.

٥ ـ دلت هذه القصة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل مبعوث إلى الإنس والجن معا ، وعلى أنهم آمنوا به ، وأنه بعد علمه بهم ، أرسلهم في الليلة الثانية إلى قومهم ،

__________________

(١) أي يلقاني بالغلظة والشدة والوجه الكريه.

٦٥

بدليل قولهم : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) ولو لا ذلك لما أنذروا قومهم ، فتكون ليلة الجن ليلتين.

٦ ـ لقد وصفوا القرآن بوصفين :

الأول ـ كونه مصدقا لما بين يديه ، أي مصدقا لكتب الأنبياء المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد والأمر بمحاسن الأخلاق.

الثاني ـ قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى دين الحق ، ودين الله القويم.

وهذا يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس ، قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويؤكد عموم دعوته ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحلّت لي الغنائم ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ، فأيّما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان ، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة». قال مجاهد : الأحمر والأسود : الجن والإنس.

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة : «وبعثت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

٧ ـ أمر الجن قومهم بإجابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما أمر به ، ومنه الأمر بالإيمان ، فإن آمنتم بالداعي ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وينقذكم من عذاب مؤلم موجع. قال ابن عباس : فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا ، فرجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوافقوه بالبطحاء ، فقرأ عليهم القرآن ، وأمرهم ونهاهم.

٦٦

ويلاحظ أنهم حين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم : (وَآمِنُوا بِهِ) لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. وخصصوا المغفرة ببعض الذنوب ، لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم.

٨ ـ دلت هذه الآي على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن البصري : ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار ، وكذا قال أبو حنيفة ، ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم. وقد أجبت عن هذا في تفسير الآيات ، لذا ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك إلى أن الجن كما يعاقبون في الإساءة ، يجازون في الإحسان مثل الإنس. قال القشيري : والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء ، والعلم عند الله. وقال القرطبي : قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام ٦ / ١٣٢] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة ، لأنه قال في أول الآية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) [الأنعام ٦ / ١٣٠] إلى أن قال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)(١). وقال النيسابوري : «والصحيح أنهم في حكم بني آدم ، يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون» (٢).

٩ ـ إن من لا يجيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمعجز لله في الأرض فلا يفوته ولا يسبقه ولا يهرب منه ، وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذاب الله ، وهو من الضالين المخطئين في ضلال واضح.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢١٧ وما بعدها.

(٢) غرائب القرآن : ٢٦ / ١٧

٦٧

إثبات البعث والأمر بالصبر

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

الإعراب :

(بِقادِرٍ) : دخلت الباء لدخول حرف النفي في أول الكلام ، فهو في قوة أليس الله بقادر ، كما دخلت في قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة ٢ / ١٠٥] وقادر : خبر (أَنَ).

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. يَوْمَ) : منصوب بتقدير فعل ، أي واذكر يوم يعرض.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، بَلاغٌ) فيه محذوف تقديره : فإنهم لم يلبثوا يوم يرون ما يوعدون إلا ساعة من نهار ، فيوم : منصوب ب (يَلْبَثُوا). و (بَلاغٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا بلاغ ، فحذف المبتدأ للعلم به ، ويجوز فيه النصب لوجهين :

أحدهما ـ على أنه مصدر.

والثاني ـ على الوصف لساعة.

٦٨

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمْ يَرَوْا) يعلموا ، أي يعلم منكرو البعث (يَعْيَ) يعجز عنه ويضعف (بَلى) هو قادر على إحياء الموتى ، والفرق بين بلى ونعم أن (بَلى) جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه ، أي فهي لإثبات النقيض ، ونعم لتقرير ما قبلها. (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) بأن يعذبوا في النار (أَلَيْسَ هذا) أي يقال لهم : أليس هذا التعذيب أو العذاب؟.

(فَاصْبِرْ) على أذى قومك (أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أصحاب الثبات والحزم والجد والصبر ، فإنك من جملتهم ، و (مِنَ) في قوله (مِنَ الرُّسُلِ) للبيان ، فكلهم ذوو عزم ، وهم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنهم أصحاب الشرائع الكبرى الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ، ومعاداة الطاعنين فيها (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لقومك نزول العذاب بهم ، فإنه نازل بهم في وقته لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة ، لطوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) لم يقيموا في الدنيا في ظنهم إلا مقدار ساعة ، لشدة ما يرون من أهوال (بَلاغٌ) أي هذا القرآن أو السورة أو الذي وعظتهم به تبليغ من الله إليكم (فَهَلْ يُهْلَكُ) أي لا يهلك عند رؤية العذاب (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الكافرون الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة.

المناسبة :

بعد إثبات وجود الإله القادر الحكيم المختار في أول السورة ، وإبطال قول عبدة الأصنام ، وإثبات النبوة ، ومناقشة المشركين في عقائدهم الباطلة ورد شبهاتهم ، وتوبيخهم على عدم إيمانهم مع أن الجن آمنوا بالقرآن ، بعد هذا أثبت الله تعالى مسألة المعاد ، لأن المشركين كانوا ينكرونها ، فتكون أغراض السورة المكية قد تحققت ، وهي إثبات التوحيد والنبوة والبعث ، ثم ذكر بعض أحوال الكفار في الآخرة.

ثم سلّى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمره بالصبر في دعوته ، كصبر الأنبياء أولي العزم قبله ، لتبليغ ما أمروا بأدائه ، وعدم استعجال العذاب لهم ، وذلك تعليم لنا ودرس وعظة بليغة.

٦٩

التفسير والبيان :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أو لم يتفكر ويعلم هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة ، المستبعدون لإعادة الحياة في الأجسام مرة أخرى ، أن الذي خلق الكون من السموات والأرض في ابتداء الأمر ، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن خلقهن ، بل قال لها : كوني فكانت ، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى ، كما قال تعالى في آية أخرى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٧].

وبما أن الجواب معروف بداهة ، أجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : بلى أي بل هو قادر على ذلك كله ، إنه سبحانه قادر على أي شيء أراد خلقه ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وبعد إثبات البعث ذكر تعالى بعض أحوال الكفار يوم القيامة ، فقال :

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا : بَلى وَرَبِّنا) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذب الكافرون بالله في النار ، ويقال لهم توبيخا وتأنيبا : أليس هذا العذاب الذي تعذبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه؟ فيقولون معترفين حيث لا ينفعهم الاعتراف : بلى والله ربنا إنه لحق ، أي إنه لا يسعهم إلا الاعتراف.

(قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال الله على سبيل الإهانة والتوبيخ : ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.

وبعد تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجواب عن شبهات المشركين ، أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على تكذيب قومه قائلا :

٧٠

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك كصبر أولي الثبات والجد والعزيمة من الرسل وأنت من جملتهم ، وهم أصحاب الشرائع : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولا تستعجل يا محمد العذاب لهم ، أي للكفار ، فإنه واقع بهم لا محالة. ومفعول الاستعجال محذوف ، وهو العذاب.

روى ابن أبي حاتم والديلمي عن مسروق قال : قالت لي عائشة رضي‌الله‌عنها : ظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما ، ثم طواه ـ أي ظل في يومه لا يأكل ولا يشرب ـ ثم ظل صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ، ثم قال : «يا عائشة ، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ، ولا لآل محمد ، يا عائشة ، إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرن كما صبروا ، جهدي ، ولا قوة إلا بالله».

ونظير (لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١١] وقوله سبحانه : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق ٨٦ / ١٧].

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، بَلاغٌ ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)؟ أي كأن الكافرين حين يشاهدون ما أوعدهم الله به من العذاب ، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام ، لما يشاهدونه من الأهوال العظام ، كما قال تعالى : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣] وقال عزوجل : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦].

وهذا القرآن الذي وعظهم به الله تعالى والنبي : تبليغ كاف يقطع حجة

٧١

الكافرين ، كما قال تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) [إبراهيم ١٤ / ٥٢] وقال سبحانه (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٦]. والبلاغ : بمعنى التبليغ.

ولا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة ، والواقعون في معاصي الله ، فلا يهلك على الله إلا هالك مشرك ، وهذا من عدل الله تعالى ألا يعذب إلا من يستحق العذاب. وهذه الآية أقوى آية في الرجاء.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ دلت الآية الأولى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) على كونه تعالى قادرا على البعث ، لأنه خلق السموات والأرض ، ولا شك أن خلقها أعظم من إعادة الشخص حيا بعد أن صار ميتا ، والقادر على الأقوى الأكمل ، لا بد من أن يكون قادرا على الأقل والأضعف.

ثم إن الله تعالى قادر على كل شيء ، وتعلق الروح بالجسد أمر ممكن ، إذ لو لم يكن ممكنا لما وقع أولا ، والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فوجب كونه قادرا على تلك الإعادة.

٢ ـ ذكر الله تعالى الكفار حين تعذيبهم بالنار ، حيث يقال لهم توبيخا وتهكما على استهزائهم بوعد الله ووعيده : أليس هذا العذاب حقا؟ فذوقوا العذاب بكفركم.

٣ ـ أمر الله نبيه والمؤمنين بالصبر في تبليغ الدعوة ومشاق الحياة ، كصبر أصحاب الشرائع الكبرى : وهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. وسبب هذا الأمر : أن الكفار كانوا يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٧٢

ويضايقونه ويوغرون صدره الشريف ، فتكون كلمة من للتبعيض.

وفي قول آخر : إن كل الرسل أولو عزم ، ولم يبعث الله رسولا إلا إذا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال وعقل ، فتكون كلمة من للتبيين لا للتبعيض.

وفي قول : كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متّى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهي أن يكون مثله ، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولّى مغاضبا لقومه.

وهل الأمر بالصبر منسوخ؟ قال بعض المفسرين : الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة ، قال القرطبي : والأظهر أنها منسوخة ، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فأمره الله عزوجل أن يصبر على ما أصابه ، كما صبر أولو العزم من الرسل ، تسهيلا عليه وتثبيتا له.

والراجح لدي أنها غير منسوخة ، لأن فضيلة الصبر ذات قيمة أدبية رفيعة ، ومبدأ أخلاقي ضروري وسام في كل وقت ، ومثل هذا لا يصلح للنسخ. والصبر لا يمنع الجهاد ورد العدوان وقتال الأعداء من المشركين وغيرهم ، فهو أمر مطلوب في السلم والحرب.

٤ ـ أمر الله نبيه والمؤمنين أيضا من بعده بعدم الاستعجال في الدعاء على الكفار ، فلكل شيء أو ان بعلم الله وحكمته ، والعذاب منهم قريب ، وأنه نازل بهم لا محالة ، وإن تأخر. والسنة في الدعاء طلب الوقاية من السوء والأذى ، أخرج الطبراني عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو : «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والسلامة من كل إثم ، والغنيمة من كل برّ ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ، ولا همّا إلا فرّجته ، ولا دينا إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».

٧٣

٥ ـ إن أجل الدنيا قصير ، والآخرة خالدة دائمة ، ويحسب الكفار حين يرون أهوال عذاب الآخرة أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار ساعة من ساعات النهار.

٦ ـ في القرآن والسنة البلاغ والكفاية في إنذار الناس من العذاب ، وتحذيرهم من العقاب بسبب الكفر والعصيان.

٧ ـ من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من فسق بأن خرج من طاعة الله تعالى ، ولم يعمل بأمره ونهيه.

قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها ، تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ، ثم تغسل وتسقى منها ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا العظيم : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦]. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، بَلاغٌ ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) صدق الله العظيم.

٧٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة محمّد عليه الصلاة والسلام

مدنيّة ، وهي ثمان وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة محمد ، لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) [٢]. ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا أربع مرات ، في سورة آل عمران : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [١٤٤] وفي سورة الأحزاب : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [٤٠] وهنا في هذه السورة ، وفي سورة الفتح : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [٢٩]. وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي.

وسميت أيضا سورة القتال ، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [٤].

مناسبتها لما قبلها :

هذه السورة يرتبط أولها ارتباطا قويا بآخر سورة الأحقاف : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) حتى إنه لو أسقطت البسملة بينهما ، لكان الكلام متصلا مباشرة بما قبله اتصالا لا تنافر فيه ، كالآية الواحدة.

ما اشتملت عليه السورة :

يمكن أن يوصف موضوع هذه السورة بأنه الجهاد في سبيل الله ، وبما أن

٧٥

السورة مدنية ، فهي معنية بأحكام التشريع ، لا سيما أحكام القتال والأسرى والغنائم ووصف الكافرين والمؤمنين وجزاء الفريقين في الدنيا والآخرة ، وأحوال المنافقين والمرتدين ووعدهم ووعيدهم.

بدأت السورة مباشرة وبما يلفت النظر بالحديث عن الكفار أعداء الله والرسول ، وإظهار غضب الله عليهم ، وأردفت ذلك بوصف المؤمنين وبيان رضا الله عليهم ، لإظهار الفرق الواضح بين الفريقين : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ).

ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين قتالا عنيفا لا هوادة فيه ، لأنهم كفروا واتبعوا الباطل ، وبشّرت المؤمنين بالنصر إن نصروا دين الله وصبروا في مواجهة الأعداء ، وأبانت خذلان الكافرين لكراهيتهم ما أنزل الله ، وفي هذا تعريف بجزاء المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.

ثم عنيت بضرب الأمثال لكفار مكة وأمثالهم بالطغاة السابقين وكيفية تدميرهم بسبب طغيانهم : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ..).

ووصفت بعدئذ ألوان نعيم الجنة المعدة للمتقين للترغيب والإقبال على الإيمان والطاعة.

وانتقل البيان إلى وصف المنافقين والمرتدين ووعدهم وتهديدهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ .. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) إلى آخر السورة. وذكرت في ثنايا ذلك أن الكافرين الصادّين عن سبيل الله والمعادين للرسول لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ، ولن يغفر الله لهم ، وذكّرت بوجوب طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وختمت السورة بما يناسب موضوعها الأصلي وهو الجهاد في سبيل الله ، فدعت المؤمنين إلى تحقيق العزة والكرامة ، وتجنب الضعف والوهن والمسالة

٧٦

المهينة ، وحذّرت من صلح الأعداء حال القوة ، ووصفت حال الدنيا باللهو واللعب ، ودعت إلى الإنفاق في سبيل الله ، فإن الدنيا فانية زائلة : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ .. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...).

فضل السورة :

أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤها في صلاة المغرب.

بيان الفرق بين الكفار والمؤمنين

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

الإعراب :

(الَّذِينَ كَفَرُوا .. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) مبتدأ وخبر ، وكذلك : (وَالَّذِينَ آمَنُوا .. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ). (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) البال : الحال والشأن : لا يثنى ولا يجمع.

(ذلِكَ بِأَنَ) مبتدأ وخبر أيضا.

البلاغة :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) بينهما مقابلة. وبين (كَفَرُوا) و (آمَنُوا) طباق.

(وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) بعد قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ذكر خاص بعد عام تعظيما

٧٧

للمنزل عليه ، وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ، ولذلك أكده بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أَصْلَحَ بالَهُمْ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) سجع رصين غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة وأهل الكتاب وأمثالهم ، أي امتنعوا عن الدخول في الإسلام (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) منعوا الناس من الدخول في الإسلام ، وهذا عام في جميع من كفر وصد. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أبطلها وأحبطها بالكفر ، فلا ثواب لها في الآخرة ، ويجزون بها في الدنيا فضلا من الله تعالى ، وذلك كصلة الأرحام ، وفك الأسارى ، وحفظ الجواز.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من المهاجرين والأنصار وأهل الكتاب وغيرهم (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) أي آمنوا بالقرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخصيصه بعد العموم تعظيم له واعتناء بشأنه. وقرئ : نزّل بالبناء للمعلوم ، وأنزل بالبناء للمعلوم والمجهول ، ونزل بالتخفيف (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه من الله (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) سترها بالإيمان وعملهم الصالح ، والسيئات : الذنوب (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد. والبال : لا يثنى ولا يجمع.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من الإضلال والتكفير والإصلاح (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) أي بسبب اتباع الكفار الباطل من الأمر والشيطان. (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي بسبب اتباع المؤمنين الحق وهو القرآن ومحمد (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان وضرب المثل (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبين أحوال الفريقين ، فالكافر يحبط عمله ، والمؤمن يغفر زلله ، والأول مثل لخيبته ، والثاني مثل لفوزه.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(الَّذِينَ كَفَرُوا) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) قال : هم أهل مكة نزلت فيهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : هم الأنصار.

٧٨

وقال ابن عباس في رواية أخرى : نزلت في المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبيّ وأميّة ابنا خلف ، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل.

التفسير والبيان :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد الله وآياته ، وعبدوا غيره ، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام ، بنهيهم عن الدخول فيه ، وهم كفار قريش ، أبطل الله ثواب أعمالهم وأحبطها وجعلها ضائعة ، ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة.

فكل ما يسمونه مكارم الأخلاق ، كصلة الرحم ، وفك الأسارى ، وقرى الأضياف ، وعمارة المسجد الحرام بالسّقاية والخدمة للحجاج ، وإجارة المستجير ، لا يقبل مع الكفر والصدّ.

ونظير الآية : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

وبعد بيان حال الكفار وجزائهم ، بيّن حال المؤمنين وجزاءهم ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا بالله ، وأطاعوه ، واتبعوا أمره ونهيه ، وانقادوا لشرع الله ظاهرا وباطنا ، وعملوا بما يرضيه من صالح الأعمال ، وصدقوا بالقرآن الذي أنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآمنوا أنه حق وآمنوا بأنه كلام الله ، والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه أنه من الله ، محا عنهم ذنوبهم التي عملوها في الماضي ، وغفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح ، وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة ، فعصمهم عن المعاصي ، وأرشدهم إلى أعمال الخير في

٧٩

الدنيا ، وورثهم نعيم الجنة في الآخرة. وهذا يشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم من المؤمنين الذين يعملون الصالحات.

وقوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة حسنة.

ثم بيّن الله تعالى سبب إضلال الكافرين وإصلاح وإسعاد المؤمنين ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي إن ذلك الجزاء المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل ، من الشرك بالله ، والعمل بمعاصيه واختياره على الحق ، وبسبب اتباع المؤمنين الحق الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي مثل ذلك البيان الرائع ، يبين الله للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة ، ويظهر مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن جزاء أهل مكة الذين كفروا بتوحيد الله ، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله ، وهو الإسلام ، بنهيهم عن الدخول فيه ، هو إبطال ثمرة أعمالهم في كفرهم ، بما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق ، فلم يبق لهم عمل ، ولم يوجد ، وأدى ذلك بالتالي إلى أنه لم يمتنع الإهلاك عنهم ، ولا صرفهم عن التوفيق لسبل السعادة.

والمراد بالإضلال : إبطال العمل وأثره بحيث لا يجده ولا يجد من يثيبه عليها.

٨٠