التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) إيجاز بالحذف مع التقريع والتوبيخ ، أي يقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ).

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) أراد به الجنس من أي قائل ، وإن صحّ نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي‌الله‌عنه قبل إسلامه ، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. (أُفٍ) بكسر الفاء وفتحها ، اسم فعل مضارع بمعنى : أتضجر ، أو مصدر ، أي : نتنا وقبحا ، والأصل فيه أنه صوت يظهر عند التضجر والتبرم. (لَكُما) أتضجر منكما. (أَنْ أُخْرَجَ) أبعث من القبر. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) مضت الأمم من قبلي ولم يخرج أحد من القبور. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يقولان له : الغياث بالله منك ، أي من كفرك ، إنكارا واستعظاما له ، أي يطلبان الغوث من الله من كفره ، أو يطلبان من الله أن يغيثه بالتوفيق للإيمان ، أي يسألان الله أن يوفقه للإيمان ، ويقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ) بالله وبالبعث. (وَيْلَكَ آمِنْ) أي هلكت ، آمن بالبعث ، والويل : دعاء بالهلاك والثبور ، أو واد في جهنم ، والمراد به الحث على الفعل أو تركه حتى لا يهلك ، لا حقيقة الهلاك. (فَيَقُولُ : ما هذا) أي ما هذا القول بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيب الأقدمين وأباطيلهم التي سطروها في كتبهم من غير حقيقة.

(حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وجب عليهم الحكم بالعذاب وأنهم من أهل النار ، قال البيضاوي : وهو يردّ النزول في عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك ، وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل للحكم على الاستئناف ، أي إنهم من الذين ضيعوا الفكر والنظر ، الشبيه برأس المال ، باتباعهم وساوس الشياطين.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل من الفريقين المؤمن والكافر مراتب ومنازل من جزاء وسبب ما عملوا من الخير والشرّ ، فدرجات المؤمنين في الجنة عالية ، ودرجات الكافرين في النار سافلة. والدرجات غالبة في المثوبة والعلو ، وجاءت هنا على التغليب ، ويقابلها الدركات في الانخفاض والنزول. و (عَمِلُوا) أي عمل المؤمنون من الطاعات ، والكافرون من المعاصي. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم ، وقرئ ولنوفيهم. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) شيئا بنقص ثواب للمؤمنين وزيادة عقاب للكفار.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون فيها ، أو تكشف لهم. (أَذْهَبْتُمْ) أي يقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ) ، فالقول مضمر وتقرأ بهمزتين مخففتين ، وبهمزة ومدة ، وبهمزة وتسهيل الثانية. (طَيِّباتِكُمْ) لذائذكم وشبابكم وقوتكم. (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) تمتعتم بها ، فما بقي لكم منها شيء. (عَذابَ الْهُونِ) الهوان والذلّ. (تَسْتَكْبِرُونَ) تتكبرون. (تَفْسُقُونَ) أي تخرجون عن

٤١

طاعة الله ، وقرئ بكسر السين. وهذا دليل على أن تعذيبهم بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله تعالى.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧):

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : نزلت هذه الآية : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ : أُفٍّ لَكُما) في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه ، وكانا قد أسلما ، وأبى هو ، فكانا يأمرانه بالإسلام ، فيرد عليهما ، ويكذبهما ويقول : فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات ، ثم أسلم بعد ، فحسن إسلامه ، فنزلت توبته في هذه الآية : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الآية.

وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس مثله.

لكن أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال : قال مروان بن الحكم في عبد الرحمن بن أبي بكر : إن هذا الذي أنزل الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ : أُفٍّ لَكُما) فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري.

وأخرج عبد الرزاق من طريق مكي : أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقالت : إنما نزلت في فلان ، وسمّت رجلا.

وقال الحافظ ابن حجر : ونفي عائشة أصح إسنادا ، وأولى بالقبول.

وقال ابن كثير : ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي‌الله‌عنهما ، فقوله ضعيف ، لأن عبد الرحمن أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من

٤٢

خيار أهل زمانه (١). وقال القرطبي : الصحيح أن الآية نزلت في عبد كافر عاق لوالديه (٢)

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى الولد البار بوالديه وفوزه وتقبل الله عمله ، وصف الولد العاقّ لوالديه هنا وجزاءه المستحق له ، ثم أخبر تعالى أن لكل من الفريقين منازل ودرجات عند ربهم : إما رفعة وإما انخفاضا ، وأخبر أيضا عما يقال للكفار توبيخا وتقريعا حين عرضهم على النار : إنكم تمتعتم في الحياة ، وتكبّرتم عن اتباع الحق ، وفسقتم عن طاعة الله ، فتجازون اليوم جزاء ما عملتم ومن أجل ما عملتم.

التفسير والبيان :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) هذا عام في كل من قال هذا ، إذ قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر : أفّ لكما ، أي تضجر وتبرم مما تقولانه ، أأنتما تخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد الله؟ إن هذا البعث بعد الموت المستبعد مستنكر ، فقد مضت الأمم السابقة الكثيرة من قبلي ، كعاد وثمود ، ماتوا ولم يبعث منهم أحد ، وذهبوا ولم يرجع منهم مخبر.

والخلاصة : المراد بالآية الجنس ، لأن خصوص السبب لا يوجب التخصيص.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ ، وَيْلَكَ آمِنْ ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي ووالداه يسألان الله أن يوفقه للإيمان ، ويقولون له : ويلك آمن بالله وبالبعث ، أي

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٨

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٩٧

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٩٧

٤٣

هلاكا لك أو هلكت ، صدّق بوعد الله في اليوم الآخر الذي وعد به خلقه أنه باعثهم من قبورهم ، ووعد الله حق لا خلف فيه ، والمراد بالدعاء عليه : الحث والتحريض على الإيمان ، لا حقيقة الهلاك.

(فَيَقُولُ : ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول هذا الولد مكذبا لما قال والداه : ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب ، فما البعث في الحقيقة إلا أمر باطل ، لا يقبله العقل ، أي في زعمه ووهمه.

ثم ذكر الله تعالى جزاء هذا القائل ، فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي إن أولئك القائلين هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب ، واستحقوا غضب الله ، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة ، فهم منضمون في ذلك إليهم ، سواء كانوا من الجن أو الإنس الذين كذبوا الرسل ، لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، لتضييعهم الفكر والنظر الشبيه برأس المال ، باتباعهم ووساوس الشيطان.

والمراد بالقول : قول الله أنه يعذبهم في جملة أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس. وهذا يقتضي أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس (١). ولعل المراد بالقول هنا قوله سبحانه لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص ٣٨ / ٨٥]. والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) للتحقير.

ثم ذكر الله تعالى مراتب كل من الفريقين : المحسن والمسيء ، فقال :

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل فريق من الفريقين : المؤمنين المحسنين الأبرار ، والكافرين الأشقياء المسيئين

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٦٢

٤٤

الأشرار من الجن والإنس مراتب ومنازل عند الله يوم القيامة إما عليا وإما دنيا ، من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منها ، وليوفيهم جزاء أعمالهم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب ، ولا يظلمهم الله مثقال ذرة فما دونها.

والدرجات : بمعنى المنازل والمراتب تشمل درجات أهل الجنة العالية ، ودركات أهل النار النازلة ، لكنه عبر بالدرجات للتغليب ، إذ الثواب درجات ، والعقاب دركات.

وبعد بيان إيصال الحق لكل أحد ، بيّن الله تعالى أولا أحوال العقاب وأهوال القيامة التي يتعرض لها الكافرون ، فقال :

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر أيها النّبي لقومك حين تعرض النار على الكفار ، أي يعذبون فيها ، أو يوم ينكشف الغطاء ، فينظرون إلى النار ، ويقربون منها ، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا : استوفيتم وأخذتم لذائذكم في الدنيا ، وتمتعتم بها ، باتباع الشهوات واللذات في معاصي الله سبحانه ، دون مبالاة بالذنب ، وتكذيبا منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظوظكم شيء منها ، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الذي فيه ذلّ لكم ، وخزي عليكم ، وإهانة ، بسبب تكبركم عن عبادة الله والإيمان به وتوحيده ، وخروجكم عن طاعة الله وعملكم بمعاصيه.

وهكذا جوزوا من جنس عملهم ، فكما متعوا أنفسهم ، واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة في دركات جهنم ، أعاذنا الله منها.

٤٥

أما الاستمتاع بالطيبات المباحات من غير اعتداء ولا تجاوز الحدود ، فهو مباح للمسلم والكافر على السواء ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة ٥ / ٨٧] ، وقوله سبحانه : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٧ / ٣٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن عقوق الوالدين من الكبائر ، وإن من أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وإنكار البعث والمعاد.

٢ ـ إن عاطفة الأبوين الصادقة المتأججة تدفعهما إلى الاستغاثة بالله وسؤاله ودعائه بالهداية لولدهما الكافر منكر البعث ، أو الاستغاثة بالله من كفره ، وهما يقولان له : ويلك آمن ، أي صدّق بالبعث ، إن وعد الله صدق لا خلف فيه ، والمراد بالدعاء عليه الحثّ والتحريض على الإيمان ، لا حقيقة الهلاك.

٣ ـ لم يقابل الولد تلك العاطفة بالتقدير والاحترام ، فأجاب والديه : ما هذا الذي تقولانه من أمر البعث وتدعوانني إليه إلا أكاذيب الأولين الأقدمين وأباطيلهم. ولم يكن قوله بلطف وإنما بتضجر وتبرم ، وذلك من الكبائر أيضا.

٤ ـ كان هذا الولد القائل وأمثاله من الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، أي وجب عليهم العذاب بكلمة الله : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي» مع أمم تقدمت ومضت من قبلهم من الجن والإنس الكافرين ، وإن تلك الأمم الكافرة ومن سار في منهجهم كانوا خاسرين لأعمالهم ، ضيعوا سعيهم ، وخسروا الجنة.

٤٦

٥ ـ لكل واحد من فريقي المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم ، وليوفيهم الله أعمالهم ولا يظلموا حقوقهم ، فلا يزاد على مسيء ، ولا ينقص من محسن.

٦ ـ يقال للكافرين تقريعا وتوبيخا حين تقريبهم من النار ونظرهم إليها ، أو عند تعذيبهم بها : لقد تمتعتم بطيبات الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات ، يعني المعاصي ، فاليوم تجزون عذاب الخزي والفضيحة والهوان ، بسبب استعلائكم على أهل الأرض بغير استحقاق ، وتكبركم عن اتباع الحق والإيمان ، وخروجكم عن طاعة الله بغيا وظلما.

ويلاحظ أن الاستكبار عن قبول الحق : ذنب القلب ، والفسق : عمل الجوارح (الأعضاء).

ويحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، لأن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.

قال المفسرون : والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها ، لقوله تعالى : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٧ / ٣٢] ، ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين ، لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم ، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له ، وقد يجرّ بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حد البعد عن الله تعالى (١).

وفي الحديث : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على أهل الصّفّة ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم(٢) ، ما يجدون لها رقاعا ، فقال : «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة ، ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ، ويراح بأخرى ، ويستر

__________________

(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري النظّام : ٢٦ / ١٢

(٢) أدم : جمع أديم وهو الجلد.

٤٧

البيت كما تستر الكعبة؟» قالوا : نحن يومئذ خير ، قال : «بل أنتم اليوم خير».

وذكر قتادة عن عمر رضي‌الله‌عنه ، قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وأحسنكم لباسا ، ولكنني أستبقي طيباتي للآخرة ، لأن الله وصف قوما ، فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ).

وعن عمر أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل ، ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع ، وقال : رأيت الله نعى على قوم شهواتهم ، فقال : (أَذْهَبْتُمْ) الآية ، فقال الرجل : اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولست منهم ، فأكل وسرّه ما سمع.

وفي صحيح مسلم وغيره : أن عمر رضي‌الله‌عنه دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مشربته (١) حين هجر نساءه ، قال : فالتفت فلم أر شيئا يردّ البصر إلا أهبا (٢) جلودا معطونة ، قد سطع ريحها ، فقلت : يا رسول الله ، أنت رسول الله وخيرته ، وهذا كسرى وقيصر في الدّيباج والحرير؟ قال : فاستوى جالسا وقال : «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت : استغفر لي ، فقال : «اللهم اغفر له».

والخلاصة : أن الآية للنعي على الكفار الذين يعذبون بالنار ، وأن استمتاعهم بالطيبات في الدنيا ليحرموا منها في الآخرة ، عدلا من الله وفضلا ورحمة. وليس في الآية أن كل من أصاب الطيبات المباحات في الدنيا ، فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة ، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم ، فلا يوبّخ بتمتعه بالدنيا.

__________________

(١) المشربة : الموضع الذي يشرب منه الناس. والمشربة : الغرفة.

(٢) الأهب : جمع إهاب : وهو الجلد.

٤٨

وعلى كل حال كان السلف الصالح يؤثرون التقشف في الدنيا ، ليكون ثوابهم في الآخرة أكمل ، أما التمتع بزخارف الدنيا المباحة فليس ممتنعا ، للآيات المتقدمة : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٨٧] ، (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ..) الآية [الأعراف ٧ / ٣٢]. قال الرازي : نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى ، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقباض ، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي ، وذلك مما يجرّ بعضه إلى بعض ، ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه (١).

قصة هود عليه‌السلام مع قومه عاد

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٥

٤٩

مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

الإعراب :

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ إِذْ) : بدل اشتمال.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ .. فَما أَغْنى .. وَحاقَ بِهِمْ) قد : حرف يقرب الماضي من الحال ويقلل المستقبل. و (فِيما) أي في الذي و (إِنْ مَكَّنَّاكُمْ) تحتمل (إِنْ) وجهين: إما بمعنى (ما) النافية ، أو زائدة. (فَما أَغْنى) : ما : إما نافية ، ويؤيده دخول (من) للتأكيد في قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) أو استفهامية منصوبة ب (أَغْنى) والتقدير : أي شيء أغنى هو؟ (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ) : (فِيما) فاعل (حاقَ) وهي مصدرية ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : وحاق بهم عقاب استهزائهم ، لأن نفس الاستهزاء لا يحل عليهم. وإنما يحل عليهم عقابه.

(قُرْباناً آلِهَةً قُرْباناً) : إما منصوب على المصدر ، أو مفعول لأجله ، أو مفعول (اتَّخَذُوا) و (آلِهَةً) بدل منه.

(وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) و (ما) : مصدرية ، أو موصولة ، والعائد محذوف ، أي فيه.

البلاغة :

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ثم قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) من قبيل الإطناب بتكرار اللفظ لزيادة التقبيح عليهم.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) توافق الفواصل الذي يزيد في جمال الكلام.

المفردات اللغوية :

(أَخا عادٍ) هو هود عليه‌السلام ، وعاد قبيلة عربية من إرم. (أَنْذَرَ) خوف. (بِالْأَحْقافِ) واد باليمن فيه منازلهم ، بين عمان ومهرة ، وهي في الأصل جمع حقف : وهو رمل مستطيل مرتفع معوج فيه انحناء. (خَلَتِ النُّذُرُ) مضت الرسل التي تنذر ، والنذر جمع نذير أي منذر ، والجملة معترضة أو حال. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) من قبل هود ومن بعده. «ألا» أي بأن قال : «لا تعبدوا» أو النذر بألا تعبدوا ، فإن النهي عن الشيء إنذار بمضرته. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عبدتم غير الله. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هائل بسبب شرككم.

٥٠

(لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) لتصرفنا عن عبادتها. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشرك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك أنه يأتينا. (قالَ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) قال هود : لا يعلم أحد متى يأتيكم العذاب ، ولا مدخل لي فيه فأستعجل به ، وإنما علمه عند الله ، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم ، وما على الرسول إلا البلاغ. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) باستعجالكم العذاب ما هو ، ولا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلّغين منذرين ، لا معذّبين مقترحين.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي العذاب. (عارِضاً) سحابا عرض في أفق السماء. (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) متوجها نحو أوديتهم. (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي يأتينا بالمطر. (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب. (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ريح مشتملة على عذاب مؤلم ، أي هي ريح ، أو بدل من (فَلَمَّا).

(تُدَمِّرُ) تهلك. (كُلَّ شَيْءٍ) من النفوس والأموال. (بِأَمْرِ رَبِّها) بإرادته ومشيئته ، فأهلكت رجالهم ونساءهم وصغارهم وأموالهم. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزيناهم نجزي الكافرين. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي لقد جعلنا لهم مكنة وقدرة في الذي جعلناه لكم يا أهل مكة من القوة والمال. (سَمْعاً) أسماعا. (وَأَفْئِدَةً) قلوبا. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) شيئا من الإغناء ، وقوله : (مِنْ شَيْءٍ مِنْ) : زائدة للتأكيد. (إِذْ كانُوا إِذْ) : معمولة لأغنى ، وفيها معنى التعليل. (يَجْحَدُونَ) ينكرون. (بِآياتِ اللهِ) حججه وبراهينه البيّنة. (وَحاقَ) نزل. (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي أهلكنا من جواركم من أهل القرى كثمود وعاد وقوم لوط. (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) بيّناها لهم. (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) هلا نصرهم بدفع العذاب عنهم؟ (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره. (قُرْباناً) مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى ، من طاعته. (آلِهَةً) معه وهم الأصنام. (ضَلُّوا) غابوا. (عَنْهُمْ) عند نزول العذاب. (وَذلِكَ) أي الضلال والضياع وعدم نفع آلهتهم سببه : (إِفْكُهُمْ) أي كذبهم ، وقرئ : أفكهم أي صرفهم. (يَفْتَرُونَ) يكذبون.

المناسبة :

بعد بيان أدلة التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ، بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها ، ذكر الله تعالى قصة قوم عاد للعظة والتذكر والعبرة ، فقد أهلكهم الله تعالى بسبب شؤم كفرهم ، مع أنهم كانوا أكثر أموالا وقوة وجاها من مشركي مكة ، ليعتبروا بذلك ، ويتركوا الاغترار بالدنيا.

٥١

ويقبلوا على طلب الدين ، فإن ضرب الأمثال الواقعية يستدعي عمق التأمل ، وتغيير المواقف ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب قومه.

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ، وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها النبي لقومك أخا عاد : وهو هود عليه‌السلام الذي كان أخاهم في النسب ، لا في الدين ، بعثه الله إلى عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف في حضر موت ، جمع حقف : وهو الهضبة من الرمل العظيم ، وهو الأصح ، أو واد يدعى برهوت ، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبل هود وبعده أنذروا نحو إنذاره بألا يعبدوا غير الله ولا يشركوا معه إلها آخر ، فإني أخشى عليكم عذاب يوم عظيم الأهوال.

ونظير الآية قوله عزوجل : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) [فصلت ٤١ / ١٣ ـ ١٤].

فأجابه قومه قائلين :

(قالُوا : أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له : هل جئتنا لتصرفنا وتصدنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه ، فأتنا بما تعدنا من العذاب العظيم إن كنت صادقا في قولك ووعدك لنا به على الشرك.

وهذا دليل واضح على أنهم استعجلوا عذاب الله وعقوبته ، استبعادا منهم وقوعه ، وإنكارا لحصوله ، كقوله سبحانه : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى ٤٢ / ١٨]. وفيه دلالة على أن الوعد قد يستعمل في موضع الوعد.

٥٢

فرد عليهم هود عليه‌السلام :

(قالَ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي قال هود : لا علم لي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب ، وإنما العلم بوقت مجيئه عند الله تعالى ، لا عندي ، لأنه هو الذي قدّره ، لا أنا ، ولم يخبرني متى سيأتي به ، وإنما شأني أن أبلغكم ما أرسلت به إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار ، والتحذير من العذاب ، لا أن آتي به ، فليس ذلك في مقدوري ، ولكني أراكم قوما لا تعقلون ولا تفهمون حيث بقيتم مصرّين على الكفر ، ولم تهتدوا بما جئتكم به ، بل اقترحتم علي ما ليس من شأن الرسل ووظائفهم.

ثم ذكر الله تعالى مقدمات العذاب ، فقال :

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ، قالُوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي حينما رأوا العذاب أو السحاب مستقبلهم ومتجها نحو أوديتهم ، قالوا : هذا سحاب ممطر ، ففرحوا به واستبشروا ، وقد حبس عنهم المطر واحتاجوا إليه ، فكان مطر عذاب ، كما قال تعالى واصفا جواب هود ، أو أنه من قول الله لهم :

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هذا هو العذاب الذي طلبتموه بقولكم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إنه ريح نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه ، تحمل بين جوانبها العذاب المهلك المؤلم. قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء ، فخرجت عليهم من واد يقال له (المعتّب).

وضمير (رَأَوْهُ) عائد إلى غير مذكور ، بيّنه قوله (عارِضاً) كما قال تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ٣٥ / ٤٥] ولم يذكر الأرض ، لكونها معلومة ، فكذا هنا الضمير عائد إلى السحاب ، كأنه قيل : فلما رأوا

٥٣

السحاب عارضا ، وهذا أولى ، أو أن الضمير عائد إلى ما في قوله : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضا.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن عائشة ، قالت : «ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته (١) ، إنما كان يبتسم ، وكان إذا رأى غيما أو ريحا ، عرف ذلك في وجهه ، قلت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قال : يا عائشة ، وما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذّب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : هذا عارض ممطرنا».

ثم وصف الله تعالى تلك الريح ، فقال :

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي تخرب وتهلك تلك الريح كل شيء مرّت به من نفوس (عاد) وأموالها مما شأنه الخراب ، بإذن الله لها في ذلك ، كقوله سبحانه : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات ٥١ / ٤٢] أي كالشيء البالي. ولهذا ذكر تعالى أنهم قد بادوا كلهم عن آخرهم ، ولم تبق لهم باقية ، وأصبحوا لا يرى من أموالهم وأنفسهم شيء ، لكن ترى آثار مساكنهم.

وهذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا ، فكما جازينا عادا بكفرهم بالله بذلك العذاب ، نجازي كل مجرم كافر. والمقصود منه تخويف كفار مكة.

أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عصفت الريح قال : «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» قالت :

__________________

(١) لهواته : جمع لهاة وهي أقصى سقف الفم.

٥٤

وإذا تخيلت السماء تغيّر لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سرّي عنه ، فعرفت ذلك عائشة رضي‌الله‌عنها ، فسألته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)» والاختيال : أن يخال في السماء المطر.

وأخرج مسلم أيضا عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» والصبا : ريح الشمال ، والدبور : ريح الجنوب.

وبعد تخويف كفار مكة وتهديدهم ووعيدهم ، وصف الله تعالى قوة عاد قائلا :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ولقد مكنا قوم عاد والأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد وقوة الأبدان وطول العمر بمقدار لم نجعل لكم مثله ولا قريبا منه ، فقد كانوا أشد منكم قوة يا أهل مكة ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأعز جانبا وأمنع سلطانا وتسلطا ، كما قال تعالى : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، وَأَشَدَّ قُوَّةً ، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) [غافر ٤٠ / ٨٢].

وإنهم أعرضوا عن قبول الحجة والهداية ، بالرغم مما أعطاهم الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة ، فما نفعهم ما أعطاهم الله من مفاتيح المعرفة والتذكر ، ولم يتوصلوا بها إلى التوحيد وصحة الوعد والوعيد ، ولم يستعملوا قدرات السمع والبصر والفؤاد في الخير وما خلقت له من شكر المنعم.

ثم ذكر الله تعالى علة عدم انتفاعهم بحواسهم قائلا :

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله ، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، حيث قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا).

٥٥

فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا.

ثم أكد تعالى ضرورة العظة بأمثال عاد أيضا من الأمم السالفة المكذبة بالرسل ، فقال:

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ، وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وأهلكنا أيضا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد ، من القرى المكذبة بالرسل ، مثل قرى ثمود وقرى قوم لوط ومدين مما جاور بلاد الحجاز ، وأهل سبأ باليمن ، وكانت في طريقهم يمرون بها في رحلاتهم صيفا وشتاء ، وبينا الآيات وأوضحناها ، وأظهرنا الحجج ونوّعناها ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، فلم يرجعوا.

ثم أبان الله تعالى مدى الكرب والشدة بفقد الأعوان والنصراء لدفع عذاب الله ، فقال:

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً ، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي فهلا نصرتهم آلهتهم التي تقرّبوا بها إلى الله لتشفع لهم ، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم ، بل غابوا وذهبوا عنهم ، ولم يحضروا لنصرتهم وعند الحاجة إليهم ، وذلك الضلال والضياع سببه اتخاذهم إياها آلهة ، وزعمهم الكاذب أنها تقربهم إلى الله ، وتشفع ، وافتراؤهم وكذبهم بقولهم : إنها آلهة ، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها ، واعتمادهم عليها.

وفي هذا توبيخ لأهل مكة ، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا ، فلو نفعت لأغنت من كان قبلهم من الأمم الضالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

٥٦

١ ـ إن قصص القرآن للعبرة والعظة ، ومن أكثر القصص تأثيرا قصة قوم عاد بالأحقاف بحضر موت عند اليمن ، لذا أمر الله نبيه أن يذكر لمشركي مكة قصة عاد ليعتبروا بها ، وليتذكر في نفسه قصة هود عليه‌السلام ، فيقتدي به ، ويهون عليه تكذيب قومه له.

٢ ـ لقد توالت الإنذارات على عاد من نبيهم هود عليه‌السلام ، ومن الرسل الذين كانوا قبله ، وجاؤوا بعده ، وتتركز في الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي نبذ الشرك وعبادة الأصنام ، فإن الشرك سبب لعذاب عظيم الأهوال.

٣ ـ قاوم قوم عاد دعوة هود هذه ، وقالوا له : أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بالعذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا في أنك نبي.

٤ ـ النبي مجرد مبلّغ رسالة ربه ، فلا يعلم الغيب ، لذا قال هود لهم : إنما العلم بوقت مجيء العذاب عند الله ، لا عندي ، وما شأني إلا أن أبلغكم ما أرسلت به عن ربكم إليكم ، وأراكم قوما تجهلون في سؤالكم استعجال العذاب.

٥ ـ فوجئ قوم عاد بأمارات العذاب حينما رأوا سحابا معترضا في السماء والأفق ، فظنوا أنه سحاب ممطر إياهم ، مغيث لهم ، ولكنه كان مشتملا على أداة العذاب ، ألا وهي الريح المدمرة ، فإن الريح التي عذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه ، وخرج هود عليه‌السلام من ديارهم ، فكانت الريح تحمل الفسطاط ، فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة ، ثم تضرب بها الصخور.

٦ ـ إن أعاصير الريح بالسرعة الهائلة دمرت كل شيء مرت عليه من رجال (عاد) وأموالها ، بإذن ربها ، فلم يبق إلا آثار مساكنهم ، ومثل هذه العقوبة يعاقب بها المشركون والكفار في كل زمان ومكان. وما أكثر ما يسمى بالحوادث الطبيعية في هذا العصر من البراكين والزلازل والأعاصير المدمرة.

٥٧

٧ ـ إن وسائل التعذيب الربانية يضعف ويصغر أمامها كل الناس سواء أكانوا عتاة طغاة أشداء أم دون ذلك ، ولقد أنذر الله بهذا العقاب أهل مكة وخوّفهم ، وأبان لهم أنه أهلك من هو أشد منهم قوة ، وأكثر أموالا وأولادا ، وآثارا حضارية وعمرانية في الأرض.

٨ ـ لم يعذب الله قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن طغوا وبغوا واستكبروا في الأرض بغير الحق ، وعطلوا طاقات المعرفة والهدى ، ووسائل التفكير والنظر والتأمل ، وإذ عطلوها لم تنفعهم شيئا من عذاب الله ، لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله ، ويكفرون بها ، فأحاط بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب الإلهي الذي أنذروا به.

٩ ـ ضرب الله مثلين واضحين لكفار مكة في هذه الآيات ، المثل الأول ـ قوم عاد ، والمثل الثاني ـ ما حولهم من أهل القرى ، كديار ثمود وقرى لوط وبلاد مدين ، مما كان يجاور بلاد الحجاز على طريق الشام ، وكانت أخبارهم متواترة معروفة عندهم ، وكذا أهل سبأ باليمن ، وكانوا يمرون على ديارهم في رحلاتهم بالصيف والشتاء.

١٠ ـ إن عدل الله مطلق ، فإنه تعالى لم يهلك أولئك الأقوام إلا بعد أن أقام لهم الحجج والدلالات ، وأنواع البينات والعظات ليرجعوا عن كفرهم ، فلم يفعلوا ، وأصروا على الكفر والعناد.

١١ ـ لقد بات مؤكدا لمن كان عنده أدنى نظر وتأمل أن الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها لم تنفع عابديها بمنع العذاب عنهم في الدنيا ، فكذلك لن تنفعهم بالشفاعة لهم في الآخرة ، حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس ١٠ / ١٨] فإن تلك الآلهة ضلت وغابت عنهم وقت الشدة والمحنة ، وهي إفكهم وكذبهم في قولهم : إنها تقربهم إلى الله زلفى ، وافتراؤهم بأنها آلهة ، أو أن

٥٨

عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم ، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله عزوجل.

إيمان الجن بالقرآن

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

الإعراب :

(يَسْتَمِعُونَ) الجملة حالية.

المفردات اللغوية :

(إِذْ) واذكر حين (صَرَفْنا) أملنا ووجهنا نحوك (نَفَراً) جماعة ما دون العشرة ، جمع أنفار (مِنَ الْجِنِ) جن نصيبين أو جن نينوى ، وكانوا سبعة أو تسعة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الشيخان ـ ببطن نخلة ـ على نحو ليلة من مكة عند منصرفه من الطائف ـ يصلي بأصحابه الفجر (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ورد الفعل جمعا مراعاة للمعنى (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن أو الرسول (قالُوا : أَنْصِتُوا) قال بعضهم لبعض : أنصتوا أي اسكتوا واستمعوا بإصغاء (قُضِيَ) فرغ وانتهى من قراءته ، وقرئ : (قُضِيَ) بالبناء للمجهول ، والضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فرغ من قراءته (وَلَّوْا) رجعوا (مُنْذِرِينَ) مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا ، وكانوا يهودا ثم أسلموا.

(سَمِعْنا كِتاباً) هو القرآن (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) قيل : إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا ،

٥٩

أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما تقدمه كالتوراة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد وهو الإسلام (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) طريقة سليمة من الشرائع.

(أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يدعو إلى الإيمان بالله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يغفر بعض ذنوبكم وهو ما يكون خالص حق الله تعالى ، فإن حقوق الناس ومظالم العباد لا تغفر بالإيمان ، وإنما تسقط برضا أصحابها (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يحمكم من عذاب مؤلم معدّ للكفار. قال البيضاوي : واحتج أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه باقتصارهم على المغفرة والإجارة على أن لا ثواب لهم ، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.

(فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله بالهرب منه ولا يفوته (وَلَيْسَ لَهُ) لمن لا يجيب (مِنْ دُونِهِ) دون الله (أَوْلِياءُ) أنصار يدفعون عنه العذاب (أُولئِكَ) الذين لم يجيبوا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) خطأ بيّن ظاهر.

سبب نزول الآية (٢٩):

(وَإِذْ صَرَفْنا) : أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : إن الجن هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه ، قالوا : أنصتوا ، وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا : أَنْصِتُوا) الآية ، إلى قوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن في الإنس من آمن ، وفيهم من كفر ، أردفه هنا ببيان أن الجن أيضا فيهم من آمن وفيهم من كفر ، وأن مؤمنهم معرّض للثواب ، وكافرهم معرّض للعقاب ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل إلى الإنس والجن معا.

والملائكة والجن عالمان غيبيان غير مرئيين ، يجب أن يؤمن المسلم بهما ، كما يجب أن يؤمن بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقى الوحي من طريق الملائكة ، وأنه بلّغ رسالته إلى الجن فبشّرهم وأنذرهم ، أما كيفية التلقي والتبليغ فغير معروفة لدينا إلا بطريق الأخبار الدينية السمعية النقلية ، ولا مجال للعقل في ذلك.

٦٠